مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الاساسية

اشارة

نام كتاب: مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية

موضوع: قواعد فقهي

نويسنده: مازندراني، علي اكبر سيفي

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 3

تاريخ نشر: ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

الجزء الأول

[المدخل]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الّذي علّم الإنسان بعد جهل، و هداه بعد ضلال، و فقّهه بعد غفلة، و الصلاة و السلام علي محمّد رسول اللّه الّذي أرسله ربّه للناس كافّة بشيرا و نذيرا و هاديا و معلّما، ليهلك عن بيّنة و يحيا من حيّ عن بيّنة، و علي آله الطيّبين المنتجبين الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا.

و بعد، فلا يخفي علي روّاد العلم و طلّاب الهداية أنّ العلوم تختلف أهمّيتها و مكانة موضوعها، و أنّ لعلم الفقه المكانة السامية و الأهمّية الخاصّه.

فهو علم واسع، و بحر شاسع، اصوله ثابتة مقرّرة، و فروعه ثابتة محرّرة، جمعه لنا علماؤنا من قديم و حديث، و بذلوا فيه الجهد الحثيث، حتّي أوصلوه إلينا و علّموه إيّانا، و حفظوه في مصنّفاتهم الكثيرة، فما تركوا فيها من صغير و لا كبير إلّا و ذكروه، و جمعوا فيها كلّ شارد و وارد و كلّ قريب و بعيد، و لقد نوّعوا هذا الفقه فنونا و أنواعا، و تطاولوا في استنباطه يدا و باعا، فجزاهم اللّه عن صاحب الشريعة الغرّاء خير ثواب و أفضل جزاء.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 4

و لقد أجاد مؤلّف هذا الكتاب- سماحة الأستاذ الشيخ علي أكبر السيفي المازندرانيّ- الماثل بين يديك عزيزنا القارئ حيث سعي جاهدا بطرح بعض القواعد الفقهية الجديدة باحثا عنها في محاور أساسية باسلوب عصريّ جديد.

و نحن في الوقت الّذي نثمّن الجهود الجبّارة للشيخ المؤلّف نرجو من اللّه

جلّ شأنه أن يوفّقه و إيّانا لخدمة دينه القويم و يهدينا إلي صراطه المستقيم، و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 5

[مقدمة المؤلف]

تقديم: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* الحمد للّه ربّ العالمين. أحمده استتماما لنعمته، و استسلاما لعزّته، و استعصاما من معصيته. و أستعينه فاقة إلي كفايته.

و الصّلاة علي محمّد عبده و رسوله المصطفي، أرسله بالهدي و دين الحق، و جعله بلاغا لرسالته، و كرامة لأمّته، و أنزل عليه القرآن نورا لا تطفأ مصابيحه، و بحرا لا يدرك قعره، و منهاجا لا يضلّ نهجه، و فرقانا لا يخمد برهانه.

و السّلام علي آله المعصومين المكرّمين الذين هم معادن الايمان و بحبوحاته، و ينابيع العلم، و أساس الدين، و عماد اليقين.

و نسأل اللّه سبحانه أن يوفّقنا لمعرفتهم و طاعتهم، و نشر علومهم و معارفهم، و يرزقنا شفاعتهم يوم نأتيه فردا.

و أما بعد فلا يخفي علي سالك طريق الفقاهة و طالب ملكة الاجتهاد عظم خطر القواعد الفقهية و دخلها الأساسي في الاجتهاد الفعّال و دورها المفتاحي في استنباط الأحكام.

و ذلك لعدم اختصاص هذه القواعد بفرع أو باب خاص، بل هي سارية في

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 6

مختلف الأبواب و الفروع الفقهية.

و من نواقص النظام الدراسي في الحوزات العلمية عدم تلقي القواعد الفقهية قسما دراسيا مستقلا، كواحد من الدروس العلمية، مع أنّ دورها في الاجتهاد و الاستنباط ليس بأقل من دور القواعد الاصولية في ذلك، لو لم يكن أكثر.

و نبحث في هذه السلسلة من المباحث عن القواعد الأساسية التي يدور مدارها رحي الاجتهاد الفعّال، و أضفنا إليها قواعد جديدة مفتاحية

التي هي من بين ما لم يبحث عنه إلي الآن رغم أهميته، و بينما قلّ من استوفي البحث عنه.

و إليك نماذج منها:

- قاعدة اختلال النظام.

- قاعدة حرمة إهانة محترمات الدين.

- قاعدة تعظيم الشعائر.

- قاعدة حرمة الميت المسلم.

- قاعدة العدل و الانصاف.

- قاعدة الإحسان.

- قاعدة الاحترام.

- قاعدة الاضطرار.

- قاعدة حرمة الإعانة علي الإثم.

- قاعدة سوق المسلمين.

و نحو ذلك من القواعد الأساسية المفتاحية التي لها دور مفتاحي في

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 7

استنباط الأحكام المبتلي بها في يومنا العصري.

و نبحث عن هذه القواعد في أربع محاور أساسية.

الأوّل: القواعد العامة السارية في جميع أبواب الفقه، من العبادات و المعاملات.

الثاني: القواعد العبادية السارية في أبواب العبادات كلّها أو بعضها.

الثالث: القواعد المعاملية السارية في مختلف أبواب المعاملات.

الرابع: القواعد الجزائية السارية في أبواب القصاص و الديات و الحدود و التعزيرات.

و نبحث في هذا الكتاب عن القسم الأوّل من القواعد العامة.

و قبل الورود في البحث ينبغي التنبيه علي مقدّمة، و هي أنّه قد سبق منّا في مبادئ الأصول في بيان الفرق بين المسألة الاصولية و بين القاعدة الفقهية، أنّ المسألة الاصولية هي كلّ قاعدة مهّدت لتحصيل الحجّة علي الحكم الكلي الشرعي. فالمسألة الاصولية تنتج الحجّة علي الحكم الشرعي دائما، إمّا بالمباشرة أو بالواسطة. فما من مسألة اصولية إلّا أنّ نتيجتها هي الحجة علي الحكم الشرعي، حتي مثل مسألة مقدمة الواجب، فانّ نتيجتها هي ثبوت الملازمة العقلية بين البعث إلي ذي المقدمة و بين البعث إلي مقدمته. و هذه الملازمة العقلية حجّة علي وجوب المقدمة عقلا، و بتبعه شرعا؛ نظرا إلي ما هو ثابت من الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع.

و لكن القاعدة الفقهية هي كبري كلية تتضمّن

حكما كلّيّا شرعيا منطبقا علي أحكام جزئية شرعية التي هي مصاديق ذلك الحكم الكلي، و عليه فالقاعدة الفقهية تنتج دائما حكما كليا شرعيا.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 8

و بناء علي هذا الأساس فالفرق بين المسألة الأصولية و بين القاعدة الفقهية أنّ نتيجة القاعدة الاصولية هي الحجة علي الحكم دائما، و لكن مفاد القاعدة الفقهية هو نفس الحكم، لا الحجّة عليه.

و الغرض من تمهيد هذه المقدمة هو التنبيه علي نكتة، و هي أنّ عادة الفقهاء المعاصرين جرت علي تدوين عدّة قواعد و البحث عنها بعنوان القواعد الفقهية. و لكن توجد بينها قواعد تكون نتيجتها حجّة علي الحكم الكلي الشرعي. و ذلك مثل قاعدتي اليد و السوق؛ حيث إنّا إذا بنينا علي أماريتهما تدخلان في القواعد الاصولية. و ذلك لأنّ مفاد قاعدة اليد إنما هو حجية اليد علي ملكية ما في اليد لصاحبها شرعا و جواز شرائها و بيعها، و مفاد قاعدة السوق هو أمارية سوق المسلمين علي تذكية ما يشتري فيه و علي طهارتها و جواز أكلها و الانتفاع بها. و عليه فنتيجة القاعدتين هي الحجة الشرعية علي الملكية و التذكية اللتين هما من الأحكام الكليّة الشرعية الوضعية.

و كلا منا أنّ مثل هذه القواعد- التي مفادها الأمارية و الحجية- ينبغي أن تدخل في القواعد الأصولية؛ نظرا إلي أنّها واجدة لملاك القاعدة الاصولية.

و إنّما ذكرناها في عداد القواعد الفقهية تبعا لما جرت عليه عادة الفقهاء، و إلي ما وقع بينهم من الخلاف في مفاد هذه القواعد، من كونه الحجية و الأمارية أو الحكم الوضعي نفسه، كالملكية و التذكية و الطهارة و نحوها.

علي أكبر السيفي المازندراني

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص:

9

قاعدة اختلال النظام

اشارة

1- منصّة هذه القاعدة في الفقه 2- مفاد هذه القاعدة 3- هي قاعدة فقهية لا اصولية 4- مدرك القاعدة 5- هل هي أمارة أو أصل أو غيرهما؟

6- موارد جريان القاعدة 7- التطبيقات الفقهية 8- حالها مع ساير الأدلة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 11

منصّة هذه القاعدة في الفقه

هذه القاعدة من القواعد المهمة التي يتوقف عليها حكم كثير من الواجبات و المحرمات في أبواب العبادات و المعاملات. و إنّ لها دورا كبيرا في تشييد أساس فقه الشيعة، فلا يقاس بمثل القياس و الاستحسان كما قد يتوهم.

و هي رغم أهميتها لم يتعرض لها الفقهاء بعنوان قاعدة مستقلة في عداد ساير القواعد. و الوجه في ذلك لعلّه وضوح اعتبارها بلحاظ حكم العقل بمفادها و كونها مورد تسالم جميع الفقهاء. هذا مضافا إلي عدم جريان عادة الفقهاء علي تدوين القواعد الفقهية بمعناها المصطلح من سالف الزمان، و إنّما تصدّي لذلك جماعة من الفقهاء في الأزمنة المعاصرة فيما كان من القواعد أهم موضوعا و أعظم خطرا و أوسع نطاقا في نظرهم.

و هذا الملاك موجود في هذه القاعدة علي النحو الأتم؛ نظرا إلي ابتناء كثير من الأحكام الفقهية عليها. فينبغي البحث عنها.

مفاد هذه القاعدة

مفاد هذه القاعدة هو حرمة الاخلال في النظام و وجوب حفظه شرعا، كما ستعرف ذلك في خلال المباحث الآتية.

و لا يخفي أنّ ابتناء هذه القاعدة علي حكم العقل لا ينافي كون مفادها حكما شرعيا؛ لثبوت الملازمة بين حكم العقل العملي البديهي و بين حكم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 12

الشرع. و إنما يكون حكم العقل دليل الحكم الشرعي الذي هو مفاد هذه القاعدة. فان العقل من أحد الأدلة الأربعة الرئيسية في عرض الكتاب و السنة و الاجماع، بمعني عدم توقف حجّيته علي واحد منها.

أما وجه كون مفاد هذه القاعدة حرمة الاخلال في النظام و وجوب حفظه شرعا فيتضح لك في بيان مدرك القاعدة. و ستعرف ذلك في مطاوي كلمات الفقهاء فان مقصودهم وجوب حفظ النظام و حرمة الاخلال به شرعا، لا عقلا، كسائر

القواعد و الكبريات المستدل بها في مختلف الفروع الفقهية؛ حيث استدلّوا بها علي فتاويهم في مختلف أبواب الفقه.

هي قاعدة فقهية لا اصولية

ثم إنّ هذه القاعدة من القواعد الفقهية، لا الاصولية، كما قد يتوهم، و ذلك لأنّ المسألة الأصولية- حسب ما اخترناه من المبني و بيّنا وجهه في كتابنا (بدائع البحوث)- هي القواعد التي مهّدت لتحصيل الحجة علي الحكم الكلّي الشرعي، بأن تكون نتيجتها حجّة علي الحكم الكلي الشرعي بخلاف القاعدة الفقهية، فانّها بنفسها حكم كلي شرعي ينطبق علي مصاديقه التي هي أحكام جزئية شرعية.

و هذه القاعدة لمّا كان مفادها حرمة الإخلال في النظام و وجوب حفظه شرعا، تكون من المسائل الفقهية؛ نظرا إلي كون نتيجة البحث عنها بنفسها حكما كليا شرعيا. و لا ينافي ذلك ابتناء هذه القاعدة علي حكم العقل؛ حيث إنّه دليل هذه القاعدة، لا نتيجتها.

و تبتني هذه القاعدة علي حكم العقل المستقل بقبح فعل ما يوجب

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 13

اختلال نظام حياة نوع الانسان و تبدّد قوام معاشهم و تفرّق مجتمعهم، و بلزوم أيّ فعل يتوقف عليه حفظ هذا النظام.

و بعد استقلال العقل بذلك لا حاجة لإثبات حرمة ما يخلّ بالنظام و وجوب ما يحفظ به إلي دليل تعبدي خاص من الشارع، بل يحمل ما ورد من النصوص الدالة علي ذلك علي الارشاد إلي حكم العقل، كما أنه يقطع بعدم رضي الشارع بفعل ما يختل به نظام عيش المسلمين.

و لكن يشترط في جريان هذه القاعدة من إحراز توقف حفظ نظام نوع الناس و غالبهم علي فعل ما يستدل له بهذه القاعدة، و اختلاله بتركه أو بالعكس، و إلّا فما لم يحرز ذلك لا تجري هذه القاعدة؛ حيث لا يتحقق موضوع

حكم العقل.

مدرك القاعدة

[الأول العقل]

سبق أنّه بعد استقلال العقل بقبح فعل ما يخلّ بالنظام و لزوم فعل ما يتوقف عليه حفظ النظام، لا حاجة لإثبات مفاد هذه القاعدة و حجيتها إلي نصّ من جانب الشارع. و أنّ ما ورد من النصوص الدالّة علي ذلك محمول علي الارشاد إلي حكم العقل. و نكتفي بذكر بعض هذه النصوص تأييدا.

[الثاني النصوص]

منها: معتبرة فضل بن شاذان عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في حديث طويل، قال:

«فان قال قائل: و لم جعل أولي الأمر و أمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة، منها: أنّ الخلق لما وقفوا علي حدّ محدود و أمروا أن لا يتعدّوا من تلك الحدود؛ لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلّا بأن يجعل عليهم فيها أمينا يأخذهم بالوقف عند

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 14

ما أبيح لهم لو يمنعهم من التعدّي علي ما حظر عليهم؛ لأنّه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذّته و منفعته لفساد غيره. فجعل عليهم قيّما يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الأحكام. و منها: أنا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا، إلّا بقيّم و رئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنّه لا بد لهم منه و لا قوام لهم إلّا به، فيقاتلون به عدوّهم و يقسّمون به فيئهم و يقيمون به جمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم». «1»

فانّ قوله عليه السّلام: «لأنه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذّته و منفعته لفساد غيره …»

إشارة إلي مفاد هذه القاعدة، حيث

يشير إلي منشأ لزوم الاختلال في نظام حياة عموم الناس و معاشهم. و كذا قوله عليه السّلام: «و لا قوام لهم إلّا به» أي لا يحفظ نظام نوعهم و لا تستقرّ أركان حياتهم و لا تصلح أمورهم إلّا بقيّم و رئيس.

و لا يخفي أنّ لزوم ذلك ثابت بحكم العقل، و من هنا قال عليه السّلام: «فلم يجز في حكمة الحكيم».

قال الصدوق- بعد نقل ما قال الفضل بتفصيله-: «حدّثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار رضي اللّه عنه. قال حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، قال قلت: للفضل بن شاذان لمّا سمعت منه هذه العلل أخبرني عن هذه العلل التي ذكرتها، عن الاستنباط و الاستخراج و هي من نتائج العقل أو هي مما سمعته و رويته؟ فقال لي: ما كنت لأعلم مراد اللّه (تعالي) بما فرض و لا مراد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بما شرّع و سنّ و لا اعلّل ذلك من ذات نفسي بل سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسي الرضا عليه السّلام مرّة بعد

______________________________

(1) علل الشرائع/ طبع مكتبة الداوري: ص 253 و عيون أخبار الرضا/ طبع منشورات الأعلمي: ج 2، ص 99.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 15

مرّة و الشي ء بعد الشي ء فجمعتها. فقلت: فاحدّث بها عنك عن الرضا عليه السّلام؟

قال: نعم». «1»

و أيضا قال الصدوق: «حدّثنا الحاكم أبو محمد جعفر بن نعيم بن شاذان النيسابوري رضي اللّه عنه عن عمّه أبي عبد اللّه بن محمد بن شاذان عن الفضل بن شاذان أنّه قال: سمعت هذه العلل من مولاي أبي الحسن علي بن موسي الرضا عليه السّلام، فجمعتها متفرّقة و ألّفتها». «2»

هذه الرواية

معتبرة لأنّ فضل بن شاذان لا كلام في وثاقته بل جلالته، كما صرّح بذلك النجاشي و الشيخ و غيرهما. و لكن قد يستبعد روايته عن الامام الرضا عليه السّلام: نظرا إلي رواية والده- و هو شاذان- عن الجواد، فكيف يروي ابنه الفضل عن الرضا عليه السّلام. و أجاب السيد الخوئي عن هذا الإشكال بأن والده روي أيضا عن الرضا عليه السّلام. هذا مع أن الصدوق أقدم من الكشي و الشيخ و أعرف منه بحال الفضل و غيره من أصحاب الأئمة و أحوالهم و طبقاتهم. و عليه فلا يضرّ عدم ذكر الفضل من أصحاب الرضا عليه السّلام في كلام الكشي و الشيخ بروايته عنه عليه السّلام من دون واسطة.

و أما عبد الواحد بن محمد بن عبدوس فهو من مشايخ الصدوق، و قد ترضّي عنه و ترحم عليه كرارا، بل ما من مورد ذكر اسمه في كتابيه العيون و العلل و غيرهما، إلّا ترضّي عنه أو ترحّم عليه و إنّ كثرة الترضي و الترحم من مثل الصدوق في حق شخص كاف في إثبات وثاقته، كما قلنا في كتابنا

______________________________

(1) علل الشرائع/ طبع مكتبة الداوري: ص 274- 275 و عيون أخبار الرضا/ طبع منشورات الأعلمي: ج 2، ص 119.

(2) عيون أخبار الرضا/ طبع منشورات الأعلمي: ج 2، ص 119.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 16

مقياس الرواة عند البحث عن أمارات الوثاقة. بل صرّح في العيون- بعد ذكر روايتين منه و من غيره- بأنّ روايته أصح من رواية غيره، مع عدم ورود أيّ قدح في عبد الواحد.

و أما علي بن محمد بن قتيبة فالأقوي اعتبار راوياته؛ إذ لم يرد فيه أيّ قدح. و قد اعتمد عليه الكشي

في رجاله كما شهد به النجاشي. و إنّ الكشي و ان يروي عن الضعفاء كثيرا بشهادة النجاشي إلّا أنّ اعتماده علي نقل شخص غير مجرّد الرواية عنه، و الفرق بينهما واضح.

و عليه فما قيل، من كون شهادة النجاشي باعتماد الكشي علي علي بن محمد لأجل استنباطه من مجرّد رواية الكشي عن القتيبي غير وجيه، بل الظاهر أنّه لأجل كثرة نقله عنه؛ نظرا إلي كشفها عن اعتماده علي نقله.

و أيضا قد شهد العلامة بصحة ما رواه الكشي عن القتيبي في مواضع عديدة. مثل ما قال في الخلاصة في ترجمة يونس بن عبد الرحمن. و أيضا ذكره في الخلاصة في قسم الموثقين. و ذكر في المختلف رواية في كفارة الجمع بالافطار علي الحرام عن القتيبي، ثم قال: في طريق هذه الرواية عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري و لا يحضرني الآن حاله، فان كان ثقة فالرواية صحيحة، يتعيّن العمل بها. و انت تراه أنّه جعل وثاقة القتيبي أمرا مسلّما مفروغا عنه. هذا كله مع عدم ورود أيّ قدح فيه، فالأقوي اعتبار رواياته. و عليه فهذه الرواية معتبرة بهذا الطريق. هذا مضافا إلي طريق آخر للصدوق إلي الفضل في سند هذه الرواية، كما نقلناها.

و من هذه النصوص: رواية حفص بن غياث، بل معتبرته عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث. فانه عليه السّلام بعد حكمه بأمارية اليد علي الملكية و جواز

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 17

الاستناد إليها في الشهادة علي مالكية ذي اليد لما في يده، قال:

«لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق». «1»

وجه الدلالة أنّ قوله عليه السّلام: «لم يقم للمسلمين سوق» بمعني أنّه يختلّ نظام أسواق المسلمين و معاملاتهم

و مبادلاتهم. و أنّ حفظ نظام اقتصادهم يتوقّف علي أمارية اليد و حجيتها. و إنّ العقلاء يعتمدون علي ما به حفظ نظامهم الاقتصادي و قوام سوقهم، و يتكلون علي ما يتوقف عليه جريان معاملاتهم و مبادلاتهم. و إلّا لاختلّ نظام اقتصادهم و أسواقهم. و من الواضح أن ذلك ينجرّ إلي اختلال نظام النوع فيدخل فيما يستقل العقل بلزومه ليتوقف حفظ النظام عليه و اختلاله بتركه و تعطيله.

و لا يخفي أنّ أمارية اليد و إن تبتني علي بناء العقلاء، كما سيأتي بيان ذلك، إلّا أنّ لبنائهم علي حجية اليد جذر عقلي و هو حفظ النظام و لزوم اختلاله من عدم بنائهم علي ذلك.

و قد جرت سيرة المسلمين علي اعتبار اليد و حجيّتها بما أنّهم من العقلاء. و إنّ سيرتهم علي ذلك متأصّلة في حكم العقل بمنع اختلال النظام، و إلي ذلك أشار الامام عليه السّلام بقوله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».

و قد يتوهّم أنّ ابتناء حجية اليد علي حكم العقل- و لو بواسطة ابتناء بناء العقلاء عليه- ينافي كونها أمارة؛ نظرا إلي أنّ حكم العقل يوجب القطع بالواقع، و الأمارة لا توجبه.

و لكنه غير وجيه، و ذلك لأن حكم العقل بمنع اختلال النظام و وجوب حفظه، إنّما هو منشأ جريان سيرة العقلاء علي حجية اليد بلحاظ كون

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 18، ص 215، ب 25 من أبواب كيفية الحكم، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 18

ترتيب آثار الحجة علي اليد من مصاديق حفظ النظام و كون عدم ترتيبها من مصاديق ما يختلّ به النظام. و ليس موضوع حكم العقل حجية اليد لكشفها عن الواقع، كحكمه بحجية العلم، بل موضوع

حكمه هو منع اختلال النظام و وجوب حفظه. و حيث إنّ العقلاء يرون معاملة الحجّة مع اليد من مصاديق ما يحفظ به النظام، و عدمها من مصاديق ما يختلّ به، جرت سيرتهم علي ذلك في أمورهم.

و عليه فدليل حجية اليد هو بناء العقلاء لا حكم العقل.

و أما سندا فقد ضعّف بوقوع القاسم بن يحيي في طريقي الكليني و الشيخ بلحاظ ما نقل عن ابن الغضائري في تضعيفه، و لكن الأقوي جواز الاعتماد علي رواياته؛ لكونه واقعا في أسناد كامل الزيارات و قد روي عنه مثل إبراهيم بن هاشم و أحمد بن محمد بن عيسي و محمد بن عيسي و البرقي. و مما يؤيّد وثاقته حكم الصدوق بصحة ما رواه القاسم بن يحيي في زيارة الحسين عليه السّلام، بل قال: إنّ هذه الزيارة من أصح الزيارات.

و أما ما نقل عن ابن الغضائري في تضعيفه من كتابه فهو غير ثابت؛ لعدم ثبوت نسبة الكتاب إليه. و أيضا روي الصدوق هذه الرواية باسناده عن سليمان بن داود. و قد ضعّف بوقوع القاسم بن محمد الاصفهاني في طريقه إليه لتضعيف النجاشي و ابن الغضائري إيّاه، بل نقل تضعيفه عن الكشي. و لكنّ المحقق الأردبيلي استظهر في جامع الرواة اتحاد القاسم هذا مع القاسم بن محمد الجوهري. و مع ذلك يشكل إثبات وثاقة الرجل لتعارض ما نقل من الجرح و التعديل في حقه علي فرض الاتحاد. و لكن يكفي اعتبار طريق الكليني و الشيخ في الحكم باعتبار هذه الرواية، هذا مضافا إلي عمل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 19

مشهور القدماء و المتأخرين بمضمونها، فعلي فرض ضعفها ينجبر بفتوي المشهور.

و منها: ما رواه في تحف العقول في بيان

المكاسب المحلّلة عن الصادق عليه السّلام في حديث:

«فكلّ مأمور به مما هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جميع المنافع التي لا يقيمهم غيرها … فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه». «1»

فان قوله: «و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره».

بيان لتوقف حفظ نظام نوع الناس علي ذلك و اختلاله بتركه و تعطيله.

و لا يخفي أنّ المقصود من الحليّة في المقام هو الإباحة بالمعني الأعم في مقابل الحرمة، كما يفهم ذلك بقرينة التقابل في الرواية و إلّا فالمكاسب المتوقف عليه حفظ النظام لا إشكال في وجوبها كفائيا كما تسالم عليه الفقهاء.

و لا ريب في ورود روايات اخر في مختلف أبواب الفقه مما يدلّ علي هذه القاعدة، يجدها المتتبع في تضاعيف النصوص، و لا سيما ما يرتبط منها بالمسائل التي ذكرناها هنا في مجاري القاعدة مما استند الفقهاء في الاستدلال علي المسألة إلي هذه القاعدة.

و لكن جميع ما يدل علي مفاد هذه القاعدة من النصوص يحمل علي الارشاد إلي حكم العقل، كما قلنا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 12، ص 54، ب 2 مما يكتسب به، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 20

هل هي أمارة أو أصل أو غيرهما؟

هذه القاعدة ليست من الأمارات و لا من الأصول، كما هو واضح، بل من الأحكام. و انما هو حكم العقل بمنع ما يختل به النظام و لزوم ما يحفظ به النظام. و عنوان هذه القاعدة في الحقيقة هو موضوع حكم العقل، و هو اختلال النظام و حفظه.

و مفادها هو حكم العقل و بتبعه حكم الشرع بحرمة

الاختلال و وجوب حفظه؛ نظرا إلي الملازمة بين حكم العقل و بين حكم الشرع فكيف يكون مفاد قاعدة اليد حجّية اليد و أماريتها و عنوانها «اليد» التي هي موضوع الحكم الوضعي الذي هو الحجية؟ فكذلك في المقام.

فهذه القاعدة عبارة عن كبري كلية تفيد وجوب كل ما يدفع هذا المحذور- أي اختلال النظام- و حرمة ما يوجبه.

و قد يعبّر عن هذه القاعدة بقاعدة حفظ النظام. بلحاظ أنّها تفيد وجوب كل ما يحفظ به النظام و حرمة تركه. و تكون حينئذ من الأحكام؛ لأنّ وجوب حفظ النظام و حرمة الاختلال فيه حكم من العقل و الشرع.

موارد جريان القاعدة

قبل التعرّض إلي تطبيقات هذه القاعدة، ينبغي التنبيه علي نكتة مهمّة في مجراها. و هي أنّ هذه القاعدة إنّما هي محكّمة فيما يتوقف عليه حفظ نظام نوع الناس و تنقطع ربقة حياتهم الاجتماعي بتركه و تعطيله و لا تجري في النظامات الجزئية التي لا يوجب اختلالها اختلالا في نظام النوع، كالنظام الثقافي في مدرسة أو جامعة أو حوزة علمية، أو النظام الإداري في دائرة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 21

من الدوائر، و نحو ذلك من النظامات الجزئية.

و بذلك يظهر عدم وجاهة استناد بعض إلي هذه القاعدة في الافتاء بحرمة غش الطلاب في الامتحانات. و إليك نصّ استفتائه و جوابه.

س: هل يجوز الغش في الامتحانات إذا كان بعض المدرسين يساعدون الطلاب في الغش في الامتحانات المدرسية؟

ج: لا يجوز ذلك؛ لأنه لا يجوز مخالفة النظام في شي ء من الوظائف. فان النظام يقول بأنّ وظيفتك الدراسة و عدم الغش. «1»

هذا، لو كان مراده الاستناد إلي هذه القاعدة.

و أما إذا كان مراده من النظام هو القانون الثقافي فلا دليل علي حرمة مخالفته

إلّا إذا كان من قوانين الحكومة الاسلامية بتنفيذ الفقيه الحاكم؛ نظرا إلي رجوع الغش في الامتحان حينئذ إلي مخالفة حكم الحاكم، و هو يبعد، إلّا إذا كان له حكم ولائي في خصوص المورد.

و لو كان مقصوده مخالفة الوعد و نقض العهد، نظرا إلي التزام الطلاب بالنظام الدراسي و تعاهدهم برعاية قوانين المدرسة لدي الورود، ففيه أنّه عهد ابتدائي غير واجب الوفاء.

التطبيقات الفقهية

و قد استند الفقهاء إلي هذه القاعدة في مختلف الابواب و الفروع الفقهية.

منها: ثبوت الولاية للفقيه في عصر الغيبة، كما علل ذلك بحفظ النظام، المحقق السيد محمّد آل بحر العلوم في بلغة الفقيه «2»، بل علّل المحقق ميرزا

______________________________

(1) منية السائل/ من استفتاءات السيد الخوئي قدّس سرّه: ص 218.

(2) بلغة الفقيه: ج 3، ص 390.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 22

الآشتياني «1» ثبوت ولاية النبي و الوصي علي الحكم، بلزوم اختلال النظام من عدمه.

و قد علّل السيد الامام الخميني قدّس سرّه ضرورة الحكومة الاسلامية بقيادة الفقيه العادل و نفوذ حكمه بوجوب حفظ النظام و حرمة الاختلال فيه؛ حيث قال: «إن الأحكام الالهية سواء الأحكام المربوطة بالماليات أو السياسات لم تنسخ بل تبقي إلي يوم القيامة و نفس بقاء تلك الأحكام يقضي بضرورة حكومة و ولاية تضمن حفظ سيادة القانون الالهي و تتكفّل لإجرائه.

و لا يمكن إجراء أحكام اللّه إلّا بها، لئلّا يلزم الهرج و المرج، مع أنّ حفظ النظام من الواجبات الأكيدة و اختلال أمور المسلمين من الأمور المغضوبة.

و لا يقوم ذا و لا يسدّ عن هذا إلّا بوال و حكومة». «2»

و في موضع آخر جعل حفظ النظام من أوضح الأمور الحسبية التي لا يمكن القيام بها إلّا بتشكيل الحكومة الاسلامية؛ حيث

قال: «و لا يخفي أنّ حفظ النظام و سد ثغور المسلمين و حفظ شبّانهم من الانحراف عن الإسلام و منع التبليغات المضادّة للإسلام و نحوها من أوضح الحسبيات و لا يمكن الوصول إليها إلّا بتشكيل حكومة عادلة اسلامية». «3»

و قد علّل المحقق الأردبيلي سقوط اشتراط الاذن من الامام عليه السّلام في ثبوت الولاية علي القضاء للفقيه في عصر الغيبة بحفظ النظام، و أنه لو لا القضاء بين الناس لاختل نظام نوعهم». «4»

______________________________

(1) كتاب القضاء للآشتياني: ص 17.

(2) كتاب البيع: ج 2، ص 461.

(3) كتاب البيع: ج 2، ص 497.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: ج 12، ص 28.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 23

و لا يخفي ما فيه من جهة أنّ حفظ النظام إنما يتوقف علي أصل القيام بالقضاء بين الناس، و لا يوجب ذلك اعتبار شروط و قيود في من يتولّي القضاء و الحكومة، بل إنّما يستفاد ذلك من وجود اخري، منها النصوص، كمقبولة حنظلة و معتبرة أبي خديجة و ما ورد عن العسكري عليه السّلام في التفسير المنسوب إليه و غير ذلك من النصوص الدالة علي صدور الاذن العام منهم للفقيه الجامع لشرائط الفتوي في تولّي منصب القضاء و الحكومة.

و قد بحثنا عن ذلك مفصّلا في كتاب ولاية الفقيه من دليل تحرير الوسيلة.

نعم إثبات وجوب تولّي منصب القضاء و تأسيس الحكومة علي من يتمكن من ذلك لا يتوقف علي أمر الشارع أو إذنه، بل إنّما يتوقف علي استقلال العقل بلزوم الاتيان بما يتوقف عليه حفظ نظام النوع و ترك ما فيه اختلال النظام.

و لكن لا ينافي ذلك عدم مشروعية تولي ذلك لمن لم يأذن الشارع له، و لو بالاذن العام. و

أما حكم العقل انما هو المحكم ما لم يخطّئه الشارع. فما منعه الشارع يكون تخطئة لحكم العقل، كما في المقام بالنسبة إلي الفاقد لما اعتبره الشارع من القيود و الشروط في متولي الحكم و القضاء. نعم لو توقف حفظ النظام علي تولّي خصوص فاقد الشرائط للقضاء و الحكومة يكون مأذونا من قبل الشارع للقطع بعدم رضي الشارع باختلال النظام ما لم ينجرّ ذلك إلي اندراس آثار الشريعة و محو شعائر الدين. و قد علّل السيد المحقق الخوئي «1» مشروعية القضاء بتوقف حفظ النظام عليه، و لزوم الاختلال فيه لو لا مشروعية القضاء. و بعدم الفرق في ذلك بين زماني الحضور و الغيبة.

______________________________

(1) التنقيح: ج 1، ص 389.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 24

منها: حجية شهادة من ثبتت عدالته في الظاهر، و عدم اعتبار ثبوت عدالة الشاهد واقعا، كما علّل صاحب الجواهر «1» ذلك بلزوم اختلال النظام من عدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة و ردّ من ثبتت عدالته ظاهرا.

فانه قدّس سرّه بعد ما ردّ اعتبار العدالة الواقعية في قبول شهادة الشاهد و حكم بالاكتفاء بظاهر العدالة في قبولها علّل ذلك بقوله: «بل قد يدّعي اختلال النظام بذلك، فإنّ كثيرا من حقوق الناس من أموال و فروج و دماء تضيع بذلك. فكم من دم يهدر و كم من فرج يغصب و كم من ولد يؤخذ». «2»

و قد علّل السيد الخوئي «3» عدم سراية حجية البينة إلي غير باب المرافعات بلزوم اختلال النظام؛ بأنّا لو قلنا بعدم حجية البينة في خصوص باب المرافعات و الخصومات للزم اختلال النظام. و أمّا ساير الأبواب فلا يلزم هذا المحذور من عدم القول بحجية البينة فيها.

و منها: أمارية

اليد و سوق المسلمين. فقد علّل الفقهاء أماريتها بلزوم اختلال النظام من نفي أماريتها، كما صرّح به السيد محمد في بلغة الفقيه. «4»

و منها: وجوب المكاسب الكفائية؛ حيث علّل وجوبها في كلمات الفقهاء يتوقف حفظ النظام عليها و لزوم الاختلال فيه من تركها و تعطيلها، كما صرّح به السيد الامام الخميني قدّس سرّه «5» و المحقق الميرزا الآشتياني. «6»

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 13، ص 286.

(2) جواهر الكلام: ج 13، ص 286.

(3) التنقيح الاجتهاد و التقليد: ص 208.

(4) بلغة الفقيه: ج 3، ص 308 و 318.

(5) المكاسب المحرمة: ج 1، ص 4.

(6) كتاب القضاء للآشتياني: ص 35.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 25

و قد علّل السيد المحقق الخوئي وجوب المكاسب الكفائية بحفظ النظام، و قال: إنّ ذلك لا يوجب كونها مجانية لابتناء حفظ النظام علي كونها بالاجرة. «1»

و علي ذلك فرّع الفقهاء أخذ الاجرة علي الواجبات الكفائية، بل العينية التي يكون وجوبها لحفظ النظام، كما عن السيد بحر العلوم في المصابيح؛ حيث نقل عنه السيد محمد آل بحر العلوم في بلغة الفقيه. «2»

و قد قوي السيد الامام الراحل قدّس سرّه صحة الاستيجار في الواجبات الكفائية و جواز أخذ الأجرة عليها، إلّا إذا ثبت في كفائي اعتبار الملكية للّه تعالي. و جعل جواز أخذ الأجرة علي الواجبات النظامية- التي يتوقف عليها حفظ النظام- مقتضي القاعدة.

و منها: عدم قبول دعوي الاعسار من الغريم بمجرد دعوي ذلك من دون فحص. و علّل ذلك بلزوم اختلال النظام؛ نظرا إلي عدم امكان مطالبة كثير من الديون حينئذ، كما صرّح بهذا التعليل المحقق الآشتياني. «3»

و منها: ابتناء تشريع القسمة و نفوذها شرعا علي حفظ النظام؛ نظرا إلي أنه قد

لا يراعي بعض الشركاء أو جميعهم ضوابط الشركة و أحكامها أو يستبدّ بالتصرف، فلا مناص للحاكم من الإقدام بالقسمة، و إلّا لاختلّ النظام.

و قد صرّح بهذا التعليل المحقق الآشتياني. «4»

و منها: عدم مشروعية الاحتياط في جميع التكاليف و ترك الاجتهاد

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: ج 1، ص 27.

(2) بلغة الفقيه: ج 2، ص 12.

(3) كتاب القضاء: ص 99.

(4) كتاب القضاء: ص 291.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 26

و التكليف. فقد علّلوا ذلك بلزوم اختلال النظام من تكليف الناس بالاحتياط في جميع تكاليفهم. و إنّ العقل يستقلّ معه بالقبح و المنع، كما صرّح بذلك السيد الخوئي. «1»

حالها مع ساير الأدلة

لا ريب في تقدّم هذه القاعدة علي ساير الأمارات، فضلا عن الاصول.

و الوجه فيه أنّها توجب القطع بحكم الشارع حيث يحكم العقل بمفادها، و هو يوجب القطع بحكم الشارع ما لم يخطّئه بنص من الكتاب أو السنة، كما هو كذلك في المقام. و إنّ القطع حجة ذاتية و مع حصوله لا تصل النوبة إلي ساير الحجج و الأمارات.

اللهم إلّا أن يكون الاختلال في بعض شئون المجتمع، مما يكون فيه مصلحة الإسلام و المسلمين و حفظ بيضة الإسلام أو ما أخذ في موضوعه اختلال النظام، ذلك كالدفاع عن بيضة الإسلام و الجهاد في سبيل اللّه، فالمحكم في مثل هذه الموارد هو الحكم الأوّلي الثابت من الشرع أو حكم الفقيه الجامع، و لكن لا بد من وصول الاختلال إلي حد يوجب الاختلال في نظام النوع الموجب للاختلال في الحياة و حفظ النواميس و أصل المعاش، كما أشرنا إليه، و إلّا فالاختلال في النظامات الجزئية كالأنظمة الثقافية أو الادارية في بعض المدارس و المؤسسات و الادارات، خارج عن نطاق هذه القاعدة

لعدم دخوله في موضوع حكم العقل.

______________________________

(1) التنقيح/ كتاب الاجتهاد و التقليد: ص 65 و ص 175 و 241.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 27

قاعدة أصالة الإباحة و الحلّية

اشارة

1- مفاد القاعدة 2- مدرك القاعدة 3- هل هي أمارة أو أصل 4- حالها مع معارضة ساير الأدلة 5- مجري القاعدة 6- التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 29

مفاد القاعدة

هذه القاعدة تعيّن الوظيفة العملية للمكلّف حينما شك في حلية التصرف في شي ء بأنحاء التصرفات، من الأكل و الشرب و اللبس و البيع و الشراء، و غير ذلك من وجوه التصرفات، بلا فرق بين الناقلة منها و بين غيرها.

و لا اختصاص لهذه القاعدة بباب خاص، بل تجري في مختلف أبواب الفقه من العبادات و المعاملات، كما ستعرف في التطبيقات الفقهية.

نعم لا تجري فيما لو شك في نقل المال لأجل الشك في صحة المعاملة لاحتمال فقد شرط أو وجود مانع.

و ذلك لأنّ المال بعد ما احرز كونه للمسلم و شكّ في نقله إلي الغير بسبب ناقل للشك في تحقق السبب، يجري الأصل السببي الحاكم و يقدّم علي الأصل المسبّبي؛ حيث إنّه مع جريان الأصل السببي الحاكم لا تصل النوبة إلي الأصل المسبّبي، كما أشار إليه المحقق العراقي بقوله: «إنّ من شرائط كلّية الاصول عدم وجود أصل حاكم عليها، بل كون ذلك من الشرائط أيضا مسامحة في التعبير؛ إذ مع وجود الحاكم لا يبقي مورد لجريانها». «1»

و في المقام يكون الشك في حلية التصرف في مال الغير و حرمتها

______________________________

(1) مقالات الاصول: ج 2، ص 202.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 30

مسببا عن الشك في تحقق سبب النقل الشرعي. و حينئذ يجري أصالة عدم تحقق السبب الناقل. و لا يبقي بعده شك في حرمة التصرف في مال الغير، حتي تصل النوبة إلي جريان أصالة الحلية.

و ذلك كما لو شك في صحة معاملة

لأجل الشك في تحقق الربا بالزيادة.

فان هناك مقتضي القاعدة- بعد عدم جواز التمسك بالعام و الخاص في الشبهات المصداقية- هو الرجوع إلي أصالة عدم تحقق السبب الناقل و عدم ترتب آثار العقد الصحيح، كما قال في الجواهر: «فمع فرض الشك يتجه الفساد لأصالة عدم ترتب الأثر و عدم النقل و الانتقال». «1»

و لا يجري حينئذ أصالة الحل، كما قوّي جريانها صاحب العروة بقوله:

«مع أنّ لنا أن نتمسك بأصالة الحلّ بناء علي جريانها في الحكم الوضعي كما هو الأقوي؛ فانّ المراد من الحل عدم المنع تكليفا و وضعا، و لذا يجري حديث الرفع و نحوه في نفي الجزئية و الشرطية و المانعية في الشبهة الحكمية، و في نفي المانعية في الشبهة الموضوعية». «2» و ذلك لأنّ أصالة الحلية غير جارية في مال الغير، كما قال في الجواهر.

ثم إنّ هاهنا نكتة في تعيين مفاد هذه القاعدة ينبغي الإشارة إليها.

و هي أنّ إنّ الشك في حلية شي ء تارة: يكون في حكم شي ء واحد؛ بأن شكّ في حكمه لشبهة مفهومية أو مصداقية؛ لا لأجل تردّده بين الحرام و بين غيره. و اخري: لأجل تردّده بين شيئين يعلم حلية أحدهما: و حرمة الآخر فلم يعلم الحرام منهما بعينه، و هذا في موارد العلم الإجمالي.

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 23، ص 340.

(2) العروة الوثقي: ج 2، ص 21، م 15.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 31

و محل الكلام- الذي هو مفاد القاعدة- القسم الأوّل من الشك، لا الثاني المبحوث عنه في العلم الإجمالي، و إن يشمله إطلاق دليل هذه القاعدة أيضا.

ثم إنّ في القسم الأوّل تارة: يكون ما شكّ في حليته من أحد قسمي أو أقسام الطبيعي المنقسم إلي

الحرام و الحلال بحسب أصنافه أو أفراده، كالبيع الربوي و غير الربوي. فيشك في حلية مال لأجل انتقاله ببيع لم يعلم أنّه من قبيل البيع الربوي أو غيره. أو شك في حلية سمك لا يدري أنّه مما لا فلس له من الأسماك حتي يحرم أو من قبيل ذوي الفلوس حتي يحلّ.

و أخري: لا يكون الشك في حلية الشي ء بلحاظ ذلك. بل لأجل الشك في حكم نفسه. و ذلك إما لشبهة مفهومية ناشئة من اجمال الدليل، أو لشبهة موضوعية ناشئة من الاشتباه في مصداقه الخارجي.

و التحقيق دخول كلا القسمين من مشكوك الحلية في مفاد هذه القاعدة، لما اشير إليه في قوله عليه السّلام:

«كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا حتي تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه».

و لا يخفي أنّه إنّما يدخل في نطاق هذه القاعدة ما كانت الأدلة الاجتهادية قاصرة عن إثبات حكمه. و ذلك إمّا لقصورها دلالة في الشبهات المفهومية، أو لعدم تكفّل الخطاب ببيان موضوعه في الشبهات الموضوعية.

و أما القسم الثاني ففي الشبهة المحصورة يجب الاجتناب عن الجميع؛ تحصيلا للموافقة القطعية، مع إمكانه و عدم محذور العسر و الحرج فيه. فان العلم الإجمالي يكون حينئذ منجّزا، بخلاف الشبهة غير المحصورة. و ذلك لأنّ عمومات الأمر بالاجتناب عن النجس كما تشمل الفرد المتشخص من

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 32

النجس، أو الحرام، فكذلك تشمل معلوم الحرمة و النجاسة في الشبهات المحصورة، فتدخل في عمومات هذه القاعدة.

كما أشار إليه صاحب الحدائق بقوله: «فانّ قوله تعالي: حرمت عليكم الميتة … «1» و حرمت عليكم امهاتكم «2» شامل لما لو كان ذلك المحرّم متعينا متشخصا أو مشتبها بأفراد مخصوصة متعينة. فانه كما يقطع

بوجود النجس و الحرام مع التشخص، يقطع أيضا بوجوده في صورة الاشتباه في الأفراد المعينة فتشمله الأوامر المذكورة، غاية الأمر إنّه لما لم يمكن الوصول إلي الاجتناب عن ذلك النجس أو المحرم إلّا بالاجتناب عن الجميع، وجب اجتناب الجميع من باب أنّ ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب، و نظيره في الأحكام غير عزيز. فان من فاتته صلاة فريضة و اشتبهت بباقي الخمس وجب عليه الاتيان بالجميع نصا و فتوي بالتقريب المذكور.

و أمّا لو لم يكن محصورا كالموجود بأيدي الناس في الأسواق، فانه لا يقطع بوجود المحرم و لا النجس في ما يراد استعماله منه، و إن علم وجوده في الواقع و نفس الأمر. و من هنا حكم الشارع بحلّ ما في أيدي المسلمين و أسواقهم و طهارته و جواز شرائه، و إن علم وجود الحرام و النجس في أيدي بعض الناس الغير المعلومين. و هذا هو الذي وردت فيه صحيحة زرارة المذكورة في كلامه و نحوها. و ورد فيه: أنّ كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه «3» و ورد: كل شي ء نظيف حتي تعلم أنّه

______________________________

(1) المائدة: 4.

(2) النساء: 23.

(3) وسائل الشيعة: ج 12، ص 59، باب 4 من ابواب ما يكتسب به ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 33

قذر «1» فهذه الأخبار إنما وردت في غير المحصور دون المحصور، بمعني أنّ كل شي ء له أفراد بعضها طاهر و بعضها نجس أو بعضها حلال و بعضها حرام، فانّ الحكم فيها الطهارة و الحلية حتي يعلم كونه من الأفراد المحرّمة أو النجسة. و من هنا دخلت الشبهة علي جملة من أفاضل متأخري المتأخرين؛

حيث أجروا هذه الأخبار في قسم المحصور. و منهم السيد المذكور و نحوه ممن حذا حذوه في مسألة الطهارة و النجاسة، و المحدث الكاشاني و الفاضل الخراساني في مسألة اختلاط الحلال بالحرام، فحكموا بحل الجميع في المحصور، و هذا غلط نشأ من عدم التأمل في الأخبار». «2»

مدرك القاعدة

اشارة

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بامور.

الأوّل: الاتفاق و التسالم؛

حيث إنّ الفقهاء قد اتفقوا علي حلية ما شك في حرمته إذا لم يكن مسبوقا بالعلم بالحرمة و لا من موارد الاحتياط.

و أما دعوي الاجماع في المقام بمعناه المصطلح الكاشف عن رأي المعصوم تعبّدا، غير وجيهة بعد استناد الأصحاب لهذه القاعدة بنصوص الكتاب و السنة و حكم العقل.

الثاني: حكم العقل

بجواز ارتكاب ما لم يحكم بقبحه، و لم يثبت من الشارع منعه و تحريمه.

و يعبّر عنه بأصالة البراءة عن الحرمة ما لم تثبت بدليل، كما يعبّر عنه

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 2، ص 1054، ب 37 من النجاسات ح 4.

(2) الحدائق الناضرة: ج 5، ص 279- 280.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 34

باستصحاب حال العقل، كما يستفاد ذلك من كلام الشهيد الأوّل. فانّه في تنقيح الأدلة الأربعة، بعد ما جعل حكم العقل رابع الأدلّة و قسمه إلي المستقلات العقلية و إلي غير المستقلات، قال في بيان القسم الثاني: «الثاني:

التمسك بأصل البراءة عند عدم دليل، و هو عام الورود في هذا الباب …

و يسمّي استصحاب حال العقل. و قد نبّه عليه في الحديث بقولهم عليهم السّلام: كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه فتدعه». «1»

الثالث: عمومات الكتاب

، كقوله تعالي: «احل لكم الطيبات» «2»، كما يستفاد الاستدلال به من كلام الشيخ الأعظم. «3»

و منها قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ كُلُوا مِمّٰا فِي الْأَرْضِ حَلٰالًا طَيِّباً». «4»

و قوله: «فَكُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ حَلٰالًا طَيِّباً». «5»

و لكن هاتان الآيتان لا تدلّان علي مفاد هذه القاعدة؛ حيث وصف «ما في الأرض» في الآية الأولي و «ما رزقكم اللّه» في الثانية بالحلال الطيب، فلا نظر لهما إلي ما لم يعلم حليته.

و منها: قوله تعالي: «خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً …». «6»

و منها: قوله تعالي: «قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَليٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً …». «7»

______________________________

(1) الذكري: ص 5.

(2) المائدة: 4 و 5.

(3) الفرائد: ج 3، ص 278.

(4) البقرة: 168.

(5) النحل: 114.

(6) البقرة: 29.

(7) الانعام: 145.

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 35

و قد استدل بهذه الآية الشهيد الثاني «1» بتقريب أنّ الأعيان مخلوقة لمنافع العباد. فايّ شي ء لم يثبت فيه منع من العقل أو الشرع يكون حلالا.

و عليه فما دام لم يثبت تخصيص عموم هاتين الآيتين أو تقييد إطلاقهما، يكون مقتضي القاعدة الأولية الأخذ بعمومهما.

و هذه الآيات لمّا لم يؤخذ الشك في موضوع الحكم المستفاد منها، تصلح للدليلية بنطاقها الواسع لإثبات حلية أكل كل ما لم يثبت حرمته بدليل، بل حلية مطلق التصرفات ما لم يثبت المنع، كما تدل عليه الآية الأخيرة.

و عليه تفيد هذه الآيات حكما أوليا ثابتا بالدليل الاجتهادي اللفظي، لا بالأصل العملي؛ حيث لم يفرض في موضوعه الشك.

الرابع: عمومات السنة و مطلقاتها

، و هي نصوص متواترة.

فمن هذه النصوص ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر بسنده عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«كلّ شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا حتي تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه». «2»

استدل بهذه الصحيحة أكثر الفقهاء الفحول من القدماء و المتأخرين علي هذه القاعدة، كما سيأتي كلام بعضهم.

و قد روي في الوسائل روايات اخري معتبرة دالة علي هذا المضمون. «3»

و منها: قول الصادق عليه السّلام: «كل شي ء مطلق حتي يرد فيه نهي». «4» و هذا من

______________________________

(1) المسالك: ج 12، ص 8.

(2) وسائل الشيعة: ج 12، ص 59، ب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 1، السرائر/ طبع جماعة المدرسين: ج 3، ص 595.

(3) وسائل الشيعة: ج 17، ص 90، ب 61، من الأطعمة المباحة.

(4) وسائل الشيعة: ج 4، ص 917، ب 19 من أبواب القنوت، ح 3 و الفقيه: ج 1، ص 208، ح 937.

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 36

جوازم مرسلات الصدوق؛ حيث قال: و قال الصادق عليه السّلام.

و منها: صحيحة ضريس قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين و الروم أ نأكله؟

فقال عليه السّلام: ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكل و ما لم تعلم فكله حتي تعلم أنّه حرام». «1»

و منها: موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سمعته يقول: كل شي ء هو لك حلال حتي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك و هي اختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها علي هذا حتي يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة». «2»

و منها: رواية عبد اللّه بن سليمان، قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام ما تقول: في الجبن؟ قال عليه السّلام: أو لم ترني آكله؟ قلت: بلي و لكني احبّ أن أسمعه منك. فقال عليه السّلام: سأخبرك عن الجبن و غيره، كل ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه فتدعه». «3»

و منها: رواية أبي الجارود المروية في كتاب المحاسن: قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأي أنّه يجعل فيه الميتة.

فقال عليه السّلام: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم ما في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل …». «4»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16، ص 403، ب 64 من كتاب الأطعمة و الأشربة، ح 1.

(2) وسائل الشيعة: ج

12، ص 60، ب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(3) وسائل الشيعة: ج 17، ص 90، ب 61، من الأطعمة المباحة ح 1.

(4) وسائل الشيعة: ج 17، ص 91، ب 61، من الأطعمة المباحة ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 37

هل هي أمارة أو أصل؟

لا ريب في كون هذه القاعدة من الاصول؛ نظرا إلي أخذ الشك في موضوعها. و عليه فما دام دلّ علي الحكم دليل لفظي لا يجوز الرجوع إلي هذه القاعدة. و ذلك لورود الأمارات علي الاصول؛ حيث إنّه لا يبقي جهل و لا شك بعد دلالة الدليل الاجتهادي علي الحكم. فان الشارع جعل مؤدّاه منزلة العلم بالواقع تعبّدا. و في الحقيقة لا يتحقق موضوع للأصل حينئذ عند قيام الدليل.

حالها مع معارضة ساير الأدلة

هذه القاعدة تعارض ساير الأدلّة في موارد عديدة.

منها: ما لو اشتبه الماء المغصوب بالماء المباح، كما صرّح به الفاضل الهندي بقوله: «و لو اشتبه الماء المباح بالمغصوب وجب اجتنابهما؛ لوجوب الاجتناب عن المغصوب المتوقف عليه. و لا يعارضه عموم نحو قولهم عليهم السّلام كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه، و لا أنّ الواجب التطهّر بما لم يعلم غصبيته. و يتحقق بالتطهر بأحدهما. فانّ تطهر بهما فالوجه البطلان؛ للنهي المفسد للعبادة. و يحتمل الصحة؛ لفعله بالمباح قطعا». «1»

منها: ما لو اشتبه الذكي بغير الذكي، كما قال المحقق المذكور: «و لو امتزج الذكي بالميت اجتنبا من باب المقدمة، كما هو القاعدة المطردة. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن شاتين إحداهما زكية و لم تعرف الذكية منهما.

______________________________

(1) كشف اللثام: ج 1، ص 44.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 38

قال عليه السّلام: يرمي بهما جميعا، لكن في صحيح ابن سنان عن الصادق عليه السّلام: كل ما فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام منه بعينه، فكأنّه في غير المحصور، أو بمعني احتمال الأمرين». «1» و في مثل هذه الموارد لا إشكال في تقديم النصوص الخاصة

الواردة في مواردها علي إطلاق هذه القاعدة، كما هو المقرّر في علم الاصول من تقييد المطلق بالمقيد.

كما أشار إلي ذلك في خصوص المقام في الحدائق بقوله: «كل خطاب شرعي فهو باق علي إطلاقه و عمومه حتي يرد فيه نهي في بعض أفراده يخرجه عن ذلك الاطلاق. مثل قولهم: «كل شي ء طاهر حتي تعلم أنّه قذر» و «كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه» و نحو ذلك من القواعد الكلية». «2»

مجري القاعدة

لا إشكال في جريان هذه القاعدة في الشبهات التحريمية الموضوعية، كما صرّح بذلك الشيخ الأعظم؛ حيث قال قدّس سرّه: «المسألة الرابعة: دوران الحكم بين الحرمة و غير الوجوب، مع كون الشك في الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الامور الخارجية. كما إذا شك في حرمة شرب مائع و إباحته للتردّد في أنّه خلّ أو خمر، و في حرمة لحم للتردد بين كونه من الشاة أو من الأرنب. و الظاهر: عدم الخلاف في أنّ مقتضي الأصل فيه الإباحة؛ للأخبار الكثيرة في ذلك، مثل قوله عليه السّلام: كل شي ء لك حلال حتي تعلم أنّه

______________________________

(1) المصدر: ج 2، ص 265.

(2) الحدائق الناضرة: ج 1، ص 50.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 39

حرام. و كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال». «1»

و لكنّك تعرف عدم اختصاصها بذلك، بل يجري في الشبهات التحريمية الحكمية أيضا. كما صرّح بذلك المحقق النراقي «2» في الصيد الذي قتله المعراض من غير خرق فيما إذا لم يكن للصياد نبل غيره؛ حيث وردت فيه طائفتان من النصوص، دلّت إحداهما علي جواز أكل مطلق ما خرقه المعراض و إن كان للصياد نبل آخر غيره. و

دلّت ثانيتهما: علي عدم جواز أكل مطلق ما قتله المعراض إذا كان له نبل آخر سواء خرقه المعراض أو لم يخرقه. فيقع التعارض بين الطائفتين في ما قتله المعراض بالخرق مع وجود نبل آخر غيره؛ حيث دلّت الأولي علي جواز أكله و الثانية علي عدم جواز أكله. فتتساقطان؛ لعدم مرجح في البين.

و حينئذ قد حكم المحقق النراقي قدّس سرّه بالرجوع إلي أصالة الحلية بعد ذكر اسم اللّه؛ حيث إنّه- بعد الاشارة إلي طائفتين من نصوص المقام- قال: «و أما إذا وجد غيره، و إن حصل الخدش في الحكم للصحيحين الأخيرين المتعارضين- لما مرّ- بالعموم من وجه، إلّا أنّ تعارضهما موجب للرجوع إلي أصالة الحلية بعد ذكر اسم اللّه عليه». «3»

و نظير ذلك ما سيأتي من المحقق المزبور في السمك الذي مات في الماء بعد وقوعه في آلة الصيد.

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 2، ص 119.

(2) مستند الشيعة: ج 15، ص 313.

(3) مستند الشيعة: ج 15، ص 313.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 40

التطبيقات الفقهية

استدل الفقهاء بهذه القاعدة في مختلف أبواب الفقه من العبادات و المعاملات في موارد عديدة لا تحصي.

فمن هذه الموارد ما إذا نصب الصياد في الحظيرة الشبكة فوقعت فيها الأسماك، و اشتبه ما مات منها في الماء بما مات في خارجه.

قال ابن فهد الحلي: «إذا نصب في الحظيرة (و هو الماء المحصور بمسناة أو ما أشبهها، أو البركة) شبكة، و خرج فيها سمك، فان كان حيّا حلّ قطعا. و إن كان ميّتا حرم؛ لأنه مات فيما فيه حياته. و إن اختلط الحي فيها بالميت، هل يجب اجتناب الجميع أو يحل الجميع؟، قيل فيه قولان. الحلّ لخمسة أوجه» «1»

ثم جعل قدّس سرّه

الوجه الخامس رواية عبد اللّه بن سنان السابقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا حتي تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». «2»

و منها: ما لو اشتبه المذكّي بغير المذكّي.

قال الفقيه السبزواري: «المشهور بين المتأخرين أنّه إذا اختلف و لم يعلم وجب الامتناع من الجميع حتي يعلم الذكي بعينه. و مستند ذلك عندهم قاعدة معروفة لديهم، و هي أنّ الحرام يغلب الحلال في المشتبه و بعض الروايات

______________________________

(1) المهذّب البارع: ج 4، ص 96.

(2) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 41

العامية و بعض الاعتبارات العقلية و في الكل نظر. و قول الصادق عليه السّلام في صحيحة عبد اللّه بن سنان: كل شي ء فيه حرام و حلال فهو حلال حتي تعرف الحرام منه بعينه فتدعه، يدل علي الحل». «1»

و منها: ما لو مات السمك الواقع في الشبكة أو أيّة آلة أخري للصيد في الماء. فوقع الخلاف في حليته فعن جماعة كالعماني و الكفاية و الأردبيلي الحلية. و عن جماعة كالشيخ و ابن حمزة و الحلّي و أكثر المتأخرين الحرمة.

و يدل علي الحرمة ما ورد من التعليل بقوله عليه السّلام: «لا تأكله؛ لأنه مات في الذي فيه حياته». «2» و يدل علي الحلية عمومات حلية ما مات من الأسماك في الشبكة و الحظيرة. و في هذه الطائفة أيضا عللت الحلية بقوله عليه السّلام: «لا بأس إنما جعلت تلك الحظيرة ليصاد بها»، كما في صحيح الحلبي. «3»

فحكم المحقق النراقي عند تعارض الطائفتين بالرجوع إلي أصالة الحلية؛ حيث قال: «و لو قطع النظر عن جميع ذلك فيرجع إلي أصالة الحلية». «4»

و لكن مقتضي التحقيق تخصيص عموم التعليل في الطائفة

الأولي بعمومه في الثانية؛ لأنه في خصوص السمك الذي مات في الماء بعد وقوعه في آلة الصيد.

و منها: ما لو اشتبهت القبلة فاستدل في الحدائق بنصوص هذه القاعدة علي انتفاء حرمة الصلاة إلي أية جهة بعد الاجتهاد و اليأس؛ حيث قال: «لو

______________________________

(1) كفاية الأحكام: ص 251.

(2) وسائل الشيعة: ج 16، ص 300، ب 33 من الذبائح، ح 2 و ص 303، ب 35، ح 1.

(3) وسائل الشيعة: ج 16، ص 303، ب 35 من الذبائح، ح 3.

(4) مستند الشيعة: ج 15، ص 466.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 42

اشتبهت القبلة قيل: وجب الاجتهاد في تحصيلها من باب المقدمة، فان حصل شيئا من الأمارات بني عليه و إلّا انتفي التحريم أو الكراهة. و استقرب السيد في المدارك احتمال انتفائهما مطلقا، للشك في المقتضي. و الظاهر أنّ وجه قربه أنّ ذلك مقتضي صحيحة ابن سنان الدالة علي أنّ كل شي فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه فتدعه. و نظائرها». «1»

و يرد عليه أنّ هذه النصوص منصرفة عن مثل هذا المورد. و إنما هي ناظرة إلي التصرف في مشكوك الحلية بأنحاء التصرفات.

إلي غير ذلك من الفروع في مختلف أبواب الفقه استدلّ لها الفقهاء الفحول بهذه القاعدة. و هي أكثر من أن تحصي.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 2، ص 42.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 43

قاعدة أصالة الصحّة

اشارة

1- تحرير مفاد القاعدة و بيان المقصود منها 2- تنقيح الصور و بيان مقتضي التحقيق 3- مدرك هذه القاعدة 4- النصوص الإمضائية 5- هل هي من الأمارات أو الاصول؟

6- أصالة الصحة من الاصول التنزيلية 7- مثبتات هذه القاعدة 8- مجاري هذه القاعدة و

تطبيقاتها 9- حال هذه القاعدة مع معارضة ساير الأدلة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 45

تحرير مفاد القاعدة و بيان المقصود منها

ينبغي لتحرير مفاد هذه القاعدة و بيان المقصود منها و ما يعتبر في جريانها ذكر أمور.

الأوّل: إنّ مورد أصالة الصحة- كما هو المعلوم من عنوانها- إنّما هو فعل الغير، لا فعل نفس الشاك؛ لأنه الذي تساعده أدلّة هذه القاعدة من السيرة و النصوص، و سيأتي بيانها، كما أنّ موردها لا يختصّ بالشك بعد المضيّ أو الفراغ من العمل. و بذلك تفترق عن قاعدتي التجاوز و الفراغ؛ نظرا إلي أنّ موردهما فعل الشاك نفسه و بعد المضي أو الفراغ من العمل.

و الحاصل: أنّ مصبّ هذه القاعدة فعل الغير، من غير فرق بين كون الشك بعد المضيّ أو الفراغ من العمل أو في أثنائه.

الثاني: إنّ الصحيح قد يراد به ما يقابل القبيح، فالمقصود من أصالة الصحة حينئذ هو الحمل علي الحسن و المباح، بمعني نفي القبيح و الحرام عن فعل المسلم.

و يدلّ علي هذا المعني بعض الآيات و الروايات.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 46

فمن الآيات:

قوله تعالي: «يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ …». «1» فإنّ المقصود من الايمان للمؤمنين في هذه الآية تصديقهم في أقوالهم ظاهرا. و يشهد لذلك استدلال الامام الصادق عليه السّلام في صحيح حريز بهذه الآية؛ حيث قال عليه السّلام مخاطبا لابنه إسماعيل: «يا بنيّ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، يقول:

يصدّق باللّه و يصدّق للمؤمنين، فاذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم». «2» فإنّ تصديق المؤمنين في شهادتهم معناه حمل كلامهم علي الصدق- الذي هو الحسن- و نفي الكذب القبيح عنه.

و من النصوص:

قوله عليه السّلام: «كذّب سمعك

و بصرك عن أخيك. فان شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال، و قال: لم أقله، فصدّقه و كذّبهم». «3»

و إنّ مراده عليه السّلام من تصديق الأخ المؤمن تصديق قوله بالحمل علي الصدق ظاهرا، من دون ترتيب أثر عليه، و لا علي شهادة القسامة. و لا يخفي أنّ هذه الشهادة غير الشهادة عند الحاكم، و إلّا فيكفي شهادة عدلين للحكم.

و مما يشهد لذلك؛ أي إرادة التصديق ظاهرا، أنّ تصديق شخصين واقعا عند القطع بكذب أحدهما غير ممكن، فلا مناص من حمل قوله عليه السّلام:

«يصدّق للمؤمنين» علي التصديق الظاهري.

و من هذه النصوص:

قوله عليه السّلام: «ضع أمر أخيك علي أحسنه حتي يأتيك ما يغلبك منه، و لا تظنّنّ بكلمة

______________________________

(1) سورة التوبة: الآية 61.

(2) تفسير نور الثقلين: ج 2، ص 236، ح 218.

(3) وسائل الشيعة: ج 8، ص 609، ب 157 من أحكام العشرة، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 47

خرجت من أخيك سوء و أنت تجد لها في الخير محملا». «1»

أي إذا رأيت من أخيك المؤمن قولا أو فعلا و محتملا للحسن و القبح و الحلال و الحرام، فاحمله علي الحسن و الحلال، لا علي القبيح و الحرام.

و منها: قوله عليه السّلام: «إذا اتّهم المؤمن أخاه انماث الايمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء». «2» قوله انماث أي ذاب.

و لا يبعد كون المراد من الأخ المؤمن في هذه النصوص هو المعتقد بولاية الائمة عليهم السّلام، و لا مطلق المسلم؛ نظرا إلي ظهور لفظ المؤمن في لسان النصوص في ذلك عند عدم القرينة، نعم يكون في اصطلاح القرآن بمعني مطلق المسلم.

و لا يخفي عليك أن المقصود من أصالة الصحة في فعل الغير ليس هذا

المعني، بل هو خارج عن محل الكلام و لا يترتب علي هذا الحمل أثر وضعيّ. فلا كلام في وجوب حمل فعل المؤمن علي المباح و الحلال.

و إنّما الكلام في حمل فعله علي الصحيح بالمعني المقابل للفاسد، أي تام الأجزاء و الشرائط، كما هو المصطلح عليه بين الفقهاء و الاصوليين، و قد عقدوا لذلك مسألة الصحيح و الأعم في علم الاصول. و إنّ النسبة بين الصحيح بهذا المعني الوضعي و بين معناه الأوّل- الحسن المباح- هي العموم و الخصوص مطلقا؛ حيث إنّ كل صحيح بالمعني الثاني صحيح بالمعني الأوّل؛ إذ لا يمكن كون الفعل تام الأجزاء و الشرائط- التي اعتبرها الشارع فيه- و مع ذلك لم يكن جائزا، و لا عكس؛ حيث إنه قد يتفق كون الفعل

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 8، ص 614، ب 161 من أحكام العشرة، ح 3.

(2) وسائل الشيعة: ج 8، ص 613، ب 161 من أحكام العشرة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 48

مباحا و لكن باطلا، كما لو أخلّ المصلّي ببعض شرائط الصلاة أو أركانها نسيانا فيكون فعله- و هو الاتيان بالصلاة- حينئذ حسنا مباحا و لكنه باطل غير صحيح بالمعني الثاني.

و عليه، فمعني أصالة الصحة المبحوث عنها في المقام هو ترتيب أثر العمل الصحيح (تام الأجزاء و الشرائط) علي فعل المسلم عند ما شكّ في صحته، و لا تختصّ بالفعل الصادر من المؤمن (بمعناه الأخص)، بل هي جارية في حق جميع المسلمين، بل في حق غير المسلمين، من ساير الملل و الفرق، بناء علي ابتناء هذه القاعدة علي سيرة العقلاء.

الثالث: هذه القاعدة أصولية أو فقهية.

عقد جماعة البحث عن هذه القاعدة في ضمن القواعد الفقهية و الأكثر

جعلوها في ضمن القواعد الأصولية، عند البحث عن معارضتها مع الاستصحاب و عقد بعضهم عنوانا مستقلا لهذه القاعدة في عداد ساير المسائل الاصولية.

و التحقيق: أنّها من القواعد الأصولية: نظرا إلي ما سبق منّا في كتابنا «بدائع البحوث» من اعطاء الضابطة في القاعدة الأصولية بأنّها كل قاعدة تكون نتيجتها حجّة علي الحكم الكلي الشرعي. و إنّ نتيجة البحث عن هذه القاعدة هي حجية هذه القاعدة علي الحكم بصحة الفعل الصادر عن الغير، بلا فرق في ذلك بين كونها من الأمارات أو من الاصول العملية المحرزة أو غيرها. فليست هذه القاعدة بنفسها حكما من الأحكام لكي تكون من القواعد الفقهية، بل إنما هي حجّة علي الحكم الوضعي هو صحة فعل الغير.

و انّما بحثنا عنها في ضمن القواعد الفقهية؛ نظرا إلي جريان عادة القوم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 49

علي ذلك في تأليفهم كتب القواعد الفقهية.

الرابع: ما هو المراد من الصحة؟

قد يقال: إنّ المقصود من الصحة في المقام هو الصحة الواقعية، لا الصحة عند العامل، كما نسب إلي الميرزا القمي.

و علّل ذلك أولا: بأنّ سيرة المتشرعة أو العقلاء- و هي عمدة مدرك هذه القاعدة- قد قامت علي ترتيب آثار الواقع علي العمل الصادر من الغير.

و ثانيا: بأنّ من الواضح أنّ صحة العمل عند الفاعل لا توجب أن يرتّب الحامل عليه آثار الواقع؛ نظرا إلي وضوح عدم الملازمة بينهما؛ حيث إنّ أصالة الصحة لا توجب أكثر من العلم بصحة العمل عند عامله.

و إنّ العلم بصحة العمل عند العامل لا يوجب أن يرتّب غيره أثر الصحة علي ذلك العمل. و من هنا لو علم المأموم بطلان صلاة الامام- لجهله بالحكم أو الموضوع- لا يجوز له الاقتداء به،

و إن علم أنّ الامام يراه صحيحا.

تنقيح الصور و بيان مقتضي التحقيق

و لكن لبيان مقتضي التحقيق في المقام ينبغي بيان صور جريان هذه القاعدة.

فنقول: إن في المقام صورا من جهة علم الفاعل، و جهله بالحكم و من جهة العلم بحاله و عدمه.

و ذلك لأنّ الحامل إمّا أن لا يطّلع عن حال الفاعل، فلا يعلم أنّه عالم بالحكم أم لا؟ أو يطّلع عن حاله.

فعلي الأوّل: لا إشكال في جريان أصالة الصحة عند العقلاء في الجملة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 50

علي تفصيل يأتي.

و أما علي الثاني: فإمّا أن يعلم الحامل بأنّ العامل غافل عن الصحة و الفساد لجهله بالحكم أو الموضوع. فلا ريب في عدم جريان أصالة الصحة حينئذ. و ذلك لأنّ عمدة دليلها هي السيرة، و إنّ مصبّ جريانها هو الأخذ بظاهر حال العامل، و إنّ الغافل لا ظهور لحاله. و علي فرض الشك في دخوله في مصبّ السيرة لا تجري هذه القاعدة؛ لأنّ السيرة دليل لبيّ يؤخذ بالقدر المتيقن من جريانها. و لا إطلاق أو عموم لفظي في المقام لكي يرجع إليه عند الشك، كما ستعرف في بيان مدرك القاعدة.

و إمّا أن يعلم الحامل بأنّ العامل عالم بالصحة و الفساد و ملتفت إليهما، فحينئذ إما أن يعلم الحامل موافقة الفاعل معه في شرائط الصحة و ما يعتبر فيها من القيود، أو يعلم مخالفته معه في ذلك اجتهادا أو تقليدا.

ففي الفرض الأوّل تجري أصالة الصحة؛ نظرا إلي احتمال صحة عمل الفاعل واقعا عند الحامل أيضا، بل هذا الفرض هو المتيقن من موارد جريان هذه القاعدة.

و أما إذا علم الحامل مخالفة الفاعل له في الاعتقاد فلا يمكن له حمل فعله علي الصحيح واقعا؛ نظرا إلي أنّ صحة

فعل العامل حسب اعتقاده، لا يستلزم كونه صحيحا عند الحامل. و إنّ ظاهر حال العامل أن يعمل حسب ما يراه صحيحا في اعتقاده. و هذا لا يثبت أكثر من صحة العمل حسب اعتقاد العامل. و المفروض أنّ الحامل لا يراه صحيحا واقعا. و لا ينافي ذلك كونه صحيحا عند العامل.

و عليه فلا تجري أصالة الصحة في هذا الفرض بالتفسير المزبور، أي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 51

الحمل علي الصحة واقعا.

هذا إذا كانت المخالفة بينهما بالتباين بأن كان ما هو الصحيح عند الفاعل فاسدا في نظر الحامل و أمّا إذا لم يره الحامل باطلا، كأن اشترط شي ء في صحة العمل باعتقاد الفاعل كتثليث التسبيحات الأربع، و لا يراه العامل شرطا، مع أنه لا يراه مبطلا للصلاة أيضا، فحينئذ تجري أصالة الصحة؛ نظرا إلي احتمال الحامل صحة العمل الصادر من العامل واقعا.

و الحاصل: أنّ الفاعل إذا كان غافلا عن فساد عمله لجهله بالحكم أو الموضوع، أو كان معتقدا بخلاف ما يعتقده الحامل، بأن يري فعله باطلا، لا تجري أصالة الصحة؛ نظرا إلي عدم ظهور لحال الفاعل في الصورة الاولي لغفلته و جهله، و أنّ غاية ما يقتضيه ظاهر حاله في الصورة الثانية صحة العمل عند نفسه، لا حسب ما يراه الحامل واقعا. و هذا واضح بناء علي كون المأخوذ في أصالة الصحة هو الصحة الواقعية عند الحامل.

و لكن عمدة الإشكال في تفسير الصحة بالصحة الواقعية عند الحامل، كما أشار إلي هذا الإشكال الامام الراحل. «1»

و ذلك أولا: لأنّ الأثر في إجراء هذه القاعدة و إن يترتب علي الصحة الواقعية، كما لا ريب في أنّ المقصود من الصحة هو الصحة الواقعية، إلّا أنّها ليست الصحة

عند الحامل دائما، حيث ربما يترتب الاثر علي الصحة عند العامل. و ذلك فيما إذا لا ربط لعمل العامل بالحامل، كالعبادات الفردية، كما يتوقف ترتب الأثر علي الصحة عند الحامل في صلاة الجماعة، و أنواع المعاملات المترتبة صحتها علي الصحة عند الطرفين.

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 322.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 52

نعم لو كان الحامل في المعاملات شخصا ثالثا غير الطرفين فأيضا تكون الصحة عند العامل، فانّ حمل معاملة الغير علي الصحة حينئذ بمعني صحته حسب اعتقاده. و يظهر أثره في جواز شراء ما انتقل إليه بتلك المعاملة المحكومة بالصحة حسب اعتقاده.

و ثانيا: لأنّ ما يساعده الاعتبار و يقتضيه ظاهر حال العاقل الملتفت و استقرّت عليه السيرة، هو مطابقة فعل أيّ شخص مع اعتقاده، سواء طابق الواقع أم لا؟ غاية الأمر إذا توافق رأي الحامل و الفاعل، فلمّا يري الحامل رأي الفاعل مطابقا لاعتقاده، يري عمله صحيحا واقعا و من هنا يحمل عمله علي الصحيح واقعا عند الشك في صحته.

و عليه فتفسير الصحة بالصحة الواقعية عند الحامل في مطلق موارد جريان هذه القاعدة يشكل الالتزام به.

و قد اتضح بما قلنا أنّه إذا جهل الحامل بحال الفاعل، لا بد له أوّلا من إحراز مطابقة رأيه مع اعتقاد نفسه، و لا أصل بين العقلاء يحرز به ذلك، بل ربما تكون الغلبة في اختلاف الآراء، إلّا في مسائل اتفاقية أو قليلة الاختلاف، فحينئذ لا يعتنون باحتمال المخالفة في الرأي، و يحملون فعل الغير علي الصحة الواقعية. و هذا بخلاف المسائل كثيرة الاختلاف.

و بناء علي ذلك لو كان الحامل جاهلا بحال الفاعل في المسائل الاختلافية، فأيضا لا تجري أصالة الصحة بمعني الحمل علي الصحة الواقعية،

بل إنما تجري بمعني الحمل علي ما هو الصحيح عند الفاعل. و أثره كون عمله محكوما بالصحة عند نفسه، فلا يرتكب حراما، و لا إعادة و لا قضاء و لا كفارة عليه في مواردها، من دون ترتب أثر الصحة عند الحامل.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 53

و إنمّا تظهر أثر الصحة هاهنا- بمعناه الوضعي المأخوذ في جريان هذه القاعدة- في عمل النائب عن الميت، فاذا كان عمله صحيحا حسب اعتقاده بمقتضي أصالة الصحة يسقط وظيفة الحامل إذا كان وصيا أو وليّ الميت.

و كذا تظهر ثمرتها في قضاء الولد الأكبر عن أبيه، فاذا ثبتت صحة صلاة أبيه- عند الشك في صحتها- بأصالة الصحة تسقط عنه الوظيفة؛ لأنّ المناط في سقوط الوظيفة في كلا الموردين هو صحة العمل عند الفاعل.

هذا في العبادات.

و أما في المعاملات، فأثره جواز تصرفه في المال المنتقل إليه بالمعاملة فيما لو كان الحامل شخصا ثالثا، غير طرفي المعاملة، فيجوز له شراء ما انتقل إليهما بتلك المعاملة.

و حاصل الكلام: أنّ مقتضي التحقيق في المقام: أنّه لا دليل علي أخذ الصحة عند الحامل في جريان أصالة الصحة و إن كان هو الغالب من جهة ترتب الآثار، بل تجري لإثبات الصحة عند الفاعل أيضا.

و ذلك أولا: لأنّه مقتضي ظاهر حال العاقل الملتفت، بل عليه سيرة العقلاء؛ فانهما يقضيان بمطابقة عمل كل عاقل ملتفت مع اعتقاده.

و ثانيا: ربما يترتب الاثر الشرعي علي الصحة عند الفاعل كما أشرنا إليه آنفا. و عليه ففي المقام، فإن قلنا بأخذ الصحة الواقعية عند الحامل في جريان أصالة الصحة، لا بد من التفصيل من جهة العلم بحال الفاعل و عدمه و علمه بالحكم و جهله، فاذا لم يطلع الحامل

عن حال الفاعل تجري أصالة الصحة في غير المسائل كثيرة الاختلاف. و أمّا إذا اطّلع عن حاله بالمخالفة في الرأي فلا إشكال في عدم جريان أصالة الصحة، لو كانت المخالفة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 54

بالتباين و لا مانع من جريانها في المخالفة بغير التباين، كما قلنا.

و أما إذا اطلع عن حاله بالموافقة في الاعتقاد فلا ريب في جريان قاعدة أصالة الصحة، بل هذه الصورة هي المتيقّنة من جريانها، كما لا إشكال في عدم جريانها فيما إذا اطلع عن حاله بكونه غافلا عن الصحة و الفساد.

و أما إذا لم نقل بأخذ الصحة الواقعية عند الحامل في جريان هذه القاعدة- كما هو مقتضي التحقيق- فتجري في صورة العلم بالمخالفة و في المسائل الاختلافية إذا لم يعلم رأي الفاعل و يترتب الأثر الشرعي عليها، كما في النيابة عن الميت و باب الوصاية و العبادات الاستيجارية و غير ذلك.

الخامس: إحراز أصل العمل.

و ذلك لوضوح عروض كل صفة علي موصوفها، فما دام لم يحرز وجود المعروض لا يعقل الشك في اتصافه بتلك الصفة. و إنّ الصحة المشكوكة حسب الفرض صفة لأصل العمل، فلا بد من إحرازه لكي يعقل الشك في صحته. و من هنا لا سيرة للعقلاء علي جريان القاعدة إلّا بعد إحراز تحقق ذات العمل، كيف ما كان سنخ ذاته.

و عليه فلو كان العمل من العناوين القصدية المتقوّمة بالقصد، يعتبر إحراز قصد ذلك العمل في جريان أصالة الصحة عند الشك في صحته، بلا ريب؛ نظرا إلي عدم تحقق عنوان العمل بدون القصد حينئذ. و لذا لا بد من تحقق قصد عنوان أصل العمل في جريان هذه القاعدة في مثل الصلاة و الصوم و الغسل و

الوضوء مما يتقوّم عنوانه بالنية، بل قد يقال باعتبار إحرازه في العناوين غير القصدية أيضا، كما لو رأينا أحدا يصبّ الماء علي ثوب و لا ندري أنه قصد بذلك التطهير أو إزالة الوسخ، فيشكل في إجراء

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 55

أصالة الصحة في عمله و الحكم بطهارة ذلك الثوب.

ثم قال هذا القائل: «نعم بعد إحراز كونه قاصدا للتطهير لو شككنا في حصول الطهارة الشرعية لاحتمال الاخلال بشرط من شروطها كالعصر و التعدّد يحكم بحصولها حملا لفعله علي الصحة». «1»

و قد يشكل علي ذلك بأنّ قصد التطهير إذا لم يكن معتبرا في عنوانه و صحته فلا وجه للشك في صحته من جهة تعلق القصد.

و يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ الشك في صحته من جهة عدم إحراز تعلّق القصد بالتطهير و إن لا وجه له، إلّا أنّ الشك في صحته لاحتمال الاخلال بشرط من شرائط الطهارة الشرعية- كالعصر و التعدد- بمكان من الامكان و لو لم يحرز قصد التطهير؛ لعدم منافاة بينهما.

و عليه فحينما شك في صحة الغسل شرعا لاحتمال الاخلال بشرط لا يمكن إجراء أصالة الصحة ما دام لم يحرز كونه قاصدا للتطهير و بصدد الغسل الشرعي. و ذلك لأنّ السيرة إنما استقرت علي جريان هذا الأصل في عمل أحرز كون الغير بصدد اتيان ذلك العمل، و هذا هو منصرف ما يشعر إلي هذا الأصل من النصوص.

فمقتضي القاعدة في مفروض الكلام عدم تحقق ما شك في حصوله من الشروط، كالعصر و التعدد، فانهما أمران حادثان و الأصل عدم حدوثهما فيحكم بعدم تحقق الغسل الشرعي حينئذ.

و بناء علي ذلك ففي العبادات النيابية يشترط إحراز قصد النيابة في جريان هذا الأصل. و إلّا

لا يثبت بأصالة الصحة متعلق الاستيجار؛ لأنّ

______________________________

(1) مصباح الاصول: ج 3، ص 332.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 56

مرجع الشك حينئذ إلي الشك في إتيان متعلق الاستيجار صحيحا لكي يستحق العامل الاجرة بذلك.

و عليه فلو شك في أنّ العامل هل قصد النيابة من عمله أو لا، بل عمل لنفسه، لا تنفع أصالة الصحة في الحكم باستحقاقه للأجرة؛ لأنه فرع اتيان العمل النيابي صحيحا، لا الصحيح مطلقا، و لو بدون قصد النيابة.

و أما الجمع بين عدم حصول فراغ الذمة لعدم قصد النيابة، و بين استحقاق الاجرة للإتيان بالعمل صحيحا، عند الشك في صحة العمل النيابي- كما يظهر من الشيخ الأعظم- فلا يصح. و ذلك لعدم كون مورد الاجارة هو الاتيان بالعمل الصحيح مطلقا، بل هو الاتيان به نيابة عن الغير.

ثم إنه لا طريق إلي إحراز هذا القصد إلّا إخبار العامل؛ لأنه أمر قلبي لا يعلم إلّا من قبله، و لا يمكن العلم الوجداني و لا إقامة البيّنة عليه.

و لا ريب في عدم اعتبار قوله إذا كان فاسقا. و أمّا أنّه هل تعتبر العدالة في سماع قوله أو تكفي وثاقته، فالأقوي أنّه تكفي وثاقته؛ نظرا إلي جريان سيرة العقلاء عليه، و لدلالة النصوص المعتبرة علي حجية خبر الثقة، كما أشرنا إلي بعضها في كتابنا «مقياس الرواية». و أمّا العدالة فلا دليل علي اعتبارها في مطلق الموضوعات و لا بالخصوص في المقام، كما ورد في الشهادة و نحوها.

و لا يخفي أن المقصود من إحراز العمل هو إحراز أصل وقوعه في موطنه (ماضيا أو مستقبلا أو حالا)، و لا بمعني مضيّ زمن وقوعه، و إلّا لم يكن فرقا بينه و بين قاعدة الفراغ من هذه الجهة.

و

مما ينبغي ذكره في المقام أنّ بعض الاصول العقلائية كأصالة الجد

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 57

و الالتفات و نحوهما يجري عند الشك في أنّ عنوان العبادة أو المعاملة مقصود العامل من فعله جدا، و يحرز بهذه الاصول العقلائية تعلّق القصد الجدي من العامل بتلك العبادة أو المعاملة، و إنّ هذه الاصول في الحقيقة منقّحات لموضوع أصالة الصحة، و هو أصل العمل، و إنما تجري لنفي احتمال الهزل و الغفلة بعد إحراز قصد العامل أصل العمل، و إلّا فلا تنفع في تنقيح موضوع هذه القاعدة.

ثم إنّه يظهر من الامام الراحل «1» أنّه إذا كان الشك في جزء متمّم لعمل، كالشك في تعقّب الايجاب بالقبول، بعد العلم بتحقق الايجاب، لا مجال لأصالة الصحة؛ لأن الشك في تحقق الجزء المتمّم، لا في صحة الايجاب نفسه.

و فيه: أنّه إذا عقد شخصان معاملة و شككنا في صحتها تجري أصالة الصحة في المعاملة الصادرة منهما مطلقا، سواء كان الشك في صحة بعض أجزاء تلك المعاملة، كالإيجاب نفسه أو القبول نفسه، أو في تحقق الجزء المتمّم و ضمّه إلي الجزء الآخر. فعلي أيّ حال قد صدر منهما فعل- و هو المعاملة- و شككنا في صحته، فتجري أصالة الصحة، بلا فرق بين منا شي ء الشك و موارده.

نعم لو لم نحرز تحقق أصل عنوان العقد للعلم بعدم تحقق ما يتقوّم به من أركان العقد عرفا كالإيجاب أو القبول أو نحوهما أو شك في ذلك لا تجري أصالة الصحة؛ نظرا إلي اعتبار صدق أصل عنوان العمل، دون ما لو شك في ما يعتبر في صحته شرعا.

و لعلّ مقصود الامام قدّس سرّه هو ما لو شك في الركن المقوم لعنوان العقد

______________________________

(1) الرسائل:

ج 1، ص 327.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 58

و بناء عليه لا يرد إشكال، كما يفهم من تمثيله بالايجاب.

السادس: إحراز قابلية الفاعل و المورد.

بيان ذلك: أنّ الشك في صحة عمل الغير تارة: يكون لأجل الشك في قابلية الفاعل، و أخري: لأجل الشك في قابلية المورد، و ثالثة: لاحتمال فقدان شرط أو وجود مانع مع إحراز قابلية الفاعل و المورد.

و لا كلام في حجية أصالة الصحة في الصورة الأخيرة.

و أما الاوليان فقد وقع الخلاف في حجية أصالة الصحة في مواردهما.

و لتحقيق ذلك نقول:

إنّ كلّ واحد من قابلية الفاعل و المورد إمّا عرفي أو شرعي، أما القابلية العرفية للفاعل، مثل كون البائع مميزا بأن لا يكون مجنونا أو سفيها أو صبيا غير مميز، و الشرعية مثل كونه بالغا أو غير مفلّس و أما القابلية العرفية للمورد مثل كون المبيع مالا عرفا، و الشرعية مثل كونه مما يملك شرعا، دون ما لا يملك شرعا كالخمر و الخنزير.

فنسب إلي العلامة و المحقق عدم جريان أصالة الصحة إذا لم تحرز قابلية الفاعل و المورد؛ بدعوي أنّ الحمل علي الصحة إنّما هو فيما إذا شك في الصحة الفعلية بعد إحراز الصحة التأهليّة.

و ذهب الشيخ الأعظم الانصاري إلي جريانها حينئذ؛ بدعوي قيام السيرة علي جريان هذه القاعدة مع الشك في قابلية الفاعل و المورد. كما لو شك في صحة معاملة لأجل الشك في أنّ البائع مالك أو غاصب، فانّ السيرة جارية حينئذ علي أصالة الصحة و ترتيب آثار العاملة الصحيحة.

و لكن الأقوي ما ذهب إليه العلامة و المحقق، من اعتبار إحراز قابلية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 59

الفاعل و المورد في جريان أصالة الصحة ما

لم تجر قاعدة اليد، و إلّا فلا تصل النوبة إلي أصالة الصحة.

و ذلك لأنّ عمدة دليل هذه القاعدة- و هي السيرة- يشكل إحرازها عند الشك في قابلية الفاعل و المورد. حيث إنّا نري في سيرة أهل العرف؛ أنّه إذا باع زيد دار عمرو- مثلا- مع اعترافه بأنه ملكه، و شكّ في أنه وكيله، لا يقدمون علي شراء الدار منه، و كذا لو طلّق زيد زوجة عمرو مع الشك في أنه وكيله، فلا يرتّب المتشرعة أثرا علي طلاقه، و لا أقلّ من الشك في جريان السيرة علي ترتيب آثار الفعل الصحيح عند الشك في قابلية الفاعل.

و من هنا يشكل دعوي جريان أصالة الصحة في سيرة المتشرعة عند الشك في بلوغ المتعاملين، أو في عقلهما أو رشدهما، و كذا عند الشك في قابلية المورد عرفا، كما لو شكّ في أنّ المبيع هل له مالية عند أهل العرف أم لا؟ فلم يعلم ترتيب آثار البيع الصحيح حينئذ علي مثل هذه المعاملة في سيرة العقلاء، بل ربما يرجع الشك في قابلية المورد إلي الشك في أصل عنوان العمل.

و علي أيّ حال فالسيرة لا بد من إحرازها، و هو مشكل في المقام، فإنها دليل لبّي يؤخذ بالقدر المتيقن من مستقرّها.

و أما ترتيب آثار المعاملة الصحيحة عند الشك في كون البائع مالكا أو غاصبا، أو ما إذا كان منشأ الشك في صحة الشك في قابلية المورد شرعا، كما لو شكّ في صحة معاملة لأجل الشك في كون المبيع مما يملك شرعا أو مما لا يملك لاحتمال كونه لحم الخنزير، فانما يكون لأجل قاعدة اليد؛ حيث لو لا أمارية اليد لما قام للمسلمين سوق، كما ورد في النص، و سيأتي توضيح ذلك

في تحقيق قاعدة اليد، و ليس ترتيب آثار الصحة لأجل جريان

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 60

قاعدة الصحة في مفروض الكلام؛ لأنّها إنّما تجري إذا لم تكن أمارة، و إلّا لا تصل النوبة إلي هذه القاعدة؛ حيث أخذ في موضوعها الشك في الصحة.

مدرك هذه القاعدة

اشارة

قد استدل لهذه القاعدة بوجوه.

الأوّل: الإجماع المحصّل

من تتبّع فتاوي الفقهاء.

و فيه أولا: أنّ تحصيل الاجماع في جميع الموارد مشكل؛ نظرا إلي توقف تحصيله علي إحراز استنادهم إلي هذه القاعدة في ترتيب أثر الصحيح علي ما شك في صحته في جميع الأبواب حتي المعاملات. و إثبات ذلك مشكل جدّا، لما عرفت من ابتناء ذلك غالبا في المعاملات علي قاعدتي اليد و السوق.

و ثانيا: علي فرض إحراز ذلك لا قيمة لهذا الاجماع لاحتمال استنادهم في الاتفاق علي ذلك إلي بعض الوجوه الآتية، بل من المظنون قويا، فهو مدركي، لا تعبّدي كاشف عن رأي المعصوم عليه السّلام.

الثاني: ما استدل به من الكتاب

. فمن ذلك قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ». «1»

وجه الدلالة ظهوره في أنّ ظنّ السوء بالأخ المؤمن إثم و حرام. و لازم ذلك وجوب حمل أفعاله و أقواله علي الصحة، كما استدل بهذا التقريب السيد مير عبد الفتاح. «2»

و فيه: أنّ بطلان العمل لا يلازم المعصية؛ لأنه ناشئ من الخطأ

______________________________

(1) سورة الحجرات: الآية 12.

(2) العناوين: ج 2، ص 545.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 61

و الاشتباه أو الجهل بالحكم، فعدم حمل فعل المسلم علي الصحة لا يستلزم ظن السوء في حقّه، فليس هذا هو المقصود من الآية، بل ظاهرها هو حمل فعل المسلم علي الجائز الحلال و المشروع المباح و النهي عن الظنّ بارتكاب المعصية و القبيح في حقه ما دام يحتمل المباح و المشروع.

و هذا المعني خارج عن محل الكلام، و ليس هو المقصود من أصالة الصحة في كلمات الفقهاء، كما سبق بيان ذلك في تحرير مفاد القاعدة.

و منه: قوله تعالي: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بناء علي عدم اختصاص الخطاب بالمتعاقدين و شموله لجميع المكلّفين، فيكون

الجميع مأمورين بالوفاء، بمعني ترتيب آثار الصحة علي العقد الواقع من المتعاملين.

و ردّ ذلك أولا: بأنّ الخطاب في الآية إلي خصوص المتعاقدين، و أما صيغة الجمع «أوفوا» فهي علي سبيل الانحلال شامل لآحاد المتعاقدين، فلا تشمل هذه الآية جميع المكلّفين حتي تصلح للدليلية علي حمل غير المتعاقدين فعلهما علي الصحة.

و ثانيا: بأنه علي فرض عمومية الآية لغير المتعاقدين فانما هي تختص بالعقود و لا تشمل الايقاعات. و علي فرض شمولها للإيقاعات- بناء علي كون المراد بالعقود المعني اللغوي، لا الاصطلاحي المقابل للإيقاعات- تختص بالمعاملات، فيكون مدلولها أخصّ من المطلوب إذ الكلام في اعتبار أصالة الصحة في جميع الموارد حتي العبادات.

و ثالثا: بأنّ الشبهة في موارد جريان أصالة الصحة مصداقية؛ إذ هي من الاصول المجعولة في الشبهات الموضوعية، دون الحكمية. بمعني أنّ العمل الصادر من المكلّف هل هو واجد لتمام الأجزاء و الشرائط و فاقد للموانع أم لا؟

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 62

و قد ثبت في الاصول عدم جواز الرجوع إلي العام في الشبهات المصداقية.

الثالث: عموم التعليل الوارد في قاعدة اليد في صحيح حفص بن غياث

بقوله عليه السّلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» فانه يشمل بعمومه مجري أصالة الصحة؛ حيث إنّه لو لا جريانها و اعتبارها في مواردها لما قام سوق للمسلمين.

و فيه أولا: أنّ مجري هذه القاعدة يختص بصورة الشك في الصحة و هي موضوعها، و الحال أنّ اليد أمارة و طريق إلي الواقع كسائر الأمارات و تعتبر في مطلق موارد الجهل بالواقع، اللهم إلّا أن يقال بابتناء أصالة الصحة علي سيرة العقلاء المستقرّة في مطلق الجهل بحال الغير. و لكنه غير معلوم فإنّ المتيقن من مستقرّها هو صورة الشك في صحة فعل الغير.

و ثانيا إنّ قاعدة اليد

تختصّ بالمعاملات، و الحال أنّ المطلوب في المقام إثبات اعتبار أصالة الصحة في مطلق الموارد، حتي العبادات.

الرابع: سيرة المتشرعة؛
اشارة

حيث إنّها قد استقرّت منهم علي ترتيب آثار الصحة علي فعل المسلم عند الشك في صحته في جميع الموارد، بلا فرق بين العبادات و المعاملات، و لا بين العقود و الايقاعات. و لا ريب في اتصال هذه السيرة بزمان الشارع؛ حيث لم يسمع خلاف ذلك من أصحاب النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمة، بل ورد عنهم عليهم السّلام ما يدل علي ارتضائه بذلك و إمضائه لهذه القاعدة، كما يجد المتتبّع ما يدل علي ذلك من النصوص.

بل ربما يقال- كما عن الامام الراحل قدّس سرّه «1» - بعدم اختصاص هذه السيرة بالمتشرعة، بل استقرّت بين العقلاء؛ نظرا إلي أنّ للمسلمين لم يكن طريقة

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 320.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 63

خاصّة كاشفة عن إبداع هذا الأصل من قبل الشارع، بل الضرورة قاضية باستقرارها بين العقلاء قبل الإسلام من بدء تمدّن البشر، و إنّ الإسلام قد جاء في عصر كانت أصالة الصحة- كقاعدة اليد و العمل بخبر الثقة- معمولة بين الناس. فان المسلمين كانوا يعملون بها من غير انتظار صدور حكم في ذلك من جانب الشارع، و الآن يحمل المسلمون أعمال ساير الملل علي الصحيح و إنهم أيضا يحملون أفعال المسلمين علي الصحيح في جميع الامور. و هذا يكشف أنّ عمدة دليل اعتبار أصالة الصحة هي سيرة العقلاء.

و لم يردع عنها الشارع، بل وردت روايات تدل علي امضائها.

النصوص الإمضائية

فمن هذه الروايات ما ورد في أبواب تجهيز الموتي؛ لدلالتها علي اكتفاء المسلمين من لدن صدر الإسلام علي فعل الغير في غسل موتاهم و كفنهم و ساير تجهيزاتهم، فكانوا يصلّون عليهم من غير تفتيشهم عن صحة أفعالهم و لم يكن ذلك

إلّا لبنائهم علي صحة فعل الغير.

و منها: ما دلّ علي جعل القاضي و الحاكم و إمام الجماعة و الوصي و القيّم، و ما دل علي اعتبار شهادة الشاهد في المحكمة، مع كونهم في معرض العثور و الزلّة، فليس ذلك إلّا لحمل أفعالهم علي الصحيح.

و منها، ما دلّ علي مشروعية التوكيل و الاستنابة في المعاملات، بل و بعض العبادات، كالحج و صلاة الميت، مع عدم صونهم من العثور و الخطأ، فلا يحرز صحة أعمالهم إلّا تعبّدا بأصالة الصحة.

إلي غير ذلك من الموارد. فإنّ النصوص الواردة في هذه الموارد تدلّ

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 64

علي ابتناء مشروعية ترتيب آثار الصحة علي فعل الغير في العبادات و المعاملات علي هذه القاعدة و هي تصلح لإمضاء سيرة العقلاء.

و لا فرق في بناء العقلاء بين مضيّ زمان صدور الفعل من الغير و حال اشتغاله به و صدوره منه في المستقبل.

الخامس: توقف حفظ نظام المعاش، بل الحياة علي جريان هذه القاعدة

؛ إذ لو لا البناء علي صحة فعل الغير عند الشك للزم عدم الإقدام علي أثر المعاملات و عدم اعتماد أحد علي أحد في شي ء من أمور العيش و المعاشرات؛ و للزم العسر و الحرج الشديدان في حد الاخلال بامرار المعاش؛ لعدم إمكان تحصيل العلم بصحة فعل الغير في غالب الموارد و لا قيام البينة، بل للزم عدم إمكان فصل الخصومات و القضاء بين الناس.

و لا ريب أنّ ذلك ينجرّ إلي الهرج و المرج و سلب الأمنية عن المجتمع و تعطيل اقتصادهم و فساد معاشهم، و بالمآل يوجب الاختلال في نظام حياتهم.

و فيه: أنّه مع جريان قاعدة اليد و السوق في المعاملات لا يتوقف حفظ نظام المعاش علي جريان أصالة الصحة.

السادس: ظاهر حال الفاعل العاقل المختار الملتفت

، مطابقة عمله مع اعتقاده بمقتضي الفطرة و الغريزة التي خلق عليها الانسان و هو مجبول عليها. و ظاهر حال الانسان مأخوذ و حجّة في سيرة العقلاء و كذا ظاهر حال المسلم في سير المتشرعة.

و لكن هذا الدليل إنما يثبت الصحة عند العامل.

و هذا الدليل غير السيرة؛ لأنّها جريان عملي، و لكن هذا الدليل ناظر إلي ظاهر حال كلّ شخص بمقتضي الفطرة و بما أنّه إنسان عاقل مختار ملتفت.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 65

هل هي من الأمارات أو الاصول؟

لا ريب في أنّ أصالة الصحة من الاصول، لا الأمارات.

و الوجه فيه واضح؛ نظرا إلي أخذ الشك في موضوعها. فانّ عمدة دليل هذه القاعدة- و هي السيرة- إنّما استقرّت علي جريان هذا الأصل عند الشك في صحة فعل الغير؛ حيث لا معني للحمل علي الصحة و لا البناء عليها، إلّا إذا شك فيها. و كذا بالنسبة إلي ساير أدلة هذه القاعدة، حتي ظاهر حال الفاعل العاقل الملتفت. فعند الشك في صحة فعل الغير لاحتمال البطلان بأيّ سبب، يؤخذ بظاهر حاله و يدفع به احتمال البطلان و يبني علي صحة عمله.

و أما مشروعية جعل القاضي و التوكيل، فهي ثابتة بأدلّتها اللفظية، لا بأصالة الصحة. و أما الاكتفاء بغسل الموتي و كفنهم الصادر من المؤمنين فلعدم تحقق الشك في صحة فعلهم، لا لأصالة الصحة. نعم لو شك في صحة فعلهم تجري أصالة الصحة.

فلا يصغي إلي مقالة من قال بأنّ أصالة الصحة من الأمارات؛ لأنّ الأمارة لم يؤخذ في موضوعها الشك، بل جعلت حجة في مطلق الجهل بالواقع. حيث إنّ من الواضح أنّه ما لم يشك في الصحة لا معني للحمل و البناء عليها، كما هو المرتكز من سيرة العقلاء.

أصالة الصحة من الاصول التنزيلية

وقع الكلام في أنّ أصالة الصحة هل تكون أصلا تنزيليا أو غير تنزيلي.

مقتضي التحقيق أنّها من الاصول التنزيلية؛ إذ مفادها حسب مقتضي أدلّتها تنزيل فعل الغير منزلة الواقع و لو في اعتقاد العامل. و عليه فأصالة الصحة من الاصول التنزيلية المحرزة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 66

و أما مجرد الكاشفية الناقصة الثابتة لظاهر حال المسلم، بل أيّ فاعل عاقل ملتفت، فلا يوجب كون ظاهر حال المسلم أمارة علي صحة فعله.

و ذلك لأنّ ظاهر حال المسلم

إنّما يؤخذ به في سيرة المتشرعة عند الشك في صحة فعله و إنّ المعيار في الأصل أخذ الشك في موضوعه، كما أن في الاستصحاب تكون للحالة السابقة كاشفية ناقصة و مع ذلك يكون من الاصول و لم يقل أحد بأماريتها.

و لا يخفي أنّ هذه القاعدة ليست من قبيل الحكم؛ لأنّ البناء علي صحة فعل الغير و حمله علي الصحة، فعل الشخص الحامل عند الشك. كما أنّ الاستصحاب هو البناء علي ما كان ثابتا في السابق، و ليس نفسه حكما من أحكام العقل و الشرع، بل بناء عملي استقرّت عليه سيرة العقلاء و أمضاها الشارع.

مثبتات هذه القاعدة

قد يتوهم أنّ حجية أصالة الصحة بالنسبة إلي لوازمها العقلية و العادية منوطة بكونها من الأمارات؛ نظرا إلي حجية الأمارات في مثبتاتها دون الاصول.

و من هنا وقع الكلام في حجية مثبتات الأمارات.

فقال بعض الأعلام «1» بعدم حجية الأمارات في مثبتاتها كالأصول، و عدم الفرق بينهما من هذه الناحية، إلّا في الإخبار؛ نظرا إلي قيام سيرة العقلاء فيه علي الأخذ بلوازم الخبر. و وجّه ذلك بأنّ دليل اعتبار الأمارات الوارد من جانب الشارع إنما جعلها حجة تعبدية؛ لما لها من الكاشفية

______________________________

(1) مصباح الاصول: ج 3، ص 155 و ص 333- 334.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 67

الناقصة عن الواقع وجدانا، فتمّمها دليل اعتبارها تعبّدا، لا وجدانا حتي تكون حجة في مثبتاتها.

و إنّما الحجة هي مثبتات المعلوم بالوجدان، لا بالتعبّد. و ذلك أنّه يحصل من العلم بالملزوم العلم بلازمه وجدانا، بعد الالتفات إلي الملازمة بينهما.

ففي الحقيقة يترتب العلم باللازم من العلم بالملازمة و العلم بالملزوم معا، لا خصوص العلم بالملزوم.

و استشهد لذلك بما قال علماء المنطق؛ من أنّ العلم بالنتيجة

يحصل من العلم بالصغري و الكبري معا. و مرجعه إلي توقف العلم باللازم علي ضمّ العلم بالملازمة إلي العلم بالملزوم وجدانا. و هذا بخلاف العلم التعبدي المجعول من قبل الشارع، حيث لا ملازمة عقلية بين المعلوم التعبّدي و بين لوازمه العقلية و العادية؛ نظرا إلي اختصاصها بالملزوم المعلوم وجدانا، فلا يلزم من المعلوم التعبدي العلم باللازم وجدانا، بل العلم التعبدي في هذه الجهة تابع لنطاق الدليل الشرعي الظاهر في حجية الأمارة في خصوص ما قامت عليه، دون لازمه العقلي و العادي.

و لكنّك عرفت من خلال هذا البيان أنّ كلام هذا العلم إنما يصح في أمارات ثبت اعتبارها بدليل خاص شرعي تعبدا، لا في الأمارات العقلائية التي استقرّ بناء العقلاء علي العمل بها. و لا في الامارات التي ثبتت حجيتها بدليل لفظي من الكتاب أو السّنة.

و ذلك لأنّ العقلاء يأخذون بلوازم ما يرونه حجّة كاشفة عن الواقع.

و من هنا لو قلنا بأمارية هذه القاعدة و بنينا علي أنّ أصالة الصحة لم يؤخذ الشك في موضوعها عند العقلاء لا مناص من القول بالأخذ بلوازمها كما أنّ

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 68

الأمر كذلك في حجية خبر الثقة، بناء علي اعتباره ببناء العقلاء. كما أنّ ما ثبت اعتباره بدليل لفظي من الأمارات لا إشكال في حجية لوازمها؛ نظرا إلي حجية ظاهر الدليل اللفظي بما له من النطاق و الاطلاق و الاطلاق الشامل للّوازم التي داخلة في نطاق ظهور الدليل اللفظي.

فالحق في المقام أن يفصّل بين الأمارات العقلائية التي أمضي الشارع اعتبارها و بين الأمارات التعبدية التأسيسية، كما أشار إلي ذلك الامام الراحل قدّس سرّه و فصّل بذلك في المقام. «1» كما لا بد من هذا

التفصيل بين الأمارات التعبدية و بين ما ثبت اعتباره بالدليل اللفظي.

و تحرير كلامه قدّس سرّه: أنّ الامارات العقلائية التي أمضاها الشارع، لم تستقرّ سيرة العقلاء علي العمل بها، إلّا لأجل كشفها عن الواقع وجدانا لا للتعبّد بها.

و ذلك لأنّ في هذه الأمارات كاشفية ناقصة توجب مرتبة من الوثوق و الظن بالواقع وجدانا و هي توجب الظن الوجداني بلوازمه. و لذا تري العقلاء يرتّبون الأثر علي لوازمها و هذا بخلاف الأمارات التعبّدية التأسيسية التي لا توجب الظن الوجداني بمؤداها، فضلا عن لوازمها العقلية و العادية، كالإجماع و نحوه.

و الحاصل: أنّ مثبتات الأمارات العقلائية و الامضائية و التي ثبت اعتبارها بالدليل اللفظي حجة بخلاف الأمارات التعبدية.

و ذلك لأنّ في الأمارات العقلائية، لمّا جري بناؤهم علي ترتيب الأثر عليها بما أنّها طرق إلي الواقع وجدانا، فلذا يأخذون بلوازمها العادية و العقلية، فجرت سيرتهم علي ترتيب هذه الآثار. و أما الأمارات الثابتة بالأدلة

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 178 و 181.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 69

اللفظية فلدخول اللوازم العادية و العقلية في نطاق اطلاقها بحسب المتفاهم العرفي، كما هو المتفاهم من قولهم عليهم السّلام «صدّق العادل». و لا يتوقف ترتيب آثار اللوازم علي العلم بالملازمة بينها و بين المعلوم بالتعبد بل علي المتفاهم العرفي من الخطاب. و هذا بخلاف الأمارات التعبّدية المحضة المحضة كالإجماع.

و لا فرق في هذه الجهة بين الاصول و بين هذا النوع من الأمارات؛ (أعني بها التعبدية المحضة كالإجماع)؛ إذ الاصول و إن كانت عقلائية، إلّا أنّه أخذ الشك في موضوعها. فان بناء العقلاء و سيرتهم قد قامت علي العمل بالأصل بعد اليأس عن العلم بالواقع و الشك فيه، و هذا بخلاف الأمارات

العقلائية، فانّ بناء العقلاء قد قام علي الأخذ بها بلحاظ أنّهم يرونها طريقا إلي الواقع.

و إنّ نطاق حجية الاصول العقلائية لمّا يدور سعة و ضيقا مدار كيفية استقرار سيرة العقلاء، و إنّها لم تستقرّ في المقام إلّا علي معاملة الصحة مع نفس العمل الصادر من الفاعل، فلذا لا تترتّب عليه الآثار و اللوازم العقلية و العادية، بل و حتي اللوازم الشرعية؛ نظرا إلي عدم استقرار سيرة من العقلاء علي ترتيبها.

و إنّما تترتب الآثار الشرعية لأجل وقوع قاعدة كلية شرعية موضوع كبري شرعية أخري، كما هو الوجه في ترتيب الآثار الشرعية علي الاصول العملية، دون آثارها العقلية و العادية.

فان في المقام لا تثبت بأصالة الصحة في الطلاق- مثلا- إلّا صحة الطلاق، و لكن إذا صحّ الطلاق يندرج مورد الأصل تحت كبري عدة الطلاق المستفاد من قوله تعالي: «وَ الْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلٰاثَةَ قُرُوءٍ» و هكذا ساير الكبريات الشرعية المترتبة عليها.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 70

و الحاصل: أنّ مقتضي التحقيق هو التفصيل في حجية لوازم أصالة الصحة بين الآثار العقلية و العادية و بين الآثار الشرعية، فهي حجة في الثانية، دون الاولي، كما هو شأن ساير الاصول العقلائية. و قد اتضح لك من خلال ما بيّناه أنّ هذا التفصيل ليس لأجل كون هذه القاعدة من الأمارات، بل لأنّها من الاصول.

مجاري هذه القاعدة و تطبيقاتها

إنّ موارد جريان هذه القاعدة لا تحصي، و هي منبثّة في خلال مختلف أبواب الفقه و شتّي مسائلها، مما تتطرّق إليه الصحة و الفساد.

و نكتفي هاهنا بذكر نماذج من مجازيها الاختلافية التي وقع الكلام فيها بين الأعلام.

فمن هذه الموارد ما جاء في كلام الشيخ و ناقش في ترتّب لوازم أصالة الصحة فيها. و

هذه الموارد ثلاثة.

أحدها: ما إذا شكّ في أنّ الشراء الصادر من الغير هل وقع علي عين من أعيان تركة الميت، أو ما لا يملك كالخمر و الخنزير؟

فقال الشيخ إنّه لا يحكم بخروج تلك العين من التركة أو بكونها مما يملك بأصالة الصحة البيع؛ نظرا إلي كون ذلك من لوازمها العادية، بل المحكّم هو استصحاب بقاء تركة الميت علي ملكه.

و قال بعض الأعلام: إنّ الحكم بعدم خروج تلك العين من التركة في المقام لا يكون لأجل عدم حجية مثبتات أصالة الصحة، بل إنما هو لعدم جريانها؛ لأجل عدم إحراز قابلية المورد.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 71

و يرد علي هذا العلم ما قلناه في البحث السابق، من كفاية إحراز القابلية العرفيّة للمورد في جريان أصالة الصحة و حجيتها؛ نظرا إلي جريان سيرة المتشرعة. و لا ريب في قابلية تركة الميت و الخمر و الخنزير للبيع و الشراء في عرف العقلاء، و إنّما الشك في قابليتها الشرعية. و سيرة المتشرعة جارية علي أصالة الصحة عند الشك في قابلية المورد شرعا؛ نظرا إلي رجوعه في الحقيقة إلي الشك في تحقق بعض شرائط صحة العمل. بل تجري قاعدة اليد حينئذ، كما تجري عند احتمال كون المبيع مغصوبا أو سرقة؛ نظرا إلي عدم الفرق بين الموارد من جهة الشك في قابليتها شرعا.

ثانيها: ما إذا اختلف الموجر و المستأجر. فقال الموجر: آجرتك الدار كلّ شهر بكذا. و قال المستأجر: آجرتني سنة بكذا. فوقع الكلام في تقديم قول أيّهما. فربما يقال بتقديم قول المستأجر بدليل أصالة الصحة و ذلك للعلم بوقوع الاجارة علي ما يدعيه المستأجر؛ نظرا إلي فساد الاجارة علي النحو الذي يدّعيه الموجر.

و قد اشكل العلامة في

تقديم قول المستأجر و وجّه ذلك بأن كون منافع الدار للمستأجر في هذه السنة لازم عقلي لأصالة الصحة و انها ليست بحجة في لوازمها العقلي، فاستشهد الشيخ الأعظم بكلام العلامة في المقام.

و لمّا تبتني دعوي العلامة علي القول بفساد الاجارة علي النحو الذي يدعيه الموجر، فينبغي التكلّم أولا: في صحة الاجارة فيما إذا قال الموجر:

آجرتك الدار كلّ شهر بدرهم. و ثانيا: في حكم الاختلاف المزبور.

أما صحة الاجارة بالصيغة المزبورة فالمشهور فساد الاجارة؛ نظرا إلي عدم تعيين المدّة بذلك. و هو الظاهر: لما سيأتي بيانه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 72

و قد ذهب بعض إلي صحتها بالنسبة إلي الشهر الأوّل و فسادها بالنسبة إلي ساير الشهور.

أما فسادها في ساير الشهر فلعدم تعيين المدّة، مضافا إلي اختلاف الشهور كثيرا في الاجرة، خصوصا بالنسبة إلي الفصول و لا سيّما في الأماكن المتبرّكة للزائرين.

أما صحتها بالنسبة إلي الشهر الأوّل فلانحلال كل عقد لبّا إلي عقود متعددة بتعدّد المتعلّق. فقوله: آجرتك الدار كل شهر بدرهم، ينحلّ إلي إجارات متعددة بحسب الشهور. و هذا من قبيل التبعض في الصفقة ببيع ما يملك و لا يملك معا، و مالين أحدهما للبائع و الآخر للغير و لم يمضه. فكيف هناك ينحلّ العقد إلي عقدين، أحدهما صحيح و الآخر باطل؟ فكذلك في المقام تصح الاجارة في الشهر الأوّل دون غيره من الشهور.

و فيه: أنه لا تتعيّن مدّة الاجارة بهذه الصيغة؛ لكلّيتها، إذ الاجرة جعلت حينئذ بازاء طبيعي الشهر من دون تعيين أمد الاجارة، و إنّما الدخيل في صحة الاجارة هو تعيين مدّة الاجارة مبدء و أمدا.

و ذلك لدلالة صحيح أبي الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألته عن أرض

يريد رجل أن يتقبّلها فأي وجوه القبالة أحلّ؟ قال عليه السّلام: يتقبّل الأرض من أربابها بشي ء معلوم إلي سنين مسمّاة فيعمر و يؤدّي الخراج» «1»

نعم لو قال مثلا: «آجرتك شهرا بدرهم فان زادت فبحسابه تصح في خصوص الشهر الأوّل لتعيين المبدأ و المنتهي.

و أما الاجمال لو كان موجبا للتعيين فلا بد من صحة الاجارة في

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 13، ص 214، ب 18 من المزارعة و المساقاة، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 73

غير الشهر الأوّل أيضا فلا وجه للتفصيل بين الشهر الأوّل و غيره، كما في كلام هذا العلم. «1»

أما حكم الاختلاف فالأقوي عدم تقديم قول المستأجر؛ لأنّ مجري الايجاب- و هو الموجر- يعترف باجرائه صيغة الايجاب علي نحو نعلم بطلانه، و أصالة الصحة انما تجري فيما إذا لم يعترف الفاعل ببطلان فعله.

و أمّا لو اتفق الموجر و المستأجر علي صحة النحو الذي أجراه الموجر لا يقع جريان اصالة الصحة في المقام؛ حيث إنّ جريانها لا يثبت شيئا من الدعويين لملائمتهما مع الصحة، و عليه فلا مناص حينئذ من الرجوع إلي موازين القضاء، و لمّا كان الموجر هو المنكر بلحاظ كون إنشاء الصيغة و ايجاب الاجارة فعله و يدّعي عليه المستأجر، فعلي فرض عدم إقامة البينة من جانب المستأجر يتعين علي الموجر الحلف و مع نكوله عن اليمين يتحالفان و يحكم القاضي باجرة المثل.

ثالثها: ما إذا اختلف الموجر و المستأجر في تعيين المدّة أو الاجرة فادعي المستأجر التعيين و أنكره الموجر، فهل يقدم قول المستأجر لأصالة الصحة؛ نظرا إلي أخذ تعيين المدّة و الاجرة في صحة الاجارة؟

فأشكل الشيخ الأنصاري علي تقديم قول المستأجر في المقام؛

لعدم حجية مثبتات أصالة الصحة؛ حيث

إنّ الحكم بالتعيين من لوازم الصحة، و حكم بتقديم قوله ما لم يتضمّن دعوي ما هو خارج عن نطاق أصالة الصحة، و نقله عن جامع المقاصد. و ذلك بأن يدّعي الاجرة بأقلّ اجرة المثل حيث إنّه يدعي حينئذ في الحقيقة شيئا زائدا عن مقتضي

______________________________

(1) و هو السيد الخوئي في مصباح الاصول: ج 3، ص 335.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 74

الصحة علي الموجر و لا تثبته أصالة الصحة.

و ردّه المحقق النائيني بأن ضمان اجرة المثل ثابت علي أيّ حال سواء صحّت الاجارة أم فسدت. أما علي فرض صحتها فواضح، و أما علي فرض فسادها فلقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

و أجاب عنه بعض الأعلام «1» بأنّ ما قال به المحقق المزبور انّما يتمّ إذا كان الاختلاف بعد انقضاء مدّة الاجارة، و أما اذا كان في أثنائها فتثمر أصالة الصحة في ترتب آثار العقد الصحيح حينئذ، كعدم جواز مطالبة العين للموجر و جواز الانتفاع منها للمستأجر.

و مقتضي التحقيق عدم جريان أصالة الصحة.

و ذلك لا لعدم حجيتها في مثبتاتها و لوازمها؛ حيث إنّ تعيين المدّة و الاجرة من شرائط الصحة لا من اللوازم. بل إنّما هي لا تجري في المقام لفرض إعلام الفاعل- و هو مجري الصيغة- كيفية فعله؛ حيث يعترف باجراء الصيغة بلا تعيين المدّة و الاجرة. و إنّ أصالة الصحة إنّما تجري فيما إذا لم يعترف الفاعل بفساد فعله. فلا مناص في مثل المقام من العمل بموازين القضاء. و لو لم ترتفع المخاصمة بذلك فلا مناص من الحكم بالفسخ و ضمان اجرة المثل.

و منها: ما إذا مات الوصي بعد قبضه اجرة الاستيجار للحج، فشك في أنه هل صرفها في مورد الاجارة أم

لا؟

و قد فصّل في العروة «2» بينما لو كان المال الموصي به موجودا عند

______________________________

(1) مصباح الاصول: ج 3، ص 337.

(2) العروة الوثقي: المسألة السادسة عشر من الوصية بالحج.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 75

الوصي و بينما لو لم يكن موجودا عنده.

فحكم علي الأوّل بالضمان و عدم وقوع الاستيجار، و إن احتمل العمل الاستيجاري بمال آخر لشخصه. و وجّه ذلك بأصالة بقاء ذلك المال في ملك الميت.

و أفتي علي الثاني بصحة الاجارة إذا كانت تلك المدة المتخلّلة بين موت الميت و موت الوصي قابلة للاستيجار، و كان الواجب فوريا أو مضيّقا. و وجّه ذلك بأصالة صحة تصرّفه في المال؛ لأنّ عدم بقائه عنده دليل علي تصرّفه فيحكم بصحته. و مقتضاه إتيانه بالاستيجار صحيحا.

و فيه أولا: أنّ صدور عمل الاستيجار مشكوك فيه. و إنّ أصالة صحة التصرف في المال لا تثبت أصل تحقق الاستيجار. و ذلك لأنّ تحقق العمل الاستيجاري من اللوازم العادية للتصرّف الصحيح في المال.

و ثانيا: إنّ جريانها فرع إحراز صدور الاستيجار من الوصي، لما سبق من اعتبار عدم إحراز أصل الاستيجار.

و منها: ما إذا شك في القبض في المجلس في بيع الصرف. فقد يقال: إنّ البناء علي صحة العقد حينئذ لا يثبت وقوع القبض في المجلس، الذي هو شرط صحة المعاملة و وقوع النقل و الانتقال شرعا.

و فيه: أنّه بعد إحراز عنوان المعاملة و تحققه في نظر العرف تجري أصالة الصحة، و كان الشك في صحة العقد لاحتمال فقدان ما هو شرط في صحته شرعا، كالقبض في المجلس في بيع الصرف و لا شك أنّ القبض في المجلس تعبّدا و يحكم بصحة المعاملة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص:

76

و منها: ما ذكره الشيخ في الفرائد «1» و المحقق الخراساني في الحاشية. «2»

و هو أنه لو علم بصدور بيع العين المرهونة من المالك الراهن، و أيضا برجوع المرتهن عن إذنه، و لكن شك في المتقدّم منهما، فلو كان الرجوع متأخرا عن البيع صح البيع، و لو كان متقدما عليه يبطل البيع. فهل تجري هاهنا أصالة الصحة في البيع أم لا؟

مقتضي التحقيق: أنّه لا مجال لأصالة الصحة في المقام؛ نظرا إلي استصحاب الاذن المعلوم صدوره قبل البيع. و ذلك لأنّ الشك حسب الفرض إنما هو في المتقدّم من الرجوع و البيع، و إنّ أصالة عدم تقدّم كل واحد منهما يتساقطان بالتعارض و يحكم ببقاء الاذن الثابت سابقا بالاستصحاب، و يثبت بذلك صدور البيع عن إذن المرتهن. فلا تصل النوبة إلي أصالة الصحة.

هذه نبذة من موارد الاختلاف في جريان أصالة الصحة. و أما مواردها الاتفاقية فكثيرة، بل من تتبع في الفقه يجد المسائل يجد المسائل الفقهية في مختلف أبواب مشحونة من مجاري هذه القاعدة و هي كل فعل صدر من الغير و تتطرّق فيه الصحة و الفساد، و شك في صحته.

و أما الاعتقادات فلا ريب في عدم كونها مجري هذا الأصل؛ لوضوح أنّ موضوع هذه القاعدة فعل الغير و ليست الاعتقادات من الأفعال، كما أنّ جريانها في الاعتقادات خلاف ما هو المرتكز من سيرة العقلاء.

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 2، ص 726.

(2) حاشية الفرائد: ج 4، ص 663.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 77

حال هذه القاعدة مع معارضة ساير الأدلة

يقع الكلام تارة: في حال هذه القاعدة مع معارضة الأمارات، و أخري:

في حالها مع ساير الاصول.

أما حالها مع الأمارات فلا ريب في تقدّم الأمارات عليها؛ لأنّها أصل و اخذ في

موضوعها الشك. و إنّ الشك يرتفع بقيام الأمارة، فهي واردة علي أصالة الصحة، كورود ساير الأمارات علي الاصول.

و أما حالها مع الاستصحاب عند المعارضة. فلا إشكال في تقدم أصالة الصحة علي الاستصحاب الحكمي.

و ذلك لقيام السيرة و لزوم اللغوية؛ إذ ما من مورد من مجاري أصالة الصحّة إلّا يجري فيه الاستصحاب الحكمي فلا كلام في ذلك.

و إنّما الكلام في تقدمها علي الاستصحاب الموضوعي.

و يستفاد من كلام بعض تقدّمها علي الاستصحاب الموضوعي، كما عن السيد الامام الراحل.

و ذهب بعض إلي عكس ذلك، كالسيد الخوئي.

و اختار ثالث إلي دوران ذلك مدار كونها من الأمارات و الاستصحاب من الأصول فتقدّم عليه، و لو كان الأمر بالعكس فيقدّم الاستصحاب، كما اختار ذلك المحقق النائيني.

و ينبغي تحرير كلام الأعلام في المقام ثم بيان مقتضي التحقيق. أما السيد الامام الراحل قدّس سرّه فحاصل كلامه:

أنّه لا إشكال في تقدّم أصالة الصحة علي استصحاب الحكم، و كذا علي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 78

استصحاب الموضوع علي التحقيق؛ إذ تبتني حجيتها علي بناء العقلاء، لا علي تأسيس الشارع.

و لا يصلح دليل الاستصحاب- مثل قوله: «و لا تنقض اليقين بالشك» - لردع بنائهم؛ لأنّهم في العمل بأصالة الصحة و ترتيب آثار الصحة علي عمل الغير لا التفات لهم إلي الشك، بل يرتّبون آثار الصحة علي عمل الغير عند مطلق الجهل. و حيث أخذ الشك في موضوع دليل الاستصحاب، و ليس مصب أصالة الصحة عند العقلاء في مورد الشك، فلا يصلح دليل الاستصحاب لردع سيرة العقلاء في العمل بأصالة الصحة.

و لذا تري الأصحاب كانوا يعملون بهذا الأصل، مع إلقاء كبريات الاستصحاب إليهم من أئمتهم عليهم السّلام، بل لم يخطر ببالهم كون تلك الكبريات

مناقضة لأصالة الصحة: فلذا لم يسألوا عن ذلك. و هذا يكشف عن أنهم كانوا كسائر العقلاء يرون أصالة الصحة خارجة عن كبري نقض اليقين بالشك، فلم يروا بينها و بين الاستصحاب مساسا و لا تنافيا. و عليه فما قيل من حكومتها علي الاستصحاب أو تخصيص دليله بها في غير محلّه. هذا محصل كلام السيد الامام الراحل قدّس سرّه.

و فيه: أنّ عدم أخذ الشك في موضوع أصالة الصحة و موردها في سيرة العقلاء أوّل الكلام، بل الظاهر المرتكز في الذهن من سيرتهم أنّهم يرتّبون آثار الصحة علي عمل الغير عند الشك في صحته؛ حيث لا معني لحمل فعل الغير علي الصحة و لا البناء علي صحته، إلّا بعد الشك و التردّد فيها، و لا أقلّ من عدم إحراز قيام السيرة علي أصالة الصحة بهذا النطاق الواسع.

فالتحقيق عدم الفرق بين أصالة الصحة و بين الاستصحاب من جهة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 79

أخذ الشك في موضوعهما. و إنّما الفرق بينهما في كون الشك في مورد الاستصحاب مسبوقا بالحالة السابقة دون أصالة الصحة، و أنّ أصالة الصحة إنّما تجري في عمل الغير و لكن الاستصحاب يجري في عمل الشاك نفسه أيضا، مع عدم اختصاصه بصحة الفعل و فساده، بل يجري في الموضوعات الخارجية و أحكامها و في غير الصحة من الأحكام.

و قد حكم بعض الأعلام «1» بتقدّم الاستصحاب الموضوعي علي أصالة الصحة؛ نظرا إلي رجوع الشك في موارد جريان الاستصحاب الموضوعي دائما إلي الشك في قابلية الفاعل أو المورد.

و حيث يشترط في جريان أصالة الصحة إحراز قابلية الفاعل و المورد فلا تجري أصالة الصحة في نفسه مع قطع النظر عن جريان الاستصحاب، مثال ذلك ما

لو شكّ في صحة بيع لكون المبيع خمرا سابقا، و شكّ في انقلابه خلّا حين البيع، أو شكّ في صحة بيع للشك في بلوغ أحد المتبايعين.

فقال هذا العلم: لا إشكال في جريان الاستصحاب الموضوعي، و هو استصحاب عدم انقلاب الخمر خلّا، و استصحاب عدم كون من شكّ في بلوغه بالغا في المثال. و ذلك لا لحكومة الاستصحاب الموضوعي أو وروده علي الاستصحاب الحكمي، بل لأجل عدم المقتضي لجريان أصالة الصحة.

و السر في ذلك عدم إحراز قيام سيرة العقلاء علي حمل فعل الغير علي الصحة عند الشك في قابلية الفاعل أو المورد، و إلّا فلو جرت السيرة علي الحمل علي الصحة فلا مناص من تقديم أصالة الصحة علي الاستصحاب؛

______________________________

(1) مصباح الاصول: ح 3، ص 337- 339.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 80

لأنّ تحقق السيرة يكون في حكم النصّ المخصّص لدليل الاستصحاب، بلا فرق بين كون الاستصحاب أو أصالة الصحة من الاصول أو من الأمارات.

بل حتي لو فرضنا كون أصالة الصحة من الأمارات و الاستصحاب من الاصول، فمع ذلك يقدّم الاستصحاب في مفروض الكلام؛ إذ مع عدم إحراز قيام السيرة علي العمل بأصالة الصحة عند الشك في قابلية الفاعل أو المورد، لا أمارية لها حينئذ.

و بذلك أشكل علي أستاذه المحقق النائيني، حيث جعل المناط في تقديم كلّ من الاستصحاب أو أصالة الصحة كون أحدهما من الأمارات و الآخر من الاصول، فحكم بتقدّم الأمارة علي الأصل، و أطال الكلام في تقديم أيهما علي الآخر علي القول بكون كليهما من الاصول أو من الأمارات.

و فيه أولا: أنه لو رجع الشك في مورد الاستصحاب الموضوعي إلي الشك في قابلية الفاعل أو قابلية المورد عرفا صحّ كلام هذا

العلم. أما لو رجع إلي الشك في القابلية شرعا، فلا يصح.

و ذلك لما قلناه سابقا من عدم اشتراط إحراز قابلية المورد شرعا في جريان أصالة الصحة، بل تجري حتي عند الشك فيها، كما لو شكّ في كون المبيع مما يملك شرعا فتجري أصالة الصحة؛ لعدم رجوع الشك حينئذ إلي الشك في تحقق أصل عنوان المعاملة، بخلاف ما لو كان الشك في القابلية العرفية.

و عليه فتجري أصالة الصحة أيضا حينئذ كالاستصحاب، و يقع التعارض بينهما، و تقدّم أصالة الصحة لجريان السيرة عليها؛ نظرا إلي عدم سراية الشك إلي اصل عنوان المعاملة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 81

و أما تقديم الاستصحاب الموضوعي؛ لأنه أصل سببي و أصالة الصحة أصل مسبّبي، لا وجه له هنا. و ذلك لفرض عدم سراية الشك إلي أصل عنوان المعاملة، و بعد إحراز تحققه بالوجدان، يقع الشك في صحة المعاملة لاحتمال فقد شرط من شروطه فتجري أصالة الصحة، لما قلنا من جريان السيرة.

نعم لو شك في موضوع حكم- كما لو شك في صدور الحدث من المصلي قبل الورود في الصلاة بعد ما توضّأ، فشكّ لذلك في صحة صلاته- قد يتوهم تقدم الاستصحاب؛ لأنه أصل سببي، أو شك في انقلاب الخمر خلّا حين بيعه، فيقال بعدم جريان اصالة الصحة؛ لأنه أصل مسببي و الاستصحاب اصل سببي؛ حيث إنّ صحة المعاملة مسبّبة عن انقلاب الخمر خلّا؛ لأنها عارضة علي بيع ما يملك شرعا، و هو مسبّب عن انقلاب الخمر خلّا. و يرجع ذلك إلي حكومة دليل الاستصحاب علي أصالة الصحة حينئذ كحكومة أيّ أصل سببيّ علي الأصل المسبّبي.

و لكنه غير وجيه؛ نظرا إلي قيام السيرة علي جريان أصالة الصحة مطلقا ما لم

يرجع إلي الشك في تحقق أصل العمل أو قابلية الفاعل. و أما تقدم الأصل السببي علي الأصل المسببي فهو صحيح، لكن لا في فعل الغير؛ نظرا إلي قيام السيرة علي جريان أصالة الصحة فيه، بل في غيره كفعل نفس الشاك و عند الشك في تحقق كل شي ء ذي حكم أو أثر شرعي أو في حكمه، سواء كان لفقدان شرط أو وجود مانع أو في تحقق أصل الموضوع.

فمقتضي التحقيق في هذه الموارد جريان أصالة الصحة. و هي ما إذا شك في صحة فعل الغير لاحتمال فقدان شرط أو وجود مانع ما لم يرجع

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 82

إلي الشك في تحقق أصل العمل أو إلي قابلية الفاعل أو المورد عرفا.

و ثانيا: لا نسلّم رجوع الشك في موارد الاستصحاب الموضوعي دائما إلي الشك في قابلية المورد أو الفاعل؛ لوضوح كون الشك كثيرا في شرائط و قيود ليست من الأركان المقوّمة من العمل العبادي أو المعاملي فلا محالة يقع التعارض حينئذ بين أصالة الصحة و الاستصحاب في هذه الموارد.

فتقدّم أصالة الصحة في جميع الموارد، حتي ما إذا كان من قبيل المعارضة بين الأصل السببي و المسبّبي.

و ذلك أولا: لجريان السيرة؛ إلّا ما إذا كان الشك في تحقق أصل عنوان المعاملة أو في مقوّماته.

و ثانيا: للزوم لغوية دليل تشريع أصالة الصحة؛ نظرا إلي جريان الاستصحاب في أغلب موارد أصالة الصحة لو لا كلّها؛ إذ الشك في صحة أيّ عمل إنّما ينشأ دائما من احتمال فقدان شرط أو ايجاد مانع و جميع ذلك مسبوق بالحالة السابقة لأنّها أمور حادثة.

مقتضي التحقيق: تقدّم أصالة الصحة علي استصحاب الحكم.

و ذلك لقيام السيرة علي حمل فعل الغير علي الصحة مطلقا.

و لو كانت مسبوقة بالعدم، قبل تحقق الفعل. هذا مع أنه لو لم تجر أصالة الصحة في جميع موارد الاستصحاب للزم اللغوية إذ ما من مورد من مجاري أصالة الصحة، إلّا و يجري فيه الاستصحاب، إما استصحاب العدم الأزلي أو استصحاب العدم النعتي.

و أما الاستصحاب الموضوعي فيفصّل فيه بين ما لو رجع الشك في الموضوع إلي الشك في قابلية الفاعل أو المورد عرفا، فيقدّم الاستصحاب

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 83

حينئذ؛ نظرا إلي عدم جريان أصالة الصحة لقصور المقتضي، و بينما لو رجع الشك إلي الشك في قابليتهما شرعا، بأن كان الشك في الشرائط و القيود غير المقوّمة لعنوان العمل فتقدّم أصالة الصحة حينئذ، و إن كان من قبيل التعارض بين الأصل السببي و المسبّبي، من دون فرق بين أبواب العبادات و المعاملات.

هذا حال الاستصحاب.

أما أصالتي الطهارة و الحلية فلا مساس لهما بأصالة الصحة؛ إذ هي تجري في حكم العمل، و لكنهما تجريان في حكم الأشياء و كذا البراءة؛ إذ هي عند الشك في أصل التكليف، و لكن مجري أصالة الصحة هو الشك في حكم المكلّف به بعد ثبوت أصل التكليف، كما أنّ أصالة الاحتياط تجري في فعل النفس، لا فعل الغير، و كذا أصالة التخيير.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 85

قاعدة الاضطرار

اشارة

1- منصّة قاعدة الاضطرار 2- مفاد القاعدة 3- مدرك القاعدة 4- حالها مع معارضة ساير الأدلّة 5- التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 87

منصّة قاعدة الاضطرار

إنّ ما جعله اللّه تعالي من الأحكام و القوانين في شريعة الإسلام، لا غرض له تعالي من تشريعه، إلّا رشد الانسان و كماله و فلاحه، و أن يعيش بسلامة و نشاط و راحة و رغدة مبتعدا عن الآثام و السيئات و القبائح، لا لأجل التضييق و تحميل ما هو خارج عن حدّ طاقة البشر. و كيف يقرّر عليهم أحكاما محرجة شاقّة، و هو أرحم الراحمين، بل أرأف بالانسان من والديه؟!

كما قال تعالي: «يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» «1».

و «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». «2».

و «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ». «3».

و «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ». «4»

و من هنا سمّي الدين الاسلامي بالشريعة السمحة السهلة، رغم ما يدعيه المخالفون و يفترونه علي الإسلام بأنّه دين التضييق و التعصّب و المشقة.

و هذه القاعدة تثبت لنا أنّ للرفق و اللين و السهولة و الراحة، منصّة

______________________________

(1) البقرة: 185.

(2) الحج: 78.

(3) البقرة: 173.

(4) المائدة: 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 88

مستحكمة في متن الشريعة الاسلامية و أنّه لا موقف للضيق و الصعوبة فيها. فهذه القاعدة ذات أهمية خطيرة من هذا المنظر.

مفاد القاعدة

هذه القاعدة تفيد نفي أيّ حكم موجب للمشقة و الاضطرار. بمعني ارتفاعه عند ما عرض الاضطرار.

بيان ذلك: أنّ كلّ حكم مجعول في الإسلام له حالتان.

إحداهما: الحالة المتعارفة المعتدلة، بأن لا يوجب العمل به ضيقا و مشقة علي فاعله.

ثانيتهما: الحالة غير المتعارفة الخارجة عن مقتضي العادة، بأن يوجب العمل به ضيقا و صعوبة و مشقة لا تتحمل عادة. و مفاد هذه القاعدة رفع الحكم الإلزامي في هذه الصورة، وجوبا كان

ذلك الحكم أو حرمة.

و هل يكون رفع الحكم عند الضرورة و الاضطرار علي نحو الرخصة أو العزيمة؟

فالمشهور أنّ سقوطه علي نحو الرخصة، إلّا إذا كان ضرريا أو كان فيه خوف الهلاك، فلا إشكال في كون رفع الحكم الموجب لذلك علي نحو العزيمة، فيحرم العمل به.

و أما إذا لم يبلغ الاضطرار إلي حدّ الضرر البالغ أو خوف الهلاك، و إن كان موجبا للمشقة الشديدة التي لا تتحمّل عادة، فالمشهور أنّ ارتفاع الحكم الموجب لذلك علي نحو الرخصة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 89

و خالفهم السيد الامام الراحل «1» في مسائل التيمّم بأنّه علي نحو العزيمة.

و وجّه ذلك بأنّ العمل بالحكم الحرجي و تحمل المشقة و الحرج مخالفة لما أراده اللّه تعالي بالعباد من اليسر و التزاما بما لم يشرّعه و لم يجعله في الشريعة، كما أخبر تعالي عن ذلك بقوله: «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». «2»

و أنّه ردّ هدية اللّه تعالي. و استشهد لذلك ببعض النصوص الدالّة علي أنّ ذلك ردّ هديته تعالي و جسارة بساحته، كما أنّ ردّ هدية الإخوان المؤمنين هتك و إهانة بشأنهم.

و هذا الكلام منه قدّس سرّه و إن كان حسنا جميلا و مساعدا للاعتبار في نفسه، إلّا أنّ الإلزام و الايجاب علي مخالفة الحكم الأوّلي الحرجي و العقاب عليه مخالف لما هو مقتضي الامتنان من رفع الالزام و الايجاب عن المكلف و جعله في راحة و فسحة من ذلك، بل ذلك إيقاعه في محذور آخر.

و أما ما ورد في بعض النصوص من تشبيه ذلك بردّ الهدية يمكن حمله علي مخالفة الحكم الأولي بقصد التشريع أو عدم الاعتناء.

و علي أيّ حال لا إشكال في إفادة هذه القاعدة

ارتفاع الحكم التكليفي عند الاضطرار. و هل تفيد ارتفاع الحكم الوضعي، بأن تنفي ضمان المال المتصرّف فيه عند الاضطرار؟

و التحقيق عدم ارتفاع الضمان؛ لعدم دخل له في رفع الاضطرار؛ حيث لا منافاة بين رفع الاضطرار بالتصرف في المال المضطر إليه و بين

______________________________

(1) كتاب الطهارة/ طبع مطبعة مهر: ج 2، ص 57- 60.

(2) الحج: 78.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 90

ثبوت ضمانه الموجب لردّ المال إلي مالكه بعد ارتفاع الاضطرار عند التمكن.

ثم إنّ هاهنا نكات ينبغي التنبيه عليها في تحرير مفاد هذه القاعدة.

الاولي: يعبّر عن هذه القاعدة كثيرا بأنّ الضرورات تبيح المحظورات.

و هذا التعبير يتراءي كثيرا في كلمات الفقهاء، كما سيأتي في التطبيقات الفقهية. فليس المراد منه قاعدة غير هذه القاعدة، كما لعلّه قد يتوهم.

الثانية: أنّ هذه القاعدة لا تفيد رفع أصل التكليف بالاضطرار، بل إنما تفيد ارتفاع تنجّزه. و ذلك لأنّ الذي مخالف للامتنان هو تنجز الحكم الأولي عند الاضطرار. و من هنا لو ارتفع الاضطرار يعود التكليف إلي حاله الأوّل و يصير منجّزا علي المكلّف.

الثالثة: أنّ رفع الحكم الأوّلي إنما يكون ما دام الاضطرار، فيتنجز بمجرد ارتفاعه. فلا يجوز مخالفة الحكم الأولي أكثر من قدر الاضطرار و مقتضي الضرورة. و هذا مراد الفقهاء من قولهم «الضرورات تتقدّر بقدرها»، كما ستعرف دلالة بعض نصوص المقام علي هذا المعني.

الرابعة: أنّ الخوف علي هلاك النفس أو علي المرض أو علي اشتداده، عنوان مستقل آخر، غير ما هو المقصود من الاضطرار. و قد دلّت علي حرمة فعل ما يخاف به علي النفس أو علي المرض نصوص بالخصوص. و إن كان ربما يتحدان في المصداق. و لكن لا منافاة في ثبوت الحكم الثانوي للمضطّر إليه بدليلين

أو أدلّة عديدة. و الحقّ أنّ ذلك نوع اضطرار أيضا. و لكن الحكم الثانوي ثابت لموضوعه بعنوان آخر أيضا لا بعنوان الاضطرار فقط.

الخامسة: أنّ غير الخوف علي هلاك النفس المحترمة من عناوين

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 91

الاضطرار لا يجوّز ارتكاب ما يقطع بعدم رضي الشارع بوقوعه بأيّ وجه، كاللواط و الزنا و عقوق الوالدين و نحو ذلك من المعاصي الكبيرة الخطيرة في نظر الشارع الأقدس. و سيأتي كلام في ذلك في تحقيق نصوص الاضطرار.

السادسة: الفرق بين الاضطرار و بين الإكراه أنّ الإكراه يتحقق بالتهديد اللفظي، بأن يقول المكره (بالكسر) مثلا لشخص لو لم تفعل كذا لقتلتك أو ضربتك ضربا شديدا، أو احرق بيتك أو أهتك عرضك، و نحو ذلك من ألفاظ التهديد.

و لكن الاضطرار ليس بمجرّد اللفظ، بل إنّما بوقوع الشخص في مشقة شديدة و تعب غير قابل للتحمل عادة، أو في مكان أو وضع يخاف فيه علي العرض أو المال أو النفس. و مع ذلك ليس في حدّ القهر الغالب السالب للاختيار، فاذا كان كذلك يعبّر عنه بالقهر و الإجبار.

السابعة: هل المراد من الاضطرار هو ما كان مصداقا للاضطرار و الضرورة في نظر نوع الناس و أكثرهم، أو الملاك في ذلك نظر شخص المضطر؟

و الجواب أنّ المعيار في ذلك نظر النوع.

فما كان من المشقة يتحمّل عادة أو لا يصدق عليه الاضطرار و الضرورة الشديدة البالغة حدّ الاضطرار في نظر أهل العرف، لا يرتفع به الحكم الأوّلي.

و لكن هذا أمر باطني و كل إنسان أبصر بنفسه من غيره. فاذا بلغت المشقة في نظره فيما بينه و بين اللّه إلي حدّ لا يتحمّلها أهل العرف و غالب

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية

الأساسية، ج 1، ص: 92

الناس، يتحقق بذلك الاضطرار الرافع للحكم الأوّلي. و علي أيّ حال فالمعيار في ذلك بلوغ المشقة إلي هذا الحد أو إحساس الخوف علي النفس.

و تشخيص مصاديق هذا الملاك موكول إلي صاحب الضرورة و الاضطرار، كما أشير إلي ذلك في بعض النصوص الآتية.

مدرك القاعدة

اشارة

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بوجوه.

الأوّل: اتفاق جميع الفقهاء من العامة و الخاصّة

و تسالمهم علي ارتفاع الحكم الأوّلي بالاضطرار. و لا مخالف لذلك من بينهم.

و أما الاجماع بمعناه المصطلح الكاشف عن رأي المعصوم تعبدا، فلا يمكن دعواه؛ نظرا إلي استناد الفقهاء لذلك إلي نصوص الكتاب و السنة، فهو مدركي.

الثاني: العقل

الحاكم بقبح تحمّل المشقة الشديدة الخارجة عن حدّ تحمل الناس عادة؛ لما يري فيه من الظلم بالنفس و الجسم. و إنّ الظلم قبيح في نظر العقل بأنحائه، بلا فرق.

الثالث: الكتاب:

دلّت علي هذه القاعدة عدة من الآيات القرآنية.

منها: قوله تعالي: «إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّٰهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ، إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «1»

و منها: قوله تعالي: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجٰانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «2»

______________________________

(1) البقرة: 173، و النحل: 115.

(2) المائدة: 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 93

و منها: قوله تعالي:

«قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَليٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «1»

الرابع: السنة:

و قد دلت علي هذه القاعدة عدّة نصوص.

منها: موثقة سماعة المروية بطرق عديدة عن الصادق عليه السّلام:

«و ليس شي ء مما حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه». «2»

و منها: ما دل علي جواز التقية عند الضرورة و الاضطرار.

مثل صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«التقية في كل ضرورة، و صاحبها أعلم بها حين تنزل به» «3».

و ضمير الهاء في «صاحبها» يرجع إلي التقية ظاهرا؛ أي فاعل التقية أبصر علي نفسه من غيره بوجود الضرورة في مورد التقية إلي حدّ تجوّزها.

و نظيره صحيح معمّر بن يحيي بن سالم و محمد بن مسلم و زرارة، قالوا:

«سمعنا أبا جعفر عليه السّلام يقول: التقية في كلّ شي يضطر إليه ابن آدم، فقد أحلّه اللّه له». «4»

هاتان الصحيحتان و ما شابههما و إن وردت في التقية، إلّا أنّه يمكن أن يستفاد منها جواز ارتكاب كلّ حرام عند الضرورة و الاضطرار، بتنقيح

______________________________

(1) الانعام: 143.

(2)

وسائل الشيعة: ج 4، ص 690، ب 1 من أبواب القيام، ح 6 و 7.

(3) وسائل الشيعة: ج 11، ص 468، ب 25 الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ح 1.

(4) المصدر: ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 94

الملاك القطعي؛ حيث لا خصوصية في تحليل الحرام المتّقي فيه، إلّا الضرورة و الاضطرار.

و منها: ما رواه الصدوق باسناده عن محمد بن عذافر عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام، قال:

«قلت له: لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و لحم الخنزير و الدّم؟ فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالي لم يحرّم ذلك علي عباده و أحلّ لهم ما وراء ذلك من رغبة فيما أحل لهم و لا زهد فيما حرّمه عليهم، و لكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحلّه لهم و أباحه لهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه ثم أحلّه للمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به» «1».

و منها: صحيح حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، و النسيان، و ما اكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه». «2»

و مثله مرفوعة النهدي. «3»

و منها: ما رواه العياشي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه السّلام، قال:

«قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: رفعت عن أمتي أربع خصال: ما اضطروا إليه، و ما نسوا، و ما اكرهوا عليه، و ما لم يطيقوا». «4»

و منها: صحيح إسماعيل الجعفي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«سمعته يقول: وضع عن هذه الامة ست خصال: الخطاء،

و النسيان و ما استكرهوا

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 17، ص 2، ب 1 من الأطعمة المباحة، ح 1.

(2) وسائل الشيعة: ج 11، ص 295، ب 56 جهاد النفس، ح 1.

(3) المصدر: ح 3.

(4) المصدر: ج 11، ص 470، ب 25 الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ح 10.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 95

عليه و ما لا يعلمون و ما لا يطيقون و ما اضطروا إليه». «1»

و منها: ما ورد في الفقه الرضوي:

«و متي ما نسي بعضها، أو اضطرّ، أو به علّة تمنعه من الغسل، فلا إعادة عليه». «2»

و منها: صحيح الحلبي قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول و ليس معه ثوب غيره، قال: يصلي فيه إذا اضطرّ إليه». «3»

و منها: صحيح أحمد بن محمد بن يحيي، قال، قال الصادق عليه السّلام:

«من اضطرّ إلي الميتة و الدم و لحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتي يموت فهو كافر». «4»

هذه الصحيحة دلّت علي وجوب أكل ما اضطرّ إليه، إلّا أنها في مورد توقّف عليه حفظ النفس من الهلاك.

و أما قوله تعالي: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ» يحمل علي ما إذا لم يصل الاضطرار إلي حدّ الخوف علي هلاك النفس أو يقال أنّه ناظر إلي جهة ارتفاع الحرمة المدلول عليها في صدق الآية.

و منها: ما رواه الصدوق في العلل بأسانيده عن الرضا عليه السّلام قال:

«إنّا وجدنا أنّ ما أحلّ اللّه ففيه صلاح العباد و بقاؤهم و لهم إليه الحاجة. و وجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة بالعباد إليه و وجدناه مفسدا. ثم رأيناه تعالي قد أحلّ ما

______________________________

(1) المصدر: ج 16،

ص 144، ب 16، باب ان اليمين لا تنعقد في غضب و لا جبر ج 16، ص 144، ح 3.

(2) فقه الرضا: ص 83.

(3) وسائل الشيعة: ج 2، ص 167، ب 45 أبواب النجاسات، ح 7.

(4) وسائل الشيعة: ج 16، ص 389، ب 56 من الأطعمة و الأشربة، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 96

حرّم في وقت الحاجة إليه؛ لما فيه من الصلاح في ذلك الوقت، نظير ما أحلّ من الميتة و الدم و لحم الخنزير إذا اضطرّ إليها المضطر؛ لما في ذلك الوقت من الصلاح و العصمة و دفع الموت». «1»

و منها: مرسل عمرو بن سعيد عن بعض أصحابنا قال:

«أتت امرأة إلي عمر فقالت: يا أمير المؤمنين: إني فجرت فأقم فيّ حد اللّه، فأمر برجمها و كان علي عليه السّلام حاضرا، فقال له: سلها كيف فجرت؟ قالت: كنت في فلاة من الأرض فأصابني عطش شديد، فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها رجلا أعرابيّا، فسألته الماء، فأبي علي أن يسقيني إلّا أن امكّنه من نفسي، فولّيت منه هاربة، فاشتدّ بي العطش حتي غارت عيناي و ذهب لساني، فلما بلغ منّي أتيته فسقاني، و وقع عليّ، فقال له عليّ عليه السّلام: هذه التي قال اللّه عز و جل: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ، هذه غير باغية و لا عادية إليه، فخلّ سبيلها، فقال عمر: لو لا علي لهلك عمر». «2»

و منها: ما رواه المفيد في الارشاد قال:

«روي العامة و الخاصة أنّ امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطؤها و ليس ببعل لها، فأمر عمر برجمها، و كانت ذات بعل. فقالت: اللهم إنّك تعلم أني

برية. فغضب عمر، و قال: و تجرح الشهود أيضا. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:

ردّوها و اسألوها فلعل لها عذرا، فردّت و سئلت عن حالها فقالت: كان لأهلي إبل فخرجت مع إبلي أهلي و حملت معي ماء، و لم يكن في إبلي لبن، و خرج معي خليطنا و كان في إبل له، فنفد مائي فاستسقيته فأبي أن يسقيني حتي امكنه من نفسي فأبيت، فلمّا كادت نفسي أن تخرج أمكنته من نفسي كرها، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: الله أكبر فمن اضطر

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 17، ص 34، ب 19 من الأطعمة المباحة، ح 4.

(2) وسائل الشيعة: ج 18، ص 384، ب 18 من ابواب حدّ الزنا، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 97

غير باغ و لا عاد فلا إثم، فلمّا سمع عمر ذلك خلّي سبيلها». «1»

و في رواية اخري رواها الكليني بسنده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«جاءت امرأة إلي عمر فقالت: انّي زنيت فطهرني، فأمر بها أن ترجم فاخبر بذلك أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: كيف زنيت؟ قالت: مررت بالبادية فأصابني عطش شديد، فاستسقيت أعرابيا فأبي أن يسقيني إلّا أن امكّنه من نفسي، فلمّا أجهدني العطش و خفت علي نفسي سقاني فأمكنته من نفسي، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: تزويج و ربّ الكعبة». «2»

و لأجل هذه الرواية حمل المشهور الخبرين السابقين علي صورة تراضي الطرفين بالمتعة أو بما يدل علي التزويج من اللفظ.

و قد أجاد صاحب الحدائق في تحقيق ذلك؛ و ينبغي نقل كلامه هاهنا بطوله؛ لما فيه من الفائدة. فانه قال- بعد ذكر هذه النصوص-: «و لم أقف علي من تكلم في هذين الخبرين

و ما هما عليه من الاختلاف في البين، إلّا المحدث المحسن الكاشاني في الوافي، و لا بأس بنقل كلامه بطوله، و إن طال به زمام الكلام لجودة محصوله.

قال في ذيل هذا الخبر- بعد أن أورده في أبواب الحدود في باب من أتي ما يوجب الحد لجهالة أو لضرورة- ما لفظه:

البغي الخيانة، و الظلم و العدوان التجاوز عن الحد و عن قدر الضرورة، و المجرور في «إليه» راجع إلي الفجور، و الظاهر من أمر عمر برجم المرأة بعد إقرارها بالفجور من اكتفائه بالمرة من دون سؤال عن كونها محصنة

______________________________

(1) المصدر: ح 8.

(2) وسائل الشيعة: ج 14، ص 471، ب 21 من ابواب المتعة، ح 8.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 98

أو غير محصنة، و ليس هذا من مثله ببعيد.

ثم المستفاد من هذا الحديث جواز الزنا إذا اضطر الانسان إليه بحيث يخاف علي نفسه التلف، إلّا أنّه ستأتي هذه القصة بعينها في باب إثبات المتعة من كتاب النكاح باسناد آخر و عبارة اخري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و ليس في آخر قوله عليه السّلام هذه التي قال اللّه تعالي إلي آخر الحديث، بل قال عليه السّلام: فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: تزويج و رب الكعبة، و مفاده أنّه ليس ذلك بزنا و لا فجور مضطر إليه بل هو نكاح حلال و تزويج صحيح، و ذلك لحصول شرائط النكاح فيه من خلوها عن الزوج و عن ولاية أحد عليها، و رضاء الطرفين و وقوع اللفظ الدال علي النكاح و الانكاح فيه، و ذكر المهر و تعيّنه، فهو تزويج متعة و نكاح انقطاع، لا يحتاج إلي طلاق.

فان قيل: يشترط في صحة المتعة ذكر الاجل،

قلنا: قد ثبت أنّه يغني عنه ذكر المرة و المرتين، و الاطلاق يقتضي المرة فيقوم مقام ذكر الأجل.

إن قيل: أنها لم تعتقد حلها و إنما زعمت أنها زنت، قلنا: لعل الحد إنّما يجب علي الانسان إذا زني دون ما إذا زعم أنّه زني مع أنها كانت مضطرة إلي ما فعلت، فكل من الأمرين جاز أن يكون مسقطا للحد عنها، و لعل هذا هو الوجه في ورود الاعتذار عنها تارة بأنها ليست بزانية، و اخري بأنها كانت مضطرة للزنا، و التحقيق هو الأوّل، و لعل الثاني إن صح وروده فانما ورد علي التقية و المماشاة مع عمر و أصحابه.

و علي هذا فلا دلالة فيه علي جواز الزنا مع الاضطرار إليه.

إن قيل: إنّ القصة واحدة يستبعد وقوعها مرتين فما وجه اختلاف الفتيا فيها من مفت واحد في مجلس واحد؟

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 99

قلنا: الاعتماد فيها إنما هو علي رواية أبي عبد اللّه عليه السّلام دون رواية غيره، مع أنّ الحكم الذي في روايته عليه السّلام هو الصواب في المسألة كما دريت، و إن اريد تصحيح الاخري أيضا قيل: لعل أمير المؤمنين عليه السّلام: خاطب القوم فيها علانية علي جهة التقية بما يناسب قدر عقولهم و مبلغ ما عندهم من العلم، و خاطب أصحابه سرا بما وافق الحل و بما هم أهله فروي الثاني عنه أولاده عليهم السّلام، و الأوّل الأجناب، و العلم عند اللّه انتهي كلامه زيد مقامه.

أقول: الأظهر في الجواب عن السؤال الثاني أنّ اعتقاد الحل و عدمه لا مدخل له في صحة العقد إذا وقع مستكملا لشرائط الصحة، و العقد هنا كذلك كما اختاره، و من الجائز أن تكون المرأة

جاهلة بحلّ نكاح المتعة؛ لعدم اشتهارها يومئذ، و أنها علي مذهب عمر في تحريمها فاعتقدت كون ما وقع منها زنا يوجب الحد، فلذا اعترفت بذلك و طلبت إقامة الحد عليها، و الامام عليه السّلام أسقط الحد عنها لصحة النكاح كما في رواية الصادق عليه السّلام، أو لمكان الضرورة كما في الرواية الاخري، و سقوطه لمكان الضرورة غير بعيد.

فإنّ جملة من الأخبار دلّت علي أنّه ما من شي ء حرّمه اللّه، إلّا أباحه لمكان الضرورة، ففي موثقة سماعة قال، قال: إذا حلف الرجل تقية لم يضره- إلي أن قال- قال: ليس شي ء مما حرّم اللّه إلّا و قد أحله لمن اضطر إليه، و نحوه غيره من الأخبار المؤيّدة بالدليل العقلي أيضا.

بقي الكلام في اختلاف الخبرين في أنّ سقوط الحد هل هو لكونه نكاحا صحيحا، كما في رواية الصادق عليه السّلام أو لمكان الضرورة و أنّه كان زنا؟ و ما ذكره- رحمة اللّه عليه- في الجمع بين فتواه عليه السّلام في هذين الخبرين جيّد.

و يؤيّده أنّه عليه السّلام خاطب بهذا الجواب الذي في هذا الخبر عمر و أصحابه،

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 100

و مذهب عمر تحريم المتعة فلم يصرح له بأنّ عدم الحد لصحة النكاح متعة، و إنّما صرح له بالاضطرار، و هو صحيح كما عرفت، فان الضرورات تبيح المحظورات، و أما خبر الصادق عليه السّلام فليس فيه دلالة علي مخاطبة عمر بذلك، و غاية ما يدل عليه أنه أخبر أمير المؤمنين عليه السّلام بذلك فسألها، فلما أخبرته القضية قال: «تزويج و رب الكعبة»، و ليس في الخبر أنها حدّت بعد ذلك أو لم تحد، و بلغ ذلك عمر أو لم يبلغه، بل الخبر

مجمل في ذلك». «1» انتهي كلام صاحب الحدائق.

و من النصوص الدالة علي هذه القاعدة: صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألت عن رجل أجنب في سفر و لم يجد إلّا الثلج أو ماء جامدا، فقال: هو بمنزلة الضرورة يتيمّم، و لا أري أن يعود إلي هذه الأرض التي يوبق دينه». «2» الأصح «توبق» دينه.

و منها: صحيح عبد اللّه بن جعفر الحميري قال:

«كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام: روي جعلني اللّه فداك مواليك عن آبائك أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله صلّي الفريضة علي راحلة في يوم مطير، و يصيبنا المطر و نحن في محاملنا و الأرض مبتلة و المطر يؤذي، فهل يجوز لنا يا سيدي أن نصلي في هذه الحال في محاملنا أو علي دوابّنا الفريضة إن شاء اللّه؟ فوقع عليه السّلام: يجوز ذلك مع الضرورة الشديدة». «3» و الضرورة الشديدة و هي ما لا تتحمل عادة.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 24، ص 125، 127.

(2) وسائل الشيعة: ج 2، ص 973، ب 9 من أبواب التيمم، ح 9.

(3) وسائل الشيعة: ج 3، ص 237، ب 14 من أبواب القبلة، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 101

و منها: مكاتبة محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان (عج):

«أنّه كتب إليه يسأله عن رجل يكون في محمله و الثلج كثير بقامة رجل، فيتخوف أن نزل الغوص فيه. و ربما يسقط الثلج و هو علي تلك الحال و لا يستوي له أن يلبّد شيئا منه؛ لكثرته و تهافته. هل يجوز أن يصلّي في المحمل الفريضة؟ فقد فعلنا ذلك أياما، فهل علينا في ذلك إعادة أم لا؟ فأجاب

لا بأس به عند الضرورة و الشدّة». «1»

و منها: صحيح الريان بن الصلت. قال:

«دخلت علي علي بن موسي الرضا عليه السّلام فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، إنّ الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا، فقال عليه السّلام: قد علم اللّه كراهتي لذلك، فلما خيّرت بين قبول ذلك، و بين القتل اخترت القبول علي القتل، ويحهم أما علموا أنّ يوسف عليه السّلام كان نبيا رسولا. فلمّا دفعته الضرورة إلي تولّي خزائن العزيز، قال له:

اجْعَلْنِي عَليٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، و دفعتني الضرورة إلي قبول ذلك علي إكراه و إجبار بعد الاشراف علي الهلاك، علي أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول خارج منه، فإلي اللّه المشتكي و هو المستعان». «2»

إلي غير ذلك من النصوص الدالة علي مفاد هذه القاعدة، و هي بالغة حد التواتر.

ثم إنّ هذه القاعدة لا إشكال في عدم كون مفادها حكما و لا أصلا و لا أمارة، كما هو واضح، بل إنما هي تفيد ارتفاع الحكم الأوّلي عند عروض الاضطرار و الضرورة.

______________________________

(1) المصدر: ص 239، ح 11.

(2) وسائل الشيعة: ج 12، ص 147، ب 48 من ابواب ما يكتسب به، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 102

حالها مع معارضة ساير الأدلّة

لا ريب في تقدّم هذه القاعدة علي ساير الأدلة و الاصول، كما لو اضطر إلي بيع مال الغير لإنقاذ نفسه أو إنقاذ نفس محترمة من الهلاك أو عند ما وقع في ساير مصاديق الاضطرار من المحاذير و الضرورات.

فيقع التعارض عند ذلك بين أدلّة حرمة التصرف في مال الغير و بين أدلّة هذه القاعدة، و لا إشكال في تقدّمها. و هل

النتيجة صحة البيع؟ فيه إشكال؛ نظرا إلي عدم منافاة بين ثبوت الضمان و بين ارتفاع الاضطرار بإباحة التصرف، و إلي أنّ إنشاء البيع و إجراء الصيغة إذا كان حلالا و مباحا و لو بالاضطرار يدخل في البيع الحلال المباح و تترتب بالمآل آثاره، كما هو الوجه في استفادة صحة البيع وضعا من قوله تعالي: «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ». و ذلك فيما إذا توقف ارتفاع الضرورة علي بيع مال الغير و صرف ثمنه في رفع الاضطرار.

و علي أيّ حال وزان هذه القاعدة في مخالفة ساير الأدلة و معارضة ساير الأمارات وزان قاعدتي نفي الضرر و الحرج، فهي حاكمة علي أدلة الأحكام الأولية.

و لكن لا بد في تقديم هذه القاعدة علي ساير الأحكام الأولية أو بالعكس من مراعاة الأهم فالأهم. فما دام لم يبلغ الاضطرار إلي حدّ الخوف علي النفس لا يجوز تقديم هذه القاعدة علي ما يقطع بعدم رضي الشارع بوقوعه أو تركه و تعطيله بأيّ وجه، كالزنا و اللواط و تعطيل الحدود و عقوق الوالدين و نحوه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 103

التطبيقات الفقهية

قد استند الفقهاء إلي هذه القاعدة في فروع عديدة من مختلف أبواب الفقه، و هي أكثر من أن تحصي، إلّا أنّا نكتفي بذكر نماذج من هذه الفروع.

منها: ما صرّح به جملة من الأصحاب من جواز إخراج المستودع مقدار اجرة الحج الواجب عن الميت فيما إذا علم أنّ الورثة لا يؤدّون عنه. و قد نقل في الحدائق عن التذكرة أنّه يعتبر أيضا في جوازه الأمن من الضرر. فلو خاف علي نفسه أو ماله لم يجز له ذلك. ثم علّله صاحب الحدائق بقوله: «و هو ظاهر؛ فان الضرورات تبيح المحظورات». «1»

و لا يخفي ما فيه؛ لأنّ الخوف علي النفس و المال، إنما يوجب في محلّ الكلام ارتفاع الجواز و منع الجائز، لا إباحة المحظور، كما ورد في تعليله.

و منها: ما لو اضطرّ المحرم إلي أكل ما فيه طيب فحكموا بجوازه و بأنّه يقبض أنفه وجوبا، ما دام لم يوجب مشقة.

و يتفرّع من هذه المسألة فرعان.

أحدهما: جواز أكل ما فيه طيب، بل شمّه إذا كان أخذ الأنف له حين الأكل شاقّا. و علّلوا ذلك بأنّ الضرورات تبيح المحظورات، كما صرح بهذا التعليل في الحدائق؛ حيث قال: «أما جواز الأكل فدليل إباحته أنّ الضرورات تبيح المحظورات، كما هو مسلّم بينهم في جميع الأحكام». «2»

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 14، ص 279.

(2) الحدائق الناظرة: ج 15، ص 423.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 104

ثانيهما: وجوب أخذ الأنف عند التمكّن، فعلّله في الحدائق بقوله: «إنّ الاضطرار إلي أحدهما لا يبيح الآخر، مع حرمة الجميع، فيقتصر علي محلّ الضرورة». «1»

و هذا التعليل هو مقصود قولهم: «الضرورات تتقدر بقدرها» فصار كقاعدة فقهية بينهم.

و منها: ما لو اضطر الانسان إلي معونة الظالمين، بأن توقّف عليه إمرار معاشه أو حفظ نفسه، فحكموا بجواز ذلك حينئذ. و قد علّله في الحدائق بقوله: «فانّ الضرورات تبيح المحظورات». «2» و كذا علله السيد الخوئي بقوله: «و ذلك للضرورة؛ فانّ الضرورات تبيح المحظورات». «3»

و منها: ما لو اضطر الانسان إلي دفع الرشوة لاستنقاذ حقه الموجب ذهابه وقوعه في المشقة الشديدة أو الحرج و الضرر العظيم، أو لحفظ عرضه. فحكموا بجواز دفع الرشوة حينئذ و علّلوه بهذه القاعدة، كما علّله في الرياض بقوله: «إلّا إذا لم يمكن الوصول إلي الحق بدونها، فيجوز الدفع حينئذ، فان الضرورات

تبيح المحظورات». «4»

و منها: حكمهم بجواز الاحتقان للصائم عند الضرورة؛ معلّلا بهذه القاعدة. كما علّله المحقق النراقي بقوله: «الحرمة إنّما هي إذا لم يكن الاحتقان ضروريا، و إلّا فيباح؛ لأنّ الضرورات تبيح المحظورات». «5»

______________________________

(1) المصدر.

(2) المصدر: ج 18، ص 121.

(3) التنقيح: ج 1، 363.

(4) الرياض: ج 8، ص 84.

(5) مستند الشيعة: ج 10، ص 269- 270.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 105

و منها: مسألة عدم جواز ترك وطي الزوجة أكثر من أربعة أشهر، كما هو الثابت فتوي و نصا. و لكن حكموا بجواز تركه عند الضرورة معلّلا بهذه القاعدة، كما قال المحقق النراقي: «و يختص عدم الجواز بصورة العذر.

و أما معه فيجوز الترك مطلقا إجماعا؛ لأنّ الضرورات تبيح المحظورات». «1»

إلي غير ذلك من الفروع الكثيرة في مختلف أبواب الفقه. و هي خارجة عن حدّ الاحصاء، و لنا في هذا المقدار كفاية.

______________________________

(1) المصدر: ج 16، ص 78.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 107

قاعدة حرمة الإعانة علي الإثم

اشارة

1- أهمية هذه القاعدة و منصّتها في كلمات الفقهاء 2- اوّل من استدلّ بنصّ هذه القاعدة 3- تحرير مفاد هذه القاعدة 4- مدرك القاعدة 5- هل هي حكم أو غيره؟

6- حالها مع معارضة ساير القواعد 7- التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 109

أهمية هذه القاعدة و منصّتها في كلمات الفقهاء

تطرح اليوم نظرية علي أهل النظر و المحافل العلمية حول منهج المكافحة مع المنكرات و حفظ المجتمع- و لا سيما الشباب- من التلوّث بأنحاء المعاصي و المفاسد.

و هذه النظرية توجب البدأة بالفحص و التحرّي في عوامل تلوّث المجتمع البشري بالقبائح و الآثام و التدقيق في علل هذا المعضل الاجتماعي، ثم الاقدام علي تجفيف جذور الفساد و قلعها. و تمنع عن صرف القدرة و الطاقة في المكافحة مع المعلول و في جهة منع المنكرات و النهي عنها بعد ما كثرت و شاعت بين الناس؛ حيث إنّه لو عرفت علل الفساد و عوامل شيوع المعاصي بالفحص الدقيق التام فتقلع من جذرها، تقلّ الآثام و يرتفع الفساد من غير حاجة إلي مقابلة خشنة حتي تستتبع محاذير و مشاكل اخري كسوء الظن و التشاؤم بالنظام الاسلامي فتوجب انتشار بذور الانزعاج و العداوة، فينجرّ إلي بروز المنازعات بين المؤمنين و نشأة الأفكار و العقائد المنحرفة و تشكيل الأحزاب السياسية المخالفة.

و لا شك أنّ تحريم الإعانة علي الإثم يوجب محو عوامل المعصية و قلع

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 110

موادّ الفساد و الفجور و تجفيف جذورها. و ذلك لأنّ حكم حرمة الإعانة علي الإثم إذا تلقّاه المسلمون كثقافة و وضعت قوانين جزائية صريحة قاطعة لذلك و لم ير أهل الفساد و المعاصي مخلصا للفرار من نصّ القانون و لا معينا لأنفسهم،

و لم يعدّ أحد مقدمات الفساد و المعصية لهم، لكي يروا بطيحة المجتمع معدّة للفساد، فحينئذ يؤول لهيب شهوتهم إلي الطفوء، كانطفاء لهيب النار بانعدام المادّة المحترقة و عدم وصول مادّة الاشتعال، من البترول و البانزين و الغاز.

و عليه فيكفي لإثبات أهمية هذه القاعدة و عظم خطرها أنّها تبحث عن محو عوامل تلوّث مجتمع المؤمنين بأنحاء المفاسد و قلع مواد الآثام و المعاصي و تجفيف جذورها.

و من هنا كانت هذه القاعدة منذ أقدم العصور- من زمن شيخ الطائفة- موضع العناية البالغة بين الفقهاء و صارت محل البحث و التحقيق و النقض و الابرام بينهم.

اوّل من استدلّ بنصّ هذه القاعدة

و أوّل من استدلّ بنصّ هذه القاعدة هو الشيخ الطوسي؛ حيث أفتي في المبسوط «1» بحرمة إعطاء الزكاة إلي الفقير المقيم علي المعاصي معللا بهذه القاعدة. و كذا استدل بها لبطلان الوصية باجارة المال للبيع و الكنائس و نحوها. «2»

______________________________

(1) المبسوط: ج 1، ص 251.

(2) المصدر: ج 2، ص 62.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 111

و منهم المحقق صاحب الشرائع؛ حيث أفتي بحرمة بيع كل ما يفضي إلي مساعدة الحرام، و عمّمه في المسالك إلي مطلق أعداء الدين، سواء كانوا مسلمين أو كفارا. و علّل ذلك بهذه القاعدة؛ حيث قال في ذيل كلام صاحب الشرائع: «لا فرق في أعداء الدين بين كونهم مسلمين أو كفارا؛ لاشتراكهم في الوصف، و هو الإعانة علي المحرم المنهي عنها». «1»

ثم بعده العلامة الحلي، فإنّه استدل بهذه القاعدة في مواضع عديدة من كتبه.

منها: حكمه بحرمة بيع ما يعلم أنّ المشتري يصنعه صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي؛ معلّلا بهذه القاعدة. «2»

و منها: حكمه بعدم جواز الوقف علي البيع و الكنائس و بيوت

النيران بأنّ في ذلك إعانة علي المعصية. «3»

و أيضا علّل حرمة الوقف علي معونة الزناة أو قطاع الطريق أو شاربي الخمر- و لو كانوا مسلمين- بقوله: «لأنّ الإعانة علي فعل المعصية معصية». «4»

و لا تختص موارد جريان هذه القاعدة بباب خاص من الأبواب الفقهية، بل تجري في مختلف أبواب الفقه، مما يرتبط بمقدمة المعصية و الإعانة علي الإثم.

______________________________

(1) المسالك: ج 3، ص 123.

(2) المختلف: ج 5، ص 22.

(3) التذكرة: ج 2، ص 429.

(4) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 112

تحرير مفاد هذه القاعدة

المقصود من لفظ «الإعانة» في نص هذه القاعدة معناه اللغوي، لا معني آخر غيره. و هو المساعدة و المظاهرة، أي مساعدة الغير و مظاهرته في فعله باعداد بعض مقدماته و تهيئة آلات الفعل، أو إيجاد المقتضي له و رفع الموانع عنه. و يعتبر في معني الإعانة عدم استناد الفعل إلي المعين عرفا، بل يستند إلي الفاعل المباشر وحده، و إلّا يدخل في عنوان التعاون.

ثم إنّه قد يقصد معني الإعانة من لفظ التعاون، و هو فيما إذا أسند فعل التعاون إلي القوم، كما في قولهم: تعاون القوم، أي أعان بعضهم بعضا و صار عونا له، كما صرّح بذلك في القاموس و الصحاح و المصباح و غيره من معاجم اللغة.

و عليه فالتعاون إذا أسند إلي القوم يكون بمعني إعانة بعضهم بعضا، فلا فرق بينه و بين معني الإعانة حينئذ في الحقيقة، و إنّما يعبّر عنه بالتعاون بلحاظ ما يوجد من التقابل بين الإعانات الصادرة من أفراد القوم متقابلا.

و إنّما الفرق بينهما فيما إذا أسند التعاون إلي اثنين في مثل قولهم:

«تعاون زيد و عمرو في رفع الصخرة».

و الفرق بين الاعانة و التعاون- المستند إلي شخصين-

أنّ في الإعانة تكون المساعدة من أحد الطرفين من دون استناد الفعل إليه عرفا، و إنّما يستند الفعل إلي الطرف الآخر الذي هو الفاعل المباشر. و أما في التعاون تكون المساعدة من الطرفين و لا يستند الفعل إلي طرف واحد، بل يستند إلي الطرفين معا، بمعني أنّ كل واحد منهما يعين الآخر في إيجاد

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 113

الفعل، كما لو رفع شخصان أو أشخاص معا حجرا ثقيلا، بحيث لو لم يساعد أحدهم لم يتمكنوا من رفع ذلك الحجر، فحينئذ يستند رفع ذلك الحجر إليهم جميعا لا إلي بعضهم، فهذا هو حقيقة التعاون.

و اتضح ممّا بيناه في حقيقة الاعانة أنّه يعتبر فيها شيئان.

أحدهما: قصد المساعدة من المعين؛ لأنّ الإعانة من العناوين القصدية، كما هو واضح.

ثانيهما: تحقق الفعل المعان عليه. و قد يتوهم عدم دخل لتحقّقه في صدق الإعانة؛ لأنّ مرتبة تحقق الفعل متأخّرة عن رتبة الإعانة؛ فلا معني لدخل ما هو المتأخر في صدق ما هو المتقدم، و لكنّه توهم غير وجيه. و ذلك لأنّ الإعانة علي فعل أمر إضافي؛ نظرا إلي أخذ تعلّقها بالفعل في عنوانها.

و عليه فيكون الفعل طرف الاضافة، و لا معني لتحقق الأمر الاضافي المتعلّق بالغير من دون تحقق متعلقه الذي هو طرف الاضافة.

و قد وقع الكلام و النقض و الابرام في اعتبار كل من القصد و وقوع الفعل الحرام في مصبّ هذه القاعدة. فقد يتوهم عدم اعتبار شي ء منهما في صدق عنوان الإعانة علي الإثم، و في مقابله القول باعتبارهما معا. و قال جماعة باعتبار القصد دون وقوع الحرام المعان عليه، و اختار آخرون عكس ذلك.

فالصور المتصوّرة في المقام أربعة.

الاولي: و هي صورة تحقق القصد و

الفعل الحرام كليهما، فلا إشكال و لا خلاف في صدق الإعانة علي الإثم حينئذ.

الثانية: و هي ما إذا لم يكن قصد و لم يتحقق الفعل الحرام. و لا إشكال أيضا في عدم صدق الإعانة علي الإثم حينئذ، كما هو واضح. و قد اتضح

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 114

وجه ذلك مما بيّناه في اعتبار قصد الإعانة و تحقق الفعل في صدق عنوان الإعانة علي ذلك الفعل.

و أما ما دلّ عليه بعض النصوص من لعن غارس الخمر فليس المقصود منه هذه الصورة، بل إنّما يحمل علي قاصد التخمير بذلك، كما هو واضح، و إلّا يلزم منه ما لا يمكن الالتزام به بأيّ وجه.

الثالثة: ما إذا لم يقصد المعين بفعله الإعانة علي الحرام، و لكن ترتّب عليه الحرام. و الظاهر أنّ هذه الصورة خلافية. و منشأ الخلاف فيها هو الاختلاف في اعتبار قصد الإعانة علي الحرام في صدق عنوانها.

و إنّ للشيخ الأعظم الأنصاري «1» تحقيقا جامعا في المقام ينبغي تحريره. قال ما حاصله:

ذهب جماعة من الفقهاء إلي أنّ الإعانة هي الاتيان ببعض مقدمات فعل الغير بقصد حصوله: لا مطلقا. و أوّل من أشار إلي هذا هو المحقق الثاني في حاشية الارشاد في مسألة بيع العنب ممن يعلم أنّه يصنعه خمرا. و وافقه في اعتبار القصد في مفهوم الإعانة جماعة من متأخّري المتأخرين، كالفقيه السبزواري في الكفاية و غيره.

و زاد بعض المعاصرين اعتبار وقوع الحرام المعان عليه. و فيه تأمّل؛ لأنّ حقيقة الإعانة علي الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء سواء حصل أم لا.

و يظهر من الأكثر عدم اعتبار القصد. و منهم الشيخ في المبسوط؛ حيث استدل علي وجوب بذل الطعام لمن يخاف تلفه بقول

النبي صلّي اللّه عليه و آله: «من

______________________________

(1) المكاسب/ الطبع الحجري: ص 17- 19.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 115

أعان علي قتل مسلم و لو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه». «1» فجعل مجرد ترك بذل الطعام لمن يخاف تلفه مصداقا للإعانة علي قتل المؤمن، و لو لم يكن بقصد القتل.

و منهم العلامة؛ حيث استدل في التذكرة علي حرمة بيع السلاح من أعداء الدين بأنّ فيه إعانة علي الظلم. و منهم المحقق الثاني؛ حيث استدل علي حرمة بيع العصير المتنجس ممن يستحلّه بأنّ فيه إعانة علي الإثم.

و كذا المحقق الأردبيلي؛ حيث استدل علي حرمة بيع العصير ممن يعلم أنّه يصنع خمرا بأنّ فيه الإعانة علي الإثم، بل في الرياض- بعد ذكر النصوص الدالة علي جواز بيعه- ردّها بمخالفتها لهذه القاعدة. فانّ إطلاق كلامهم يقتضي عدم اعتبار القصد.

و يؤيّد ما ذكروه من صدق الإعانة بدون القصد ظهور بعض النصوص في ذلك بالاطلاق، مثل النبوي المروي في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أكل الطين فمات فقد أعان علي نفسه». «2» و العلوي المروي فيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث وارد في حكم الطين-: «فان أكلته و متّ فقد أعنت علي نفسك». «3» و يدل عليه غير واحد مما ورد في أعوان الظلمة. فانّ من الواضح عدم قصد آكل التراب في الأغلب قتل نفسه، كما أنّ الأغلب في أعوان الظلمة قصد تأمين مئونتهم و قضاء حوائج أنفسهم بذلك. لا الظلم و التعدي إلي الرعية المستضعفين.

______________________________

(1) عوالي اللئالي: ج 2، ص 33، ح 48.

(2) وسائل الشيعة: ج 16، ص 393، ب 58، من الأطعمة و

الأشربة، ح 7.

(3) الكافي: ج 6، ص 266، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 116

و قد فصّل المحقق الأردبيلي بينما إذا كان فعل بعض مقدمات الحرام مع القصد أو علي الوجه الذي يصدق عليه عنوان الإعانة عرفا- مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم، أو يطلب منه القلم لكتابة حكم قتله فيعطيه- و بينما لا يصدق عليه عنوان الإعانة عرفا، كبيع متاع أو الاتيان بفعل كسبا لمنفعة أو رفعا لحاجة فيما إذا انجرّ إلي تقوية ظالم أو إعانته بالمآل.

و لا شك في عدم صدق الإعانة علي مثل ذلك؛ حيث لم يقصدها المعين بذلك، و لا كلام في ذلك. و إنما الكلام فيما إذا قصد الفاعل وصول الغير إلي مقدمة مشتركة بين المعصية و بين غيرها مع علمه بأنّ الغير يصرفها في المعصية، كبيع العنب ممن يعلم أنّه يصنعه خمرا، و إن لم يقصد البائع تخمير الغير بالعنب المبيع. فالاعانة علي شرط الحرام غير الإعانة علي الحرام نفسه. و مجرّد العلم بأنّ الغير يتوصل بتلك المقدمة- المشتركة المعان بها- إلي فعل الحرام لا يوجب أن يصدق عليها عنوان الإعانة علي الحرام نفسه؛ ما لم يكن الشرط بنفسه حراما. و بذلك ينقدح ما في كلام الشيخ في المبسوط من النظر.

ثم فصّل الشيخ الأعظم قدّس سرّه في الشروط بين ما تنحصر فائدته عرفا في تحقّق الحرام المشروط كإعطاء العصا إلي الظالم الذي أراد ضرب أحد، أو إعطاء الكأس إلي شخص استعاره لأن يشرب فيه الخمر. فانّ فائدة العصا و الكأس في هذا الفرض منحصرة عرفا في ضرب المظلوم و شرب الخمر، و من ذلك بيع السلاح من أعداء الدين حال اشتعال الحرب،

بخلاف بيع العنب ممّن يصنعه خمرا؛ لعدم انحصار فائدته في التخمير. و لعل من فرّق بينه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 117

و بين بيع السلاح من أعداء الدين حال الحرب نظر إلي ما قلناه، كما عن الفاضلين في الشرائع و التذكرة.

ثم قسّم قدّس سرّه شرط الحرام إلي أقسام.

أحدها: أن يكون الاتيان به بقصد توصل الغير به إلي الحرام. و هذا لا إشكال في حرمته، لكونه إعانة.

ثانيها: أن يؤتي به بغير قصد توصّل الغير به إلي الحرام و لا لحصول مقدّمته كتجارة التاجر بالنسبة إلي العشّار؛ حيث لم يقصد بتجارته سلطة العشار عليه بأخذ العشر و إن كانت التجارة شرط أخذ العشر. و هذا أيضا لا إشكال في عدم حرمته.

ثالثها: ما يؤتي به بقصد حصول بعض مقدمات الحرام لا بقصد التوصل به إلي الحرام نفسه. و هذا علي وجهين. أحدهما: أن يكون ترك الاتيان به علّة تامّة لعدم تحقق الحرام من الغير. و ثانيهما: أن لا يكون كذلك، بل يعلم عادة أو يظن بترتّب فعل الحرام من الغير عليه. فقوّي وجوب ترك الأوّل و حرمة فعله و جوّز الثاني. انتهي حاصل كلام الشيخ في المقام. «1»

و مقتضي التحقيق في المقام: أنّ الملاك في صدق عنوان الإعانة نظر العرف. و الظاهر صدق عنوانها عرفا علي تسليط الغير علي شي ء يعلم أنّه يفعل به الحرام، سواء علم أنّه سيفعل الحرام أيضا بمعونة شي ء آخر في صورة عدم تسليطه علي ذلك الشي ء، أم لا.

و عليه فلا وجه لاناطة صدق عنوان الإعانة بكون الشرط الصادر من المعين علّة تامة لصدور فعل الحرام من الغير، كما يظهر من الشيخ، بل

______________________________

(1) مكاسب الشيخ: ص 17- 19.

مباني الفقه الفعال في

القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 118

لا يكون شي ء من المقدمات المعدّة بفعل المعين من قبيل العلّة التامّة؛ ضرورة عدم تمامية علّة فعل الحرام، إلّا بارادة فاعل الحرام المحرّكة لعضلاته نحو الفعل. و إنما تكون المقدمات المتحققة بفعل المعين كلّها من قبيل المعدّات و الشرائط التي هي في عداد العلل الناقصة و من أجزاء العلّة.

نعم لا إشكال في اعتبار دوران وجود ذلك الفرد من الحرام مدار تحقق ذلك الشرط في صدق عنوان الإعانة. و لكن لا يضرّه العلم بأنّ الغير يوجد فردا آخر من الحرام بطريق آخر في صورة عدم تحقق ذلك الشرط. و لعلّه مراد الشيخ الأعظم؛ حيث لا ريب في صدق الإعانة علي الحرام بالنسبة إلي ذلك الفعل الحرام المتوقف علي ذلك الشرط المعان به.

فتحصّل أنّ الإعانة تصدق عرفا علي الاتيان بكل ما يعلم المعين بترتّب صدور الإثم من الغير عليه، من شرط أو سبب و نحوه من المقدمات، سواء كان ممّا لو لا إتيانه بذلك الشرط أو السبب لترك الغير ذلك الفعل الحرام و لم يفعله؛ إمّا لعدم تمكّنه أو لاستلزامه المشقّة و الحرج، أو لم يكن من هذا القبيل، بأن يعلم المعين أنّ الغير سيقدم علي فعل الحرام، و لو بمقدمة اخري. و لا يعتبر كونه علّة تامة و لا الجزء الأخير من العلة، كما توهم.

و أما قصد صدور الحرام من الغير فلا يعتبر في صدق عنوانها عرفا، بل يكفي علم المعين بكون الغير بصدد الفعل الحرام و بدوران صدور الفعل الحرام من الغير مدار ما أوجده من بعض المقدمات، فانّ عنوان الإعانة علي الحرام في هذا الفرض صادق بنظر أهل العرف و لو لم يقصد من فعله تحقق الحرام من الغير.

هذا

لو فرضنا انفكاك علمه بذلك عن قصد تحقق الحرام، و هو مشكل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 119

عادة، بل ينجرّ بالمآل إلي قصد الإعانة علي الحرام. و ذلك لأنّ الاتيان بما يعلم ترتّب الحرام عليه إعانة علي صدور ذلك الحرام من الغير؛ نظرا إلي كون الاتيان به قصديا، فلا ينفك عن الإعانة علي الحرام، و إن لم يقصد المعين من الاتيان بالمقدمة وصول الغير بها إلي الحرام. و عليه فقصد الإعانة لا إشكال في اعتباره في مفهوم الإعانة؛ لأنه أمر قصدي. و هذا القصد هو الذي لا يتصور انفكاكه عن العلم بترتب الحرام، لا قصد وقوع الحرام من الغير.

و أمّا الالتزام بكون إيجاد كلّ ماله مدخلية في تحقق الحرام الصادر من الغير- و لو بوسائط عديدة- إعانة عليه، لا وجه له؛ حيث إنّه لا يصدق عليه عنوان الإعانة عرفا، و إلّا لزم كون الواجب تعالي معينا علي الآثام الصادرة عن العباد؛ لأنّه موجد الآلات و مسبّب الأسباب في الحقيقة، و تعالي اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

و أما قصد العصيان من فاعل الإثم فهل يعتبر إحرازه من جانب المعين في صدق الإعانة علي الإثم؟ أو هل يعتبر قصده في نفسه أو لا، بمعني أنّه حتي إذا علم المعين عدم قصد العصيان من الفاعل فهل يحرم عليه الاتيان بمقدماته أم لا؟

و التحقيق في المقام: التفصيل بينما إذا دلّ الدليل المعتبر علي أنّه لا يرضي الشارع بوقوع فعل المعصية بأيّ وجه، كالقتل و اللواط و الزنا و الربا، و نحو ذلك من الكبائر و المحرمات المهمّة في نظر الشارع، و بينما ليس من هذا القبيل.

فيكفي في القسم الأوّل مجرد علم المعين بوقوع الحرام في حرمة

مباني

الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 120

الإعانة، و لو علم أنّ الفاعل ليس قاصدا لوقوعه.

و أما الثاني فهو خارج عن مصب هذه القاعدة؛ لفرض عدم صدور الإثم من الفاعل و ليس الفعل نفسه مما هو مبغوض عند الشارع حتي يحرم الإعانة علي إيجاده. و ذلك مثل المعاصي و الآثام الصغيرة التي ليست مبغوضة في ذاتها مع قطع النظر عن قصد العصيان من فاعلها، أو ليست مبغوضيتها الذاتية في حد توجب الحرمة باتيان بعض مقدماتها.

هذا إذا لم يكن من قصد المعين تحقق المعصية، و إلّا لا يبعد القول بحرمة الإعانة مطلقا؛ حيث إنّه أتي بمقدمة الإثم قاصدا لوقوعه مع علمه بترتب المعصية عليه. و الانصاف أنّه يشكل فرض انفكاك قصد الإعانة من المعين عن علمه بوقوع الحرام من الغير، كما عرفت آنفا، حتي فيما إذا علم بأنّ الفاعل غير قاصد للعصيان.

و أما الصورة الرابعة: و هي ما لو تحقق القصد و لم يصدر الحرام من الغير- إما لندامة أو لمانع- فلا ريب في عدم صدق الإعانة علي الحرام عرفا؛ حيث لم يتحقق حرام حتي يصدق الإعانة عليه. نعم يصدق الإعانة علي تمكين الغير و تحصيله القدرة علي فعل الحرام، و غاية ما يمكن الالتزام به صدق إعانة الغير في جهة وصوله إلي الحرام، لا الإعانة علي الحرام نفسه. و غاية ما يلزم حينئذ التجري؛ لفرض أنّه قصد بفعله ما هو شرط و مقدمة الحرام الواقع في علمه و اعتقاده، فهو أتي بما هو حرام حسب علمه و اعتقاده، فيكون حينئذ مع كشف الخلاف متجرّيا.

و لكن خالف في ذلك الشيخ الأعظم قدّس سرّه فصرّح بعدم اعتبار وقوع الفعل الحرام المعان عليه من الغير في صدق

عنوان الإعانة علي الحرام، بل جعله

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 121

أمرا مفروغا عنه.

حيث قال: «و ربما زاد بعض المعاصرين علي اعتبار القصد اعتبار وقوع المعان عليه في تحقّق مفهوم الإعانة في الخارج، و تخيّل أنّه لو فعل فعلا بقصد تحقق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقق منه، لم يحرم من جهة صدق الإعانة، بل من جهة قصدها، بناء علي ما حرّره من حرمة الاشتغال بمقدمات الحرام بقصد تحققه، و أنّه لو تحقق الفعل كان حراما من جهة القصد إلي المحرّم و من جهة الإعانة. و فيه تأمل: فانّ حقيقة الإعانة علي الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء، سواء حصل أم لا». «1»

و استدل بعض المحققين «2» لعدم اعتبار صدور الفعل الحرام من الغير في صدق عنوان الإعانة بأنّ حقيقة الإعانة هي عبارة عن تهيئة المقدمات للحرام و هي لا تستلزم حصوله.

و قد اتضح بما بيّناه آنفا ضعف استدلال الشيخ و استدلال هذا العلم.

و إنّ للسيد الامام الراحل كلاما دقيقا نافعا في الاستدلال لذلك لا يخلو نقله من فائدة، و إليك نصّ كلامه قال قدّس سرّه: «إنّ المفهوم العرفي من الإعانة علي الإثم هو إيجاد مقدمة إيجاد الإثم، و إن لم يوجد. فمن أعطي سلّما لسارق بقصد توصّله إلي السرقة، فقد أعانه علي إيجادها، فلو حيل بين السارق و سرقته شي ء و لم تقع منه، يصدق أنّ المعطي للسلم أعانه علي إيجاد سرقته، و إن عجز السارق عن العمل.

فلو كان تحقق السرقة دخيلا في الصدق فلا بد و أن يقال: إنّ المعتبر في

______________________________

(1) مكاسب الشيخ/ الطبع الحجري: ص 17.

(2) و هو السيد مير عبد الفتّاح في العناوين: ج 1، ص 567- 568.

مباني

الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 122

صدق الإعانة إيجاد المقدمة الموصلة، أو الالتزام بأنّ وجود السرقة من قبيل الشرط المتأخّر لصدق الإعانة و كلاهما خلاف المتفاهم العرفي منها، بل هما أمران عقليان.

أو يقال: لا يصدق عرفا الإعانة علي الإثم حتي وجدت السرقة، فالفعل المأتي به لتوصّل الغير إلي الحرام مراعي حتي يوجد ذو المقدمة، و بعده يقال: إنّه أعانه عليه. و هو أيضا خلاف الواقع.

أو يقال: إنّ صدق الإعانة عليها فعلا باعتبار قيام الطريق العقلائي علي وجود الإثم و بعد التخلّف يكشف عن كونها تجرّيا، لا إعانة و هو أيضا غير صحيح؛ لأنّ الطريق العقلائي عليه لا يتفق إلّا أحيانا. و مع عدم القيام أيضا يقال: أعانه علي إيجاده.

فمن أعطي جصّا لتعمير مسجد، يقال: إنّه أعان علي تعميره قبل تحققه، بل مع عروض مانع عنه. و لهذا يصح أن يقال: إنّي أعنت فلانا علي تعمير المسجد و لم يقع منه ذلك، بلا شائبة تجوّز.

و إن شئت قلت: فرق بين كون الإثم بمعني اسم المصدر و كونه بمعني المصدر في صدق الإعانة، فلو كان بمعني اسمه يعتبر في صدقها الوجود، بخلاف ما إذا كان بمعني المصدر، و المقام من قبيل الثاني». «1» انتهي حاصل كلامه قدّس سرّه.

و فيه: أنّ صدق حقيقة الإعانة لا إشكال فيه بمجرد فعل المقدمات و تهيئتها، إلّا أنّه في الحقيقة إعانة الغير علي تمكينه من الحرام و تحصيله

______________________________

(1) المكاسب المحرمة/ طبع مطبعة مهر: ج 1، ص 141- 142.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 123

القدرة عليه كما قلنا، و أما إعانته علي فعل الحرام نفسه في فرض عدم صدور الحرام منه فيشكل صدقها عرفا، بل لا يخلو إطلاق

الإعانة علي الحرام حينئذ من ركاكة عند أهل العرف، إلّا مجازا بعناية و لحاظ قرينة.

و بعبارة أخري: إنّ المتبادر إلي أذهان أهل العرف من عنوان الإعانة علي الإثم هو الإعانة علي الإثم الصادر من الغير، لا الاثم الذي لم يصدر و إنما كان الغير بصدد فعله، و لا يلزم من ذلك أخذ إيجاد المقدمة الموصلة في صدق عنوان الإعانة، كما أشكل بذلك السيد الامام الراحل قدّس سرّه.

و ذلك لأنّ الدخيل في صدق عنوانها في نظر العرف ترتّب الحرام علي الفعل المعان به بحيث ينتفي بانتفائه، لا ضرورة وجوده بوجوده و عدم انفكاكه عنه، كضرورة وجود المعلول بوجود علته التامة أو ضرورة وجود ذي المقدمة بوجود مقدّمته الموصلة.

و أما إطلاق الإعانة علي تعمير المسجد قبل تحققه علي فعل تهيئة أسباب التعمير بقصد ذلك، فهو مسامحي و عنائي بملاحظة القرينة.

و من هنا لو التفت أهل العرف إلي عدم تحقق التعمير، يقولون: أعان فلان في جهة تعمير المسجد، و ما دام لم يشرع التعمير لا يطلقون الإعانة علي تعميره حقيقة، بل إنما يطلقون عنوانها بقرينة الأول و المشارفة مجازا.

و إنّ للسيد الامام الراحل كلاما نافعا في المقام فراجع. «1»

و حاصل الكلام في المقام: أنّه يعتبر في صدق عنوان الإعانة علي الإثم- الذي هو عنوان القاعدة المبحوث عنها في المقام- ثلاثة أمور، بحيث

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة/ طبع مطبعة مهر: ج 1، ص 141- 142.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 124

لو انتفي واحد منها لا يصدق عنوان القاعدة.

أحدها: ترتّب صدور الحرام من الغير علي الفعل المعان به، بأن ينتفي بانتفائه و إن لم يستلزم الاتيان به صدور طبيعي الفعل الحرام من الغير لا مكان تحققه بمقدمة أخري عقلا.

و من هنا قلنا بعدم اعتبار كون الفعل المعان به علة تامة لتحقق الحرام، كما يظهر من الشيخ الأعظم، و لا الجزء الأخير من العلة، كما توهم بعض.

ثانيها: قصد الإعانة علي الإثم أو العلم بالدوران المزبور علي النحو الذي بيّناه في الأمر الأوّل علي سبيل مانعة الخلو، فلا بد إمّا من تحقق قصد الإعانة أو علم المعين بترتب الفعل الحرام علي ما أتي به من الشرط أو السبب في صدق عنوان الإعانة عرفا. فلو انتفيا معا لا يصدق عنوانها في نظر أهل العرف و لو تحقق الأمران الآخران، و إن لا ينفك قصد الإعانة عن العلم بذلك غالبا. و لعلّ صدق عنوان الإعانة علي الإثم علي إعطاء العصا و السكين إلي مريد الظلم و القتل يكون لأجل ذلك، كما أشار إليه السيد الامام الراحل قدّس سرّه. «1»

نعم هاهنا صورة: و هي أنّ الفعل المعان به لو كان من المقدمات التي لها دخل في صدور الحرام من الغير و لو بنحو الداعي- لا بنحو الدوران المزبور- لا يبعد صدق الإعانة فيما إذا قصد بفعله الإعانة علي صدور الحرام من الغير، بخلاف مجرد علمه بذلك، فلا يكفي علم المعين في صدق عنوان الإعانة حينئذ، كما في تجارة التجار مع علمه بكون الاتجار موجبا

______________________________

(1) المصدر: ص 142.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 125

لتسليط العشار عليه و أخذ العشر منه.

و عليه فمع قصد الاعانة يصدق عنوان الإعانة عرفا مطلقا؛ حيث لا فرق في صدق الإعانة علي الإثم حينئذ بين كون الفعل المعان به من قبيل الأسباب و بين كونه من الدواعي و لا بين كونه من المقدمات القربية المتمحضة في السببية لصدور الحرام من الغير أو

من المقدمات البعيدة غير المتمحّضة في ذلك، و هذا بخلاف علم المعين فلا يكفي وحده في صدق عنوان الاعانة علي الإثم عرفا في الدواعي و المقدمات البعيدة، و إن يشكل أصل حصول علمه حينئذ، كما يشكل كفاية مجرد القصد في المقدمات البعيدة.

ثالثها: صدور الحرام المعان عليه من الغير؛ لأنّ حقيقة الإعانة و إن تصدق بالنسبة إلي مقدمات الحرام و حصول القدرة علي الحرام للغير بقدر ما اقتضاه الفعل المعان به، لكن الإعانة علي الحرام نفسه لا تصدق عرفا ما لم يصدر الحرام من الغير، كما هو واضح، و لا فرق في ذلك بين كون الإثم بمعناه المصدري أو اسم المصدر، كما يظهر من السيد الامام الراحل قدس سرّه. «1»

و ذلك لأنّ الملاك في صدق عنوان القاعدة تحقق الفعل الحرام و لو بأوّل جزئه. و هذا يصدق باشتغال الغير بفعل الحرام. فبمجرّد شروعه بالمعصية يصدق عرفا عنوان الإعانة علي الإثم. و هذا يلائم مع الإثم بمعناه المصدري، فلا حاجة إلي التجشّم بكونه بمعني اسم المصدر لإثبات تعليق صدق عنوانها علي بعد وقوع الإثم.

و مما يؤيّد ذلك قوله صلّي اللّه عليه و آله: «من أكل الطين فمات فقد أعان علي نفسه» و مثل

______________________________

(1) المكاسب المحرمة/ طبع مطبعة مهر: ج 1، ص 142.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 126

قوله قول الصادق عليه السّلام: «فان أكلته و مت فقد أعنت علي نفسك». «1» فان تعليق الاعانة علي الموت في هاتين الروايتين يشعر بدخل وقوع الإثم في صدق الإعانة عليه. و الإثم هاهنا قتل الرجل نفسه. و هو يصدق فيما إذا كان فعل الرجل سببا لموته.

هذا كله في عنوان الإعانة.

و أما الإثم فمعناه مطلق المعصية. و العدوان

هو الظلم. فهو من باب عطف الخاص علي العام، و هذا واضح لا يحتاج إلي إطالة الكلام.

ثم إنّه لا إشكال في دخول إعانة الغير علي الإثم في مصب القاعدة و مفادها.

و أما إعانة النفس علي الإثم، فهل يدخل في مفاد القاعدة أم لا؟

فقد استظهر بعض المحققين «2» خروجه عن مصبّ القاعدة من كلام الشيخ الأعظم؛ حيث قال في رد شيخ الطائفة: «ثم إنّ محل الكلام في ما يعد شرطا للمعصية الصادرة عن الغير. فما تقدم في المبسوط، من حرمة ترك بذل الطعام لخائف التلف مستندا إلي قوله عليه السّلام: «من أعان علي قتل مسلم …» محل تأمل، إلّا أن يريد الفحوي». «3»

و لكن لا نظر للشيخ إلي هذه الجهة، بل إنما نظره إلي اعتبار الاتيان بما هو شرط للمعصية، بحيث يتحقق بفعله الإعانة علي الإثم، و لمّا كان ترك بذل الطعام أمرا عدميا لا يصلح للشرطية، و إلّا لم يكن كلام شيخ الطائفة في

______________________________

(1) الكافي: ج 6، ص 266، ح 5 و 8.

(2) و هو الشيخ محمد الفاضل في القواعد الفقهية: ج 1، ص 458.

(3) مكاسب الشيخ: ص 18.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 127

من خاف علي نفسه ليكون كلام الشيخ ردّا عليه.

و علي أيّ حال فالتحقيق: دخول إعانة النفس علي الإثم في عنوان القاعدة؛ حيث لم يؤخذ في عنوانها إعانة الغير علي الإثم، بل إنما المأخوذ في عنوانها هو الإعانة علي الإثم مطلقا، سواء كان صادرا عن الغير أو عن نفس المعين، فلا وجه للاختصاص؛ نظرا إلي عمومية الملاك.

مدرك القاعدة

اشارة

قد استدل لهذه القاعدة بوجوه:

الأوّل: العقل.

بتقريب أنّ العقل يحكم بقبح الاعانة علي معصية المولي و المساعدة علي الاتيان بمبغوضه، كحكمه بقبح فعل المعصية نفسه؛ لأنه كما يحكم بقبح معصية المولي و الاتيان بمبغوضه، فكذلك يحكم بقبح الإعانة و المساعدة علي ذلك من غير فرق.

و من هنا تري العقلاء كما يقبّحون عبدا ضرب مولاه أو أهانه، فكذلك يقبّحون إعانته علي ذلك و مساعدته بتمهيد المقدمات و مظاهرته لمن أهان مولاه، و لو بالترغيب و التشويق.

و من هنا وضعوا في قوانينهم العرفية جزاء علي من أعان المجرم في ارتكاب الجرم و ساعده علي ذلك، كمن أعان السارق في سرقته أو ساعد القاتل في قتله بتهيئة الأسباب أو حبس صاحب المال أو المقتول قبل قتله ليقتله القاتل أو بالحراسة و المناوبة أو بالدلالة علي موضع اختفاء المال المسروق قبل السرقة و الشخص المقتول قبل قتله، بلا فرق في ذلك بين

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 128

كون المقدمات من القبائح بنفسها مع قطع النظر عن المقدمية أو كان قبحها باعتبار مقدميتها للجرم و الجناية.

و لا يخفي أنّ حكم العقل بقبح الإعانة علي الإثم لا ينافي عدم الالتزام بالملازمة عقلا بين حرمة الشي ء و بين حرمة مقدمته. و ذلك لأنّ المدّعي هناك ثبوت الحرمة الترشحية الناشئة من حرمة ذي المقدمة. و هاهنا إنّما يحرم ما يتوصّل به إلي الحرام من المقدمات لأجل انطباق عنوان الإعانة علي الإثم عليه؛ حيث إنّ هذا العنوان بنفسه موضوع حكم العقل. فالحرمة ثابتة لنفس هذا الموضوع بعنوانه الأولي، من دون سراية الحرمة و ترشّحها إليه من شي ء آخر.

الثاني: الاجماع.

و أما الاجماع و إن ادّعي في المقام، و لكن لا اعتبار به في مثل المقام؛ نظرا إلي وجود

الأدلة القطعية الصالحة للتمسك بها في المقام، و إحراز استنادهم إلي بعض هذه الوجوه.

الثالث: الكتاب:

أما الكتاب: فاستدل بقوله تعالي: «وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ» «1»؛ نظرا إلي ظهور النهي في الحرمة عند عدم قرينة صارفة إلي الكراهة. و هي منتفية في المقام.

و الإشكال بأنّ العلم بعدم إرادة ظاهر الأمر بالتعاون علي البر و التقوي في الفقرة السابقة «2» - لمعلومية عدم وجوب مطلق التعاون علي البر- قرينة

______________________________

(1) سورة المائدة: الآية 2.

(2) و هي قوله: «تعاونوا علي البرّ و التقوي». المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 129

علي عدم إرادة ظاهر النهي في هذه الفقرة أيضا؛ بزعم أنّ ذلك مقتضي وحدة السياق، مدفوع.

و ذلك لأنّ وحدة السياق إنّما هي تصلح للقرينية علي تعيين المراد فيما إذا كانت الفقرات المتوالية في كلام واحد متعلقة للأمر أو النهي، دون ما إذا ورد الأمر في بعضها و النهي في الأخري، كما في المقام. فان كل واحد من الفقرتين في هذه الآية غير مرتبط بالآخر؛ إذ سياق الأمر غير سياق النهي.

و مجرد تتالي الجملتين في الذكر لا يوجب وحدة السياق. و عليه فظهور النهي في هذه الآية في الحرمة مما لا إشكال فيه.

و إنّما الإشكال في صدق عنوان التعاون علي الإعانة. فربما يقال: لو قلنا بصدق عنوانه علي الإعانة تتم دلالة الآية علي هذه القاعدة، و إلّا فلا، و لمّا ثبتت المغايرة بين العنوانين و عدم صدق عنوان التعاون علي الإعانة، لا تتم دلالتها علي مفاد القاعدة المبحوث عنها في المقام.

و لكن مقتضي التحقيق: تماميّة دلالة الآية علي المطلوب. و ذلك لأنّ عنوان الإعانة و إن كان غير عنوان التعاون و هما متغايران في الماهية، كما

بيّنا وجه ذلك مفصّلا في تحرير مفاد هذه القاعدة، إلّا أنّ هذا الفرق إنما يكون في فعل واحد بلحاظ واقعة واحدة. كما لو قلنا: أعان زيد عمرا في بناء المسجد، فانه ليس بمعني قولنا: تعاون زيد و عمرو في بناء المسجد؛ لأنّ الإعانة هنا بمعني تمهيد المقدمات و إيجاد الأسباب، و التعاون بمعني إيجاد جزء من المسجد بحيث يستند بناء المسجد إليهما معا.

و لكن في الآية الشريفة ليس إطلاق لفظ التعاون باللحاظ المزبور، بل إنما هو بلحاظ وقائع عديدة؛ إذ هي خطاب إلي عموم المؤمنين، و المقصود

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 130

النهي عن إعانة بعضهم بعضا آخر في الإثم، كأن يعين زيد عمرا في فعل معصية و يعين عمرو زيدا في فعل معصية أخري. و استعمال صيغة التفاعل بهذا المعني في القرآن شايع، كما في قوله تعالي: «وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ»، أي وصّي كل منهم الآخر بالحق و الصبر. و قوله تعالي: «عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ» أي: عن أيّ شي ء يسأل كل منهم الآخر. و قوله تعالي: «وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلٰادِ». و مثل ذلك من الآيات كثيرة في الكتاب المجيد.

فالمقصود نهي المؤمنين عن إعانة كل منهم الآخر في الإثم. و بهذا البيان تتمّ دلالتها علي مفاد هذه القاعدة.

و يدل علي ذلك أولا: أنّ في التعاون لما أخذ استناد الفعل إلي الطرفين فكل منهما في الحقيقة فاعل الإثم، و الآية بصدد النهي عن شي ء زائد غير أصل فعل الإثم.

و ثانيا: أنّ وقوع إثم واحد من جماعة- بحيث كانوا مشتركين في فعله فيستند إلي جميعهم- أمر نادر الوقوع، و من المستبعد جدا نظر الآية إلي ذلك.

و ثالثا: نصّ

بعض أهل اللغة علي أنّ التعاون المسند إلي القوم، بمعني إعانة بعض القوم بعضا، كما عن القاموس و المنجد. و في الصحاح: تعاون القوم: أعان بعضهم بعضا، و كذا صرّح به في المصباح المنير.

و إنّ مقارنة الإثم و العدوان في تعلق النهي قرينة علي إرادة التحريم من النهي عن الإثم؛ إذ لا ريب في حرمة الإعانة علي الظلم و العدوان؛ لدلالة النصوص المستفيضة علي ذلك.

و حاصل الكلام: أنه لا يبقي أيّ شك في دلالة الآية علي مفاد هذه القاعدة- و هو حرمة الإعانة علي الإثم- بعد ملاحظة ما بيّناه في الاستدلال لذلك.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 131

الرابع: السنة.

فقد دلّت علي هذه القاعدة- مضافا إلي ما جاء في كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه- نصوص أخري متظافرة علي حرمة الإعانة علي بعض المحرّمات كالإعانة علي القتل و صنع الخمر و أخذ الربا و مطلق الظلم.

فمنها: ما ورد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أعان علي مؤمن بشطر كلمة لقي اللّه عز و جل و بين عينيه مكتوب؛ آيس من رحمة اللّه». «1» و رواه الصدوق باسناده عن ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و منها: ما ورد في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«من أعان ظالما علي مظلوم لم يزل اللّه عليه ساخطا حتي ينزع من معونته». «2»

و قد دلّ علي هذا المعني نصوص متظافرة «3» و مثله ما رواه الراوندي في نوادره بسنده الصحيح عن موسي بن جعفر عن آبائه عليهم السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله … من أعان ظالما علي ظلمه و هو يعلم أنّه ظالم فقد برئ من الإسلام».

«4»

و روي عنه صلّي اللّه عليه و آله بهذا الاسناد، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

«إذا كان يوم القيامة نادي مناد أين الظلمة و أعوان الظلمة؟ من لاق لهم دواة أو ربط لهم كيسا أو مدّ لهم مدّة احشروه معهم». «5»

و منها: النبوي المروي بطرق عديدة عن أبي جعفر و عن الصادق عن

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 19، ص 9، ب 2 من القصاص في النفس ح 4.

(2) وسائل الشيعة: ج 11، ص 345، ب أبواب جهاد النفس ح 5.

(3) وسائل الشيعة: ج 11، ب 80 من أبواب جهاد النفس.

(4) نوادر الراوندي: ص 17.

(5) المصدر: ص 19.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 132

آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: «لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بايعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه». «1» و من الواضح عدم كون الغارس و الحامل فاعل المعصية، بل معين لفاعلها.

و مثله ما ورد عن علي عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الربا و آكله و بايعه و مشتريه و كاتبه و شاهديه». «2» فانّ كاتب الربا و شاهده ليسا آخذ الربا و لا معطيه، بل من قبيل المعين علي ذلك.

و من النصوص الدالة علي مفاد هذه القاعدة ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن السكوني عن أبي عبد اللّه عن آبائه عن علي عليه السّلام- في حديث- قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: و من أمر بسوء أو دلّ عليه أو أشار به فهو شريك». «3» فانّ الأمر بالسوء و الإثم و

الدلالة عليه و الاشارة إليه من أبرز مصاديق الإعانة. و هذه الرواية من أدلّ ما في المقام؛ إذ تدل علي مفاد هذه القاعدة علي نحو الكبري الكلية، بلا اختصاص بمورد.

و منها: ما رواه الصدوق في الفقيه و الخصال و المجالس بطرقه المختلفة عن الصادق عليه السّلام قال: «حسب المؤمن نصرة أن يري عدوّه يعمل بمعاصي اللّه» «4»؛ حيث دلّ علي قطعية حرمة الإعانة علي المعصية و المفروغية عنها بفحوي الخطاب و الأولوية، كما هو واضح.

و منها: ما ورد في النصوص المستفيضة المتظافرة عن الباقر

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 12، ص 165، ب 55، مما يكسب به ح 4 و 5.

(2) وسائل الشيعة: ج 12، ص 430، ب 4 من الربا، ح 2 و 3 و 4.

(3) وسائل الشيعة: ج 11، ص 398، ب 1 من الأمر و النهي ح 21.

(4) المصدر: ج 11، ص 409، ب 5 من الأمر و النهي، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 133

و الصادق عليهما السّلام: «من علّم باب ضلال كان عليه مثل وزر من عمل به و لا ينقص اولئك من أوزارهم شيئا». «1» فان تعليم باب الإثم و الضلال من مصاديق الإعانة و من مقدماتها البعيدة فكيف بمقدماتها القريبة الممحضة لإيجاد الإثم.

و منها: ما روي عن الصادق عليه السّلام بطرق عديدة- في حديث- قال عليه السّلام: «و إذا رأي المنكر و لم ينكره و هو يقوي عليه فقد أحبّ أن يعصي اللّه، و من أحب أن يعصي اللّه فقد بارز اللّه بالعداوة». «2» بتقريب أنّه إذا كان ترك إنكار المنكر و الرضا بوقوع المعصية و حبّها في حكم مبارزة اللّه بالعداوة، فكيف بالاعانة علي معصية

اللّه؟! فيدل هذا الحديث الشريف علي حرمة الاعانة علي الإثم بالفحوي.

و منها: صحيح أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين قال: «اياكم و صحبة العاصين و مجاورة الفاسقين احذروا فتنتهم و تباعدوا من صاحبتهم». «3»

و منها: ما رواه الكشي في رجاله بسنده المعتبر عن صفوان الجمّال أنّ أبا الحسن موسي عليه السّلام قال له:

«كل شي ء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا. قلت: أيّ شي ء؟ قال عليه السّلام: إكراؤك جمالك من هذا الرجل، يعني هارون- إلي أن قال عليه السّلام- يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟

قلت: نعم، قال عليه السّلام: أ تحب بقاءهم حتي يخرج كراؤك؟ قلت: نعم. قال عليه السّلام: فمن أحب بقاءهم فهو منهم، و من كان منهم كان ورد النار، قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها». «4»

و منها: ما رواه علي بن إبراهيم بسنده عن الصادق عليه السّلام قال:

______________________________

(1) المصدر: ج 11، ص 436، ب 16، من الأمر و النهي.

(2) وسائل الشيعة: ج 11، ص 501، ب 37 من الأمر و النهي، ح 5.

(3) المصدر: ج 11، ص 503 ب 38 من الأمر و النهي، ح 3. و فيه: «ساحتهم» بدل «صاحبتهم».

(4) المصدر: ج 11، ص 502، ب 37 من الأمر و النهي، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 134

«قال عليه السّلام: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يجلس مجلسا ينتقص فيه امام أو يغتاب فيه مؤمن. إنّ اللّه يقول في كتابه: وَ إِذٰا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيٰاتِنٰا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّٰي يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ». «1» فانه دلّ علي المطلوب بالفحوي.

إلي غير ذلك من النصوص المتفرقة في مختلف أبواب الفقه، يجدها المتتبع في مظانّها، فقد

دلّ بعضها علي مفاد هذه القاعدة علي نحو الكبري الكلية و أما ساير النصوص الواردة في الموارد المختلفة فبعد إلقاء الخصوصية عن مواردها و استظهار كبري حرمة الإعانة علي المعصية من جميعها تتمّ دلالتها علي هذه القاعدة، كما هو الحق؛ حيث لا خصوصية لهذه الموارد إلّا كونها معصية و كون الاتيان بمقدماتها و تهيئة شرائطها إعانة علي الاثم و المعصية.

الخامس: أدلة وجوب النهي عن المنكر.

بتقريب: أنّ المستفاد منها وجوب دفع المنكر و قلع مادّة الفساد. و إنّ وجوب دفعه مناقض للإعانة علي وقوعه. فيستلزم وجوب النهي عنه حرمة الإعانة عليه، لزوما بيّنا بالمعني الأخص.

و بعبارة أخري: إنّ أدلّة وجوب النهي عن المنكر تدل بالدلالة الالتزامية علي حرمة الإعانة علي فعل المنكر، فيكون مفاد هذه القاعدة مدلول أدلّة وجوب النهي عن المنكر بالدلالة الالتزامية؛ لأنّ حرمة الإعانة علي الإثم لازم لوجوب النهي عنه، لزوما بيّنا بالمعني الأخص.

و أما دلالتها علي وجوب دفع المنكر؛ فلأنّه لا معني لوجوب رفع المنكر

______________________________

(1) المصدر: ج 11، ص 504، ب 38، ح 8.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 135

في نظر العقل؛ لأنّ ما وقع من الإثم في الخارج لا ينقلب عما هو عليه. فالممكن عقلا هو المنع عن وقوع الإثم مطلقا، سواء اشتغل به الفاعل أو لم يشتغل.

فكما أنّ متعلّق نهي الناهي هناك ما هو في معرض التحقق من الإثم بغرض دفعه و المنع عن وقوعه، كذلك في المقام؛ لأنّ الإعانة إنّما هي علي الإثم الذي في معرض التحقق لغرض إيجاده و المساعدة علي وقوعه. و لمّا يجب دفع الإثم و المنع عن وقوعه، يحرم الإعانة علي إيجاده و المساعدة علي وقوعه.

و بهذا التقريب تتم دلالة أدلة النهي عن المنكر علي حرمة

الإعانة علي الإثم. و لا سيما مع تلك التأكيدات الواردة فيها علي وجوب الانكار بالقلب و اللسان و اليد، و تعذيب طائفة من الأخيار في الامم السالفة لمداهنتهم مع أهل المعاصي، و ما ورد من النهي عن الرضا بفعل المعاصي و الآثام و الأمر بملاقاة أهلها بالوجوه المكفهرة؛ أي العبوسة.

كما ورد عن الامام الحسن بن علي العسكري عليه السّلام في تفسيره عن آبائه، عن النبي صلّي اللّه عليه و آله في حديث قال:

«لقد أوحي اللّه إلي جبرئيل و أمره أن يخسف ببلد يشتمل علي الكفار و الفجار. قال جبرئيل: يا رب أخسف بهم إلّا بفلان الزاهد ليعرف ما ذا يأمره اللّه فيه. فقال: اخسف بفلان قبلهم. فسأل ربه قال عليه السّلام: يا رب عرّفني لم ذلك و هو زاهد عابد؟ قال: مكّنت له و أقدرته فهو لا يأمر بالمعروف و لا ينهي عن المنكر، و كان يتوفّر علي حبهم في غضبي.

فقالوا: يا رسول اللّه فكيف بنا و نحن لا نقدر علي إنكار ما نشاهده من منكر؟ فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لتأمرن بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر أو ليعمّنّكم عذاب اللّه. ثم قال صلّي اللّه عليه و آله: من رأي منكم منكرا فلينكر بيده ان استطاع. فإن لم يستطع فبلسانه. فان لم يستطع فبقبله.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 136

فحسبه أن يعلم اللّه من قلبه أنّه لذلك كاره». «1»

و ما رواه الصدوق في العيون و العلل عن أحمد بن زياد جعفر الهمداني، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي قال:

«قلت لأبي الحسن علي بن موسي الرضا عليه السّلام: يا ابن رسول اللّه

ما تقول في حديث روي عن الصادق عليه السّلام قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين عليه السّلام بفعال آبائها؟

فقال عليه السّلام: هو كذلك. فقلت: قول اللّه عز و جل: وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْريٰ، ما معناه؟ قال عليه السّلام:

صدق اللّه في جميع أقواله، و لكن ذراري قتلة الحسين عليه السّلام يرضون بفعال آبائهم و يفتخرون بها، و من رضي شيئا كان كمن أتاه. و لو أنّ رجلا قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند اللّه عز و جل شريك القاتل، و إنما يقتلهم القائم عليه السّلام إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم». «2»

و ما رواه البرقي في المحاسن عن محمد بن مسلم رفعه، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّما يجمع الناس الرضا و السخط، فمن رضي أمرا فقد دخل فيه و من سخطه فقد خرج منه». «3»

و ما ورد عن علي عليه السّلام في نهج البلاغة، قال: «الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه، و علي كل داخل فيه باطل إثمان: إثم العمل به، و إثم الرضا به». «4»

و ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أمرنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن نلقي أهل المعاصي بوجوه

______________________________

(1) الوسائل: ج 11، ص 406 ب 3 من الأمر و النهي، ح 12.

(2) وسائل الشيعة: ج 11، ص 409، ب 5 من الأمر و النهي، ح 4.

(3) المصدر: ص 411، ح 9.

(4) المصدر: ح 12.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 137

مكفهرّة». «1» و المكفهر: العبوس، من اكفهرّ الرجل إذا عبس، كما عن الجوهري.

هل هي حكم أو غيره؟

لا إشكال في كون

مفاد هذه القاعدة الحكم التكليفي، و هو حرمة الاعانة علي الإثم، كما ينادي بذلك نصّها. و عليه فاحتمال كونه أمارة أو أصلا لا يعبأ به.

و لا يخفي أنّ حرمة الإعانة علي الإثم و إن كانت حكما تكليفيا، و لكنّها تستتبع الحكم الوضعي في المعاملات، حيث توجب فسادها. و ذلك لما تقرّر في محلّه من أنّ النهي في المعاملات يوجب الفساد. و هذا إنّما فيما إذا انطبق علي البيع عنوان الإعانة علي الإثم؛ حيث يتعلّق النهي حينئذ بأصل البيع، لا بعض شرائطه أو أجزائه الغير المقوّمة.

حالها مع معارضة ساير القواعد

إذا وقع التعارض بين هذه القاعدة و بين ساير القواعد، فقد تقدّم هذه القاعدة علي غيرها، و قد يكون الأمر بالعكس.

فإذا وقع التعارض بينها و بين قاعدة العدل و الانصاف

بأن يلزم من تقسيم المال بالسوية إعطاء جزء من المال إلي غير مستحقه، فان علم المعطي إليه عدم استحقاقه لما وصل إليه بالتقسيم يكون تصرفه فيه معصية و إثما. فيكون التقسيم بالسوية حينئذ مقدمة لوقوعه في هذا الإثم. فيتحقق به الإعانة علي الإثم فيدخل في هذه القاعدة.

______________________________

(1) المصدر: ج 11، ص 413، ب 6، ح 1، و الكافي: ج 5، ح 10.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 138

فحينئذ تقدّم قاعدة العدل و الانصاف؛ حيث لا مناص من العمل بها لا حراز إيصال المال- و لو ببعضه- إلي مالكه الواقعي، كما حرّرنا ذلك في الاستدلال بالدليل العقلي لهذه القاعدة. هذا مضافا إلي عدم قصد إعطاء المال إلي غير مستحقه، بل المقصود من التقسيم بالسوية ليس إلّا إحراز إيصال المال- و لو بعضه- إلي مالكه الواقعي، و إن يعلم المقسّم بايصال جزء من المال المتردد إلي غير مالكه بهذا التقسيم.

و

هذا الكلام بعينه يجري في قاعدة القرعة.

و أما إذا وقع التعارض بين قاعدة السلطنة و بين هذه القاعدة

فلا إشكال في تقديم هذه القاعدة؛ لأنّ سلطنة الانسان علي ما له إنّما هي ثابتة في نظر الشارع فيما إذا لم يوجب إعمالها معصية اللّه و لا إيذاء المؤمنين و التعدي إليهم. كما لو آجر شخص بيته للإتيان بالمحرّمات، كإجراء عملية الغناء و الموسيقي و صنع الخمر و ساير الاثام و الفواحش، أو آجر دابته أو سيارته لحمل الخمر و موارد الفساد، أو لحمل عمّال الطواغيت و الظلمة و حكام الجور، كما أشير إليه في رواية صفوان الجمّال السابق آنفا.

فيقع التعارض بين القاعدتين في مثل هذه الموارد؛ لأنّ قاعدة حرمة الاعانة علي الإثم تقول: إنّ ذلك إعانة علي الاثم و المعصية و العدوان، و هو حرام. و لكن قاعدة السلطنة تقول: الناس مسلّطون علي أموالهم، و مقتضي سلطنة المالك علي ما له جواز تصرّفه فيه و الانتفاع به كيف شاء.

و لا ريب في تقديم قاعدة حرمة الاعانة علي الإثم، لأنّ النهي و التحريم يرفعان السلطنة شرعا، فلا يبقي جواز التصرف بعد ما ارتفعت السلطنة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 139

بتعلّق النهي و التحريم.

و أما إذا وقع التعارض بين هذه القاعدة و بين قاعدتي نفي الحرج و الضرر

فالأقوي تقديمهما علي هذه القاعدة؛ لأنهما حاكمان علي جميع الأحكام الأولية، حتي علي فعل الإثم و المعصية نفسه، فضلا عن الإعانة عليه. مثال ذلك كما لو وقع الشخص في العسر و الحرج في عيشه إذا لم يبع العنب ممن يعلم أنّه يصنعه خمرا أو لو يعمل في دوائر الدولة الجائرة و خدمة السلطان.

و لكن لا بدّ من ملاحظة الأهمّ

فالأهمّ في مثل المقام، فربّ حرج و ضرر لا يصلح لرفع حرمة الإعانة علي بعض المعاصي و الآثام؛ لما لها من الأهمّية في نظر الشارع؛ بحيث يقطع بعدم رضي الشارع بوقوعه بأيّ وجه.

هذا، و لكن يظهر من الشيخ الأنصاري تقديم هذه القاعدة علي قاعدتي نفي الضرر و الحرج. و وجّه ذلك بأنّ حرمة الإعانة علي الإثم ثابتة بحكم العقل، فلا تقبل التخصيص بأدلّة نفي الضرر و الحرج الثابتة من الشارع.

فانه قال: «لا يخفي أنّ أدلّة حرمة الإعانة أقوي من تلك؛ لكونها مطابقة لحكم العقل بقبح الإعانة علي القبيح، فلا تقبل التخصيص بأدلّة نفي الضرر و الحرج؛ لأنّ نفيهما في المقام بالشرع لا باستقلال العقل». «1»

و لكن يرد عليه لزوم زيادة الفرع علي الأصل؛ لأنّ أدلّة كثير من

______________________________

(1) القضاء و الشهادات: ص 238.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 140

المحرّمات و الواجبات محكومة بدليل نفي الضرر و الحرج، فكيف لا يكون أدلة حرمة الإعانة عليها كذلك؟! هذا مضافا إلي أنّ الدليل العقلي القائم علي حرمة الإعانة علي الإثم يبتني علي قبح الإثم المعان عليها عقلا؛ لأنها معصية للمولي. و لا يلزم من ذلك ثبوت أصل الحرمة بحكم العقل و إنّما العقل يحكم بقبح فعل ما ثبت كونه معصية و حراما و لو بدليل الشرع، أي ما ثبت منعه و تحريمه من قبل المولي يحكم العقل بقبح الاتيان به. فاذا ارتفع أصل المنع و التحريم عن الفعل الحرام بدليل نفي الضرر و الحرج فلا معني لحرمة الإعانة عليه حينئذ.

التطبيقات الفقهية

قد تبيّن من خلال ما بيّنّاه سابقا كثير من موارد جريان هذه القاعدة و تطبيقاتها الفقهية، و مع ذلك ينبغي هاهنا ذكر نماذج أخري من تطبيقاتها

المصرّح بها في نصّ كلمات فحول الفقهاء من القدماء و المتأخرين.

فنقول: قد أفتي الفقهاء- من القدماء و المتأخرين- في موارد عديدة من هذه القاعدة بمفادها، و استدلوا بها لفتاواهم، كما في الإعانة علي القتل و الظلم، و سبق نقله عن الشيخ الطوسي في المبسوط، و نحو ذلك مما لا يحصي في كلماتهم. و نكتفي هاهنا بذكر نماذج من كلمات الفقهاء الذين استدلوا بنص هذه القاعدة لفتاواهم.

و أوّل من استدلّ بنص هذه القاعدة فيما وصلت إليه هو الشيخ الطوسي؛ حيث أفتي بحرمة إعطاء الزكاة إلي الفقير المقيم علي المعصية معلّلا بأنه إعانة علي المعصية. قال قدّس سرّه: «فان كان فقيرا نظر فان كان مقيما

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 141

علي المعصية لم يعطه؛ لأنه إعانة علي المعصية، و إن تاب يجوز أن يعطي من سهم الفقراء». «1»

و كذا حكم ببطلان الوصية علي إجارة الملك للبيع و الكنائس و نحو ذلك من المحرمات مستدلا بأنها إعانة علي المعصية؛ حيث قال قدّس سرّه: «إن أوصي أن يستأجر به خدما للبيعة و الكنيسة و يعمل به صلبانا، أو يستصبح به، أو يشتري أرضا فتوقف عليها، أو ما كان في هذا المعني، كانت الوصية باطلة؛ لأنّها إعانة علي معصية». «2»

ثم بعده العلّامة الحلي استدلّ بهذه القاعدة في مواضع عديدة من كتبه المختلفة في مختلف الفروع الفقهية.

منها: حكمه بحرمة بيع ما يعلم البائع أنّ المشتري يصنعه صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي، و إن لم يشترط ذلك في العقد. فانه استدل لذلك بقوله: «لأنه إعانة علي المنكر فيكون قبيحا». «3»

و منها: حكمه بحرمة بيع من لم تجب عليه صلاة الجمعة شيئا ممّن وجبت عليه- من الواجدين للشرائط-

عند وقت النداء. فإنّه استدلّ لذلك بهذه القاعدة، و اعترض به علي الشيخ، حيث حكم بالكراهة مستدلا بها. قال قدّس سرّه:

«قال الشيخ: إنّه يكره لأنّ فيه إعانة علي فعل محرّم و هو يقتضي التحريم؛ لقوله تعالي: و لا تعاونوا علي الإثم و العدوان، و الوجه عندي التحريم في حقه أيضا». «4» قوله (أيضا) إشارة إلي مفروغية حرمة البيع وقت النداء علي من

______________________________

(1) المبسوط: ج 1، ص 251.

(2) المصدر: ج 2، ص 62.

(3) مختلف الشيعة: ج 5، ص 22.

(4) التذكرة/ الطبع الجديد: ج 4، ص 109.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 142

وجبت عليه الصلاة مطلقا.

و منها: تعليله بهذه القاعدة في حكمه بحرمة وقف المال علي معونة أهل الفواحش أو قطّاع الطريق أو شاربي الخمر- و لو كانوا مسلمين- بقوله:

«لأنّ الإعانة علي فعل المعصية معصية». «1» و كذا علّل بذلك لعدم جواز الوقف علي البيع و الكنائس و بيوت النيران. «2» و كذا علل بذلك في المقام المحقق الكركي في جامع المقاصد «3» و الشهيد في المسالك «4»، و كذا في الجواهر. «5»

و كذا علّل في التذكرة بهذه القاعدة لاشتراط كون المنفعة في العارية مباحة؛ حيث قال: «و لا بدّ و أن تكون المنفعة مباحة؛ لتحريم الإعانة علي المحرّم، فلو استعار آنية الذهب و الفضة للأكل و الشرب لم يجز. و لو استعار كلبا للصيد لهوا و بطرا لم يجز و إن كان للقوت أو التجارة جاز- إلي أن قال- و كلّ عين يفرض لها منفعة مباحة و محرّمة فانه يجوز إعارتها لاستيفاء المنفعة المباحة، دون المحرّمة». «6»

و من الفروع المستدل لها بهذه القاعدة حكمهم بعدم جواز بذل المال للعدوّ فيما إذا توقف دفعه

و تخلية سبيل الحج علي البذل؛ حيث اختلفوا في ذلك، فحكم بعضهم بوجوب تخلية السبيل حينئذ ببذل المال تحصيلا للمقدمة الوجودية، و أفتي جماعة بعدم جواز ذلك و سقوط الحج؛ معلّلا بأنّ

______________________________

(1) التذكرة/ الطبع القديم: ج 2، ص 429.

(2) المصدر.

(3) جامع المقاصد: ج 9، ص 47.

(4) المسالك: ج 5، ص 335.

(5) جواهر الكلام: ج 28، ص 35.

(6) التذكرة/ الطبع القديم: ج 2، ص 210.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 143

بذل المال حينئذ إعانة علي الإثم و العدوان و هو حرام. كما صرح بذلك في الحدائق. «1»

و منها: حكمهم بحرمة إعطاء الزكاة إلي ابن السبيل و الضيف فيما إذا كان سفرهما معصية. و علّلوا ذلك بهذه القاعدة، كما صرّح بذلك في الرياض؛ حيث قال: «و لو كان سفرهما معصية منعا من هذا السهم بلا خلاف بين العلماء، كما قيل: لما في ذلك من الإعانة علي الإثم و العدوان». «2» و كذا استدل لذلك بهذه القاعدة في الجواهر. «3»

إلي غير ذلك من مختلف الفروع الفقهية الخارجة عن حدّ الاحصاء في المقام.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 14، ص 140.

(2) الرياض: ج 5، ص 167.

(3) جواهر الكلام: ج 15، ص 367.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 145

قاعدة حرمة إهانة المحترمات

اشارة

1- عنوان القاعدة في كلمات الفقهاء 2- قاعدة حرمة إهانة محترمات الدين 3- مدرك القاعدة 4- التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 147

عنوان القاعدة في كلمات الفقهاء

قد تعرّض الفقهاء هاهنا إلي كبريين كلّيتين:

إحداهما: كبري حرمة هتك المحترمات.

و ثانيهما: كبري وجوب تعظيم الشعائر.

و إنّهم، و إن كانوا لم يعنونوهما قاعدة فقهية و لم يطلقوا عليهما عنوان القاعدة، إلّا أنّ من تتبع في كلماتهم يجدها مشحونة من الاستدلال بمضمون القاعدة الاولي، بل و الثانية في كلمات بعضهم، بل يستفاد من كلماتهم المفروغية عن حجية هذه القاعدة؛ حيث إنّهم استدلوا بمفاد قاعدة حرمة إهانة المحترمات في مختلف الفروع الفقهية بعناوين و ألفاظ مشابهة لها، مثل حرمة الاستخفاف بحكم اللّه و الاستهانة بحرماته و انتهاكها و تحقير المحترمات و إهانتها و هتك الشعائر. و استدل بعضهم لذلك أيضا بكبري وجوب تعظيم الشعائر، و أنّ هتكها و إهانتها مناف لتعظيمها الواجب. و سيأتي ذكر نماذج من كلماتهم في التطبيقات الفقهية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 148

قاعدة حرمة إهانة محترمات الدين

يقع الكلام تارة: في حرمة إهانة ما هو محترم في الدين، و أخري: في وجوب تعظيم الشعائر الدين. فههنا قاعدتان، نقدّم الكلام في الأولي.

مفاد القاعدة:

المقصود من المحترمات في الدين

كلّ ما هو من مقدّسات الشريعة و معالم الدين، و ما كان من مجعولات الشرع، و ما ورد أمر الشارع باحترامه و تعظيم شأنه، كالكعبة و المساجد الأربعة و ساير المساجد و قبر النبي صلّي اللّه عليه و آله و قبور الائمة عليهم السّلام و ساير المشاهد المشرفة و القرآن و الكتب الروائية و التربة الحسينية، و علماء الدين و فقهاء أهل البيت عليهم السّلام و قبورهم، بل المؤمنين كلّهم حيّهم و ميّتهم، و نحو ذلك مما هو متعلق بالدين و منتسب إلي الشريعة بنحو. و يعبّر عنها بشعائر اللّه و شعائر الدين. و هذه القاعدة تفيد حرمة إهانة هذه

الأمور الدينية المحترمة عند صاحب الشرع، بل كل ما عدّ محترما في الشريعة، حتي الميّت المسلم.

قال في كشف الغطاء في مسألة الاستنجاء: «المحترمات و هي علي أقسام منها: ما يستتبع التكفير فيلزم منه عدم التطهير، كالاستنجاء بحجر الكعبة و ثوبها و كتابة القرآن (كأنه كذا إهانة لا يقصد الشفاء) و أسماء اللّه و صفاته المقصود نسبتها إليه و إن لم تكن مختصّة به و أسماء النبي و كتب الأنبياء و أسمائهم و اثواب عليها اسماء اللّه و ماء غسل به مثلا بقصد الشفاء و ماء زمزم بقصد الاهانة …

و يحتمل إلحاق كتب اخبارنا و الزيارات و الدعوات و نحوها و أسماء

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 149

ائمتنا و التربة الحسينية و ضرائح الائمة و ابعاضها و ابعاض ثيابها و القناديل مع قصد الاهانة … و الظاهر تسرية الحكم إلي اعاظم الصحابة و أكابر الشهداء كالعباس عليه السّلام و باقي شهداء كربلا.

و منها: ما لا يستتبع العصيان و يدخل في جملة المكروهات كالمأخوذ من قبور المؤمنين و ما يحاذيها و ما أخذ للتبرك من ثياب العلماء و الصلحاء و السادات- إلي أن قال- فالمحترمات بين ما يحترم لذاته و ما يحترم باعتبار ما قصد به من الجهات، فقد يرتفع الاحترام بالقصد ككناسة المحترمات و ما نقل من البنيان من التراب و الآلات». «1»

و لا يخفي ما في كلامه من استتباع الاهانة عدم التطهير؛ لما سيأتي من عدم منافاة ذلك مع التطهير.

ثم إنّه لا فرق في المحترمات الدينية المحرّم هتكها بين أن تكون من الذوات و الأعيان كالمأمور المذكورة، و بين أن تكون من الأحكام. فانّ كلّ حكم الهي من أحكام الشريعة يحرم استحقاره

و الاستخفاف و الإهانة به، بلا فرق بين الواجبات و المحرمات، بل و المندوبات، و لا سيما المتخذة منها شعارا للإيمان و الإسلام كصلاة الجماعة و الجمعة و العيد و الاعتكاف.

فإنّ استحقار هذه الشعائر و إهانتها لا ريب في حرمته بمقتضي هذه القاعدة.

نعم مجرد فعل المحرّمات و ترك الواجبات لا يكون من مصاديق هذه القاعدة ما لم يكن عن استحقار و استخفاف، فاذا كان بقصد ذلك يدخل في كبري هذه القاعدة، بل و ترك بعض المندوبات يدخل فيها إذا كان بقصد

______________________________

(1) كشف الغطاء: ج 1، ص 115- 114.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 150

ذلك، كترك صلاة الجماعة و العيد و الاعتكاف عن استحقار و إعراض، فلا إشكال في حرمته إذا كان هتكا و إهانة بهذه المندوبات و نحوها عرفا.

و أمّا الإهانة

فتارة: تتحقق بالفعل الصادر عن الاعراض القلبي و قصد الاهانة، و لو لم يكن الفعل بنفسه مصداقا للإهانة كتخريب المسجد بقصد الاهانة، لا بقصد التعمير و قطع عضو الميت، لا بقصد إنجاء نفس محترمة بترقيع العضو المقطوع من الميت، أو ترك بعض المندوبات كترك الحضور في صلاة الجمعة و الجماعة و العيد و الاعتكاف عن استحقار و استخفاف.

و اخري: بمجرد الفعل و لو لم يقصد به الاهانة. و ذلك في الأفعال التي تعدّ بنفسها من مصاديق الاهانة و الهتك عرفا كإلقاء المصحف علي النجاسة أو خرقه أو الفحش و سبّ الائمة (العياذ باللّه).

فهذه الأفعال بنفسها تعدّ هتكا و إهانة في نظر أهل العرف، من غير حاجة إلي قصد الاهانة و الهتك، إلّا إذا قامت القرينة القطعية علي كون صدورها من غير جهة الهتك، كتخريب المسجد للتعمير أو مسح الظهر أو الاليتين بالضرائح المقدّسة

لأجل الاستشفاء.

و أمّا كون الاهانة و الهتك من العناوين القصدية لا ينافي كون بعض الأفعال بذاته من مصاديق الهتك عرفا؛ حيث من الواضح أنّه لا دخل لقصد الهتك في صدق الاهانة و الهتك علي الأفعال المتمحّضة في الهتك في نظر أهل العرف. فإنّهم يحكمون بصدق الاهانة بمجرد صدور هذه الأفعال من أيّ فاعل من غير انتظارهم لإحراز قصد الهتك من فاعلها.

و هذا بخلاف الأفعال غير المتمحّضة في الهتك؛ حيث لا يحكمون

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 151

بصدق الاهانة ما لم يحرزوا صدورها بقصد الاهانة و الهتك، بل يحملونها علي الأغراض العقلائية و المصالح المعلومة لفاعلها، و هذا من مصاديق الحمل علي الصحة. فهذه الأفعال غير المتحمّضة في الهتك إنّما يتوقف دخولها في عنوان الهتك علي صدورها من فاعلها بقصد الاهانة و الهتك.

و أما الأفعال المتمحّضة في الهتك فيكفي علم فاعلها بأنها متمحّضة في الهتك؛ حيث يصدق حينئذ صدور الهتك منه عمدا.

و الظاهر أنّ قطع عضو الميت و شقّه من هذا القبيل، إلّا أنّ الشارع صرح بحرمة ذلك نفسه في النصوص المعتبرة، اللّهم إلّا أن تحمل هذه النصوص علي الصادر بنية الهتك و الاهانة، و فيه تأمّل؛ لإباء لسان بعض هذه النصوص عن هذا الحمل.

فتحصّل أنّ كل فعل قصد الفاعل به هتك محترمات الدين لا إشكال في حرمته فيما بينه و بين اللّه. كما أنّه لا إشكال في حرمة الأفعال المتمحّضة في الهتك، و لو لم يقصد به فاعله الهتك و الاهانة، فيما إذا أمكن انفكاك قصد الهتك عن مثل هذه الأفعال.

هذا كله في قصد الهتك

و أما قصد أصل عنوان الفعل فلا ريب في دخله في ترتب الحكم؛ لوضوح عدم توجّه التكليف إلي الغافل المحض عن

أصل الفعل. و ذلك مثل أن تلصق نجاسة برجل شخص نائم فحرّك رجله حالة النوم فأصاب وجه ميت مسلم أو ساير أعضاء بدنه، أو كان وجه شخص حال المشي إلي السماء و لم يكن ملتفتا إلي تحت رجله فلصق بها نجاسة أو قذارة فأصاب جسد ميّت مسلم، و نحوه من المحترمات الصادرة غفلة عن أصل الفعل.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 152

حاصل الكلام: أنّ مفاد هذه القاعدة تحريم كل فعل يتحقق به إهانة المحترمات في الدين، سواء كان لأجل قصد فاعله الهتك من فعله أو لصدق عنوان الاهانة علي فعله عرفا.

مدرك القاعدة

اشارة

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بوجوه:

الأول: حكم العقل:

بتقريب أنّ العقل يحكم باستحقاق العبد للذم و العقاب باستخفافه و إهانته بما هو محترم عند مولاه؛ حيث يري ذلك من العبد خروجا عن رسم العبودية و طغيانا علي مقام المولوية و كفرانا للنعمة.

الثاني: الإجماع و الضرورة

: و قد صرّح بذلك المحقق النراقي بقوله: «قد ثبت بالعقل و النقل حرمة الاستخفاف و الإهانة بأعلام دين اللّه مطلقا و انعقد عليه الاجماع، بل الضرورة». «1»

أما الاجماع فلاتفاق جميع العلماء علي حرمة إهانة مقدسات الشريعة و لم يسمع مخالف منهم. و لم يستدلوا لإثبات هاتين الكبريين بنص من الكتاب و السنة في كلماتهم ليكون مدركيا. و لا يحتمل استنادهم إلي نصّ خاص في ذلك و إلّا لا نشير إلي ذلك النص في كلام واحد منهم.

نعم يحتمل استنادهم إلي حكم العقل، و لكن من البعيد التفاتهم و عنايتهم إلي حكم العقل في حكمهم بذلك. و أما الضرورة فلأنّ حرمة ذلك من المسلّمات عند الفريقين و مورد اتفاق جميع أهل الإسلام و مرتكز في

______________________________

(1) عوائد الايام: ص 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 153

أذهان جميع المسلمين.

الثالث: ما دلّ من نصوص الكتاب و السنة
اشارة

علي تحريم إحلال شعائر اللّه و نقض حريم معالم الدين و التعدّي عن حرمات اللّه، و حرمة إهانة الأنبياء و الأوصياء و الأولياء و العلماء و قبورهم، و حرمة هتك القرآن و المساجد و الكعبة، و حرمة تنجيسها، و ما دلّ من النصوص علي أنّ حرمة الميّت المسلم كحرمته حيّا. و قد علّل بذلك في هذه النصوص حرمة قطع أعضاء الميّت، فيستفاد منها كبري كلية و هي قاعدة حرمة إهانة مقدسات الشريعة و محترمات الدين. فإنّ تعليل تحريم قطع أعضاء الميت في هذه النصوص بأنّ له حرمة كحرمة الحي يدلّ علي أمرين، أحدهما: كون تحريم قطعها لأجل كونه هتك حرمة الميت، ثانيهما: كبري حرمة هتك كل ما هو محترم عند الشارع.

أمّا الكتاب:

فقوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ». «1» هذه الآية و إن فسّرت بتحريم المخالفة العمليّة لأحكام الدين و التعدي عن حدود اللّه بترك الواجبات و فعل المحرمات، إلّا أنّها تدل بمفهوم الفحوي علي حرمة إهانة شعائر اللّه و الاستخفاف بحرماته؛ لما فيه من و هن الدين و انتهاك حرمة اللّه و الشريعة و القرآن و النبي صلّي اللّه عليه و آله، بل يمكن أن يقال إنّ ذلك من أبرز مصاديق إحلال شعائر اللّه و إباحة حرماته.

هذا، مع أنّ لفظ الاحلال في أصل اللغة جاء لمعان كإنزال الشي ء و إهباطه من مكانه، و جعل الشي ء حلالا، و الحلول في شي ء، و فتح الشي ء بالمعني المضادّ للغلق. و المعني المناسب للآية أحد المعنيين الأولين.

______________________________

(1) المائدة: 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 154

فعلي المعني الأوّل يكون معني الآية: لا تنزلوا شعائر اللّه و لا تهبطوا معالم الدين عن مكانتها المقدسة

المحترمة في الشريعة، و إنّ من أبرز مصاديق إنزال شعائر اللّه و إهباط معالم الدين عن مكانتها إهانتها و تحقيرها و هتكها.

و علي المعني الثاني: يكون المقصود لا تبيحوا ما حرّمه إلّا بارتكابها و لا ما أوجبه اللّه بتركها، و بعبارة أخري لا تجعلوا المحرمات و الواجبات حلالا مباحا بمخالفتها. فيكون النهي عن إحلالها حينئذ كناية عن المنع عن مخالفة أحكام اللّه و التعدي عن حدوده بفعل المحرمات و ترك الواجبات.

و لكن المعني الأوّل هو الأنسب؛ لعدم حاجته إلي التقدير، و ليس ذلك بيد العبد، فلا مناص من الكناية و التقدير علي هذا الوجه.

أما الشعائر فسيأتي أنّها معالم الدين و علائم الشريعة و آثارها و متعبّدات اللّه، و كل ما يعبد اللّه فيه من الأماكن المقدسة و المشاهد المشرّفة أو يعبد به اللّه، كالأنبياء و الأئمة و الكتب السماوية و كتب الأحاديث؛ حيث يطاع اللّه و يعبد بطاعة الأوامر و النواهي الصادرة عن الأنبياء و الأولياء و امتثال ما ورد من أحكام اللّه في القرآن و كتب الأحاديث.

و أما الحرمات جمع الحرمة، و هي في الأصل بمعني المنع. و عليه فلفظ الحرمات في أصل اللغة بمعني الممنوعات و الشي ء المحترم سمي بذلك بلحاظ منع التعدي إليه و كذا الحريم و الحرام.

و عليه فالمقصود من الحرمات الممنوعات من الأشياء و الأفعال و المحرمات منها، بل يمكن تعميمها إلي كل ما هو محترم في الدين بلحاظ منع التجاوز و التعدّي إليه و من أبرز مصاديق ذلك الهتك و إهانته.

فاتضح بما قلنا وجه الفرق بين الشعائر و بين الحرمات، فإنّ الشعائر

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 155

ليست من الممنوعات و المحرمات بل هي محال عبادة

اللّه و مصادر طاعته و أعلام دينه. و أما الحرمات فإمّا هي خصوص المحرّمات، و إمّا هي مطلق المحترمات و عليه فهي أعم من الشعائر مطلقا؛ إذ الشعائر كلها من المحترمات و لكن ليس كل ما هو محترم في الدين من شعائر اللّه كالمتخذ بقصد الشفاء و قبور المؤمنين و فقراء المؤمنين و أمواتهم.

أما السنة:

فقد تعرّضت نصوص كثيرة لكبري هذه القاعدة بألسنة و تعابير مختلفة.

ففي طائفة علّل بهذه الكبري تحريم بعض الكبائر، مثل ما ورد في تعليل تحريم الفرار من الزحف بها رواية الصدوق باسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «حرّم اللّه الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين و الاستخفاف بالرسل و الأئمة العادلة». «1» و ما ورد في تعليل تحريم الربا فيما رواه بهذا الاسناد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في حديث: «و علة تحريم الربا بعد البيّنة لما فيه من الاستخفاف بالمحرم الحرام … و تحريم اللّه عز و جل لها لم يكن ذلك منه، إلّا استخفافا بالمحرّم الحرام و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر». «2» فان استدلاله عليه السّلام لتحريم الفرار من الزحف بأنّ فيه الوهن في الدين و الاستخفاف بالرسل بعد الفراغ عن كبري حرمة كل موجب للوهن في الدين و الاستخفاف بالرسل بعد الفراغ عن كبري حرمة كل موجب للوهن في الدين و الاستخفاف بالرسل. و هذه الكبري هي مفاد هذه القاعدة.

و لا يخفي أنّ الاستخفاف ليس معناه الهتك و الاهانة، نعم قد يكون علي

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11، ص 65، ب 29 من أبواب جهاد العدو ح 2.

(2) وسائل الشيعة: ج 12، ص 426، ب 1 من الربا، ح 11.

مباني الفقه الفعال في

القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 156

نحو يستلزم الاهانة في نظر أهل العرف.

و في طائفة أخري: تفهم هذه القاعدة من تعليل حرمة بعض الأفعال بثبوت الحرمة للشخص أو الشي ء الذي يقع ذلك الفعل عليه أو فيه.

و من هذه الطائفة نصوص علّل فيها الامام عليه السّلام بأنّ حرمة الميت كحرمة الحي، و أنّ حرمته ميتا أعظم من حرمته و هو حيّ في جواب السؤال عن حكم قطع عضو الميت و كسر عظمه؛ حيث إنّه ظاهر في التعليل.

من هذه النصوص صحيح مسمع كردين، قال: «سألت أبا عبد اللّه عن رجل كسر عظم ميّت؟ فقال عليه السّلام: حرمته ميتا أعظم من حرمته و هو حيّ». «1»

و مثله مرسل ابن سنان «2» و كذا تعليله عليه السّلام بذلك لوجوب دفن الميت و مواراته في حديث العلاء بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«في بئر محرج وقع فيه رجل فمات فيه فلم يمكن إخراجه من البئر، أ يتوضّأ في تلك البئر؟ قال عليه السّلام: لا يتوضّأ فيه يعطّل و يجعل قبرا، و إن أمكن إخراجه أخرج و غسل و دفن.

قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: حرمة المسلم ميّتا كحرمته و هو حيّ سواء». «3»

فانّ صحة تعليله عليه السّلام لمنع قطع عضو الميت و كسر عظمه أو لوجوب غسله و كفنه و دفنه بأنّ له حرمة في نظر الشارع فرع المفروغية عن ثبوت كبري حرمة إهانة كل ماله حرمة في نظر الشارع، و إلّا لم يصح تعليل ذلك بأنّ للميّت حرمة، كما أنّ من الواضح المعلوم بمناسبة التعليل و مقتضي سياق الكلام أنّ وجه المنع كون قطع عضو الميت و كسره إهانة بشأنه

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 19، ص 251،

ب 25 من ديات الاعضاء، ح 5.

(2) راجع الوسائل: ج 19، ص 249، ب 25 من ديات الأعضاء، ح 2.

(3) وسائل الشيعة: ج 2، ص 875، ب 51 من الدفن، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 157

و هتكا لحرمته، و إلّا لم يصح تعليل تحريم قطع عضو الميت و كسر عظمه أو وجوب دفنه بأنّ له حرمة كحرمة الحي.

و لا يخفي أنّ المقصود من حرمة الميّت المسلم كونه محترما في نظر الشارع، و من هنا يصلح التعليل بذلك لحرمة قطع عضوه و كسر عظمه؛ حيث إنّه هتك حرمته، و يحرم الإهانة بكل ماله حرمة في نظر الشارع.

و منها: ما علّل فيه تحريم القتال في الأشهر الحرم بحرمة هذه الشهور.

فكأنّ القتال فيها هتك و إهانة بشأنها. و مثله ما علل فيه حرمة الجماع في شهر رمضان بحرمة هذا الشهر.

و منها: ما علّل فيه تحريم مخالفة حكم الفقيه الشيعي بأنه استخفاف بحكم اللّه ورد عليه تعالي. كما في مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال:

«ينظران من كان منكم ممن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانّي قد جعلته عليكم حاكما، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما استخف بحكم اللّه و علينا رد و الراد علينا الراد علي اللّه، و هو علي حد الشرك باللّه». «1»

و منها: ما علّل فيه حرمة الاهانة بالمؤمن و تحقيره بأنّ له الحرمة، و أنّ الاستخفاف به تضييع حرمة اللّه و استخفاف بحرمته تعالي، مثل ما رواه الكليني بسنده في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال لنفر عنده و أنا حاضر: ما

لكم تستخفّون بنا؟ قال: فقام إليه رجل من خراسان فقال: معاذ لوجه اللّه أن نستخفّ بك أو بشي ء من أمرك، فقال عليه السّلام: بلي إنّك أحد

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 18، ص 99، ب 11 من صفات القاضي، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 158

من استخف بي، فقال: معاذ لوجه اللّه أن أستخف بك، فقال عليه السّلام له: ويحك أ لم تسمع فلانا و نحن بقرب الجحفة و هو يقول لك: احملني قدر ميل فقد و اللّه عييت، اللّه ما رفعت به رأسا لقد استخففت به، و من استخفّ بمؤمن فبنا استخف و ضيّع حرمة اللّه عزّ و جلّ». «1»

و ما رواه الصدوق مرسلا عن النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله:

«ألا و من استخفّ بفقير مسلم فلقد استخفّ بحق اللّه و اللّه يستخف به يوم القيامة، إلّا أن يتوب». «2»

و ما رواه بسنده في عقاب الأعمال: «و من أهان فقيرا مسلما و استخف به فقد استخف بحق اللّه و من أهان فقيرا مسلما من أجل فقره و استخف به فقد استخف بحق اللّه و لم يزل في مقت اللّه و سخطه حتي يرضيه». «3»

و في طائفة ثالثة: تستفاد هذه القاعدة من تعلق المنع و النهي بمطلق ما يستخف به دين اللّه تعالي.

فمن هذه الطائفة: ما رواه الصدوق باسناده عن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال سمعت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

«إنّي أخاف عليكم استخفافا بالدين». «4»

فدلّ علي حرمة كل قول و فعل موجب للاستهانة و الاستخفاف بدين اللّه

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 8، ص 592، ب 148 من أحكام العشرة، ح 1 و فروع الكافي: ج 8، ص 102 ح

73.

(2) أمالي الصدوق: ص 514 و من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 13.

(3) وسائل الشيعة: ج 8، ص 590، ب 146 من أحكام العشرة، ح 10 و ثواب الأعمال: ص 283.

(4) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 46، و الوسائل: ب 99 مما يكتسب به ح 18.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 159

و إلّا لم يكن محلّ خوف و من أبرز مصاديقه الهتك و إهانة ما هو محترم في الدين.

و منها: ما رواه في مصباح الشريعة عن الصادق عليه السّلام: «من استهان لحرمة فقد هتك ستر ايمانه». «1»

و منها: ما رواه الشيخ المفيد و الشيخ الطوسي بسندهما عن النبي صلّي اللّه عليه و آله:

«إن اللّه قد حدّد لكم حدودا و حرّم عليكم حرمات فلا تنتهكوها» «2»، إلي غير ذلك من النصوص المتظافرة يجدها المتتبع في مظانّها.

ثم إنّ مفاد هذه القاعدة من قبيل الحكم، و هو حرمة الاهانة و الهتك.

التطبيقات الفقهية

و أما مجاريها و تطبيقاتها الفقهية فهي أكثر من أن تحصي، و نشير هاهنا إلي بعضها.

منها: ما حكم به العلامة في التذكرة «3» من منع كشف العورة في المساجد. و علّل ذلك بقوله: «لما فيه من الاستخفاف بالمساجد». و كذا علّل بذلك المحقق في المعتبر بقوله: «لأنّ ذلك استخفاف بالمسجد و هو محلّ وقار». «4» و مقصوده ما إذا لم يكن أحد في المسجد و إلّا يحرم مطلقا.

و منها، ما قال الوحيد البهبهاني قدس سرّه: «لا يجوز أن يباع و يشتري للكافر؛

______________________________

(1) مصباح الشريعة/ المنسوب إلي الامام الصادق 7: ص 70، الباب الثلاثون.

(2) مستدرك الوسائل: ج 18، ص 11، و أمالي الشيخ المفيد: ص 159 و أمالي الشيخ الطوسي:

ص 511 و بحار

الأنوار: ج 2، ص 263.

(3) التذكرة/ طبع آل البيت: ج 2، ص 431.

(4) المعتبر/ طبع مدرسة الامام أمير المؤمنين: ج 2، ص 543.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 160

لأنه استخفاف، و لأنّ الظن حاصل بأنّ الكافر يستخفّ بالقرآن و يستهين». «1»

و منها: ما حكم به المحقق الكركي قدس سرّه، من جعل الألفاظ و التعابير الدالّة علي الاستهانة في الدين من الالفاظ الموجبة للارتداد؛ حيث قال قدس سرّه: «و أما ألفاظ الردّة و العياذ باللّه، فمنها: الاستهانة في الدين و الاستهزاء بالشرع و نحو ذلك». «2»

و منها: تعليل الشهيد الثاني منع الاستهانة بالمطعوم بأنه من المحترمات؛ حيث قال: «و من المحترم المطعوم؛ لأنّ له حرمة تمنع من الاستهانة به». «3»

و قد نقل هذا التعليل في المدارك «4» عن المحقق في المعتبر و وافقه فيما ثبت احترامه مع المطعومات بالفعل.

و منها: تعليل جماعة من الفقهاء منع غسل الجنابة و الاستحاضة في المسجد علي وجه لا تتعدّي النجاسة إلي المسجد بأنّ فيه الاستهانة المنافية لاحترام المسجد، كما نقله في المدارك. «5»

و يمكن المناقشة فيه أولا: بأنّ غسل الجنابة في المسجد يتوقف علي دخول الجنب في المسجد و هو حرام بلا حاجة إلي التعليل بالاستخفاف.

و ثانيا: بأن يتحقق الاستخفاف و صدق إهانة المسجد عرفا بمجرد الغسل فيه غير معلوم.

و منها: ما يستفاد من كلام صاحب الجواهر من الحكم بحرمة

______________________________

(1) حاشية مجمع الفائدة: ص 95.

(2) رسائل الكركي: ج 2، ص 260.

(3) روض الجنان/ طبع مؤسسة آل البيت: ص 24.

(4) المدارك: ج 1، ص 173.

(5) مدارك الأحكام: ج 6، ص 333.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 161

الاستنجاء بكلّ ما ثبت فيه جهة احترام في الشرع؛

لما في ذلك من الهتك و إهانة محترمات الدين.

قال قدّس سرّه: «و الحاصل كل ما ثبت فيه جهة احترام من الشرع جري عليه الحكم و إن لم يكن مطعوما بالفعل،- إلي أن قال- ثم إنّه يفهم من كثير من الأصحاب بل لم أعثر فيه علي مخالف جريان الحكم في كل محترم، كالتربة الحسينية و غيرها و ما كتب اسم اللّه و الأنبياء و الائمة أو شي ء من كتاب اللّه عليه، بل قد يلحق به كتب الفقه و الحديث و نحوها، بل قد يتمشي الحكم في المأخوذ من قبول الائمة من تراب أو غيره، بل قد يلحق بذلك المأخوذ من قبور الشهداء و العلماء بقصد التبرك و الاستشفاء دون ما لا يقصد، إذ الأشياء منها ما ثبت وجوب احترامها من غير دخل للقصد فيه، و منها ما لا يثبت له جهة الاحترام إلّا بقصد آخذ متبركا أو مستشفيا به، و منها ما يؤخذ من الاناء من طين كربلاء و غيرها، فانه لا يجري عليه الحكم إلّا إذا أخذ بقصد الاستشفاء و التعظيم و التبرك. لكن هل استمرار القصد شرط في ذلك أو يكفي تحقق القصد أو لا؟ إشكال.

هذا، و لا يخفي أنّه لا يليق بالفقيه الممارس لطريقة الشرع العارف للسانه أن يتطلب الدليل علي كل شي ء بخصوصه من رواية خاصة و نحوها، بل يكتفي بالاستدلال علي جميع ذلك بما دل علي تعظيم شعائر اللّه، و بظاهر طريقة الشرع المعلومة لدي كل أحد، أ تري يليق به أن يتطلب رواية علي عدم جواز الاستنجاء بشي ء من كتاب اللّه.

ثم ليعلم إنّ ما ذكرنا من حرمة الاستنجاء بالمحترم إنّما هو حيث لا يكون مع قصد الاهانة، و إلّا فقد

يصل فاعله بالنسبة إلي بعض الاشياء إلي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 162

حد الكفر و العياذ باللّه». «1»

هذا الكلام أحسن ما قيل في المقام من جهة اشتماله علي نكات نافعة و ظرائف دقيقة و مطالب جامعة في المقام.

و لكن يمكن المناقشة فيما جاء في ذيل كلام من الاكتفاء بما دل علي وجوب تعظيم شعائر اللّه لإثبات حرمة الاستنجاء بكلّ ماله احترام في الشرع.

و ذلك أولا: لعدم إثبات وجوب تعظيم الشعائر بدليل.

و ثانيا: لعدم كون كل محترم في الدين من قبيل شعائر اللّه.

و منها: تعليل حرمة الاستهانة بالخبز و المائدة بأنهما من المحترمات.

قال في الجواهر: «و لعلّ أعظم أسباب حلول النقم و تحويل النعم احتقار النعمة و الاستهانة بجلائل النعم التي أنعم اللّه بها علي عباده خصوصا الخبز فقد أمرنا باكرامه و تعظيمه … و كذا الاستهانة بالمائدة و وطئها بالرجل …». «2»

و منها: ما يستفاد من كلام صاحب الجواهر أيضا من أنّ هاتين القاعدتين عمدة دليل حرمة تنجيس المحترمات، بل صرّح بأنه لا دليل لذلك غيرهما؛ حيث قال: «لا دليل يعتمد عليه في وجوب تجنيب هذه الامور المحترمة، النجاسات و نحوها، غير وجوب التعظيم و الاحترام و حرمة التحقير و الاهانة». «3»

و منها: ما صرّح المحقق الأردبيلي بأن ترك السنن أجمع ليس بحرام

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 2، ص 51- 52.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 1290.

(3) جواهر الكلام: ج 4، ص 224.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 163

و لا فسق و لا بترك مروّة إلّا أن يؤول إلي الاستخفاف بالسنن و عدم المبالات بسنن النبي صلّي اللّه عليه و آله فهو فسق بل كفر. «1»

و منها: ما نقله الشيخ

في المكاسب «2» عن شارح النخبة أنّ ما كان من الطلسمات مشتملا علي استهانة بشي ء من حرمات اللّه- كالقرآن و أبعاضه و أسماء اللّه الحسني و نحو ذلك- فهو حرام بلا ريب.

و منها: تعليل الفقيه المحقق السيد الحكيم لوجوب إخراج المحترمات من بيت الخلاء و البالوعة و نحوها في ذيل كلام صاحب العروة بقوله: «لما عن التنقيح من أنّه ورد متواترا وجوب تعظيمها و ترك الازالة مناف للتعظيم». «3»

و لكن أشكل عليه بقوله: «هذا، و لكن الذي عثرنا عليه من النصوص مما تضمن الأمر بتعظيمها و النهي عن الاستخفاف بها، ظاهر بقرينة السياق و المقام في اعتبار ذلك في الانتفاع بها في الاستشفاء و غيره من فوائدها الجليلة، و ليس فيها دلالة علي أنّ ذلك من أحكامها مطلقا. نعم لا مجال للإشكال في حرمة إهانتها و مبغوضية هتكها، فيكون حكمها حكم المشاهد الشريفة، لا المصحف». «4»

و منها: ما علّل لذلك بهذه القاعدة (أي حرمة الاهانة و هتك المحترمات) المحقق الفقيه السيد الخوئي؛ حيث علّل وجوب إزالة النجاسة عن

______________________________

(1) مجمع الفائدة: ج 13، ص 403.

(2) المكاسب/ تحقيق لجنة التحقيق/ طبع مطبعة باقري: ص 226.

(3) المستمسك: ج 1، ص 518.

(4) المستمسك: ج 1، ص 518.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 164

المحترمات بقوله: «و ذلك لأنّ المناط في الحكم بوجوب الازالة و حرمة التنجيس ليس هو مجرد تنجيس التربة أو الكتاب أو غيرهما من المحترمات ليحكم بجواز إلقاء النجاسة عليها إذا كانت متنجسة قبل ذلك بدعوي أنّ المتنجس لا يتنجس ثانيا، بل هناك أمر آخر أيضا يقتضي الحكمين المتقدمين و هو لزوم الهتك و المهانة من تنجيسها، و لا يفرق في ذلك بين طهارة المحترم

و نجاسته. فان التربة أو الورق بعد ما تنجست بوقوعها في البالوعة إذا ألقيت عليها النجاسة يعد ذلك هتكا لحرمتها و كلما تكرر الالقاء تعدد الهتك و المهانة و كل فرد من الاهانة و الهتك حرام في نفسه و عليه فلو أمكن إخراجها من البالوعة وجب و لو ببذل الأجرة عليه». «1»

و لكنه قدس سرّه ردّ الاستدلال بقاعدة وجوب تعظيم الشعائر لوجوب إزالة النجاسة عن المشاهد المشرفة و منافاة ترك الازالة لتعظيم الشعائر؛ بدعوي عدم دليل علي وجوب تعظيم الشعائر مطلقا. و إنّما التزم به بوجوبه في الجملة معلّلا بأنه لا دليل علي وجوب التعظيم بجميع مراتبه.

قال قدس سرّه: «و دعوي أنّ ترك الازالة ينافي تعظيم شعائر اللّه سبحانه و تعظيمها من الواجبات و قد قال عز من قائل: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ، يدفعها أولا: أنّ تعظيم الشعائر علي إطلاقها لا دليل علي وجوبه. كيف، و قد جرت السيرة علي خلاف ذلك بين المتشرعة، نعم نلتزم بوجوبه فيما دل الدليل عليه و لا دليل عليه في المقام. و ثانيا: أنّ التعظيم لا يمكن الالتزام بوجوبه بماله من المراتب كما إذا رأينا في الرواق الشريف شيئا من القذارات الصورية- كما في أيام الزيارات- فانّ إزالتها مرتبة من

______________________________

(1) التنقيح: ج 2، ص 319.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 165

تعظيم الشعائر و الالتزام بوجوبه كما تري». «1»

و لا يخفي ما في تمثيله بالقذارات الصورية من الإشكال؛ لأنّ بعض أنواعها كأخلاط المصدر أو ما خرج من المعدة بالقي ء أو بعض الكثافات المتعفّنة، يمكن دعوي كون ترك إزالتها عن حرم المشاهد أو عن رواقها الشريف من مصاديق الهتك و الإهانة عرفا، كما

أنّ ترك إزالة بعض القذارات غير الصورية من المتنجسات- كالماء المتنجسة بقطرة بول مثلا- يشكل الالتزام بكونه من مصاديق الهتك و الإهانة في نظر العرف المحكّم في تشخيص مصداق الإهانة و الهتك.

و قد صرح هذا العلم في موضع من كلامه أنّه لا إشكال في حرمة هتك الشعائر. «2» و علل وجوب تطهير المصحف، و لو بغير إذن مالكه بحرمة انتهاك حرمات اللّه فيما إذا كان بقاؤه علي النجاسة مستلزما لذلك. «3»

إلي غير ذلك من موارد هذه القاعدة في مختلف الفروع الفقهية.

و لكن هاهنا نكتة لا ينبغي الغفلة عنها

و هي أنّ الفروع التي استدلّ الفقهاء لها بهذه القاعدة و إن كانت غالبا في باب الطهارة و لكن لا اختصاص لها بذلك، بل تجري في كل فعل يعد في نظر العرف إهانة بمقدسات الشريعة و هتكا بمحترمات الدين، كما في ضروريات الدين، مثل حرمة الربا و وجوب الستر و الحجاب و حرمة الغناء و الملاهي و القمار، و ولاية الأئمة و الفقيه، و حياة صاحب الأمر (عج) و إمامته و ولايته الفعلية علي جميع البشر، بل علي كلّ عالم الوجود و نظام التكوين.

______________________________

(1) التنقيح: ج 2، ص 313.

(2) التنقيح: ج 2، ص 312.

(3) المصدر: ص 327.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 166

فانّ كل فعل و عمل يفهم منه عرفا تحقير هذه الضروريات الشرعية و المقدسات الدينية لا ريب في حرمته؛ لدخول ذلك كله في نطاق هذه القاعدة، سواء كان من الأفعال المعنونة بالاهانة و الهتك بذاتها كالاستهزاء بأمر محترم من محترمات الدين و استحقاره بقول موهن، أو بايجاد هيئة أو حركة توجب هتك بعض مقدّسات الشريعة، أو من الأفعال الداخلة في الاهانة بسبب قصد

الهتك باتيانها. و ذلك مثل قطع أعضاء جسد الميت أو شقّ بطنها بقصد الاهانة، بل ترك بعض المندوبات بقصد ذلك، كترك صلاة الجماعة و الجمعة و الاعتكاف عن استحقار و استخفاف. و سيأتي توضيح ذلك إن شاء اللّه.

و أما عدم تعرض الفقهاء لهاتين القاعدتين بعنوان قاعدة فقهية، فالوجه فيه أنه لم يستقرّ دأبهم علي استخراج القواعد و الكبريات الكلية من النصوص و الفتاوي. و لذا لم يتعرّضوا لها بعنوان قواعد عامة فقهية، كما جرت عادة المعاصرين.

و أما عند المعارضة مع ساير الأدلة، فلا ريب في تحكيم هذه القاعدة علي جميع الأدلة الأولية؛ نظرا إلي مالها من الأهمية عند الشارع. و ذلك مثل الاتيان بصلاة الفرادي في مسجد أقيمت فيه جماعة بامامة الامام المعصوم، بل كل إمام، أو جعل القدم علي المصحف الشريف حين الصلاة، فلا ريب في بطلان الصلاة حينئذ؛ لأنّ الاحترام بساحة الشرع و حفظ حرمة مقدسات الشريعة و شعائر الدين روح العبادات و أساس الطاعات. و كذا الاتيان بسائر الواجبات إذا أوجب الاهانة و هتك حرمة ما هو محترم في الدين و مقدس في الشريعة. و لا بد من ملاحظة الأهمية فاذا كانت في أيّ جانب يجب مراعاتها.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 167

قاعدة حرمة الميّت المسلم

اشارة

1- مفاد القاعدة 2- مدرك القاعدة 3- مجري القاعدة و تطبيقاتها 4- حالها مع معارضة ساير الأدلة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 169

مفاد القاعدة

هذه القاعدة تفيد حرمة كلّ فعل يكون هتكا بشأن الميّت المسلم و إسقاطا لحرمته، كقطع عضو من أعضاء جسده أو إلقائه في محل الكثافات أو إلقاء النجاسة و الكثافة علي جسده. و نحو ذلك من مصاديق الهتك.

ثم إنّ ما يتحقق به الاهانة و الهتك يمكن تقسيمه إلي قسمين.

أحدهما: ما يحقّق الهتك و الاهانة بنفسه و ذاته سواء قصد به الهتك أم لا، كإلقاء الميت في البالوعة و محل الكثافات أو إلقاء القذارة و النجاسة عليه، أو سبّه و لعنه و فحشه و تعييره و هجائه، و نحو ذلك من الأفعال التي تعدّ بنفسها هتكا و إهانة في نظر أهل العرف من غير دخل لقصد الهتك في صدق ذلك.

ثانيهما: ما لا يحقّق الهتك و الاهانة بنفسه، بل إنّما يكون هتكا و إهانة إذا قصد فاعله الهتك بفعله، كجعله في مكان فريدا أو إجارة الحمّال لحمله من غير أن يحمله أولياؤه أو التأخير في دفنه، و نحو ذلك من الأفعال التي لا تكون بنفسها من مصاديق الاهانة و الهتك في نظر أهل العرف، إلّا أن يحرزوا أنها صدرت بقصد الاهانة و الهتك.

و من الواضح أنّه لا دخل لقصد الهتك في صدق الاهانة و الهتك علي الأفعال المتمحّضة في الهتك في نظر أهل العرف. فإنّهم يحكمون بصدق

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 170

الاهانة بمجرد صدور هذه الأفعال من أيّ فاعل من غير انتظارهم لإحراز قصد الهتك من فاعلها، بخلاف الأفعال غير المتمحّضة في الهتك؛ حيث لا يحكمون بصدق الاهانة

ما لم يحرزوا صدورها بقصد الاهانة و الهتك، بل يحملونها علي الأغراض العقلائية و المصالح المعلومة لفاعلها، و هذا من مصاديق قاعدة الحمل علي الصحة.

و لعلّ قطع عضو الميت و شقّه من هذا القبيل، إلّا أنّ الشارع صرّح بحرمة ذلك في النصوص المعتبرة، اللّهم إلّا أن تحمل هذه النصوص علي الصادر بنية الهتك و الاهانة، و فيه تأمّل؛ لإباء لسان بعض هذه النصوص عن هذا الحمل. فاذا لم يكن قطع أعضاء الميت و تشريحها إهانة بالميت في نظر العرف لما تترتب عليه من الغرض العقلائي، فهل يدخل في مفاد القاعدة أم لا؟ فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

فتحصّل أنّ كل فعل قصد الفاعل به هتك الميّت المسلم لا إشكال في حرمته فيما بينه و بين اللّه. كما أنّه لا إشكال في حرمة الأفعال المتمحّضة في الهتك، و لو لم يقصد به فاعله هتك الميت، فيما إذا أمكن انفكاك قصد الهتك عن مثل هذه الأفعال.

هذا كله في قصد الهتك، و أما قصد أصل عنوان الفعل فلا ريب في دخله في ترتب الحكم؛ لوضوح عدم توجّه التكليف إلي الغافل المحض عن أصل الفعل، كأن لصق نجاسة برجل شخص نائم فحرّك رجله حالة النوم فأصاب وجه ميت مسلم أو ساير أعضاء بدنه، أو كان وجه شخص حال المشي إلي السماء و لم يكن ملتفتا إلي تحت رجله فلصق بها نجاسة أو قذارة فأصاب جسد ميّت مسلم و نحوه من المحترمات غفلة عن أصل الفعل.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 171

و حاصل الكلام: أنّ مفاد هذه القاعدة تحريم كل فعل يتحقق به إهانة الميت المسلم، سواء كان لأجل قصد فاعله الهتك من فعله أو لصدق عنوان

الاهانة علي فعله عرفا. و لا فرق بين كون الفعل الموجب للهتك في جسده، كقطع أعضائه و إلقائه في الكثافة أو إلقاء النجاسة و القذارة عليه، أو كان الفعل مما يوجب الهتك و إهانة شأنه و شخصيته، كالفحش و السب و الهجاء و التعيير.

و من الواضح أنّ هذه القاعدة تفيد حكما من الأحكام الشرعية و هو حرمة إهانة الميت المسلم و وجوب احترامه. و لا تفيد اعتبار أمارة و لا أصلا عمليا، كما هو واضح.

مدرك القاعدة

اشارة

إنّ حرمة الميت المسلم ثابتة بالإجماع و السيرة و الضرورة و النصوص.

أما الاجماع:

فيمكن تحصيله بالفحص عن كلمات الفقهاء، من القدماء و المتأخرين؛ حيث أفتوا في مختلف الفروع بحرمة كل فعل موجب لهتك الميت المسلم و إهانته، سواء كان فعلا في جسده، أو كان ممّا يوجب الاهانة و هتك شخصيته و ساحته، بلا فرق بينه و بين الحيّ المسلم في وجوب الاحترام و حرمة الاهانة و الهتك.

و أما الضرورة:

فلكون ذلك مورد اتفاق الفريقين، و مرتكزا في أذهان المسلمين؛ حيث يرون لميت المسلم تقدّسا و حرمة في الشريعة و يعتقدون أنّ هتكه و إهانته خلاف الشرع.

و أما السيرة:

فلاستقرار سيرة المتشرعة علي احترام الميت المسلم و الاجتناب عن هتكه، بل يرون من أهان الميت المسلم و هتك حرمته خارجا

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 172

عن ربقة الايمان.

و أما النصوص:

فقد دلّت عدة من النصوص البالغة حدّ الاستفاضة، بل التواتر علي وجوب احترام الميت المسلم و أنّ حرمته حيّا و ميتا علي حد سواء، بل دلّ بعض النصوص علي أنّ حرمته ميتا أعظم من حرمته حيا.

و هي بمجموعها تدل علي حرمة كل فعل بالميت يوجب هتك حرمته.

و لا يخفي أنّ محل الكلام هو الحرمة التكليفية.

و قد ورد النهي في هذه النصوص عن قطع أعضائه و أمر فيها بوجوب دفنه و مواراته.

فمن هذه النصوص حسنة الحسين بن خالد أو معتبرته.

رواها في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن حفص عن الحسين بن خالد، قال:

«سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قطع رأس رجل ميّت. فقال عليه السّلام: إنّ اللّه عزّ و جلّ حرّم منه ميّتا كما حرّم منه حيّا، فمن فعل بميّت فعلا يكون في مثله اجتياح نفس الحي فعليه الدية. فسألت: عن ذلك أبا الحسن عليه السّلام فقال: صدق أبو عبد اللّه عليه السّلام. هكذا قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله». «1»

لا كلام في سند هذه الرواية إلّا من جهة الحسين بن خالد و الظاهر أنّه الحسين بن خالد الخفّاف لانصراف الاطلاق إليه، لا إلي الصير في؛ لقلّة روايته في الأحكام و عدم كتاب له. و أمّا اتحادهما فهو خلاف ظاهر ما عنونه البرقي في طبقة واحدة تارة: بالحسين بن خالد، و أخري: بالحسين بن خالد الصير في؛ حيث ذكرهما معا في عداد من أدرك الامام الكاظم

عليه السّلام من

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 19، ص 247، ب 24 من ديات الاعضاء، ح 2 و فروع الكافي: ج 7، ص 349، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 173

أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام. «1»

و منها: صحيحة صفوان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «أبي اللّه أن يظنّ بالمؤمن إلّا خيرا، و كسرك عظامه حيّا و ميّتا سواء». «2»

و منها: صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«في رجل قطع رأس الميت. قال عليه السّلام: عليه الدية؛ لأنّ حرمته ميّتا كحرمته و هو حيّ». «3»

و منها: صحيحة عبد اللّه بن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل قطع رأس الميت. قال عليه السّلام:

«عليه الدية لأنّ حرمته ميتا كحرمته و هو حيّ». «4»

هذه الرواية صحيحة بطريق الصدوق؛ لصحة سنده إلي ابن مسكان.

و منها: صحيحة جميل عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال عليه السّلام: «قطع رأس الميت أشدّ من قطع رأس الحيّ». «5»

و منها: صحيح مسمع كردين: «قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل كسر عظم ميّت. فقال عليه السّلام: حرمته ميتا أعظم من حرمته. و هو حي». «6»

و إنّ هاتين الصحيحتين صريحتين في أنّ الميّت المسلم أشدّ حرمة من حيّه و لازمه كون قطع عضو ميته أو شقّ جسده ميّتا أشد عقوبة و حرمة، بل إن صحيح جميل كالصريح في ذلك.

______________________________

(1) راجع رجال البرقي/ طبع مؤسسة النشر الاسلامي: ص 118، الرقم 53 و ص 126، الرقم 203.

(2) وسائل الشيعة: ج 19، ص 251، ب 25 من ديات الأعضاء، ح 4.

(3) وسائل الشيعة: ج 19، ص 248،

ب 24 من ديات الأعضاء، ح 4.

(4) المصدر: ص 249، ح 6.

(5) المصدر: ص 249، ب 25، ح 1.

(6) المصدر: ص 251، ب 25، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 174

و قد دلّت علي هذا المضمون نصوص كثيرة أخري مثل ما رواه في الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام عن جدّه أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام عن جده رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه حرّم من المؤمنين أمواتا ما حرّم منهم أحياء». «1»

و مرسل محمد بن سنان عمن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قلت له رجل قطع رأس ميّت. قال عليه السّلام: حرمة الميت كحرمة الحي». «2»

و خبر العلاء بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«في بئر محرج وقع فيه رجل فمات فيه فلم يمكن إخراجه من البئر. أ يتوضأ في تلك البئر؟ قال عليه السّلام: لا يتوضأ فيه، يعطّل و يجعل قبرا، و إن أمكن إخراجه أخرج و غسّل و دفن، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: حرمة المسلم ميتا كحرمته و هو حيّ سواء». «3»

و منها: ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:

«إنّ اللّه حرّم حراما غير مجهول و أحلّ حلالا غير مدخول و فضّل حرمة المسلم علي الحرم كلها». «4»

و الحرم (بضم الحاء و الراء) جمع الحرمة، كما صرح به العلامة المجلسي في ذيل هذه الخطبة. «5» و المقصود أن حرمة المسلم من أعظم المحترمات في الشريعة.

و منها: خبر عبد اللّه بن محمد الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال:

______________________________

(1) و المصدر: ص 250، ب 25 من ديات الاعضاء، ح 3،

و اصول الكافي: ج 1، ص 303، ح 3.

(2) وسائل الشيعة: ج 19، ص 249، ب 25 من ديات الاعضاء، ح 2 و ص 249، ب 24، ح 5.

(3) وسائل الشيعة: ج 2، ص 875، ب 51 من الدفن، ح 1.

(4) نهج البلاغة/ للشيخ محمد عبده: ج 2، ص 79، الخطبة 167.

(5) بحار الأنوار: ج 65، ص 290.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 175

«حرمة الميت كحرمة الحي». «1»

إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة، و لا حاجة إلي ذكر جميعها.

و يستفاد من مجموع هذه النصوص مفاد هذه القاعدة و مجراها.

فالمتحصّل أنّ مقتضي هذه القاعدة حرمة قطع أي عضو من أعضاء الميت لأي غرض كان، أما بقصد الهتك و السرقة فواضح.

و أما بقصد رفع حاجة في المسلم الحيّ من زرع عضو الميت في بدنه أو تشريح أعضائه للتعليم و نحو ذلك من الأفعال التي تترتب عليها الفائدة العقلائية، فقد عرفت من إطلاق هذه النصوص حرمته. و إنّ التخصيص بمورد يحتاج إلي الدليل.

و أما القول بأنّ حرمة القطع إنما هي لأجل كونه هتكا و جسارة بالميت، و إلّا فلو كان لغرض عقلائي بحيث لا يعدّ هتكا عند العقلاء و المتشرعة فليس بحرام، فقد يشكل من حيث دلالة النصوص المزبورة علي أنّ قطع عضو الميّت المسلم بنفسه إسقاط لحرمته و أنّه لا فرق بينه و بين قطع عضو المسلم الحي في التحريم و غلظته، يكون قطع عضو الميت أغلظ تحريما.

و مقتضي التحقيق: أنّ المستفاد من سياق هذه النصوص كون تحريم شقّ جسد الميت و قطع عضوه لأجل أنّه موجب لهتك حرمته. فاذا اتفق في مورد عدم تحقق الهتك و الاهانة بذلك فلا وجه للالتزام بحرمته.

فالأقوي هو

الجواز حينئذ. لأنه الذي يساعده المتفاهم العرفي من هذه النصوص، بل هو المستفاد من سياقها.

______________________________

(1) الكافي: ج 7، ص 228، ب حدّ النبّاش، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 176

مجري القاعدة و تطبيقاتها

هذا كلّه في مفاد النصوص.

و أما فتاوي الفقهاء فقد أفتي الفقهاء بحرمة كلّ فعل بالميت يوجب هتك حرمته. و مواردها كثيرة جدّا.

و إليك نبذة من ذلك.

فمنها: فتواهم بحرمة إدخال القطن في مقعد الميت عند التكفين معلّلا بما ورد في النصوص من أن حرمة الميت كحرمة الحيّ، كما يوجد ذلك في كلمات أكثر الفقهاء و المتأخرين.

و منها: ما لو ماتت الامّ و مات الولد بعد خروج بعضه، و لم يمكن إخراج باقي الولد إلّا بشق بطن الام فقد حكموا بعدم إخراج باقي الولد و غسله مع أمّه كما كان و بحرمة الشق؛ معلّلا بأن الشق حينئذ هتك حرمة الميت من غير ضرورة، كما عن العلامة في المنتهي «1» و الجواهر «2» و غيرهما من الكتب الفقهية.

و منها: مسألة نبش القبر و سرقة ما للميت من الثياب و غيرها. فإنّهم حكموا بإجراء الحد عليه؛ تمسكا بهذه النصوص كما في الرياض «3» و الجواهر «4» و غيرهما.

و منها: حكمهم بحرمة قطع رأس الميت أو غيره من أعضائه معلّلا بهذه النصوص، بل جعل بعضهم دلالتها علي الحرمة التكليفية مسلّما

______________________________

(1) المنتهي: ج 1، ص 435.

(2) جواهر الكلام: ج 4، ص 298 و ص 378.

(3) رياض المسائل: ج 2، ص 490.

(4) جواهر الكلام: ج 41، ص 516.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 177

قطعيا، كما صرح به الشيخ. «1» و يظهر من صاحب الجواهر تأييده. «2»

و قد عنون الشيخ الحر بابا في الوسائل بعنوان تحريم

الجناية علي الميت المسلم بقطع رأسه أو غيره من الأعضاء.

و بعض هذه النصوص كالصريح في ذلك، مثل صحيح جميل عن غير واحد «قطع رأس الميت أشد من قطع رأس الحي». و قد رواه في الفقيه «3» باسناده عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه السّلام من غير إرسال نقلا عن نوادر محمد بن أبي عمير. و قد سبق نقله آنفا عن الوسائل.

و علي أيّ حال فإنّ قطع عضو الميت أو شقّ جسده مما لا خلاف بين الفقهاء في حرمته التكليفية، بل جعلوا ذلك أمرا مسلّما، و إنما اختلفوا في مقدار ديته و مصرفها، نعم عند الضرورة تنتفي الحرمة، كما تنتفي عند الحرج و الضرر، كما ستعرف.

حالها مع معارضة ساير الأدلة

لا إشكال في تقدّم أدلة نفي الحرج و الضرر علي هذه القاعدة، كتقديمها علي أيّ حكم أوّلي. و عليه فلو وقع جسد الميت في مكان استلزم حفظ حرمته الحرج أو الضرر، كأن وقع في وسط مستنقع أو نار أو بحر أو بئر عميق مع فقد الآلة، يسقط وجوب حفظ حرمته.

و أما إذا دار الأمر بينه و بين ضرورة، فالظاهر تقديم الضرورة، كما لو

______________________________

(1) التهذيب: ج 10، ص 272.

(2) جواهر الكلام: ج 43، ص 386 و 387.

(3) الفقيه: ج 4، ص 157.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 178

توقف انقاذ نفس محترمة بشق بطنه أو قطع عضو من أعضائه، كما لو توقف إخراج الولد الحي من بطن أمّه الميت علي ذلك أو توقف علاج مريض مسلم و إنقاذه من الهلاك علي قطع عضو ميت مسلم و ترقيعه ببدنه و نحو ذلك.

و من هنا تري فقهاء الشيعة يجوّزون شقّ بطن الأم الميت لإخراج ولدها الحي من بطنها، خلافا للعامة،

كما استدل المحقق في المعتبر لجواز شقّ بطن المرأة الميت لإخراج الولد عن بطنها حيا بقوله: «إنّه توصل إلي بقاء الحي بجرح في ميت، فيكون أولي». «1»

و يفهم من كلام العلّامة جواز شقّ جسد الميت عند الضرورة و إن استلزم هتك حرمته؛ حيث قال: «و لو ماتت و مات الولد بعد خروج بعضه أخرج الباقي و غسل و كفّن و دفن. و إن لم يمكن إخراجه إلّا بالشق ترك علي تلك الحالة و غسل مع أمّه؛ لأنّ الشق هتك حرمة الميت من غير ضرورة». «2»

و يؤيده بعض النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام مثل مرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«في المرأة تموت و يتحرك الولد في بطنها، أ يشق بطنها يخرج الولد؟ قال:

فقال عليه السّلام: نعم و يخاط بطنها». «3»

و خبر ابن يقطين قال: «سألت العبد الصالح عليه السّلام عن المرأة تموت ولدها في بطنها. قال عليه السّلام: يشق بطنها و يخرج ولدها». «4» إلي غير ذلك من النصوص.

______________________________

(1) المعتبر/ طبع مدرسة الامام أمير المؤمنين: ج 1، ص 316.

(2) المنتهي: ج 2، ص 435.

(3) وسائل الشيعة: ج 2، ص 673، ب 46 من أبواب الاحتضار، ح 1.

(4) المصدر: ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 179

قاعدة سوق المسلمين

اشارة

1- أهمية هذه القاعدة و عمومية نطاقها 2- تحرير مفاد القاعدة 3- مدرك القاعدة 4- هل هي أمارة أو أصل؟

5- مجري القاعدة 6- حالها مع معارضة ساير الأمارات

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 181

أهمية هذه القاعدة و عمومية نطاقها

هذه القاعدة من القواعد المهمة التي تبتني عليها معاملات المسلمين و تعايشهم؛ حيث إنّه لو لا حجية هذه القاعدة لا يمكن شراء الذبائح و اللحوم من الأسواق و أكلها؛ لاحتمال عدم تذكيتها في غالب الموارد، و ما شكّ في تذكيته محكوم بالحرمة؛ لأصالة عدم تذكيته، و إنّما نتخلّص من أصالة عدم التذكية و من الحكم بحرمة ما احتمل عدم تذكيته بجريان هذه القاعدة.

و إنّما بحثنا عن هذه القاعدة في عداد القواعد العامة؛ نظرا إلي جريانها في الأحكام العبادية؛ كطهارة الجلود و جواز الصلاة فيها، و جواز تناول ما يجعل فيها من الماء و ساير المائعات. فلو لم يكن ما يشتري منها في سوق المسلمين طاهرا محكوما بالتذكية، لا يجوز الصلاة فيها، و لا تناول ما لاقاها من المائعات، و لا غير ذلك من وجوه التصرفات المتوقف جوازها علي طهارتها. و لأجل ذلك تعمّ مجاري هذه القاعدة العبادات أيضا، و تندرج في القواعد الفقهية العامّة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 182

تحرير مفاد القاعدة

مفاد هذه القاعدة أمارية سوق المسلمين علي التذكية.

بيان ذلك: أنّ الحيوان إذا شكّ في تذكيته، يحكم عليه بالحرمة و النجاسة؛ تمسكا باستصحاب عدم التذكية (المعبّر عنها بأصالة عدم التذكية)؛ نظرا إلي عدمها حال حياته فيستصحب من حال حياته إلي حال زهاق روحه.

هذا مقتضي القاعدة الأوّلية، و لكن بمقتضي هذه القاعدة يحكم عليه بالتذكية فيما إذا بيع الحيوان في سوق المسلمين، و إن لم يعلم إسلام البائع؛ نظرا إلي أمارية هذه القاعدة علي تذكية الحيوان. و لا يعتني بأصالة عدم التذكية، لعدم مجال لجريانها مع وجود الأمارة؛ حيث إنها تزيل الشك الذي هو موضوع الأصل. و بعد الحكم بتذكية الحيوان المبيع يحكم بطهارته

لا محالة؛ نظرا إلي كون الطهارة من الآثار المترتّبة علي التذكية، و من هنا لا تصل النوبة إلي جريان أصالة الطهارة، حتي يمنع جريانها بدعوي حكومة أصالة عدم التذكية علي أصالة الطهارة.

بل لو لا هذه القاعدة- أي سوق المسلمين- لا مجال لجريان أصالة الطهارة؛ نظرا إلي حكومة أصالة عدم التذكية عليها. و عليه فالحكم بطهارة ما بيع في سوق المسلمين و شكّ في طهارته، إنّما هو لأجل قاعدة سوق المسلمين، لا لأجل قاعدة الطهارة؛ لكي يشكل بحكومة أصالة عدم التذكية علي أصالة الطهارة.

ثم إنّه لا خصوصية للسوق بمعناه الخاص، كما يوهمه أخذه في عنوان القاعدة، بل المقصود أرض الإسلام، و هي مطلق الأمكنة التي تحت

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 183

سيطرة المسلمين، كما لا يعتبر فيها كون المسلمين جميع سكنتها، بل إنّما يعتبر كونهم أغلب سكّانها.

و يشهد لذلك قول صاحب الجواهر، حيث قال- بعد ردّ التفصيل فيما في يد المستحل بين الاخبار بالتذكية و عدمه-: «و من ذلك ظهر لك ضعف التفصيل المزبور، كاحتمال التفصيل بين السوق و غيره، بأنّه يكفي في الأوّل عدم العلم بكفر ذي اليد دون الثاني أو بما يقرب من ذلك؛ ضرورة اشتراك الجميع في الاعراض عن الأدلّة السابقة التي من المعلوم كون ذكر السوق في بعضها كناية عن بيع من لم يعلم حاله في بلاد الإسلام، الذي يكفي فيه غلبة المسلمين، كما دلّ عليه خبر إسحاق». «1»

هذا الخبر رواه الشيخ باسناده عن سعد بن عبد اللّه الأشعري عن أيوب بن نوح عن عبد اللّه بن المغيرة عن إسحاق بن عمار عن العبد الصالح عليه السّلام أنّه قال:

«لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني و فيما صنع في أرض

الإسلام. قلت: فان كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال عليه السّلام: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس». «2»

هذه الرواية موثقة لا إشكال في سندها، كما أنّ دلالتها علي المطلوب واضحة.

و حاصل الكلام: أنّ معني كون سوق المسلمين أمارة علي التذكية عدم لزوم الفحص عن حال البائعين فيه، و عدم وجوب السؤال عن أنهم مسلمون أو كفّار؛ إذ لو وجب ذلك للغي اعتبار عنوان السوق و لسقط عن كونه أمارة؛ حيث إنه ينكشف بالفحص كون البائع مسلما أو غير مسلم و يد الأوّل أمارة

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 8، ص 61.

(2) وسائل الشيعة: ج 2، ص 1072، ب 50 من النجاسات، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 184

علي التذكية بلا خلاف، دون يد الثاني، فلا معني لأمارية السوق حينئذ.

ثم إنّ مقتضي التحقيق اختصاص أمارية سوق المسلمين بالتذكية و عدم كونها أمارة علي ملكية ما يبيعونه في أسواقهم؛ نظرا إلي ورود روايات هذه القاعدة في التذكية و عدم تعرّض شي ء منها إلي غير التذكية.

و لأنّ الملكية إنّما تثبت بقاعدة اليد.

و قد يشكل علي ذلك مستدلا بعدم انحصار دليل هذه القاعدة فيما تعرّض لها من النصوص، بل يمكن الاستدلال عليها أيضا بقاعدة اختلال النظام و سيرة المتشرعة، و عليهما تبتني هذه القاعدة بنطاقها الواسع.

و عليه فهذه القاعدة أمارة علي حجية يد المسلم و أماريتها و علي ملكية ما يباع في أسواق المسلمين للبائعين، و يترتب عليها جواز البيع و الشراء و الشهادة علي الملكية، كما دلّت علي ذلك معتبرة حفص بن غياث. و سيأتي ذكرها و زيادة توضيح لذلك في بيان مدرك القاعدة.

و الجواب: أنّ الامارة علي الملكية إنّما هي قاعدة اليد، و هي

تبتني علي بناء العقلاء؛ حيث استقرّ بناؤهم علي اعتبارها و أماريتها علي الملكية في معاملاتهم و مبادلاتهم، بلا اختصاص لذلك بالمسلمين. و لم يردع عنه الشارع، بل أمضاه بدلالة ما ورد من النصوص الدالة علي اعتبار اليد و حجيتها و أماريتها علي الملكية و جواز الشهادة عليها.

و أما قوله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» في ذيل معتبرة حفص، فليس المقصود بيان أمارية سوق المسلمين علي الملكية، بل الظاهر بيان حكمة أمارية اليد بأنه لو لا حجية اليد و اعتبارها لاختلّ قوام سوق المسلمين و نظام اقتصادهم و معاملاتهم.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 185

مدرك القاعدة

اشارة

قد استدلّ علي هذه القاعدة بوجوه.

الأوّل: الإجماع

حيث إنّ الفقهاء من سالف الزمان علي حجية سوق المسلمين و كونه أمارة علي التذكية. و لم يشكّك أحد منهم في ذلك، لا من القدماء و لا من المتأخّرين.

و لكن لا ينبغي عدّ مثل هذا الاجماع دليلا مستقلا في المقام؛ نظرا إلي ما تمسّك به المجمعون، من السيرة و النصوص الدالة علي حجيتها بالخصوص. فليس الاجماع المدّعي في المقام إجماعا تعبّديا كاشفا عن رأي المعصوم، بل هو إجماع مدركي يحتمل قويّا كونه ناشئا من ساير أدلّة هذه القاعدة. نعم يثبت بذلك أنّ العمل بهذه القاعدة و الافتاء بها مورد تسالم الأصحاب و الفقهاء.

الثاني: قاعدة اختلال النظام

بتقريب أنّه يلزم من عدم حجية هذه القاعدة الاختلال في نظام معاش المسلمين. و الوجه في ذلك أنّهم لو لم يعتمدوا علي أسواقهم؛ اعتقادا بعدم جواز شراء ما يباع فيها من الذبائح و اللحوم ما لم يعلموا تذكيتها بمقتضي اصالة عدم التذكية و استصحاب عدمها، للزم من ذلك أن يقدم آحادهم علي ذبح الحيوان بالمباشرة، و هو غير مقدور لهم، و لازمه تعطيل البيع و شراء اللحوم و الحيوان، و ذلك يوجب اختلال نظام معاشهم، و لا سيما بلحاظ

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 186

ازدحام نفوس المسلمين و ازديادهم في هذا العصر.

بل قد يقال: إنّ هذه القاعدة بنطاقها الواسع أوضح ابتناء علي قاعدة اختلال النظام؛ إذ لا ينحصر نطاقها في أماريتها علي التذكية بل هي أمارة علي الملكية و حجية اليد أيضا، و إلّا فلو لا أمارية سوق المسلمين علي ذلك لاختلّ نظام معاملاتهم و مبادلاتهم، فيتوقف حفظ نظام اقتصادهم و قوام معاشهم علي أماريته كما أنّه استقرّ علي ذلك بناء العقلاء في معاملاتهم و مبادلاتهم، و إلّا فلو

لا اعتمادهم علي أسواقهم لاختلّ نظام معاملاتهم و معاشهم، و ينجرّ ذلك لا محالة إلي الاختلال في نظام حياة نوع الناس، و لم يرد من الشارع ردع عن هذا البناء العقلائي، بل ورد منه ما يدلّ علي إمضائه، كما في معتبرة حفص بن غياث.

و قد رواها الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه و علي بن محمد القاساني جميعا عن القاسم بن يحيي عن سليمان بن داود عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال له رجل: إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال عليه السّلام: نعم.

قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ فيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكا لك، ثم تقول بعد الملك: هو لي، و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلي من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق». «1»

وجه دلالة هذه المعتبرة علي ذلك، أنّ الامام عليه السّلام أخذ لزوم قيام سوق

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ب 25، من أبواب كيفية الحكم، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 187

المسلمين و وجوب حفظ نظامه و عدم جواز الاختلال فيه أمرا مسلّما مفروغا عنه، و فرّع علي ذلك أمارية اليد علي الملكية و جواز الشهادة عليها.

و معني ذلك حجية سوق المسلمين و أماريته علي ملكية ما في أيدي البائعين من أهل الفسوق و جواز شراء ما يباع فيه. و

إن شئت، فقل يفهم منها أمارية سوق المسلمين علي أمارية اليد.

و فيه: أن أماريّة اليد لا تختصّ بيد المسلم، بل اليد أمارة علي الملكية مطلقا، حتي يد الكافر.

و ذلك لأنّ عمدة الدليل علي أماريتها بناء العقلاء؛ حيث استقر بناؤهم علي اعتبار اليد و حجيتها علي ملكية ما في أيديهم. و علي ذلك جرت سيرتهم في معاملاتهم و مبادلاتهم، بل عليه يبتني نظام اقتصادهم و أساس معاملاتهم، كما أشير إلي ذلك في ذيل معتبرة حفص، و إن كان في خصوص سوق المسلمين، إلّا أنّه له من هذه الجهة؛ لوضوح توقف نظام اقتصاد جميع الملل و القبائل علي أمارية اليد.

و عليه فاذا كانت اليد أمارة علي الملكية في جميع الشعوب و القبائل و الملل بلا اختصاص بالمسلمين، فلا دخل لسوق المسلمين بما أنّه سوقهم في الأمارية علي الملكية كما هو واضح. فقوله عليه السّلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» بيان لحكمة أمارية اليد علي الملكية.

و هذا بخلاف أماريته علي التذكية الشرعية؛ إذ لا اعتقاد لغير المسلمين و لا تعهد لهم بالتذكية الشرعية حتي تكون أيديهم أو سوقهم أمارة عليها.

و أما سندا فالأقوي اعتبار طريق الكليني المزبور، و أما تضعيفه بوقوع القاسم محمد بن يحيي في طريقه، فغير وجيه؛ إذا لا يعبأ بتضعيف

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 188

ابن الغضائري إيّاه بعد نقل الأجلّاء عنه مثل إبراهيم بن هاشم و أحمد بن محمد بن عيسي و محمد بن عيسي و البرقي، و وقوعه في أسناد كامل الزيارات، و بعد حكم الصدوق بأنّ ما رواه في زيارة الحسين عليه السّلام من أصح الزيارات. مع عدم ثبوت نسبة الكتاب إلي ابن الغضائري.

و أما حفص

بن غياث فهو و إن كان عامّي المذهب و لم يصرّح أحد بتوثيقه خصوصا، إلّا أنه يكفي في إثبات وثاقته و اعتبار رواياته شهادة الشيخ في العدّة بأنّ الطائفة عملت برواياته و أنّ الوثاقة المعتبرة في نقل الرواية حاصلة فيه، مع ما قال في الفهرست بأنّ له كتابا معتمدا و كذا قال العلامة.

هذا، مضافا إلي أنّ الصدوق أيضا رواها باسناده عن سليمان بن داود، و إن وقع في طريقه القاسم بن محمد الاصفهاني و اختلف في وثاقته. و علي أيّ حال فهذه الرواية معتبرة بطريق الكليني، مع اعتضادها بطريق الصدوق.

الثالث: سيرة المتشرعة.

فانّ سيرة المسلمين و المؤمنين قد استقرّت منذ عهد الأئمة عليهم السّلام إلي زماننا هذا علي شراء الذبائح و اللحوم من أهل بلادهم و أسواقهم من دون فحص و تجسّس عن كيفية تذكيتها. و أنها هل ذبحت علي الوجه الشرعي الصحيح أم لا؟.

و لا تختص هذه السيرة بزماننا هذا، بل كانت جارية مستقرّة بين المتشرعة و المتدينين منذ زمن أهل البيت عليهم السّلام إلي زماننا هذا. و لو لم تكن مستقرّة في زمنهم لنقل خلاف ذلك و لم يسمع خلافه من أحد. فيكشف من ذلك كونها مستمرّة من تلك الأزمنة إلي الآن. بل وردت في المقام نصوص

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 189

تؤكد هذه السيرة.

و لا يخفي أنّ هذه السيرة الجارية بين المتشرعة كاشفة عن أمارية سوق المسلمين علي التذكية لا علي الملكية؛ نظرا إلي كون اليد أمارة عقلائية علي الملكية بين العقلاء قبل الإسلام بلا اختصاص بالمسلمين.

و هذا بخلاف التذكية التي هي من أحكام الإسلام و لا يراعيها إلّا المسلمون.

الرابع: ما ورد من النصوص

الآمرة بترتيب آثار التذكية علي ما يباع من اللحوم و الذبائح في أسواق المسلمين و جواز شرائه، بل نهي فيها عن الفحص و السؤال.

فمن هذه النصوص موثّقة إسحاق بن عمار. و قد سبق ذكرها آنفا، بعد نقل كلام صاحب الجواهر في تحرير مفاد القاعدة.

و منها: صحيحة فضيل و زرارة و محمد بن مسلم:

«أنّهم سألوا أبا جعفر عليه السّلام عن شراء اللحوم من الأسواق و لا يدري ما صنع القصّابون؟ فقال عليه السّلام: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين و لا تسأل عنه». «1»

و منها: صحيحة الحلبي قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخفاف التي تباع في السوق. فقال عليه

السّلام: اشتر و صلّ فيها حتي تعلم أنها ميتة بعينها». «2»

و منها: صحيحة البزنطي قال:

«سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أ ذكيّة هي أم غير ذكيّة، أ يصلّي فيها؟ فقال: نعم. ليس عليكم المسألة. إنّ أبا جعفر عليه السّلام كان يقول: إنّ الخوارج

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16، ص 294، ب 29 من الصيد و الذبائح، ح 1.

(2) وسائل الشيعة: ج 2، ص 1071، ب 50 من النجاسات، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 190

ضيّقوا علي أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك». «1»

و في صحيحته الأخري عن الرضا عليه السّلام قال:

«سألته عن الخفّاف يأتي السوق فيشتري الخفّ. لا يدري أ ذكيّ هو أم لا؟ ما تقول في الصلاة فيه، و هو لا يدري؟، أ يصلّي فيه؟ قال عليه السّلام: نعم أنا أشتري الخفّ من السوق و يصنع لي و أصلّي فيه و ليس عليكم المسألة». «2»

إلي غير ذلك من النصوص الواردة في المقام لا حاجة إلي ذكرها. «3»

هل هي أمارة أو أصل؟

الظاهر من أدلة هذه القاعدة أنّ سوق المسلمين أمارة لا أصل. فلنا دعويان:

إحداهما: عدم كون هذه القاعدة من الاصول، ثانيتهما: كونها أمارة. ثم يقع الكلام في أنها علي فرض كونها أمارة فهل هي أمارة في عرض يد المسلم أو هي أمارة علي الامارة الاصلية، و هي يد المسلم.

أما الدعوي الاولي: فالدليل عليها واضح، و ذلك لأنّ الأصل إما تعبدي غير تنزيلي أو تنزيلي. و الأصل التنزيلي علي قسمين.

أحدهما: ما كان مفاده تنزيل المشكوك منزلة الواقع، كأصالة الطهارة و الحلية. فمن قال بأنهما من الاصول التنزيلية، التزم بأنّ مفادهما تنزيل مشكوك الطهارة و الحلية منزلة الطاهر و الحلال الواقعين. و

يترتب علي ذلك آثارهما، كطهارة مدفوع الحيوان المحكوم بالحلية. و أمّا إذا لم نقل بذلك لا

______________________________

(1) المصدر: ح 3.

(2) وسائل الشيعة: ج 2، ص 1072، ب 50 من النجاسات، ح 6.

(3) راجع الوسائل: ب 50 من النجاسات و ج 16، 294، ب 29 من الصيد و الذبائح.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 191

نستطيع الحكم بطهارة مدفوع الحيوان المشكوك طهارته و حليته.

ثانيهما: ما كان مفاده تنزيل المشكوك منزلة اليقين و العلم بالواقع.

و ذلك إما من جهة الجري العملي، كما يقول به المحقق النائيني، أو في الكاشفية عن الواقع، كما يقول به السيد الخوئي. «1»

أما كون هذه القاعدة أصلا غير تنزيلي فواضح البطلان؛ لوضوح عدم كون اعتبار السوق تعبّدا شرعيا محضا في خصوص ظرف الشك في التذكية، من دون ابتناء علي أية نكتة عرفية، فان ذلك خلاف ظاهر أدلة اعتباره، كما ستعرف بيانه.

و أمّا عدم كونها أصلا تنزيليا، فالوجه فيه أنّ في موضوع الأصل- و لو كان تنزيليا- أخذ الشك، و لا يستفاد من نصوص المقام أخذ الشك في موضوع قاعدة السوق، بل المستفاد منها حجية هذه القاعدة عند مطلق الجهل بالواقع، كما صرّح السائل في بعض النصوص بأنّه لا يدري أنّ ما يباع في سوق المسلمين أ ذكيّ أم لا؟

و ثانيا: شهادة الوجدان علي أنّ المتدينين في سيرتهم عند شراء اللحوم و الحيوانات لا التفات لهم إلي الشك في التذكية، بل يقدمون علي شراء كلّ حيوان يباع في أسواقهم و لو لم يعلموا تذكيته. فالمأخوذ في مصبّ هذه القاعدة هو الجهل بالواقع لا الشك فيه. كما هو كذلك في قاعدة اليد أيضا.

و أما الدعوي الثانية: - و هي كون هذه القاعدة أمارة- فالوجه

فيه:

أولا: أنّ سيرة المتشرّعة و المتدينين قد استقرت علي شراء مجهول

______________________________

(1) راجع دروس الشهيد الصدر، الحلقة الثالثة، القسم الثاني: ص 16- 17.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 192

التذكية من اللحوم و الحيوانات و معاملة المذكّي معه، مع اعتقادهم بحرمة تناول غير المذكّي. و إنّ قيام سيرتهم علي ذلك مع اجتنابهم عن ملك الغير و غير المذكّي دليل علي أنهم يرون أسواقهم و أيديهم كاشفة عن تذكية ما يباع فيها و حلّيته، كما هو شأن الأمارات. و إنّ سيرة المتشرعة حجة في نظر الشارع بلا حاجة إلي الامضاء.

بل يمكن أن يقال: إنّه كما استقرّ بناء العقلاء في معاملاتهم و مبادلاتهم علي العمل بقاعدة اليد بتنزيل مجهول الملكية منزلة الملك الواقعي أو منزلة العلم به، و كذا في ساير الأمارات العقلائية كخبر الثقة، كذلك سيرة المسلمين استقرّت علي معاملة المذكي الواقعي أو العلم به مع مجهول التذكية إذا بيع في أسواقهم؛ نظرا إلي عدم اختصاص بنائهم بصورة الشك، كما أن القول بأمارية اصالة الصحة تبتني علي ذلك.

فكيف أنّهم ينزّلون المجهول منزلة الواقع أو منزلة العلم به باخبار الثقة؟

فكذلك المسلمون ينزّلون مجهول التذكية إذا بيع في أسواقهم منزلة المذكّي الواقعي. فكما أمضي الشارع هناك بالنهي عن تبيّن خبر العادل، فكذلك نهي في المقام عن السؤال و الفحص.

و ثانيا: ما يظهر من بعض نصوص المقام بالخصوص، كموثقة إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه السّلام أنّه:

«قال عليه السّلام: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني و فيما صنع في أرض الإسلام. قلت:

فان كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال عليه السّلام: إذا كان الغالب عليه المسلمين فلا بأس». «1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 2، ب 50 من النجاسات، ح

5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 193

فان إناطة جواز الشراء بكونه في أرض الإسلام و غلبة المسلمين ظاهر في كون الملاك جهة كشف ذلك عن التذكية واقعا.

و الحاصل أنّ أمارية سوق المسلمين لا إشكال فيها في الجملة. و إنّما الكلام في أنّه هل يكون أمارة بنفسه، أو أنّه أمارة علي أمارة أخري و هي يد المسلم؟.

فقد يقال: إنّ المستفاد من الأدلة عدم كون السوق بنفسه أمارة علي التذكية، بل إنه أمارة علي الأمارة الأصلية، و هي يد المسلم؛ نظرا إلي أنّ غلبة المسلمين في بلاد الإسلام كاشفة عن كون البائع مسلما و إنّ هذا الكشف و إن لا يكون تامّا وجدانا، إلّا أن الشارع قد تمّم كاشفيته بدلالة ما ورد من النصوص فجعله كاشفا تاما تعبدا. و لذا لا يكون السوق أمارة فيما إذا علم كون البائع كافرا؛ لعدم كونه كاشفا عن التذكية حينئذ بأيّ وجه، بل إنما يكشف عن ذلك إذا لم يعلم حال البائع.

و عليه فيرجع اعتبار السوق في الحقيقة إلي اعتبار يد المسلم، كما لا أمارية له فيما إذا أحرز اسلام البائع، فلا يصح ما قيل: إنّ هناك حينئذ أمارتين، و هما السوق و يد المسلم.

و أما قيام سيرة المتدينين علي معاملة المذكّي و المملوك مع ما يباع في سوق المسلمين إذا لم يعلم تذكيته فانّما هو لأجل كاشفيته عن اسلام ذي اليد.

و أما النصوص فيمكن توجيهها بذلك، فان غلبة المسلمين في أرض الإسلام كاشفة عن اسلام البائع و إحراز يد المسلم بذلك، و هي الأمارة الأصلية.

و لكن التحقيق أنّ السوق أمارة مستقلّة.

و ذلك أولا: لأن أمارية يد المسلم تختصّ بيد من علم كونه مسلما

مباني الفقه الفعال في القواعد

الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 194

وجدانا. و أما اليد المحكومة بكونها للمسلم ظاهرا فكونها أمارة علي التذكية غير معلوم، بل هو أوّل الكلام. فالحكم بالتذكية حينئذ إنما هو لأجل أمارية سوق المسلمين علي ذلك.

بل يمكن أن يقال: إن حكم الشارع بتذكية ما يباع في سوق المسلمين و كذا استقرار سيرة المتشرعة علي معاملة المذكّي و الطاهر معه، كما يمكن أن يكون لأجل كاشفية سوق المسلمين عن إسلام ذي اليد و إحراز يد المسلم بذلك لأجل غلبة المسلمين، فكذلك يمكن أن يكون لأجل كشفه عن وقوع التذكية الشرعية، لا لأجل كشفه عن اسلام ذي اليد الفعلي. و لذا قد يقال بجريان هذه القاعدة حتي فيما لو علم بكفر البائع؛ لأن سوق المسلمين يكف في الجملة عن انتقال المبيع من المسلم إلي الكافر البائع. فيكشف بذلك عن وقوع التذكية. و لذا تري بعض الفقهاء حكم بجريان قاعدة السوق في عرض يد المسلم، بل التزم بعضهم بجريانها حتي فيما إذا كان البائع كافرا». «1»

و ثانيا: لأنه كما أنّ ملاك أمارية يد المسلم ليس إلّا كشفها عن واقع التذكية و الطهارة، فكذلك السوق، إلّا أنّ اليد في خصوص من علم كونه مسلما أمارة علي التذكية، بخلاف السوق فانه أمارة في كل ما لم يعلم تذكيته. و أما ما دل عليه نصوص المقام من إناطة جواز شراء ما يباع و حلية التصرف فيه بكون بيعه في أرض الإسلام مع غلبة المسلمين، فانّما هو بيان

______________________________

(1) و هو السيد الگلپايگاني حيث قال: «الظاهر من الأخبار أنّ المأخوذ من سوق الإسلام- و لو من يد الكافر إن لم يعلم سبقه بسوق الكفر- محكوم بالطهارة» راجع كتاب العروة المحشي: المسألة 5، الرقم 2.

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 195

لوجه كاشفيته و أماريته؛ لأنه لو لم يكن له كاشفية و طريقية إلي واقع التذكية و الطهارة لم يمكن جعله أمارة، حتي من قبل الشارع، كما أنّ الأمر كذلك في ساير الأمارات، و إنما تثبت للسوق هذه الكاشفية إذا كان في أرض الإسلام و كان أغلب سكّانها المسلمين.

و ثالثا: ان قول السائل: «و لا يدري ما صنع القصابون؟» ظاهر في كون اسلام ذي اليد القصاب محرزا، و لكنّه لا يدري ما صنعه لاحتمال عدم رعايته لأنه ممّن لا يبالي. و هذا دليل قاطع علي أنّ قاعدة سوق المسلمين دليل و أمارة مستقلة علي التذكية لا لأجل أمارية يد المسلم؛ حيث انه عليه السّلام لم يشر إلي حجية اليد مع فرض الإسلام ذي اليد. و من ذلك يظهر ضعف ما قد يقال، من وجود أمارتين في هذا الفرض إحداهما: السوق و الاخري يد المسلم. و ذلك لأنّ يد المسلم لا أمارية له علي التذكية فيما إذا كان ذو اليد ممن لا يبالي، كما اتضح بذلك عدم صحة ما قد يقال من أنّه إذا أحرز كون ذي اليد مسلما لا موضوع لقاعدة السوق.

فتحصّل أنّ سوق المسلمين أمارة علي التذكية و الطهارة في عرض يد المسلم. و عليه فما يشتري من الكافر في سوق المسلمين يدخل في مفاد هذه القاعدة، لو لم نعلم بكونها مسبوقة بسوق الكفّار أو بأيديهم فيحكم بتذكيته و طهارته. نعم إذا كان مسبوقا بسوق الكفّار أو كان في أيديهم لا يجري هذه القاعدة لعدم احتمال التذكية أو لأنّ سوقهم أو أيديهم أمارة علي عدم التذكية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 196

مجري القاعدة

قد تبيّن مما بينّاه

آنفا أنّ مجري هذه القاعدة و مصبّها هو ما يباع في بلاد المسلمين من الحيوانات المذبوحة و اللحوم و لم يعلم تذكيتها علي الوجه الشرعي، بأن احتمل عدم التذكية احتمالا معتني به.

و عليه فيعتبر في جريان هذه القاعدة عدم العلم بالتذكية و لا العلم بعدمها، و إلّا فمن الواضح أنّه علي الأول لا حاجة إلي هذه القاعدة، بعد العلم بالتذكية أو قيام الحجة المعتبرة علي تحقّقها، من خبر عدل أو بيّنة و نحوهما. و علي الثاني لا ينفع جريان هذه القاعدة، بل لا تجري، بعد العلم بعدم وقوع التذكية أو قيام الحجة المعتبرة علي زهق الروح من الحيوان بغير التذكية. و كذا لا تجري فيما في يد الكافر و لو في سوق المسلمين؛ لعدم احتمال التذكية، إلّا إذا علم بكون يده مسبوقا بيد مسلم.

ثم إنّه لا يخفي أنّ هذه القاعدة لا تجري لا ثبات الملكية مطلقا سواء كان ذو اليد مسلما أو مجهول الحال، بل و إن كان كافرا. و ذلك لما سيأتي من كون اليد أمارة علي الملكية في بناء العقلاء بلا اختصاص بيد المسلم. و هذا البناء لم يردع عنه الشارع، بل أمضاه بدلالة النصوص.

و أنت تعرف أنّه مع كون اليد أمارة علي الملكية، حتي يد من علم كفره، لا يبقي مجال لجريان قاعدة سوق المسلمين؛ نظرا إلي ارتفاع موضوعه بعد قيام الامارة علي الملكية، فلا حاجة إليها، مع أنّ نطاقها أضيق من نطاق أمارية اليد، كما عرفت.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 197

حالها مع معارضة ساير الأمارات

إذا تعارضت قاعدة سوق المسلمين مع أصل تنزيلي أو غير تنزيلي لا ريب في تقدّمها عليه؛ لأنها أمارة و إنّ الأمارة واردة علي الاصول؛ نظرا إلي

أنّ بقيامها يرتفع الشك، فلا موضوع للأصل حينئذ. و أما إذا تعارضت مع ساير الأمارات كالبيّنة و خبر العدل- بناء علي حجيته في الموضوعات- فلا إشكال في تقدّمها علي قاعدة السوق.

و الوجه في ذلك: أنّه أخذ في موضوع هذه القاعدة عدم العلم بالتذكية مطلقا، لا بالعلم الوجداني و لا بالعلم التعبدي، كما جاء ذلك في نصوص المقام في فرض السائل، و أيضا هو موضوع كلام الامام عليه السّلام. و أما نهيه عليه السّلام عن السؤال و الفحص فلا ينافي ذلك؛ نظرا إلي كونه في فرض عدم علم المشتري بالتذكية وجدانا و لا بالحجة الشرعية المعتبرة.

ان قلت: انّ في موضوع حجية الأمارات أخذ الجهل بالواقع أيضا.

قلت: نعم، و لكن مفاد نصوص المقام كون سوق المسلمين أمارة علي التذكية في صورة عدم العلم بها وجدانا أو بالحجة المعتبرة. و عليه فبعد قيام البيّنة أو خبر الثقة علي التذكية لا موضوع لهذه القاعدة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 199

قاعدة العدل و الانصاف

اشارة

1- أهمية هذه القاعدة و منصّتها في كلمات الفقهاء 2- مفاد القاعدة 3- مدرك القاعدة 4- هل هي أمارة أو حكم أو أصل؟

5- حالها مع معارضة ساير الأدلة 6- التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 201

أهمية هذه القاعدة و منصّتها في كلمات الفقهاء

هذه القاعدة قد استدل بها الفقهاء في مختلف أبواب الفقه، عباداتها و معاملاتها و جزائياتها. فهي لا تختص بباب خاص، بل تعمّ جميع أبواب الفقه. و لا يخفي علي الفقيه البصير دورها الكبير و أهميتها الخطيرة في استنباط الأحكام و الاجتهاد الفعّال الملائم للعقل و السيرة العقلائية؛ لما لها من الجذر في حكم العقل و السيرة العقلائية.

و لا يخفي أنّ قدماء الأصحاب و أكثر متأخّريهم، و إن لم يتمسّكوا بنصّ هذه القاعدة لفتاواهم في مواردها و مظانّها، إلّا أنّهم في كثير من موارد تردّد الحقوق و الأموال بين شخصين أو أشخاص فيما إذا لم يرد نصّ خاص في كيفية تقسيمها حكموا بتقسيمها بينهم بالسوية، فيما إذا لم تكن لأحد المدّعين بيّنة و لا دليل علي اختصاص ذلك المال أو الحق المتردد أو المشترك بنفسه أو علي زيادة سهمه عن الآخرين.

و قد علّلوا ذلك بعدم جواز الترجيح بلا مرجّح و عبّر بعضهم عن دليل ذلك بأصالة التسوية. و إن يمكن إرجاع الدليل الثاني إلي الأوّل؛ حيث لا أساس للتسوية في مفروض الكلام مع عدم ورود نص شرعي بالخصوص،

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 202

إلّا حكم العقل بعدم جواز الترجيح بلا مرجح، كما صرّح بذلك في كلمات جماعة من الفقهاء. و علي أيّ حال مرجع استدلالهم بعدم جواز الترجيح بلا مرجح و بأصالة التسوية في مثل هذه الموارد إلي مفاد هذه القاعدة مع الاشارة

إلي دليلها.

و سيأتي في التطبيقات الفقهية ذكر نماذج من كلمات الفقهاء من القدماء و المتأخرين، الذين حكموا بالتقسيم بالسوية في مثل هذه الموارد و علّلوا ذلك بهذين الدليلين.

و لكن مع ذلك فقد تمسك جماعة من الفقهاء المتأخرين و المعاصرين بنصّ هذه القاعدة. و إنّهم من بين قائل بحجية هذه القاعدة مطلقا، و من قائل بعدم حجيتها مطلقا، و من مفصّل باختصاص حجيتها بموارد خاصة وردت فيها النصوص، لا مطلقا.

و سيأتي تفصيل ذلك في التطبيقات الفقهية.

و أوّل من تمسّك بنص هذه القاعدة- فيما وصلت إليه- هو السيد محمد العاملي في نهاية المرام، إلّا أنّ الموجود في كلامه مقتضي العدل و الانصاف، و لم يعبّر عنه بالقاعدة. فانه بعد ما استظهر من كلام الشيخ و العلامة وجوب ضمّ النهار إلي الليلة في ثبوت حق القسم لكلّ مرأة من الزوجات الأربعة، قال: «و دليله غير واضح علي الخصوص، و إن كان المصير إلي ما ذكره مقتضي العدل و الانصاف». «1»

و ممن استدل بها صاحب الحدائق «2»؛ حيث علّل التسوية بين الزوجات

______________________________

(1) نهاية المرام/ طبع جماعة المدرسين: ج 1، ص 430.

(2) الحدائق الناضرة: ج 24، ص 609.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 203

في الانفاق و حسن المعاشرة و الجمع و طلاقه الوجه؛ بأنّ في ذلك رعاية العدل و الانصاف. و سيأتي نقل كلامه في التطبيقات.

و منهم: صاحب الجواهر «1» فانه علّل بهذه القاعدة للحكم بالنصف فيما إذا تداعي شخصان في درهم واحد، فادّعي كلّ واحد منهما ملكية الدرهم لنفسه و لا بيّنة لأحدهما، و كان تحت يدهما معا، أو لا يد لواحد منهما عليه.

فحينئذ حكم بقطع الخصومة بينهما بالعدل و الانصاف.

و لكنهم لم يعبّروا عنها بالقاعدة.

و إنّما عنونها بقاعدة العدل و الانصاف من جاء بعدهم من الفقهاء المعاصرين، و إن يفهم من بعض كلمات صاحب الجواهر أنّه أطلق عليها عنوان القاعدة، كما سيأتي نصّ كلامه في التطبيقات الفقهية.

و ممن عبّر عنها بالقاعدة هو الفقيه المحقق السيد الحكيم، «2» و الفقيه النحرير السيد الامام الراحل «3» و الفقيه الأصولي السيد الخوئي. «4» إلي غير ذلك من الفقهاء و المعاصرين. و سيأتي نقل كلمات بعضهم في التطبيقات الفقهية.

ثم إنّ ابتناء حجية هذه القاعدة علي حكم العقل المستقل لا ينافي كونها من القواعد الفقهية، كما أشرنا إلي ذلك في طليعة البحث عن قاعدة اختلال النظام. و ذلك لكون حكم العقل دليل هذه القاعدة، من دون أن يكون نتيجتها بنفسه.

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 26، ص 224.

(2) راجع المستمسك: ج 9، ص 497 و 501 و ج 14، ص 249.

(3) راجع كتاب البيع: ج 5، ص 139 و 141.

(4) مستند العروة كتاب الخمس: ص 146 و 148 و 151 و 254/ مصباح الفقاهة: ج 5، ص 253 و ج 7، ص 291/ مباني تكملة المنهاج: ج 2، ص 418.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 204

مفاد القاعدة

عنوان هذه القاعدة يتشكّل من لفظي العدل و الانصاف. فينبغي أولا:

التحقيق في معناهما اللغوي و العرفي و ثانيا في بيان المقصود من هذه القاعدة اصطلاحا.

و أما في اللغة: فلفظ العدل فسّره في المفردات بالتقسيط علي سواء، و بالمساواة في المكافأة، إن خيرا فخير و إن شرا فشر. بخلاف الاحسان الذي هو مقابلة الخير بأكثر منه و الشر بأقلّ منه. و في أساس البلاغة بالوسط و الاقتصاد، و في النهاية بضدّ الجور. و فسّره في المصباح بهما بقوله:

«العدل القصد في الأمور و هو خلاف الجور». ثم قال: «و التعادل بالتساوي، و عدّلته تعديلا فاعتدل سوّيته فاستوي، و منه قسمة التعديل».

و في مجمع البحرين قال: «العدل لغة هو التسوية بين الشيئين و عند المتكلمين هو العلوم المتعلّقة بتنزيه البارئ عن فعل القبيح و الاخلال بالواجب» و أيضا فسّره بالقصد في الأمور و بخلاف الجور و بالفداء.

و المتحصّل من مجموع كلماتهم أنّ لفظ العدل في أصل اللغة هو التسوية في القسمة و المكافأة و ساير الأمور. و القصد في الأمور الذي هو خلاف الجور يكون في الحقيقة التسوية في الأمور، كما أنّ الفدية بلحاظ ما يعتبر فيها من مساواتها و تعادلها مع ما تفدي عنه، تكون من مصاديق العدل.

و أما لفظ الانصاف: فقد فسّره أهل اللغة باعطاء النصف، كما صرّح به أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية و الزمخشري في أساس البلاغة.

و في المصباح: «أنصفت الرجل إنصافا عاملته بالعدل و القسط و الاسم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 205

النصفة بفتحين؛ لأنّك أعطيته من الحق ما تستحقه لنفسك».

و الظاهر أنّ هذا التفسير مناسب لما هو المرتكز في أذهان أهل العرف من لفظ الانصاف و هو أعم من معناه بحسب أصل اللغة؛ حيث إنّ إعطاء النصف من مصاديق العدل و القسط بلحاظ استواء النصفين و تعادلهما.

و بذلك يظهر الفرق بين العدل و الانصاف في اللغة. فالعدل في أصل اللغة هو مطلق التسوية، و لكن الانصاف هو خصوص التسوية بالتنصيف و إعطاء النصف.

و لقد أجاد أبو هلال في الفرق بينهما؛ حيث قال: «إنّ الانصاف إعطاء النصف. و العدل يكون في ذلك و في غيره ألا تري أنّ السارق إذا قطع، قيل:

إنّه عدل عليه، و

لا يقال: إنّه أنصف؟. و أصل الانصاف أن تعطيه نصف الشي ء و تأخذ نصفه من غير زيادة و نقصان». «1» و أظنّ أنّ أحسن ما جاء في تفسير العدل كلام علي عليه السّلام: «العدل يضع الأمور مواضعها». «2» يلائم هذا المعني ما سيأتي في بيان المعني المقصود من الانصاف.

و أما في الاصطلاح فقد يقال في بيان مفاد هذه القاعدة: إنّ المقصود منها توزيع المال المشتبه مناصفة، بأن اشتبه مال بين شخصين و لم يعلم أنّه لزيد أو عمرو مع العلم الإجمالي بأنه لأحدهما قطعا و لم يكن أيّ دليل و لا أيّة أمارة علي التعيين. فيرجع حينئذ إلي هذه القاعدة، و هي تفيد تقسيم المال بينهما نصفين.

و هذا البيان مناسب لمعني لفظ الانصاف في أصل اللغة؛ حيث اخذ من

______________________________

(1) الفروق اللغوية: ص 80، ش 317.

(2) نهج البلاغة: ح 437.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 206

النصف، كما فرّق بذلك أبو هلال العسكري بين العدل و الانصاف.

و لكن هذا المعني لا ينبغي أن يكون مقصودا من هذه القاعدة قطعا.

و ذلك لأنّ لفظ الانصاف في نص القاعدة بمعني ما يرادف العدل، دون ما يغايره كما جاء في كلام أبي هلال.

و ذلك أولا: بقرينة إرداف الانصاف للعدل في متن القاعدة. فانّ ظاهر ذلك إفادة اللفظين معني واحدا هو مفاد هذه القاعدة.

و ثانيا: لأنّ عمدة دليل هذه القاعدة هي حكم العقل و سيرة العقلاء. و من الواضح أنّ الذي يراه العقل في حكمه و العقلاء في سيرتهم مقتضي العدل ليس هو التنصيف في مطلق الموارد؛ حيث إنّه ربما يكون التنصيف في نظر العقل خلاف مقتضي العدل، بل إنّما الذي يراه العقل مقتضي العدل في مصبّ هذه القاعدة

هو التقسيم بالسوية؛ لأنّ به يعطي كلّ ذي حقّ ما يستحقّه ظاهرا، لا بالتنصيف.

فاذا تردّد مال بين ثلاثة أشخاص يكون مقتضي العدل في نظر العقل هو التقسيم أثلاثا، و إذا تردد بين أربع يري العقل مقتضي العدل التقسيم بينهم أرباعا. فهذا هو الانصاف الملائم للعدل، لا التنصيف.

و قد سبق في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ العدل يضع الأمور مواضعها و هذا يلائم الانصاف بالمعني المقصود في المقام؛ لأنّ إعطاء كلّ ذي حق ما يستحقه ليس إلّا وضع الحقوق في مواضع استحقاقها. و كذا لو تردد درهم بين شخصين كان لأحدهما أربع دراهم و للآخر درهم واحد، ففقدت الدراهم و لم يبق عند الودعي إلّا درهم واحد، فمقتضي العدل حينئذ تقسيم الدرهم بينهما أخماسا و إعطاء صاحب الأربعة أربع أسهم و صاحب

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 207

الدرهم الواحد سهما واحدا من الدرهم الموجود، و إن كان في كون التقسيم علي هذا النحو في هذه الصورة مقتضي العدل كلام؛ إذ الدرهم الموجود بالأخرة مردّد بين شخصين، إما لهذا الشخص أو لذاك. و مجرد قوة احتمال كونه لصاحب الأربعة لا يجعل له سهما أكثر من الآخر. و بناء علي ذلك مقتضي العدل و الانصاف حينئذ التنصيف، لا التخميس.

و علي أيّ حال فالمعني الذي ينبغي أن يراد من الانصاف في نص هذه القاعدة هو التقسيم بالسوية الذي عبّر عنه في المصباح و غيره بقسمة التعديل، و بذلك يعطي كلّ ذي حق ما يستحقّه في الظاهر بحكم العقل و العقلاء فليس المقصود منه إعطاء النصف، كما جاء في معناه اللغوي.

و يشهد لذلك ما سيأتي من النصوص في تفسير العدل بالانصاف. و بناء علي ذلك يكون

العدل في عنوان هذه القاعدة بمعناه اللغوي و ما هو المعروف في علم الكلام و غيره، من التسوية في القسمة و القصد في الأمور الذي هو ضدّ الجور.

نعم لا ريب أنّ التنصيف إذا كان مطابقا من أحد مصاديق التقسيم بالسوية، و بهذا اللحاظ يكون من مصاديق الانصاف بالمعني المقصود، إذا لم يكن لأحدهما دليلا علي اختصاص الدرهم الموجود به؛ إذ المفروض أنّه لا مرجّح حينئذ لأحد الشخصين علي الآخر، فلا مناص من التنصيف؛ لأنه مقتضي العدل و الانصاف، و غيره خلاف مقتضاهما.

و هذا هو الذي جرت عليه سيرة العقلاء في مثل المقام، و لا منشأ لاستقرار سيرتهم علي ذلك إلّا كون التنصيف حينئذ مقتضي العدل؛ لأنه الملائم لارتكازهم العقلائي و المستحسن في نظر العقل، فلا موضوعية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 208

للتنصيف بعنوانه في مصبّ هذه القاعدة.

و بناء علي ما ذكرناه في بيان مفاد هذه القاعدة من تقسيم المال أو الحق بين المستحقين بالسوية إنما تجري هذه القاعدة فيما إذا كان المال أو الحق المتردّد قابلا للتقسيم بالاشاعة أو العدد، بلا فرق بين كونه بنفسه قابلا للتقسيم و بين تقسيمه بلحاظ منافعه، كالعبد المتردّد ملكيته بين عدّة أشخاص، لو أمكن تقسيم منافعه بين المدّعين بالسوية عند عدم دليل لواحد منهم علي مدّعاه.

و أما إذا لم يمكن تقسيمه بأيّ وجه، كالطفل اللقيط المتردّد بين عدّة أشخاص مدّعين أو المتولّد من جارية وطأها قوم بالمبايعة فادّعي كل واحد منهم كون الولد له أو الموطوءة بالشبهة، فلا تجري هذه القاعدة؛ لعدم إمكان تقسيم الطفل بينهم بالسوية.

ثم لا يخفي أنّ مصبّ هذه القاعدة و إن كان في أغلب الموارد الحقوق المالية، إلّا أنّ الحقوق المالية سارية

في مختلف أبواب الفقه، من فرائضها المالية كما في الخمس و الزكاة، و معاملاتها و جزئيّاتها، بل و في غير الحقوق المالية، كما سيأتي ذكر بعض مواردها في التطبيقات الفقهية.

ثم إنّه ينبغي التنبيه في المقام علي أمرين:

أحدهما: ما يتوهم من استلزام التقسيم بالسوية الضرر علي المالك الواقعي لعدم وصول بعض ماله إليه دائما. و عليه فهذه القاعدة تفيد حكما ضرريا، و هو منفي بقاعدة لا ضرر.

و يمكن دفع هذا التوهم بأنّ قاعدة لا ضرر إنّما تنفي حكما يبتني أساس تشريعه علي الضرر فيما لم يقع ضرر بعد و إنّما نشأ من الحكم، و هذه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 209

القاعدة ليست من هذا القبيل. و ذلك لكون الكلام فيما ورد الضرر مع قطع النظر عن جريان هذه القاعدة، فالضرر الوارد أمر مفروغ عنه في المقام، و إنما يدفع بجريانها بعض الضرر عن المالك. و سيأتي مزيد توضيح لذلك في التعرّض لحكم معارضة هذه القاعدة مع ساير الأدلة.

ثانيهما: أنّ مع وجود القرعة فأيّ حاجة إلي هذه القاعدة، و لا سيما بلحاظ ما ورد في صحيح أبي بصير:

«ليس من قوم تقارعوا ثم فوّضوا أمرهم إلي اللّه عز و جل، إلّا خرج سهم المحق». «1»

و الجواب: أنّ القرعة إنما شرّعت لكلّ أمر مشكل، كما دلّت علي ذلك النصوص و اتفق عليه الفقهاء. و لا مشكل في المقام بعد حكم العقل بمفاد هذه القاعدة و جريان السيرة العقلائية عليها.

مدرك القاعدة

اشارة

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بوجوه:

الأوّل: حكم العقل.

لا ريب في أنّ حكم العقل أحد أدلّة هذه القاعدة، بل يظهر من بعض الفقهاء أنّه لا دليل عليها غير حكم العقل، كما صرّح بذلك السيد الحكيم قدّس سرّه؛ حيث قال: «لا دليل علي هذه القاعدة، إلّا ما يتراءي من كلام غير واحد من حكم العقل بذلك». «2»

و يمكن تقريب الاستدلال بحكم العقل بأحد الوجوه الثلاثة التالية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 18، ص 188 ب 13 من كيفية الحكم ح 6 هذه الرواية صحيحة بطريق الصدوق.

(2) المستمسك: ج 14، ص 249.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 210

أحدها: أنّه لا ريب في كون العدل و الانصاف مستحسنا في نظر العقل؛ حيث إنّه يحكم بحسن العدل و الانصاف بالمعني الذي قلناه، و يري خلاف ذلك جورا، و يحكم بقبحه. و إنّه يستقل في موارد تردّد مال أو حقّ بين شخصين أو أشخاص أو اشتراكه بينهم بحسن رعاية العدل و الانصاف في تقسيم ذلك المال أو الحق بين أشخاص المدّعين إذا لم يكن لأحدهم دليل علي اختصاصه به مع العلم بكونه لأحدهم أو علي زيادة سهم في الشركة.

و يري التقسيم بالسوية و التعديل حينئذ مصداقا للعدل و الانصاف.

ثانيها: أنّه إذا تردّد شي ء بين شخصين و لم يعلم أنّه ملك لأيّهما و لم يكن لواحد منهما دليل علي ملكية ذلك الشي ء له، لا ريب حينئذ في أنّ إعطاء ذلك الشي ء بتمامه إلي أحدهما ترجيح بلا مرجح، و أنّ عدم إعطائه إلي واحد منهما مخالفة للعلم الإجمالي بكونه لأحدهما. فلا مناص حينئذ عند العقل إلّا تنصيف ذلك الشي ء بينهما؛ حيث إنّه يري الشخصين حينئذ متساويين في الاستحقاق ظاهرا مع عدم طريق له إلي

الواقع، فيري التقسيم بالسوية حينئذ مقتضي العدل و الانصاف.

و بعبارة أخري: بعد الجهل بالمالك في مفروض الكلام و عدم دليل لأحد من المدّعين و عدم إمكان إيصال المال إلي مالكه الواقعي، ينحصر علاج الواقعة ظاهرا في ثلاثة طرق.

الأوّل: عدم إعطاء المال المتردّد إلي واحد من المدّعين و لا ريب في بطلانه في نظر العقل؛ لكونه مخالفة قطعية للعلم الإجمالي بكون المال ملكا لأحدهم.

الثاني: إعطاؤه إلي واحد منهم، و لا يرتاب العقل في قبحه؛ لكنه ترجيحا

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 211

بلا مرجّح في نظره.

الثالث: التقسيم بالسوية؛ و لا مناص في نظر العقل إلّا من العمل به.

و ذلك لأنه في فرض عدم إمكان إيصال المال إلي مالكه الواقعي و عدم دليل و لا حجة معتبرة لأحد المدعين، و اليأس عن الواقع، يري العقل الطريق الأوّل مخالفة قطعية للعلم الإجمالي و ظلما؛ لاستلزامه القطع بحرمان المالك عن تمام ماله. و يري الطريق الثاني قبيحا لأنه ترجيح بلا مرجح، و إذا لا مناص في نظره من الطريق الثالث، بل يراه مصداقا للعدل حينئذ؛ نظرا إلي تساوي الاحتمالين في نظره، أي احتمال كون المال لهذا المدعي لا لذاك، و احتمال عكس ذلك، و إلي كون ترجيح أحدهما ترجيحا بلا مرجّح. فيري التقسيم بالسوية ترتيبا لكلّ من الاحتمالين علي حدّ سواء و مصداقا للعدل.

و قد نقل السيد الحكيم قدّس سرّه هذا التقريب و استظهره من كلام غير واحد. ثم أشكل عليه بما حاصله: أنّ عدم المرجح كما يقتضي التنصيف، يقتضي التخيير أيضا؛ إذ لا فرق في نظر العقل بينهما حينئذ، و إليك نصّ كلامه.

قال قدّس سرّه: «فانّ عدم المرجح كما يقتضي جواز التنصيف، يقتضي التخيير، نظير ما

ذكروه في مسألة الدوران بين الوجوب و الحرمة، من أنّ التخيير استمراري، و أنّ حكم العقل بالتخيير ابتداء بعينه يقتضي التخيير ثانيا، و أنّه لا فرق في نظر العقل بين احتمال الموافقة المقرون باحتمال المخالفة، و بين القطع بالمخالفة المقرون بالقطع بالموافقة. ففي المقام تخصيص أحد الشخصين بتمام المال يوجب الموافقة الاحتمالية المقرونة بالمخالفة الاحتمالية، و التوزيع يوجب الموافقة القطعية المقرونة بالمخالفة القطعية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 212

و لا فرق بينهما في نظر العقل». «1»

و يمكن ردّه برجحان التنصيف علي التخيير في نظر العقل؛ لأنه مقدّمة لتحصيل العلم بايصال مقدار من المال إلي صاحبه، بخلاف التخيير، فانه لا يوجب العلم بإيصال شي ء من المال إلي مالكه، كما يأتي بيان ذلك في التقريب الثالث. هذا مضافا إلي عدم معقولية التخيير الاستمراري في المقام؛ لأنه بعد إعطاء المال إلي واحد من المدعين لا يمكن العمل بالتخيير في أخذه منه و إعطائه إلي الآخر إلّا بايجاد نزاع جديد.

ثالثها: أنّ التنصيف في فرض الكلام طريق لتحصيل العلم بايصال نصف المال إلي صاحبه، و كذا التثليث بين ثلاثة أشخاص و التربيع بين أربعة، مقدمة للعلم بايصال مقدار من المال إلي مالكه الواقعي، و هذا بخلاف التخيير، فانه لا يوجب العلم بايصال شي ء من المال إلي مالكه، بل غايته احتمال إيصال المال بتمامه إلي مالكه. و لا ريب في كون تحصيل العلم بايصال مقدار من المال إلي مالكه الواقعي راجحا، بل متعيّنا في نظر العقل.

و أما استلزام ذلك العلم باعطاء مقدار من المال إلي غير مالكه، فلا مناص عنه في تحصيل العلم بايصال مقدار من المال إلي مالكه. و لا ينافي ما قلناه- من تعيّن الطريق الثالث

إعطاء مقدار من المال إلي غير مالكه الواقعي لا يصال مقدار منه إلي مالكه الواقعي- حرمة غير المالك الواقعي فيما وصل إليه بالتقسيم و لو كان بحكم الحاكم؛ نظرا إلي دخوله في عمومات حرمة اكل المال بالباطل، و أما الحاكم فلا مناص له من ذلك.

______________________________

(1) المستمسك: ج 14، ص 249- 250.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 213

الثاني: سيرة العقلاء.

بدعوي استقرار سيرتهم في المال المتردّد بين شخصين أو عدّة أشخاص- مع عدم بيّنة و لا حجّة لواحد منهم- علي تقسيمه بينهم بالسوية، بأن يقسّم بالتنصيف لو تردّد بين شخصين و بالتثليث لو تردّد بين ثلاثة أشخاص، و بالتربيع لو تردّد بين أربعة و هكذا.

و النكتة العقلائية الارتكازية التي هي سبب لاستقرار هذه السيرة بين العقلاء، أنّهم يرون التقسيم بالسوية حينئذ مقتضي العدل و الانصاف في ارتكازهم العقلائي و قريحتهم المشتركة بين جميع العقلاء و يرون خلاف ذلك مخالفا للعدل و الانصاف.

و ذلك لأنّ تخصيص المال المتردّد بواحد منهم أو تقسيمه بينهم بلا سوية يرجع في نظرهم حينئذ إلي الترجيح بلا مرجح، و هو قبيح عقلا.

فهذه السيرة لها في الحقيقة جذر في حكم العقل. و لم يرد من الشارع ردع لهذه السيرة، بل قد وردت منه نصوص يستفاد منها إمضاؤها. و سيأتي ذكر هذه النصوص.

و قد أشكل المحقق الخوئي علي الاستدلال بهذه السيرة بأنّه: «لم يثبت بناء و لا سيرة من العقلاء علي ذلك حتي تكون ممضاة لدي الشارع، اللّهم إلّا إذا تصالحا و تراضيا علي التقسيم علي وجه التنصيف فانه أمر آخر، و إلّا فجريان السيرة علي ذلك بالتعبد من العقلاء أو الشارع استنادا إلي ما يسمّي بقاعدة العدل و الانصاف لا أساس له،

و إن كان التعبير حسنا مستحسنا». «1»

______________________________

(1) مستند العروة/ كتاب الخمس: ص 147.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 214

و يرد عليه أولا: منع عدم جريان سيرة العقلاء علي تقسيم المال المتردّد بالسوية في فرض المقام بالتقريب الذي ذكرناه.

نعم بناء علي التقريب الذي ذكره من إيصال مقدار من المال إلي غير مالكه مقدّمة للعلم بوصول المقدار الآخر إلي المالك، بطريق قياس المقدّمة الوجودية- كبذل مقدار منه لمخارج الايصال- بالمقدمة العلمية، لعلّ إشكاله وارد؛ لما أشار إليه من كون قياس إحدي المقدّمتين بالآخر مع الفارق. و لكن بالتقريب الذي ذكرناه لا ريب في جريان السيرة عليه.

و ثانيا: منع كون جريان السيرة علي ذلك بتعبّد من العقلاء؛ لما أشرنا إليه من نشأة هذه السيرة من النكتة العقلائية المرتكزة في أذهانهم؛ و أنّ هذه السيرة مستندة إلي الارتكاز العقلائي و القريحة العامة المشتركة بين جميع العقلاء، بل لها جذر في حكم العقل، كما قلنا.

و لكن هذا العلم صرّح في موضع آخر من كلامه بقيام السيرة القطعية علي قاعدة العدل و الانصاف و التوزيع بالسوية في الحقوق المالية.

قال قدّس سرّه: «و إن كان المراد من ذلك هو قاعدة العدل و الانصاف و الجمع بين الحقوق، كما يظهر ذلك من ذيل كلامه، فهو و إن كان متينا لقيام السيرة القطعية عليه في الحقوق المالية، بل ورد عليه الخبر في الودعي؛ فإن العرف قاض بجواز بذل مقدار من المال مقدمة للعلم بوصول مقدار منه إلي صاحبه، نظير المقدمات الوجودية كبذل مقدار من المال لإيصال مقدار الآخر إلي صاحبه، و هو حسن». «1»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة/ طبع بيروت: ج 7، ص 262.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 215

الثالث: الكتاب.

لا اشكال في دلالة كثير من الآيات القرآنية علي ترغيب الناس إلي العدل و الانصاف، بل علي وجوبهما، بل يستفاد من بعضها أنّ ذلك أساس تشريع بعض الأحكام.

فمن هذه الآيات ما أمر فيه بالاقساط، كقوله تعالي: «وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» «1» و قوله تعالي: «وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». «2»

و الاقساط هو العدل و الانصاف، كما صرّح بذلك الطبرسي في مجمع البيان بقوله: «الاقساط العدل و الانصاف». «3» و أصل الاقساط من القسط و هو العدل البيّن الظاهر بالمكيال و الميزان. و من هنا سمّيا قسطا؛ لأنهما يظهران العدل في الوزن، كما صرّح به أبو هلال و فرّق بذلك بين العدل و القسط. «4» و قد سمّي النصيب قسطا؛ لأنه السهم الذي يستحقه صاحبه بمقتضي العدل.

و قد أجاد الراغب في بيان معني الاقساط؛ حيث قال: «و القسط هو النصيب بالعدل، كالنصف و النّصفة … و الاقساط أن يعطي قسط غيره، و ذلك إنصاف». «5» و قال الزمخشري: «قسّط بينهم المال: قسّمه علي القسط

______________________________

(1) الحجرات: 9.

(2) المائدة: 42.

(3) تفسير مجمع البيان: ج 3- 4، ص 4.

(4) راجع الفروق اللغوية: ص 428، ش 1720.

(5) المفردات: ص 403.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 216

و السوية». «1»

إلي غير من كلمات أهل اللغة الواردة في معني الاقساط المفسّرة له بالعدل و الانصاف، بل صرّح به الطبرسي كما عرفت.

و عليه فالآيات الآمرة بالاقساط تأمر بالعدل و الانصاف الذي هو مقصود الفقهاء من نصّ هذه القاعدة. و هو العدل و الانصاف في تقسيم الأموال و الحقوق. هذا مع كون العدل و الانصاف بالمعني الأعم في هذه القاعدة لا يضرّ بالمطلوب؛ لأنّ أعميّة

الدليل من المدّعي لا يضرّ بدليلته.

و لمّا يحكم به العقل يكون الأمر الوارد في هذه الآيات إرشادا إلي حكم العقل.

و منها: الآيات الآمرة بالعدل كقوله تعالي: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ» «2».

و قوله تعالي: «وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» «3» و غيره من الآيات.

وجه الدلالة أنّ الانصاف من مصاديق العدل، كما سبق في بيان معناهما في أصل اللغة، مضافا إلي ما سبق في تقريب الدليل العقلي من أنّ التقسيم بالسوية في مفروض الكلام من مصاديق العدل و الانصاف.

و يشهد لذلك تفسير العدل بالانصاف في بعض النصوص. مثل ما ورد عن علي عليه السّلام في تفسير قوله عليه السّلام: «العدل الانصاف و الاحسان التفضّل»، «4» بل ورد عن الباقر عليه السّلام: «لا عدل كالإنصاف». «5»

______________________________

(1) أساس البلاغة: ص 76.

(2) النحل: 90.

(3) النساء: 58.

(4) نهج البلاغة صبحي الصالح: ص 509/ الحكمة: ص 231 و رواه أيضا في البحار: ج 74، ص 412.

(5) البحار: ج 78، ص 165.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 217

الرابع: السنّة.

الروايات الصالحة للاستدلال بها لهذه القاعدة طائفتان.

الاولي: روايات متواترة عامّة أمر في طائفة منها بالانصاف، و في طائفة أخري رغّب إلي الانصاف و ذكرت فيها محاسنه و فضائله و ما يترتب عليه من الفوائد. و لا حاجة إلي ذكر هذه النصوص لكثرتها. فليراجع المعاجم الروائية في عنوان «الانصاف» و موادّه المختلفة.

و لفظ الانصاف في هذه النصوص بمعناه العام، و هو شامل لمصبّ هذه القاعدة، بلا ريب و لا إشكال، كما عرفت معني لفظ الانصاف من كلمات أهل اللغة. و كذا العدل، فانّ ما ورد من النصوص الآمرة به أكثر من أن تحصي.

الثانية: نصوص خاصّة واردة في مختلف أبواب الفقه،

يستفاد من مجموعها مفاد هذه القاعدة بنطاقها الواسع.

فمن هذه النصوص ما ورد في درهم أو دراهم تردّدت بين شخصين.

مثل صحيح عبد اللّه بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«في رجلين كان معهما درهمان. فقال أحدهما: الدرهمان لي، و قال الآخر: هما بيني و بينك، فقال: أمّا الذي قال: هما بيني و بينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له، و إنّه لصاحبه و يقسّم الآخر بينهما». «1»

و لا يخفي أنّ التعبير بغير واحد لا ظهور له في الارسال، كما قد يتوهم بل ظاهر في عدة أشخاص كثيرة يورث إخبارهم الاطمئنان، إمّا لكثرة

______________________________

(1) الوسائل: ج 13، ص 169، ب 9 من أبواب الصلح، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 218

عددهم أو للاطمئنان بوجود الثقة فيهم. فلا إشكال في سنده. و أما دلالته علي المطلوب فلقوله عليه السّلام: «يقسّم الآخر بينهما»؛ حيث دل علي تقسيم الدرهم المتنازع فيه بالسوية في فرض عدم إقامة دليل من جانب أحد المتنازعين علي اختصاص الدرهم به.

و موثق السكوني عن الصادق عن أبيه عليهما السّلام:

«في رجل استودع رجلا دينارين، فاستودعه آخر دينارا، فضاع دينار منها.

قال عليه السّلام: يعطي صاحب الدينارين دينارا، و يقسّم الآخر بينهما نصفين». «1»

و الوجه في حكمه عليه السّلام باعطاء أحد الدرهمين الموجودين إلي صاحب الدرهمين عدم ضياعه قطعا. فانّ الدرهم الضائع متردّد بين درهم له و بين درهم للرجل الآخر. و عليه فمقتضي العدل و الانصاف تنصيف أحد الدرهمين الموجودين بينهما و إعطاء الدرهم الآخر إلي صاحب الدرهمين؛ لعدم ضياعه بل هو موجود باق كما كان.

و ما رواه المشايخ الثلاثة بطرقهم عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن

علي عليهم السّلام «في رجل أقرّ عند موته: لفلان و فلان، لأحدهما عندي ألف درهم، ثم مات علي تلك الحال. فقال علي عليه السّلام: أيّهما أقام البيّنة فله المال. و إن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان». «2»

و منها: ما ورد في رجلين اختصما في دابّة و لم تكن في يد واحد منهما، و كلاهما أقاما البينة أو لم يقمها واحد منهما، و حلفا جميعا أو لم يحلف واحد منهما، فحكم أمير المؤمنين عليه السّلام بينهما بالتنصيف.

______________________________

(1) المصدر: ج 13، ص 171، ب 12، ح 1.

(2) وسائل الشيعة: ج 13، ص 400، ب 25، من الوصايا، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 219

مثل موثق إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«إنّ رجلين اختصما إلي أمير المؤمنين عليه السّلام في دابّة في أيديهما، و أقام كل واحد منهما البينة أنها نتجت عنده. فأحلفهما علي عليه السّلام. فحلف أحدهما و أبي الآخر أن يحلف، فقضاها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البينة؟ فقال عليه السّلام: احلفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فان حلفا جميعا جعلتهما بينهما نصفين». «1»

و صحيح غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام اختصم إليه رجلان في دابة و كلاهما أقاما البينة أنه أنتجها، فقضي بها للذي في يده، و قال عليه السّلام: لو لم تكن في يده جعلته بينهما نصفين». «2»

و مثلهما خبر تميم بن طرفة. «3»

و منها: ما ورد في امرأة ماتت قبل زوجها أو بالعكس. أو امرأة طلّقها زوجها فادّعي كل واحد منهما أنّ المتاع له، فحكم الإمام عليه

السّلام بتقسيم ما كان مشتركا بين الرجال و النساء من المتاع بينهما نصفين. و ذلك مثل ما حكم به أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام في صحيح يونس بن يعقوب بقوله: «و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما». «4» و في صحيح رفاعة- بطريق الصدوق- بقوله عليه السّلام: «و ما يكون للرجال و النساء قسّم بينهما». «5»

و لا يخفي عليك ما أشرنا إليه آنفا من عدم اختصاص هذه القاعدة بموارد التنصيف، بل يسع نطاقها كلّ إعطاء حق إلي مستحقّه بقدر

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 18، ص 182، ب 12 من أبواب كيفية الحكم، ح 2.

(2) المصدر: ح 3.

(3) المصدر: ح 4.

(4) وسائل الشيعة: ج 17، ص 525، ب 8 من ميراث الأزواج ح 3.

(5) وسائل الشيعة: ج 17، ص 525، ب 8 من ميراث الأزواج، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 220

ما يستحقّه. و يشهد لذلك موثق إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«في الرجل يبضعه الرجل ثلاثين درهما في ثوب و آخر عشرين درهما في ثوب، فبعث الثوبين و لم يعرف هذا ثوبه و لا هذا ثوبه، قال عليه السّلام: يباع الثوبان فيعطي صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن. و الآخر خمسي الثمن». «1»

هذه النصوص و إن لم ترد فيها كبري كلية تفيد هذه القاعدة، إلّا أن الموارد التي حكم فيها بالتقسيم بالسوية في هذه النصوص لا تتصوّر خصوصية لها و لا يخطر بالبال وجه للحكم فيها بالتقسيم بالسوية في الارتكاز العقلائي و الفهم العرفي إلّا كون ذلك من مصاديق العدل و الانصاف، كما أنّ التقسيم بحسب السهام في موثق إسحاق بن عمار لا وجه له

في ارتكاز أهل العرف و العقلاء، إلّا كون إعطاء كل ذي حق حقه مصداقا للتقسيم بالعدل و الانصاف. و بذلك يتم الاستدلال بهذه النصوص لإثبات هذه القاعدة.

و من هذه النصوص ما عدّ فيه التقسيم بالسوية و العدل من حق الرعية علي الامام.

و مما يدل علي ذلك ما رواه الصدوق باسناده عن أبي حمزة، قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام: ما حق الامام علي الناس؟ قال عليه السّلام: حقه عليهم أن يسمعوا له و يطيعوا. قلت: فما حقّهم عليه؟ قال عليه السّلام: يقسّم بينهم بالسوية و يعدل في الرعية، فاذا كان ذلك في الناس فلا يبالي من أخذ هاهنا و هاهنا». «2»

هذه الرواية لا كلام في رجال سندها، إلّا معلّي بن محمد و محمد بن

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 13، ص 170، ب 11 من أحكام الصلح، ح 1.

(2) الكافي: ج 1، ص 405، ب ما يجب من حق الامام علي الرعية و حق الرعية علي الامام ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 221

جمهور؛ بلحاظ ما قال النجاشي في حق الأوّل، من أنّه مضطرب الحديث، و في الثاني أنّه غال ضعيف الحديث. و لكن قد يقال بوثاقتهما بتوجيه نسبة الغلوّ و اضطراب الحديث إليهما بكونها بلحاظ اشتمال بعض رواياتهما علي مضامين غالية في حق الأئمة عليهم السّلام، و لا ينافي ذلك وثاقتهما، كما يشهد لوثاقة الأوّل قول النجاشي «كتبه قريبة» و قول ابن الغضائري في حقه «يجوز أن يخرج حديثه شاهدا»، و وقوعه في أسناد كامل الزيارات، و من هنا قوّي المحقق الخوئي وثاقة الرجل. و يشهد لوثاقة الثاني توثيق ابن قولويه إيّاه.

و أما دلالة: فلا إشكال في دلالتها علي وجوب كون التقسيم بالسوية

و العدل علي نحو القضية الكلية الحقيقية. و من الواضح أنّ التقسيم بالسوية و العدل لا ينحصر في التنصيف، بل له مصاديق عديدة. و إنما الضابطة فيه كون التقسيم بالسوية في فرض عدم تفاوت السهام، أو علي نحو يعطي به كل ذي حق ما يستحقه بمقتضي العدل في موارد تفاوت السهام و ذلك إمّا واقعا كما في موارد الشركة، أو ظاهرا كما في موارد التردّد.

ثم لا يخفي أنّه لا يصح نقض هذه القاعدة بما ورد في القرآن في تقسيم التركة أنّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. و ذلك لعدم كون تلك الآيات في مصبّ هذه القاعدة؛ حيث لم ترد في المال المشترك أو المتردد بين شخصين أو أشخاص، بل هو حكم تعبدي في الميراث الذي خرج عن ملكية صاحبه بالموت، مع أنّ المالك لو كان يقسّم ماله بين أشخاص بغير السوية، لم يكن عليه ملامة و لا تقبيح من جانب العقلاء؛ لأنّ المال ملكه فله أن يتصرّف فيه كيف شاء، فلا ربط لذلك بما نحن فيه؛ لكي تنقض به هذه القاعدة.

و أيضا ورد في خبر جابر المروي عن العلل: «إذا قام قائمنا عليه السّلام فانه يقسّم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 222

بالسوية و يعدل في خلق الرحمن البرّ و الفاجر». «1» فتحصّل أن هذه النصوص بأجمعها لا إشكال في تمامية دلالتها علي دليليتها لإثبات هذه القاعدة.

نعم مع فرض حكم العقل بذلك تكون الكبري الواردة في هذه النصوص إرشادا إلي حكم العقل، و أما مصاديقها الواردة في هذه النصوص لا خصوصية لها كما قلنا.

و أما مع فرض استقرار السيرة علي مفاد هذه القاعدة و مصبّها تكون هذه النصوص- بما بينّاه من تقريب الاستدلال- إمضاء

للسيرة العقلائية.

و أما سيرة المتشرعة فيشكل إحرازها مع وجود السيرة العقلائية؛ لفرض أنّ لسيرة المتشرعة جذرا عقلائيّا في ذلك.

و قال في الجواهر: «و قد تظافرت النصوص أنّه عليه السّلام- أي أمير المؤمنين عليه السّلام- كان يقسّم بين الناس بالسوية، حتي صارت من أوصافه العدل بالرعية و القسمة بالسوية». «2»

هل هي أمارة أو حكم أو أصل؟

لا ريب في عدم كون هذه القاعدة أصلا؛ لوضوح عدم اندراجه تحت أحد الاصول العملية الأربعة من البراءة و الاستصحاب و الاحتياط و التخيير، و لا غيرها، كأصالة الحلية و نحوها.

و لا إشكال في عدم كونها حكما لعدم تضمّنها حكما تكليفيا من الأحكام الخمسة و لا حكما وضعيا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 6، ص 195، ب 36، من المستحقين للزكاة، ح 1.

(2) جواهر الكلام: ج 21، ص 216.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 223

بل هي إما أمارة، و ذلك لأنّها في نظر العقل و سيرة العقلاء طريقا لا يصال الحق إلي مستحقه الواقعي؛ حيث إنّهم يرون العدل و الانصاف أقرب طرق و أحسنها إلي إصابة الحق الواقع في موارد تردّد المال بين شخصين أو عدّة أشخاص. و لا تغفل ما نبّهنا عليه سابقا من عدم كون المقصود منها التنصيف، بل بمعني إعطاء كل شخص حقه الذي يستحقه.

و إما حكم؛ نظرا إلي اقتضائها وجوب التقسيم بالعدل و الانصاف، أو وجوب إعطاء كل ذي حقّ قدر ما يستحقّه.

حالها مع معارضة ساير الأدلة

هذه القاعدة لمّا كان عمدة دليلها حكم العقل و سيرة العقلاء إنّما تحكّم فيما إذا لم يرد من الشارع نصّ خاص يدلّ علي التقسيم بكيفية خاصّة، كما ثبت في تقسيم الارث بصراحة قوله تعالي: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ». «1»

فاذا ثبت بنصّ من الكتاب و السنة تقسيم شي ء في مورد بكيفية مخصوصة لا ريب في العمل بذلك النص و تقديمه علي هذه القاعدة في ذلك المورد.

و ذلك لأنّ الأحكام الشرعية توقيفية تعبدية لا تصاب بالقياس و الاستحسان و حكم العقل، فاذا ورد نصّ من الشارع علي خلاف حكم العقل أو السيرة العقلائية في مورد نستكشف بالنص الشرعي الوارد

تخطئة حكم العقل أو السيرة العقلائية في ذلك المورد.

______________________________

(1) النساء: 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 224

و ذلك لكون حكم الشارع فوق حكم العقل؛ لأنّ الحاكم فيه هو اللّه الذي خلق العقل، و لأنّ الاحاطة بملاكات الأحكام الشرعية التعبدية فوق حدّ تشخيص العقل. و إنّما حكم العقل حجّة في الشرعيات ما لم يخطّئه الشارع.

و لا يخفي أنّ في المقام لا تخالف بين العقل و الشرع في أصل لزوم العدل و الانصاف، إلّا أنّهما قد يتخالفان في تشخيص مصاديق العدل و الانصاف، لو كان للعقل حكم في تشخيص ذلك المصداق.

و علي أيّ حال لا إشكال في تقديم النص الوارد في تقسيم شي ء بكيفية مخصوصة علي هذه القاعدة، لا أظنّ أن يلتزم فقيه بخلاف ذلك.

ثم إنّه قد يتوهم معارضة هذه القاعدة مع قواعد اخري، كقاعدة لا ضرر و قاعدة القرعة و قاعدة الصلح.

أما قاعدة لا ضرر: فقد يتوهم انّ التقسيم بالسوية يستلزم الضرر علي المالك الواقعي؛ لأنه يوجب حرمانه من بعض ماله دائما. و عليه فهذه القاعدة تفيد حكما ضرريا، و هو منفيّ بقاعدة لا ضرر و عند المعارضة تقدّم قاعدة لا ضرر لحكومتها علي جميع الأحكام الأولية و الأمارات.

و يمكن دفع هذا التوهم بأنّ قاعدة لا ضرر إنّما تنفي حكما ينشأ الضرر من تشريعه. و أما في مصبّ هذه القاعدة فالضرر وارد مع قطع النظر عن جريانها. فانّ ورود الضرر في مجري هذه القاعدة أمر مفروغ عنه قبل جريانها. و إنّما يدفع بجريانها بعض الضرر الوارد عن المالك. و أما ورود الضرر عليه يدفع بعض ماله إلي غيره فهو مقدمة لا يصال بعض ماله إليه: إذ لا مناص من ذلك.

و عليه فلا تخالف

و لا معارضة بين هاتين القاعدتين، بل هذه القاعدة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 225

توافق قاعدة لا ضرر و تؤكّد مضمونها.

و أما قاعدة القرعة: فقد يتوهم أنها تمنع عن التقسيم بالسوية، مع العلم بكون المال المتردد بتمامه ملك أحد المدّعين و لا سيما بلحاظ ما ورد في بعض روايات القرعة من خروج سهم المحقّ بالقرعة.

و الجواب: أنّ القرعة إنما شرّعت لكلّ أمر مشكل، كما دلّت علي ذلك نصوص القرعة و اتّفق عليه الفقهاء، و لا مشكل في مصبّ قاعدة العدل و الانصاف بعد حكم العقل بمفادها و جريان السيرة العقلائية عليها. و عليه فهذه القاعدة واردة علي قاعدة القرعة؛ لأنّها تعدم بجريانها موضوع قاعدة القرعة، و هو الأمر المشكل؛ نظرا إلي ارتفاع المشكلة بجريانها.

و أما قاعدة الصلح: فلا ريب في تقدمها علي هذه القاعدة؛ لأنّ بها يحصل استرضاء أهل الدعوي و بذلك تنقلع مادّة النزاع، من دون حاجة إلي التمسك بحجّة.

هذا مضافا إلي عدم امكان الالتزام بعموم قوله: «القرعة لكل أمر مشكل» لاتفاق الأصحاب علي عدم مشروعية القرعة في كثير من موارد الاشتباه و الشبهة و التردّد و لا سيما في الحقوق الجزائية و الامور العبادية، و إلّا للزم تأسيس فقه جديد، كما أشار إليه بعض الأعلام.

و قد يشكل في المقام بأنه مع العمل بقاعدة العدل و الانصاف لا يبقي مورد للقرعة فيصبح دليلها بلا مورد و لغوا.

و الجواب: أنّ مورد هذه القاعدة كما قلنا، ما إذا كان المال المتردد قابلا للتقسيم، و لا تجري فيما ليس قابلا كالمرأة المتنازع في زوجيتها مع عدم الدليل، و كذا الولد الرضيع المتردد بين شخصين يدعيه كلّ منهما لنفسه؛

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية،

ج 1، ص: 226

لعدم كون الحرّ قابلا للبيع حتي يقسم بينهما بالسوية، أو ما إذا قال إحدي زوجاتي طالق، أو واحد من عبيدي حرّ، أو علمنا بكون إحدي الشياه من قطيع الغنم موطوئة، أو توقّف دفع الخطر عن جماعة علي إلقاء واحد منهم لا بعينه في معرض الخطر، فيعيّن ذلك الشخص بالقرعة كما ينظر إليه قوله تعالي: «فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» في قصّة يونس عليه السّلام أو اختلف جماعة في تكفّل طفل يتيم أم شخص سفيه فيعين الكفيل منهم بالقرعة، كما ورد في قوله تعالي: «إِذْ يُلْقُونَ أَقْلٰامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ»، إلي غير ذلك من الحقوق و الامور المتنازع فيها التي لا تقبل التقسيم.

و كذا في إفراز المال المشترك بعد تقسيمه حسب السهام أو بالسوية و تعيين حصّة كل من المعيّن ففي الأرض المشتركة بعد تقسيمها بين الشركاء فيقع الخلاف في كيفية تعيين الحصص في الخارج لاختلاف رغباتهم حسب اختلاف مواضع الأرض، فالجانب الشرقي منها مثلا ربما يكون أكثر رغبة و قيمة من الغربي أو بالعكس، مع عدم حصول غرضهم ببيع الأرض كلها و تقسيم ثمنها بينهم بالسوية أو حسب السهام، لكونه إرثا أو لغرض آخر فلا مناص في تعيين الحصص و إفرازها إلّا بالقرعة إلي غير ذلك من موارد النزاع مع عدم دليل لواحد من المتنازعين.

التطبيقات الفقهية

قد تمسّك الفقهاء بمضمون هذه القاعدة في موارد عديدة من مختلف أبواب الفقه. و من تتبع في كلمات الفقهاء- القدماء و المتأخّرين- يجد أنّهم يحكمون بالتقسيم بالسوية في كل مورد لا دليل علي اختصاص واحد من المستحقين و المشتركين بسهم أكثر من الآخر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 227

و يعلّلون ذلك بأنه لا ترجيح لواحد منهم

علي الآخر، كما في الانفاق فيما إذا تعدّد المستحقون للنفقة الواجبة من الأرحام بالنسب، أو التقسيم فيما إذا تساوت الشركاء في السهام من حيث رأس المال و العمل، أو إعطاء حق القسم فيما بلغ عدد الزوجات إلي الأربعة. و قد حكموا فيما إذا تخالفت السهام في المقدار بالتقسيم علي أساس السهام.

فانهم و إن لم يصرّحوا في هذه الموارد بنص قاعدة العدل و الانصاف، إلّا أنّه يستفاد من سياق كلامهم أنّهم استندوا فيها إلي هذه القاعدة؛ حيث علّلوا التقسيم بالسوية بعدم جواز الترجيح بلا مرجح و بأصالة التسوية، كما سبقت الاشارة إلي ذلك في بيان منصّة هذه القاعدة في كلمات الفقهاء.

فيعلم من ذلك أنّه مع عدم المرجح يكون التقسيم بالسوية بحكم العقل، و أنّه مقتضي العدل و الانصاف؛ إذ قد عرفت أنّ حكم العقل بقبح الترجيح بلا مرجح هو مبني حكمه بحسن العدل و الانصاف، بل لزومه مع فقد المرجح. و مع وجود المرجح يكون التقسيم بحسب السهام و الحصص هو مقتضي العدل و الانصاف.

فمن هذه الموارد ما أفتي به صاحب الشرائع في شخصين تنازعا في ثوب و في يد أحدهما أكثره، فحكم في الشرائع بتقسيم الثوب بينهما بالسوية. و علّل ذلك في المسالك بقوله: «لاشتراكهما في مسمّي اليد و لا ترجيح لقوّتها». «1» و مرجع كلامه إلي أنّ تفضيل من في يده أكثر الثوب في التقسيم ترجيح بلا مرجّح.

______________________________

(1) المسالك: ج 4، ص 297.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 228

و منها: من لم يف ما زاد علي نفقة نفسه بنفقة أبويه المعسرين كليهما، فقد حكم الشيخ بتقسيمه بينهما بالسوية؛ معلّلا بقوله: «إنّهما تساويا في الدرجة و ليس أحدهما أولي من صاحبه، أشركنا

بينهما و من قدّم أحدهما فعليه الدلالة». «1»

و حكم قدّس سرّه أيضا بتقسيم النفقة بالسويّة بين الأب و الابن المؤسرين، إذا لم تف بهما معا. و علّله بقوله: «لا ترجيح لأحدهما، فوجب التسوية». «2»

و قد علّل ذلك ابن إدريس في الموردين المزبورين بقوله: «لأنّهما متساويان في النسب الموجب للنفقة. و تقديم أحدهما علي صاحبه يحتاج إلي دليل». «3»

و منها: مسألة تقسيم ماء الزرع بين شخصين لا مزية لأحدهما علي الآخر بالسوية، و علّل ذلك العلّامة بقوله: «لنا تساويهما في الاحتمال فيقسّط عليهما بالسوية، كما لو تنازعا دارا؛ لعدم المرجّح». «4»

و منها: ما لو قارض شخص عاملين مبلغا للمضاربة و لم يشترط تفضيل أحدهما في سهمه من الربح، فحكم العلامة أولا: بتقسيم الربح بين العاملين و بين صاحب المال بالتنصيف، و ثانيا: بتقسيم النصف الآخر من الربح بين المعاملين بالسوية. و علّل ذلك باقتضاء الاطلاق و أصالة عدم التفضيل. «5»

______________________________

(1) الخلاف: ج 5، ص 125، م 27.

(2) الخلاف: ج 5 ص 126، م 30.

(3) السرائر: ج 2، ص 657.

(4) منتهي المطلب: ج 1، ص 499.

(5) تذكرة الفقهاء/ الطبع الحجري: ج 2، ص 230.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 229

و منها: مسألة الوقف و الوصية فقد حكموا بأنّ إطلاق كلّ من الوقف و الوصية يقتضي التسوية بين الموقوف عليهم، و كذا الموصي لهم، في الانتفاع من العين الموقوفة و تقسيم المال الموصي به في الوصية التمليكية و توزيع الوظائف العملية في الوصية العهدية؛ معلّلا بعدم دليل علي التفضيل و الترجيح. كما في المختصر النافع «1» و كشف الرموز «2».

و قد يعبّر عن دليل ذلك بأصالة التسوية و لكنّها تنتهي في الحقيقة إلي عدم جواز

الترجيح بلا مرجح. و يشهد لما قلنا تعليل العلامة ذلك- في ردّ ابن الجنيد القائل بأن للذكر مثل حظّ الأنثيين- بقوله: «لنا: الأصل يقتضي التسوية، فلا يجوز العدول عنه إلّا بدليل، كما لو أقرّ لهم أو أوصي لهم». «3»

و نظيره في المسالك. «4»

و في مسألة الوصية علّل ذلك- في ردّ الشيخ و ابني الجنيد و البراج القائلين بالخلاف، و تقوية ابن إدريس القائل بالتسوية- بقوله: «لنا: أصالة التسوية». «5» و قد علّل ذلك في المسالك بقوله: «و أما اقتضاء إطلاق الوصية التسوية، فالاستواء نسبة الوصية اليهم و انتفاء ما يدلّ علي التفضيل في كلام الموصي، فلا فرق فيه بين الذكر و الأنثي، و لا بين الأخوال و الأعمام «6»

______________________________

(1) المختصر النافع: ص 158 و 164.

(2) كشف الرموز: ج 2، ص 53 و 76.

(3) مختلف الشيعة: ج 6، ص 308.

(4) المسالك: ج 5، ص 352.

(5) المصدر: ص 384.

(6) هذا التفصيل من الشيخ في النهاية و ابني الجنيد و البراج؛ حيث حكموا في ذلك للأعمام بالثلثين و للأخوان بالثلث.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 230

و غيرهم. و اختلافهم في استحقاق الارث جاء من دليل خارج و لا يقاس عليه ما يقتضي التسوية». «1» إلي غير ذلك من الفروع المنبثّة في مختلف أبواب الفقه.

و مع ذلك فقد تمسّكوا بنص هذه القاعدة في موارد عديدة.

و ممن تمسك بهذه القاعدة هو الفقيه النحرير السيد محمد العاملي في مسألة حق القسم للزوجات المتعددة. فانه بعد ما استظهر من كلام الشيخ و العلامة وجوب ضمّ النهار إلي الليلة في ثبوت حقه القسم لكلّ امرأة، قال:

«و دليله غير واضح علي الخصوص، و إن كان المصير إلي ما ذكره مقتضي العدل

و الانصاف». «2»

و منهم: صاحب الحدائق، فانه علّل التسوية بين الزوجات في الانفاق و حسن المعاشرة و الجمع و طلاقة الوجه بقوله: «لما في ذلك من رعاية العدل و الانصاف». «3»

و منهم: صاحب الجواهر فيما إذا تداعي شخصان في درهم فادّعي كلّ منهما ملكيته لنفسه و لا بيّنة لواحد منهما و كان تحت يدهما معا أو لا يد لواحد منهما عليه. فحكم حينئذ بتنصيف الدرهم بينهما لو كانا شخصين، و بالتثليث لو كانوا ثلاثة، و هكذا.

فإنّه- بعد ترجيح التنصيف علي القرعة في مثل المقام و نفي كون التنصيف بمقتضي يد كل واحد منهما؛ نظرا إلي معارضتها بالأخري- قال:

______________________________

(1) المسالك: ج 6، ص 231.

(2) نهاية المرام/ طبع جماعة المدرسين: ج 1، ص 420.

(3) نهاية المرام/ طبع جماعة المدرسين: ج 1، ص 420.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 231

«و حينئذ فليس النصف المحكوم به في النص و الفتوي، إلّا لقطع الخصومة بينهما بذلك بالعدل و الانصاف. لعدم تحقق الدعوي من أحدهما و الإنكار من آخر، لكون المفروض تساويهما من كل وجه، ففي الحقيقة ليس إلّا دعوي واحدة، و هي ملكية الدرهم إلّا أنّ أحدهما يدعي أنّها له، و الآخر كذلك، و لا ترجيح لأحدهما، بعد معارضة يد كل منهما للأخري، الموجب للتساقط، نحو البينتين المتعارضتين من كل وجه، فيقسّم المال بينهما … فإن كانا اثنين فالنصف، و إن كانوا ثلاثة فالثلث، و هكذا؛ قطعا للخصومة بينهما بالعدل و الانصاف». «1»

ثم صرّح قدّس سرّه بعد أسطر بأنّ الحكم بتنصيف الدرهم المتردد إنما هو لأجل هذه القاعدة؛ أي العدل و الانصاف.

قال قدّس سرّه: «فيقسّم بينهما نصفين علي الاشاعة للقاعدة التي ذكرناها، التي قد أومي إليها في

الخبرين السابقين المعتضدين بالفتوي المجرّدة عن ملاحظة اقتضاء اليد». «2»

و لا يخفي أنّ مقصوده من الخبرين صحيح عبد اللّه بن المغيرة و مرسل محمد بن أبي حمزة المنجبر بالشهرة «3» و من القاعدة التي ذكرها هي قاعدة العدل و الانصاف المصرّح بها في كلامه.

و هو قدّس سرّه بالتمسّك بهذه القاعدة ردّ ما استشكله في المسالك و الدروس؛ حيث قال: «و لا إشكال بعد النص و الفتوي و القاعدة التي أشرنا إليها في

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 26، ص 224.

(2) جواهر الكلام: ج 26، ص 225.

(3) راجع المصدر: ص 223.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 232

قسمة المال بين مدعيه- قلّوا أو كثروا- بالسوية، بعد فرض استوائهم». «1»

و من الموارد التي استدلّ فيها بهذه القاعدة ما إذا علم قدر مال الغير و لم يعرف صاحبه بعينه، بل إنّما علم في عدد محصور. فقد ذكر هناك للخروج عن عهدة ضمان المال و التخلص عن الجميع وجوه: من استرضاء الجميع بالمصالحة أو إجراء حكم مجهول المالك أو القرعة أو التوزيع بينهم بالسوية.

و قد قوّي صاحب العروة «2» الأخير، أي التوزيع بينهم بالسوية.

و علّله السيد الحكيم «3» و السيد الخوئي «4» بأنه مقتضي العدل و الانصاف، و لكنّهما أشكلا علي تمامية هذه القاعدة، و قد عرفت الجواب عنهما في بيان مدرك القاعدة.

و منها: ما لو علم أنّ شخصا إمّا أتلف منّا من حنطة زيد أو منّا من شعيره و اختلفا في القيمة. فقد صرّح السيد الحكيم «5» بأنّ مقتضي قاعدة العدل و الانصاف التوزيع حينئذ بين الحنطة و الشعير بالسوية فيضمن الشخص نصف كلّ واحد منهما، بل هذا المورد أولي من صورة تردّد المالك- المنصوص فيها التوزيع بالسوية-

بالعمل بالقاعدة؛ إذ لا يضيع فيه حق المالك؛ إذ يصل إليه تمام المنّ، و لكن هناك يعطي بعض حقه و يحرم من البعض الآخر.

______________________________

(1) المصدر: ص 226.

(2) العروة الوثقي/ كتاب الخمس/ المسألة 30 من فروع الحلال المختلط بالحرام.

(3) المستمسك: ج 9، ص 497.

(4) مستند العروة/ كتاب الخمس: ص 146.

(5) المستمسك: ج 9، ص 501.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 233

و منها: ما لو ضرب شخص حاملا فأسقطت حملها، فقطع آخر رأسها، و جهل حال الحمل و لم يعلم أنّ له حياة مستقرّة أو لا؟، فقد حكموا حينئذ بسقوط القود عن كليهما. و أما الدية فاحتمل وجوه، بل أقوال أربعة.

أحدها: أنّ الدية علي الثاني. ثانيها: تعيين من عليه الدية بالقرعة. ثالثها:

أخذ الدية من بيت مال المسلمين. رابعها: توزيعها عليهما بالسوية. و قد قال المحقق السيد الخوئي في توجيه هذا الوجه الأخير: «لا دليل عليه عدا ما يمكن أن يقال: إنّ هذا مقتضي قاعدة العدل و الانصاف». «1» ثم أشكل علي إطلاق هذه القاعدة بما أجبنا عنه في بيان مدرك القاعدة، و إن كان في تطبيقها علي هذا الفرع نظر.

هذه الفروع نماذج من مجاري هذه القاعدة و تطبيقاتها الفقهية، و من أراد الفحص فليراجع مظانّها في مختلف أبواب الفقه.

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج: ج 2، ص 418.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 235

قاعدة نفي سبيل الكفار علي المسلمين

اشارة

1- منصّة هذه القاعدة 2- تحرير مفاد القاعدة 3- مدرك القاعدة 4- هل هي أمارة أو أصل أو حكم؟

5- مجاري القاعدة و تطبيقاتها 6- حالها مع معارضة ساير الأدلة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 237

منصّة هذه القاعدة

إنّ لهذه القاعدة منصّة خطيرة من بين ساير القواعد الفقهية المبحوث عنها. و ذلك لما لها من الدور الكبير في اعتلاء كلمة الإسلام و المسلمين، و تفوّق النظام الحكومي الاسلامي علي الدول الكافرة، و لا سيما الاستكبار العالمي الأمريكي الصهيوني.

و ذلك لأنّ الطواغيت الكافرة الأمريكية و الصهيونية يرون حق استخدام صنعة الذّرّية النووية في المقاصد العسكرية و توليد اسلحتها مختصّا بأنفسهم و زملائهم المستكبرين. و قد أحرزوا تطوّرات و إنجازات ملموسة بارزة في توليد هذه الأسلحة.

و لكن لا يرون لدول العالم الثالث، و لا سيّما نظامنا الاسلامي الثائر حقا و لا حظّا من هذه التّقنية العسكرية المتطوّرة.

و هذه القاعدة تنادي بأعلي صوت أنّ اللّه تعالي لم يشرّع في الشريعة الاسلامية أيّ حكم يوجب سلطة الكفار علي المسلمين و بلادهم و نواميسهم، و عدم مشروعية أيّ حكم و قانون يستتبع هذا المعني.

و يتضح في ضوء هذه القاعدة بطلان ما نسبه بعض مسئولي نظامنا إلي الشريعة الاسلامية، من عدم مشروعية استخدام هذه الصنعة في

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 238

المقاصد العسكرية؛ مستشهدا ببعض أحكام الجهاد الابتدائي الدعائي، من حرمة إلقاء السمّ في الماء و إحراق المزارع، و نحو ذلك.

فان هذه القاعدة تثبت لنا أنّ هذه الفكرة لا أساس صحيح شرعي لها، بل- مضافا إلي مشروعية استخدام هذه الصنعة- يكون استخدامها في المقاصد العسكرية من الواجبات الأكيدة؛ نظرا إلي توقف اقتدار النظام الاسلامي و تفوّقه العسكري علي

نظام الاستكبار العالمي الكافر، و لا سيّما الطواغيت الأمريكية و الصهيونية علي تطوّرنا و تقدّمنا في هذه الصنعة و استخدامها في المقاصد العسكرية؛ عملا بقوله تعالي:

«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ». «1»

و قوله تعالي: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» «2».

و لو لا ذلك ليسري الرعب و الوحشة إلي مسئولي الدول الاسلامية تدريجا، و يسلب جرأتهم علي المقاومة قبال تجاوزات العدوّ الأمريكي و الصهيوني، بل يستلزم ذلك ذلّتهم و مسكنتهم امام ميولهم الجائرة العادية و انحرافهم إلي أهوائهم الطاغية.

تحرير مفاد القاعدة

لبّ مفاد هذه القاعدة هو نفي سبيل الكفار و منع سلطتهم علي المسلمين. و يمكن التعبير عن مفادها بنفي استيلاء الكفر علي الإسلام و وجوب علوّ الإسلام و تفوّقه علي الكفر في جميع الجهات.

و المقصود من ذلك أن في المعاملات و المرابطات بين المسلمين و الكفار

______________________________

(1) سورة الأنفال: الآية 60.

(2) سورة النساء: الآية 141.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 239

يحرم علي المسلم أن يعمل عملا يوجب سلطة الكفار علي المسلمين، كإجارة نفسه أو دابته أو أرضه للكافر، و إجارة المعامل بأنحائها المختلفة و الأجهزة و الآلات الصناعية، و بيعها لهم، و تعليم أنحاء التّقنيّات و تكنيكها العسكرية و الطبيّة و الكهربائية و المخابراتية و الاقتصادية و غير ذلك.

و بالجملة تفيد هذه القاعدة حرمة كلّ عمل و فعل يوجب سلطة الكفار و استيلائهم علي المسلمين و ينتهي إلي غلبة ملّة الكفر علي الإسلام، بلا فرق بين كون الفعل صادرا من فرد واحد من المسلمين أو جماعاتهم أو من جانب قائد المسلمين و حاكمهم، نعم هو أغلظ تحريما إذا صدر من حاكم المسلمين و رئيسهم؛ لأنّ ما يلزم من فعله من سيطرة

الكفار علي المسلمين أشدّ مما يلزم من فعل فرد عادي من المسلمين كإجارة نفسه أو أرضه لشخص من الكفار.

و حاصل مفاد هذه القاعدة أنّ اللّه تعالي لم يشرع في شريعة الإسلام حكما يقتضي سلطة الكفار و سيطرتهم علي المسلمين بأيّ نحو كان.

و عليه فكلّ ما يقتضي خلاف ذلك من إطلاقات الأدلة الاولية أو عموماتها يقيّد بمدلول هذه القاعدة، بل هي حاكمة علي إطلاقات جميع الأدلة الأولية كحكومة قاعدة نفي الحرج و الضرر.

مدرك القاعدة

اشارة

قد استدل لهذه القاعدة بأمور:

الأوّل: الإجماع.

بدعوي تحصيل إجماع الأصحاب علي وجوب رعاية علوّ المسلمين علي الكفار في فروع مختلف أبواب الفقه. و هذا كاشف عن ابتناء تشريع

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 240

جميع الأحكام علي هذا الأساس و أنّه لم يجعل في شريعة الإسلام حكم يوجب سلطة الكفار علي المسلمين.

فقد تمسك بهذه القاعدة قدماء الأصحاب و متأخّروهم في موارد عديدة.

فمنهم الشيخ الطوسي؛ حيث استدل بهذه القاعدة علي بطلان شراء الكافر عبدا مسلما.

فإنّه قدّس سرّه قال: «و دليلنا قوله تعالي: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، و هذا عام في جميع الأحكام». «1»

و كذا قال بعين هذا التعبير في الاستدلال علي مسألة بطلان توكيل الكافر في شراء العبد المسلم. «2» و في الاستدلال علي مسألة عدم استحقاق الذمي الشفعة علي المسلم. «3» و في مسألة عدم جواز قتل مسلم بكافر. «4»

و منهم ابن زهرة فقد استدل بها علي المسألة الاولي. «5»

و منهم ابن إدريس في المسألة الثانية، إلّا انّه لم ير للوكيل الكافر سبيلا علي موكّلته المسلمة، «6» و في المسألة الثالثة، «7» و في الاستدلال علي انفساخ عقد النكاح إذا أسلمت زوجة الكافر «8» و في مسألة بيع جارية الكافر إذا

______________________________

(1) الخلاف: ج 3، ص 188، م 315، المبسوط: ج 6، ص 129.

(2) المصدر: م 317، ص 190.

(3) المصدر: ص 453، م 38، المبسوط: ج 3، ص 139.

(4) الخلاف: ج 5، ص 145، م 2.

(5) غنية النزوع: ص 210 و علي المسألة الثالثة و الرابعة. المصدر: ص 234 و 404.

(6) السرائر: ج 2، ص 87.

(7) المصدر: ص 388.

(8) المصدر: ج 2، ص 543.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1،

ص: 241

أسلمت بغير اختيار مولاها الكافر. «1»

و منهم صاحب الشرائع و العلامة في جميع كتبه و ابنه فخر المحققين ابن فهد الحلّي و المحقق الكركي و الشهيد الثاني و المحقق الأردبيلي و الشيخ البهائي و الفقيه السبزواري و غيرهم من الفقهاء المتأخرين و متأخري المتأخرين. فقد تمسّكوا بهذه القاعدة في مسائل كثيرة من الفقه، أشرنا هاهنا إلي بعضها. و لم ينكر أحد منهم حجية هذه القاعدة في شي ء من هذه المسائل. نعم وقعت المناقشة كثيرا في تحقق مصداق سلطة الكافر علي المسلم.

و لكن هذا الاجماع غير صالح للدليلية؛ لما استدل به الأصحاب من الكتاب و السنة في المقام. فان الاجماع يصير بذلك مدركيا و لا يكون كاشفا تعبّديا عن رأي المعصوم.

الثاني: قوله تعالي: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»

. «2» بتقريب أنّ المنفي هو السبيل الناشئ من تشريع الحكم؛ لوضوح وجود السبيل التكويني الناشئ من الأسباب الخارجية للكفّار. و جعل السبيل إذا تعدّي ب «إلي» يفيد ايجاد الطريق و إمكان الوصول، و إذا تعدّي ب «علي» يفيد ايجاد السلطة و الاستيلاء. و هذا معلوم لمن تتبّع و تأمّل في موارد استعمالهما.

و حيث لا يعقل نفي السلطة التكوينية الخارجية؛ لما نشاهده بالوجدان

______________________________

(1) المصدر: ج 3، ص 22.

(2) النساء: 141.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 242

من سلطة الكفار علي المسلمين في طي القرون، مع ما هو معلوم بصراحة الكتاب من جريان سنة اللّه (تعالي) علي إملاء الكفار و إمهالهم في مطامع الدنيا و زخارفها و القدرة و السلطة المادّية. فلا مناص من كون المقصود نفي السلطة الناشئة من تشريع الحكم. فيكون ظاهر الآية أنّه لم يشرّع في شريعة الإسلام حكما يوجب سلطة الكفار علي المؤمنين.

و لفظ «لن» يفيد نفي الأبد. و

يستفاد من لفظ «لن» - الظاهر في نفي الأبد- أنّ إطلاق هذه الآية آب عن التقييد.

و لفظ «المؤمنين» في استعمالات القرآن جاء بمعني مطلق المسلمين، لا خصوص الشيعة الاثني عشرية.

و الحاصل: أنّ معني الآية نفي كلّ حكم يوجب سلطة الكفار علي المسلمين بأيّ نحو من أنحاء السلطات.

و عليه فكل حكم يوجب ذلك غير مشروع في شريعة الإسلام. و من هنا يكون مفاد هذه الآية حاكما علي إطلاقات جميع الأدلة الأولية إذا كانت مستتبعة لهذا المحذور. و لا يخفي أنّ هذه الآية هي عمدة دليل هذه القاعدة و أدلّ ما استدل به في المقام.

و أشكل علي الاستدلال بهذه الآية في المقام.

أولا: ببعض ما دلّ من النصوص علي أنّ المقصود نفي السبيل للكفار علي المؤمنين يوم القيامة، مثل ما رواه الطبري في تفسيره باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

«قال رجل: يا أمير المؤمنين أ رأيت قول اللّه وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، و هم يقاتلوننا فيظهرون و يقتلون؟ قال له علي عليه السّلام: ادنه ادنه. ثم قال عليه السّلام: فاللّه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 243

يحكم بينهم يوم القيامة، وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا يوم القيامة». «1»

قوله «ادنه» قال ابن الأثير في النهاية أنّه أمر بالدنوّ و القرب، الهاء فيه للسكت جي ء بها لبيان الحركة.

و ما دلّ منها علي أنّ المقصود نفي الحجة لهم علي المؤمنين يوم القيامة، مثل ما رواه الطبري أيضا في تفسيره باسناده عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: «ذاك يوم القيامة، و أمّا السبيل في هذا الموضوع فالحجّة، و روي أيضا عن السدي أنّه الحجّة». «2»

و ما دل منها علي أنّ المقصود نفي

الغلبة في الحجّة مطلقا، مثل ما رواه ابن بابويه بسنده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عليه السّلام في تفسير هذه الآية قال: «فانه يقول: و لن يجعل اللّه للكافرين علي المؤمنين حجة. و لقد أخبر اللّه تعالي عن كفار قتلوا نبيّهم بغير الحق. و مع قتلهم إيّاهم لم يجعل اللّه لهم علي أنبيائه سبيلا». «3»

و فيه: مضافا إلي ضعف أسناد هذه الروايات، أنّ الغلبة في الحجة أو في القيامة بعض مصاديق السلطة، و الآية تشمل بعمومها نفي جميع أنحاء السلطات، و ذلك بدلالة ما جاء فيها من النكرة في سياق النفي. فلا وجه لتخصيص هذا العموم، مع أنّ هذه الروايات بصدد بيان عدم إرادة نفي السلطة التكوينية و الغلبة في الحروب من السبيل المنفي في الآية، فلا نظر لها إلي نفي ما نحن بصدده.

و أما مسبوقية الآية بما يرتبط بالقيامة فلا توجب هدم ظهورها

______________________________

(1) جامع البيان في تفسير القرآن: ج 5، ص 214.

(2) جامع البيان: في تفسير القرآن ج 5، ص 214.

(3) تفسير البرهان: ج 1، ص 423.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 244

الاطلاقي، فان المورد لا يقيد إطلاق الخطاب، فلا تصلح تلك الآيات لتعيين مورد هذه الآية.

و ثانيا: بأنّ الجمع المحلّي بالألف و اللام في الكافرين و المؤمنين ظاهر في نفي سبيل جماعة الكفار علي جماعة المؤمنين، لا نفي سبيل آحادهم علي آحاد المسلمين أو علي جماعتهم.

هذا التوهم لا ينبغي أن يشكل به في المقام لوضوح إرادة جنس الكفار و المؤمنين في المقام. و استعمال الجمع المحلّي بالألف و اللام في الجنس غير عزيز، و القرينة السياقية و مناسبة الحكم و الموضوع تعيّن ذلك.

و أما ما قال بعض «1» من

أنّ المراد نفي الغلبة في عالم التشريع فغير صحيح؛ لأنّ الغلبة في عالم التشريع لا معني له ما لم يستتبع غلبة خارجية، بل المقصود هو نفي الغلبة و السيطرة الخارجية الناشئة من جعل الحكم الشرعي. و يفهم من ذلك بالدلالة الالتزامية أنّ المقصود هو نفي تشريع الحكم المستتبع لسلطة الكفار و تفوّقهم علي المسلمين.

الثالث: النبوي المشهور

، و هو قوله صلّي اللّه عليه و آله:

«الإسلام يعلو و لا يعلي عليه. و الكفار بمنزلة الموتي لا يحجبون و لا يرثون».

في بعض نسخ الفقيه المطبوع جاء لفظ «يرثون» و في الوسائل «يورثون» و الأصح الأوّل؛ لأنّ الكافر ممنوع من الارث فلا يرث مطلقا، و لو من المسلم. و أما وارثه المسلم فلم يمنع أن يرث من مورّثه الكافر. فالكافر يورّث و لا يرث.

______________________________

(1) راجع القواعد الفقهية للسيد البجنوردي: ج 1، ص 189.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 245

هذا النبوي رواه الصدوق في الفقيه «1» مرسلا عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أيضا رواه الشيخ مرسلا عن النبي صلّي اللّه عليه و آله في الخلاف. «2»

و رواه غيرهما من القدماء أيضا مرسلا عن النبي صلّي اللّه عليه و آله، إلّا أنّ ضعفه منجبر بعمل قدماء الأصحاب و إفتاء مشهورهم بمضمونه.

حيث استدلّ به الشيخ الطوسي لإثبات جواز إرث المسلم من الكافر و عدم جواز إرث الكافر من المسلم و لبيع العبد علي مولاه الكافر إذا أسلم في يده «3» و استدل به في المبسوط في مواضع عديدة.

منها: ما لو وجد لقيط في دار الإسلام فيحكم باسلامه- و ان احتمل كونه لكافر ذمّي- بدليل هذا النبوي. «4» و منها: وجوب قتل مسلم ارتد عن الإسلام إلي الكفر. «5»

و

استدل به القاضي ابن البراج لعدم جواز رفع الذمي بناء داره علي بناء المسلمين «6» و كذا استدل به في المهذّب. «7» و استدل به ابن زهرة علي عدم جواز شراء الكافر عبدا مسلما. «8» و علي عدم جواز رفع الذمي بناء داره علي بناء المسلمين. و استدل ابن إدريس بهذا النبوي لعدم جواز رفع الذمي بناء داره

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه/ طبع بيروت: ج 4، ص 243، ح 3/ 778.

(2) كتاب الخلاف/ طبع مؤسسة النشر الاسلامي: ج 4، ص 23.

(3) المصدر: ح 6، ص 419.

(4) المبسوط: ج 3، ص 342.

(5) المبسوط: ج 8، ص 70.

(6) جواهر الفقه: ص 51.

(7) المهذّب: ج 1، ص 395.

(8) غنية النزوع: ص 210.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 246

علي بناء المسلمين «1» و في مسألة إرث المسلم و حجبه الكافر دون العكس. «2»

و قد استدل به العلامة الحلي في المختلف و المنتهي و التذكرة، و ابن فهد في المهذّب البارع و المحقق الكركي في جامع المقاصد. و أكثر المتأخرين استدلّوا بهذا النبوي في مواضع عديدة.

فلا إشكال في هذا النبوي من جهة السند.

و أما من جهة الدلالة فلا ريب أنّ أيّ فعل و عمل موجب لسلطة الكفار علي المسلمين و اعتلاء الكفر علي الإسلام يدل هذا النبوي علي عدم كونه مشروعا. و ذلك لأنّ قوله صلّي اللّه عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلي عليه» ليس بمعني علوّ الإسلام و غلبته الخارجية و استيلاء المسلمين علي الكفار بالعلل و الأسباب التكوينية؛ نظرا إلي كون خلافه مشهودا بالوجدان، كما قلنا في تقريب الآية، بل المراد أنّ إرادة اللّه التشريعية إنّما تعلقت بعلوّ الإسلام، أي بجعل حكم يوجب

علوّ الإسلام و غلبته علي الكفر و ملّته و لم يشرّع حكما يوجب تفوّق الكفر و علوّه علي الإسلام.

هذا، مع أنّ المناسب لمقام تشريع الحكم المعلوم من ذيل النبوي، هو هذا المعني.

و أما إرادة علوّ الإسلام من جهة الحجة و البرهان و ارتقاء معالمه و تفوّق معارفه علي ساير الأديان بلحاظ كونه أكمل الأديان، فهو و إن كان داخلا في المعني اللّغوي العام للفظ «السبيل»، إلّا أنّه ليس مقصودا في الآية، فلا ينعقد لها ظهور تصديقي في هذا المعني.

______________________________

(1) سرائر: ج 1، ص 476.

(2) المصدر: ج 3، ص 266.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 247

و لا يخفي أنّ علوّ الإسلام و غلبته علي الكفر إنما يكون بارتفاع مجد الإسلام و ازدياد شوكته و انتشار معالمه و تعظيم شعائره، و من أهمّ ما يوجب ذلك ازدياد عزّة المسلمين و تفوّقهم و غلبتهم علي الكفّار. و لا ريب أنّ ذلك لم يتحقق بعد رسول اللّه إلي الآن. و أمّا تحققه في زمان ظهور امام العصر (عج) و إن كان مسلّما، كما ورد في النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام، إلّا أنّ ذيل هذا النبوي قرينة كاشفة عن عدم كون المقصود من صدره الإخبار عن ذلك و لو في عصر ظهور الحجّة (عج)؛ حيث تعرّض لبيان الحكم الشرعي و هو عدم إرث الكافر و لا كونه حاجبا عن ارث المسلم فذيل هذا النبوي موجب لظهور صدره فيما قلناه، من تعلّق إرادة اللّه تعالي بتشريع حكم موجب لعلوّ السلام و شوكته و مجده و غلبة المسلمين و اعتلاء كلمتهم و تفوّقهم علي الكفار و المشركين.

و الحاصل: أنّ هذا النبوي بصدد الإخبار عن كون ما جعله

اللّه تعالي من الأحكام في هذه الشريعة موجبا لعلوّ الإسلام و أنه (تعالي) لم يجعل حكما يوجب علوّ الكفر و تفوّق الكفار و غلبتهم علي المسلمين.

الرابع: ضرورة الدين القاضية بشرف الإسلام

. و عزّة المسلمين و هذه الضرورة مستفادة من الكتاب و السنة، كقوله (تعالي): «وَ لِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ». «1» و قوله: «وَ يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ الْكٰافِرِينَ». «2» و عبّر عن هذا الوجه بمناسبة الحكم و الموضوع و بتنقيح المناط القطعي و لكنهما غير مناسبين، بل الأنسب التعبير عنه بضرورة

______________________________

(1) المنافقون: 8.

(2) الانفال: 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 248

الدين أو مذاق الشارع و مذاقه القطعي، حيث علمنا بضرورة الدين- المستفادة من الكتاب و السنة- عدم رضي الشارع بذلّة المسلمين و عزة الكفار و علوّهم و غلبتهم علي المؤمنين بأيّ وجه. فاذا كان هذا ديدن الشارع و مذاقه القطعي، فكيف يمكن أن تتعلّق إرادته بتشريع حكم يوجب علوّ الكفار و استيلائهم علي المؤمنين و قد عدّ بعض المحققين «1» هذا الوجه من أحسن وجوه الاستدلال في المقام، و أظنّ أنّ كلامه جيّد لا غبار عليه، إلّا أنّ هذا الوجه إنما يأتي فيما يوجب سلطة الكافر و علوّه علي المؤمن بحيث يصير ذليلا تحت سيطرة الكافر. فلا بد من تحقق هذا الموضوع. و يشكل إحراز ذلك في كثير من المسائل التي جعلها الفقهاء (قدس اللّه اسرارهم) من قبيل صغري هذه الكبري.

و حاصل الكلام: أنّه لا إشكال في حجية هذه القاعدة و إثبات حرمة كل فعل داخل في كبراها. و إنّما الكلام و الإشكال في إثبات صغري هذه الكلية، و انطباق ما يتوهم من فروعها علي كبري هذه القاعدة بحاجة

إلي التأمّل.

هل هي أمارة أو أصل أو حكم؟

لا ريب في عدم كون هذه القاعدة من الأمارات لوضوح عدم كون دليل هذه القاعدة بصدد جعل الحجية لما هو طريق بنفسه إلي الواقع و لا ما هو موجبا للظن به.

كما لا شك في عدم كونها من الاصول العملية؛ لعدم أخذ الشك في موضوعها و عدم كونها بصدد تعيين الوظيفة العملية للمكلّف عند تحيّره

______________________________

(1) و هو المحقق البجنوردي في قواعده: ج 1، ص 192.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 249

في مقام الامتثال و العمل بالوظيفة.

بل إنّما هي حكم كلي شرعي و هو حرمة كل فعل يوجب علوّ الكفار و سلطتهم علي المؤمنين، و إنما استفيد هذا الحكم الكلي بلسان إخبار الشارع عن عدم مشروعية ما يوجب ذلك.

مجاري القاعدة و تطبيقاتها

إنّ لهذه القاعدة مجاري عديدة في مسائل كثيرة مختلفة منبثّة في مختلف أبواب الفقه. و قد أشرنا إلي بعضها، مثل مسألة بطلان شراء الكافر عبدا مسلما، و مسألة بطلان توكيل الكافر لشراء عبد مسلم، و مسألة عدم استحقاق الذمي الشفعة علي المسلم، و مسألة عدم جواز قتل مسلم بكافر، و مسألة انفساخ عقد النكاح باسلام الزوجة، و مسألة جواز بيع الجارية بغير إذن مولاها الكافر إذا أسلمت.

و منها: اجارة العبد المسلم من جانب الكافر.

و منها: مسألة عدم جواز نصب الكافر متوليا علي الوقف و لا جعله وصيا و لا قيّما.

و منها: مسألة عدم جواز التقاط الكافر الولد اللّقيط المحكوم باسلامه.

و منها: عدم جواز بيع المصحف من الكافر.

و منها: مسألة عدم جواز رفع الذمي بناء داره علي بناء المسلمين، و مسألة إرث المسلم و حجبه الكافر دون العكس، إلي غير ذلك من المسائل.

و لكن الكلام في تحقق صغري هذه القاعدة في كثير من هذه الفروع.

فخالف جماعة

من الفقهاء انطباق كبري هذه القاعدة علي كثير من هذه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 250

الفروع؛ لعدم كونها من قبيل صغري هذه القاعدة؛ نظرا إلي عدم كون الفعل فيها موجبا لسلطة الكافر و علوّه علي المؤمن بحيث يوجب ذلّته أو عدم كونه موجبا لعلوّ كلمة الكفر علي الإسلام. فلا بد في كل مورد من هذه الموارد من دقة النظر و التأمل من هذه الجهة.

فمن هذه الفروع عدم جواز بيع المصحف من الكافر؛ حيث استقر رأي المشهور علي ذلك و استدلوا له بهذه القاعدة، و لكن الامام الراحل قدس سرّه خالفهم في ذلك و قال انّ هذه القاعدة تقتضي جواز بيعه من الكافر بل رجحانه.

و وجه ذلك بأن بيع المصحف من الكفار، يوجب نشر معارف القرآن و تبليغه بين المشركين كما فعل ذلك المسيحيون بالمسلمين ببيع الانجيل و قد ابتلي المؤمنون بالعزلة و الانزواء بمنعهم بيع المصحف من الكفار؛ حيث صار ذلك سببا لعدم اطلاعهم عن معارف القرآن و تعاليمه العالية. «1»

حالها مع معارضة ساير الأدلة

قد سبق في تحرير مفاد هذه القاعدة أنها حاكمة علي ساير الادلة؛ حيث إنّ دليلها قد دلّ علي إخبار الشارع عن عدم تشريع ما يوجب علوّ الكفار و سبيلهم علي المؤمنين، و أن ما يوجب ذلك لم يرده الشارع من إطلاقات الأدلة الأوّلية و لا من عموماتها. و من هنا يتضيّق نطاق الأدلة الأوّلية بمفاد هذه القاعدة من أوّل تشريعها. كما أنّ الأمر كذلك في قاعدة لا ضرر و لا حرج.

______________________________

(1) راجع كتاب البيع للإمام الراحل/ طبع مؤسسة نشر آثار الامام الخميني: ج 2، ص 725.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 251

قاعدة وجوب تعظيم الشعائر

اشارة

1- مفاد القاعدة 2- مدرك القاعدة 3- التطبيقات الفقهية 4- مقتضي التحقيق

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 253

مفاد القاعدة

قال في مجمع البيان: «الشعائر المعالم للأعمال، و شعائر اللّه معالمه التي جعلها مواطن للعباد و كل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما، فهو مشعر لتلك العبادة. و واحد الشعار الشعيرة. فشعائر اللّه أعلام متعبّداته من موقف أو مسعي أو منحر، من شعرت به: أي علمت». «1»

و عليه فالمقصود من الشعائر في عنوان هذه القاعدة هو معالم دين اللّه و علاماته، و كل ما اتخذ شعارا للدين و علامة للشريعة.

و علي هذا الأساس يمكن تعميم عنوان الشعائر إلي الملائكة و الأنبياء و الأئمة، فانهم أعلام الهدي و علامات دين اللّه و متعبّدات أوامره و شرائعه، بل يلحق بهم الكتب السماوية و كتب الأحاديث و المساجد و الأولياء و الشهداء و العلماء و الفقهاء الكبار و مشاهدهم؛ حيث إنّ ذلك كلّه من أعلام الدين و معالم الشريعة و علائمها و مساكن تعبد اللّه فيها و مصادر طاعته.

و تعظيم الشي ء توقيره بمراعاة حرمته و ملاحظة مرتبته في العمل

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 1- 2، ص 239.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 254

و تطبيق السلوك العملي علي ما يليق بشأنه و يلائم حفظ منزلته، بل كلّ فعل يعد احتراما و رعاية له في نظر أهل العرف. و عليه فالمقصود من تعظيم الشعائر توقير معالم دين اللّه باتخاذ مسلك علمي يناسب منزلته. و ذلك بالعمل بأحكام الشريعة و رعاية حدودها و الاحترام بمقدّساتها.

ثم إنّ التعظيم قسمان، كما قال بعض المحققين. «1»

أحدهما: توقير الشي ء بمراعاة مرتبته و حفظ منزلته و تطبيق الفعل علي مقتضي شأنه

حسب نظر العرف أو الشرع، كما لو ورد عالم فقيه في مجلس، فانّ مقتضي شأنه يقام له و يجعل له ما يناسبه من المكان، و يكون ذلك تعظيما له.

و هذا القسم من التعظيم لا واسطة بينه و بين الاهانة. بمعني أنّ ترك التعظيم حينئذ يعدّ إهانة في نظر العرف.

و ذلك لأنّ التعظيم و التوقير إذا كان مقتضي شأن شي ء يكون ترك ذلك تخفيفا له و عدم الاعتناء بشأنه عرفا و تنزيله عن مرتبته و ليس الاهانة في نظر العرف إلّا ذلك. ففي المثال المزبور إذا ورد عالم فقيه في مجلس لم يقم له أهل ذلك المجلس و لم يجعلوا له مكانا مناسبا لشأنه، يكون ذلك إهانة به عرفا و هتكا بساحته و منزلته.

و عليه فهذا النوع من تعظيم الشعائر لا ريب في وجوبه؛ لأنّ تركه مستلزم للإهانة و الهتك بمحترمات الدين و مقدّسات الشريعة، و لا إشكال في حرمته. و إذا كان ترك التعظيم حراما يكون فعله واجبا، كما لا يخفي.

______________________________

(1) و القائل هو السيد مير فتاح في العناوين: ج 1، ص 558.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 255

ثانيهما: توقير الشي ء و احترامه و مراعاته زائدا عن مقتضي شأنه، كتقبيل يد العالم و الجلوس في محضره في غاية التأدب و الكلام معه في غاية الحياء و مشايعته كذلك وقت الذهاب، أو تقبيل باب المشاهد المشرفة و الضرائح المقدسة و الدخول فيها حافيا و الخروج منها مستقبلا إليها مع جعل اليد علي الصدر، أو جعل القرآن علي الرأس و العينين و تقبيله، و نحو ذلك من الاحترامات و التوقيرات التي تعدّ من التعارفات و المحسّنات.

و لا ريب في عدم كون ترك هذا النوع

من التعظيم و التوقير هتكا و إهانة، و إن كان فعلها محسّنا و ممدوحا. فاذا لم يكن تركه حراما، لا يكون فعله واجبا بمقتضي القاعدة إلّا أن يدلّ دليل خاص علي وجوب تعظيم الشعائر حتي في هذه الصورة، و سيأتي البحث عن ذلك.

مدرك القاعدة

اشارة

و قد يستدل لوجوب تعظيم الشعائر ببعض آيات من الكتاب و نصوص من السنة.

و أما الكتاب:

فاستدل بقوله (تعالي): «وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ». «1» كما استدل به الصدوق في المقنع «2» و الهداية «3»، و المفيد في المقنعة «4» علي وجوب الهدي في الحج مهما أمكن و تيسّر، بل استدل به جماعة منهم علي

______________________________

(1) الحج: 32.

(2) المقنع: ص 272.

(3) الهداية: ص 214.

(4) المقنعة: ص 418.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 256

وجوب تعظيم شعائر اللّه مطلقا، كما عن المقدس الأردبيلي «1» و الميرزا القمي «2» و المحقق النراقي «3»، بل استدل في الحدائق بهذه الآية علي حرمة دخول الجنب في المشاهد المشرّفة و الضرائح المقدسة. «4»

و يمكن تقريب الاستدلال بهذه الآية بما حاصله: أنّ التقوي واجبة مطلقا؛ لإطلاق مثل قوله تعالي: «وَ إِيّٰايَ فَاتَّقُونِ». «5» و قوله: ««وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «6»، و غير ذلك من إطلاقات الكتاب و السنة. هذا مضافا إلي ظهور لفظ التقوي- حسب موارد استعماله- في صيانة النفس و الاحتراز عما فيه خوف العقاب.

و عليه يمكن استظهار وجوب تعظيم الشعائر من الآية بتقريب أنّ تعظيم الشعائر من التقوي بدلالة الآية، و كل تقوي واجب بدلالة إطلاقات الأمر به، فتعظيم الشعائر واجب و هو المطلوب. و لا يخفي أنّ الآية تدل باطلاقها علي كون تعظيم الشعائر مطلقا من التقوي، بلا فرق بين مصاديق التعظيم.

و يمكن فيه النقاش بأن ظهور لفظ «التقوي» بحسب اصطلاح الكتاب و السنة و لسان الفقهاء في الاتقاء عما فيه خوف العقاب الأخروي من المحرّمات و المعاصي، و إن ليس ببعيد، كما قال في المفردات «7»، إلّا أنّ الذي

______________________________

(1) زبدة البيان: ص

286.

(2) غنائم الأيام: ج 1، ص 436.

(3) عوائد الأيام: ص 8.

(4) الحدائق الناضرة: ج 3، ص 53.

(5) البقرة: 41.

(6) المائدة: 57.

(7) كما قال في المفردات: «التقوي جعل النفس في وقاية مما يخاف و صار التقوي في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم و ذلك بترك المحذور».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 257

جاء في الآية هو لفظ «تقوي القلب»، لا التقوي وحده. و كون لفظ التقوي بالمعني المزبور فيما أضيف إلي القلب ممنوع بل هو بمعني تنزيه القلب عن رذائل الصفات و دنائس الأوهام و الأفكار و سيئات النيات و الأخلاق، كما قال في مجمع البحرين في بيان لفظ تقوي القلب.

و احتمل ذلك الطبرسي في تفسير هذه الآية، و مع تطرّق هذا الاحتمال كيف يمكن استظهار التقوي الواجبة من «تقوي القلوب» في هذه الآية.

هذا مع رجوع ضمير الهاء في «فانها» إلي تعظيم شعائر اللّه بتقدير المضاف كما قال في المجمع أو إلي شعائر اللّه كما هو مقتضي القاعدة بلحاظ كون شعائر اللّه من علامات تقوي القلوب، باعتبار أنها مما يمتحن اللّه بها قلوب المؤمنين للتقوي.

و علي أيّ حال لا يكون التعظيم ترك شي ء ليكون اتقاء عما فيه خوف العقاب من الحرام. فالأنسب كون المقصود أن شعائر اللّه أو تعظيمها من علائم صفاء القلب و خلوصه عن الرذائل و الدنائس و خضوعه و خشوعه للّه تعالي.

و يمكن الاستدلال بقوله تعالي: «لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ» علي وجوب تعظيم الشعائر و حرمة تركه، لكن لا مطلقا، بل في خصوص ما إذا كان ترك التعظيم مستلزما لهتكها و إهانتها.

و ذلك لأنّ اهانة بها اسقاطها و إهباطها عن شأنها و هو أحد معاني الاحلال كما مرّ سابقا.

و لا

يخفي أن دلالة هذه الآية علي ذلك انما هي بالملازمة لا بالمطابقة.

و أما السنة:

فقد يستدل لوجوب تعظيم شعائر اللّه بعموم الأمر بها في قول

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 258

الصادق عليه السّلام «و عظّم شعائر اللّه» في صحيحة معاوية بن عمار. «1»

و قوله عليه السّلام: «أيها الناس من كان عنده سعة فليعظم شعائر اللّه» في خبر دعائم الإسلام. «2»

و من هذه النصوص ما عدّ فيه تعظيم حرمات اللّه من فروع الدين، كالمروية في بصائر الدرجات عن الصادق عليه السّلام قال في حديث: «و من فروعهم …

إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و صوم شهر رمضان و حج البيت و العمرة و تعظيم حرمات اللّه و شعائره و مشاعره و تعظيم البيت الحرام و المسجد الحرام و الشهر الحرام». «3»

و يمكن الجواب عن هذه الروايات بأنّ المقصود من الشعائر فيهما هو الهدي. و ذلك للتصريح بالأمر بشرائه في صدر صحيحة معاوية بقوله عليه السّلام:

«إذا رميت الجمرة فاشتر هديك إن كان من البدن أو من البقرة».

و أما خبر دعائم الإسلام فلأنّه من خطبة النبي صلّي اللّه عليه و آله يوم النحر.

و أمّا المروي عن بصائر الدرجات فبقرينة احتفاف ذكر حرمات اللّه و شعائره بحج البيت و العمرة و المشاعر و تعظيم البيت الحرام و المسجد الحرام.

و الحاصل أنّه لا يصلح شي ء من هذه النصوص لإثبات وجوب تعظيم الشعائر بمعناها الواسع.

______________________________

(1) فروع الكافي: ج 4، ص 491، ح 14 و الوسائل: ج 10، ص 97- 98.

(2) دعائم الإسلام: ج 2، ص 181، ح 656.

(3) بصائر الدرجات: ص 548.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 259

التطبيقات الفقهية

سبق آنفا أنّ جماعة من الفقهاء من القدماء و المتأخرين استظهروا من الآية المزبورة وجوب تعظيم الشعائر مطلقا. و لكن يظهر من

صاحب الرياض «1» استحباب تعظيم الشعائر. و في المفتاح- بعد نقله كراهة التجصيص و تجديد قبور غير الانبياء و الأئمة عليهم السّلام- نقل عن المسالك و المدارك و مجمع البرهان و المفاتيح: «أنّه لا يبعد استثناء قبور العلماء و الصلحاء أيضا استضعافا لخبر المنع و التفاتا إلي تعظيم الشعائر». «2»

و ظاهره عدم وجوب تعظيم الشعائر، بل غاية مدلول كلامه استحبابه؛ حيث استدل بذلك لجواز تعمير قبور العلماء و الصلحاء.

و كذا يظهر من صاحب الجواهر حيث علّل بذلك لاستحباب كنس المسجد بقوله: «و يستحب كنس المساجد قطعا، بمعني جمع كناستها و إخراجها؛ لما فيه من تعظيم الشعائر». «3» و كذا صرح بذلك الفقيه الهمداني. «4»

و لكن سبق من صاحب الجواهر انّه لا دليل علي وجوب تجنيب المحترمات عن النجاسات إلّا هذه القاعدة و قاعدة حرمة إهانة المحترمات.

بل قال في الاستدلال علي حرمة الاستنجاء بالمطعومات: «و لا يخفي عليك أنه لا يليق بالفقيه الممارس لطريقة الشرع العارف للسانه ان يتطلب الدليل

______________________________

(1) الرياض: ج 1، ص 217.

(2) مفتاح الكرامة: ج 4، ص 281.

(3) جواهر الكلام: ج 14، ص 87.

(4) مصباح الفقيه/ الطبع الحجري: ج 2، ص 704.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 260

علي كل شي ء بخصوصه من رواية خاصة و نحوها، بل يكتفي بالاستدلال علي جميع ذلك بما دل علي تعظيم شعائر اللّه». «1»

و قد فصّل صاحب الجواهر في مبحث ذلك بقوله: «و أما التعظيم الذي يكون تركه تحقيرا فلا ينبغي الإشكال في وجوبه، بل لعله من ضروريات المذهب بل الدين، و لعل ما نحن فيه من هذا القبيل، و إن كان ليس لأهل العرف نصيب في معرفة التحقير بالنسبة للجنابة و نحوها، إلّا أنهم

يحكمون بذلك من جهة مؤانسة الشرع، كمنعه من دخول المساجد و مس كتابة القرآن و نحوهما؛ علي أنه يمكن دعوي وجوب التعظيم الذي لا يكون تركه تحقيرا من قوله تعالي: «وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ». نعم أقصي ما يسلم من عدم وجوبه إنما هو زيادة التعظيم، كوضع القرآن مثلا في أعلي الأماكن و أرفعها، و نحو ذلك». «2»

و يظهر من السيد الشهيد الصدر وجوب تعظيم الشعائر في بعض مراتب العالية، كالمشاهد المشرفة و ما فوقها حرمة، لا مطلقا؛ حيث قال:

«المشاهد المشرفة لا تقلّ مكانة و احتراما عن المسجد الاعتيادي؛ لأنّ صيانة المشهد الشريف من الهتك و الاهانة داخلة في المراتب المتيقّن وجوبها من مراتب تعظيم شعائر اللّه». «3»

و صرّح أستاذه السيد الخوئي «4» بأنّ تعظيم مطلق الشعائر لا دليل علي

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 2، ص 52.

(2) جواهر الكلام: ج 3، ص 47.

(3) شرح العروة الوثقي/ للسيد محمد باقر الصدر: ج 4، ص 315.

(4) التنقيح/ كتاب الطهارة: ج 2، ص 312.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 261

وجوبه ما لم يدل دليل علي وجوبه بالخصوص. «1»

و ممن يظهر منه وجوب تعظيم الشعائر مطلقا صاحب الحدائق. «2» فانه- مضافا إلي ما سبق منه آنفا- حكم بوجوب ما كتب عليه شي ء من علوم الدين و حفظه من الهتك و الاهانة، معلّلا بدخوله في الشعائر المأمور بتعظيمها في قوله تعالي: «وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ».

مقتضي التحقيق

مقتضي التحقيق في المقام ما قلنا في تحرير مفاد القاعدة، و هو وجوب تعظيم الشعائر إذا كان تركه مستلزما للهتك و إهانتها، و إلّا لا دليل علي وجوبه مطلقا. و هذا التفصيل هو الذي يظهر من صاحب الجواهر

و السيد الخوئي و السيد الشهيد الصدر و بعض المحققين. و دليل ذلك ما سبق في الاستدلال علي حرمة إهانة الشعائر و محترمات الدين.

و لا ريب في كون مفاد هذه القاعدة حكما، كما لا ريب في تقدّمها علي جميع الأحكام الأولية؛ نظرا إلي مالها من الأهمية في نظر الشارع، بحيث يمكن دعوي القطع بعدم رضاه بالاهانة بشعائر اللّه، نعم إذا دار الأمر بينه و بين ترك واجب أو ارتكاب حرام آخر، لا بد من ملاحظة الأهمية في تقديم أيّهما.

إلي هاهنا انتهينا إلي تمام الكلام في القسم الأوّل من القواعد الفقهية العامة من مباني الفقه الفعال.

______________________________

(1) المصدر: ص 313 و ج 5، ص 390.

(2) الحدائق الناضرة: ج 2، ص 46.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 262

و الحمد للّه أولا و آخرا و صلواته علي محمد و آله سرمدا.

و قد تمّ بعون اللّه تعالي و لطفه في اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الثاني بسنة 1424 هق.

العبد الخجلان من ساحة ربّه الغفار علي أكبر السيفي المازندراني و أرجو منه تعالي رحمته و رضوانه و غفرانه لي و لواالدي و من الفضلاء و العلماء الكرام العفو و التذكار في موارد لا تخلو في نظرهم من النقاش.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 263

فهرس مصادر التحقيق

1- القرآن الكريم

2- أساس البلاغة للزمخشري

3- أمالي الصدوق

4- أمالي الطوسي

5- أمالي المفيد

6- بحار الأنوار للعلّامة المجلسي

7- بصائر الدرجات للشيخ محمّد بن حسن الصفّار

8- بلغة الفقيه للسيّد محمّد بحر العلوم

9- تذكرة الفقهاء للعلّامة الحلّي

10- تفسير البرهان للسيّد هاشم البحراني

11- تفسير نور الثقلين للمحدّث الشيخ عبد علي الحويزي

12- التنقيح للسيّد الخوئي

13- التنقيح/ كتاب الاجتهاد و التقليد للسيّد الخوئي

14- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي

15-

جامع البيان لابن جرير الطبري

16- جامع المقاصد للمحقّق الكركي

17- جواهر الكلام لمحمّد حسن النجفي

18- حاشية الفرائد للمحقّق الخراساني

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 264

19- حاشية مجمع الفائدة للوحيد البهبهاني

20- الحدائق الناضرة للمحدّث البحراني

21- الخلاف للشيخ الطوسي

22- دروس الشهيد الصدر

23- دعائم الإسلام للقاضي نعمان بن محمّد

24- ذكري الشيعة للشهيد الأوّل

25- رجال البرقي

26- الرسائل للسيّد الخميني

27- رسائل الكركي

28- روض الجنان للشهيد الثاني

29- رياض المسائل للسيّد علي الطباطبائي

30- زبدة البيان للمحقّق الأردبيلي

31- السرائر للحلّي

32- شرح نهج البلاغة للشيخ محمّد عبده

33- العروة الوثقي للسيّد كاظم اليزدي

34- علل الشرائع للشيخ الصدوق

35- العناوين للسيّد مير عبد الفتّاح

36- عوائد الأيّام للمحقّق النراقي

37- عوالي اللآلي لابن أبي جمهور

38- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق

39- غنائم الأيّام للميرزا القمّيّ.

40- غنية النزوع لابن زهرة

41- فرائد الاصول للشيخ الأنصاري

42- الفروق اللغويّة لأبي هلال العسكري

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 265

43- فقه الرضا عليه السّلام

44- القضاء و الشهادات للشيخ الأنصاري

45- القواعد الفقهيّة للسيّد البجنوردي

46- القواعد الفقهيّة للشيخ محمّد الفاضل

47- الكافي للشيخ الكليني

48- كتاب البيع للسيّد الخميني

49- كتاب الطهارة للسيّد الخميني

50- كتاب القضاء للمحقّق الآشتياني

51- كفاية الأحكام للمحقّق السبزواري

52- كشف الرموز للفاضل الآبي

53- كشف الغطاء للشيخ جعفر كاشف الغطاء

54- كشف اللثام للفاضل الهندي

55- مباني تكملة المنهاج للسيّد الخوئي

56- المبسوط للشيخ الطوسي

57- مجمع البيان للشيخ الطبرسي

58- مجمع الفائدة و البرهان للمحقّق الأردبيلي

59- المختصر النافع للمحقّق الحلّي

60- مختلف الشيعة للعلّامة الحلّي

61- مدارك الأحكام للسيّد السند محمّد العاملي

62- مسالك الأفهام للشهيد الثاني

63- مستدرك الوسائل للميرزا النوري

64- مستمسك العروة الوثقي للسيّد الحكيم

65- مستند الشيعة للمحقّق النراقي

66- مستند العروة للسيّد الخوئي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 266

67- مصباح الاصول للسيّد الخوئي

68- مصباح الشريعة المنسوب للإمام

الصادق عليه السّلام

69- مصباح الفقاهة للسيّد الخوئي

70- مصباح الفقيه للفقيه الهمداني

71- المعتبر للمحقّق الحلّي

72- مفتاح الكرامة للسيّد محمّد جواد العاملي

73- المفردات للراغب الأصفهاني

74- مقالات الاصول للمحقّق العراقي

75- المقنع للشيخ الصدوق

76- المقنعة للشيخ المفيد

77- المكاسب للشيخ الأنصاري

78- المكاسب المحرّمة للسيّد الخميني

79- المنتهي للعلّامة الحلّي

80- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق

81- منية السائل للسيّد الخوئي

82- المهذّب لابن البرّاج

83- المهذّب البارع لابن فهد الحلّي

84- النهاية للشيخ الطوسي

85- نهاية المرام للسيّد السند محمّد العاملي

86- نهج البلاغة (تنظيم صبحي صالح)

87- نوادر الراوندي

88- الهداية للشيخ الصدوق

89- وسائل الشيعة للحرّ العاملي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 271

[انتشارات المؤسسة]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* الحمد للّه، و صلّي اللّه محمّد نبيّ اللّه، و علي آله آل اللّه

لقد قامت مؤسّستنا- بفضل اللّه و منّه- بنشاطات واسعة في مجال نشر المعرفة و إحياء التراث العلمي الإسلامي، فإلي روّاد العلم سرد بعضها، سائلين الباري عزّ شأنه قبول الأعمال و الوصول إلي درجة الكمال، إنّه سميع متعال.

1- اصول الفقه (4 أجزاء): للشيخ المظفّر.

2- الأمالي: للشيخ المفيد.

3- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: للسيّد محسن الخرّازي.

4- بحوث في الملل و النحل (6 أجزاء): للشيخ جعفر السبحاني.

5- بداية الحكمة: للعلّامة الطباطبائي.

6- بداية المعارف (جزءان): للسيّد محسن الخرّازي.

7- التمهيد في علوم القرآن (6 أجزاء): للشيخ محمّد هادي معرفة.

8- التوحيد: للشيخ الصدوق.

9- جامع الأثر: للسيّد حسن آل طه.

10- الخصال (جزءان): للشيخ الصدوق.

11- الخلاف (6 أجزاء): للشيخ الطوسي.

12- دروس في علم الاصول (جزءان): للشهيد الصدر.

13- الذخيرة: للسيّد المرتضي.

14- رجال النجاشي: للنجاشي.

15- الرسائل التوحيدية: للعلّامة الطباطبائي.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 272

16- الرسائل العشر: للشيخ الطوسي.

17- رسالة في صلاة الجمعة: للشهيد الثاني.

18- صيانة القرآن من التحريف: للشيخ محمّد هادي

معرفة.

19- العدل الإلهي: للشهيد المطهّري.

20- العروة الوثقي (6 أجزاء): للسيّد الطباطبائي.

21- العقائد الجعفرية: للشيخ الطوسي.

22- فرائد الاصول: للشيخ الأنصاري.

23- الفوائد المدنية: للمحدّث الأسترآبادي.

24- قاموس الرجال: للشيخ التستري.

25- كشف اللثام (11 جزء): للفاضل الهندي.

26- كمال الدين و تمام النعمة (جزءان): للشيخ الصدوق.

27- كنز الدقائق (11 جزء): للميرزا محمّد المشهدي.

28- مجمع الفائدة و البرهان (14 جزء): للمحقّق الأردبيلي.

29- مخالفة الوهّابية للقرآن: عمر عبد السلام.

30- مختلف الشيعة (9 أجزاء): للعلّامة الحلّي.

31- مستدرك سفينة البحار (10 أجزاء): عليّ النمازي الشاهرودي.

32- معاني الأخبار: للشيخ الصدوق.

33- مفاهيم القرآن (جزءان): للشيخ جعفر السبحاني.

34- المقنعة: للشيخ المفيد.

35- منازل الآخرة: للمحدّث القمّي.

36- المنطق: للشيخ المظفّر.

37- من هو المهديّ عليه السّلام: للشيخ أبو طالب التجليل.

38- الميزان (20 جزء): للعلّامة الطباطبائي.

39- الوهّابية في الميزان: للشيخ جعفر السبحاني.

الجزء الثاني

اشارة

القسم الثاني من القواعد العامّة

قاعدة الإلزام

قاعدة الامتنان

قاعدة التقيّة

قاعدة الجبّ

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 5

قاعدة الإلزام

اشارة

منصّة القاعدة و سابقتها

مدرك القاعدة و معارضتها سائر الأدلّة

مجاري القاعدة و تطبيقاتها

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 7

منصّة القاعدة و سابقتها

اشارة

1- منصة القاعدة و خطورتها.

2- سابقتها الاستدلالية.

3- مفاد القاعدة و نطاقها.

4- بيان المقصود من لفظ الإلزام.

5- هل الإلزام بمعني الإباحة و الرخصة أو غيرهما؟

6- صيغة ألزموهم أمر بعد الحظر.

منصة القاعدة و سابقتها الاستدلالية

إنّ لهذه القاعدة منصّتها الخاصّة في الفقه. و ذلك بلحاظ نظرها إلي منهج المقابلة و قانون التعامل مع أهل العامّة في معاملاتهم و معاشراتهم، بل مع غير المسلمين من أهل ساير الأديان في مختلف أبواب المعاملات بمعناها الأعمّ الشامل للنكاح و الطلاق و الميراث، بل في مطلق الأحكام الوضعية و الحكومية، بل في العبادات كالصيام و الزكاة و رؤية الهلال و الإفطار، و في الجزائيات، كالحدود و الديات و القصاص و أبواب الوصيّة و الوقف و الهبة و الحيازة، و ما أشبه ذلك من الأحكام و الحقوق، و لا سيّما أبواب الضمانات، كما يأتي ذكر نماذج من فروع هذه القاعدة في التطبيقات الفقهيّة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 8

و أمّا سابقة هذه القاعدة و لمحتها التاريخية فهي من القواعد الّتي لها جذر في النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام، كما ستعرف ما جاء فيه نصّ هذه القاعدة من الروايات في خلال البحث عن مفادها و مدركها، إن شاء اللّه.

و أوّل من رأيته أفتي بمضمون هذه القاعدة و تمسّك بنصوصها لذلك، هو الشيخ الطوسي حيث عقد في أبواب الطلاق من كتابه الاستبصار باب «أنّ المخالف إذا طلّق امرأته ثلاثا و إن لم يستوف شرائط الطلاق كان ذلك واقعا» «1». و لا يخفي عليك أنّه كان من دأب القدماء الإفتاء بنفس عقد عنوان الباب، ثمّ كانوا يذكرون النصوص مستشهدا بها لما أفتوا به في عنوان الباب.

و من هنا يمكن عدّ الشيخ الطوسي ممّن افتي

بمضمون هذه القاعدة. فإنّ حكمه بوقوع الطلاق في مفروض الكلام ليس إلّا من باب قاعدة الإلزام. و من هنا تمسّك لذلك في الرواية الخامسة و السادسة من هذا الباب بقوله عليه السّلام: «ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم». «2»

ثمّ بعده أفتي الشهيد الأوّل بمضمون هذه القاعدة و تمسّك بنصوصها فيما إذا حكم القاضي من أهل العامّة بنفع الشيعي علي طبق رأيهم، و كان ذلك الحكم باطلا عندنا. و استدلّ لذلك بقوله: «لقولهم عليهم السّلام: أمضوا في أحكامهم، و من دان بدين قوم لزمه حكمه». «3»

ثمّ بعده الشهيد الثاني في مسألة الطلاق الثلاث فيما إذا كان المطلّق مخالفا؛ حيث قال: «لو كان المطلّق مخالفا يعتقد الثلاث لزمته»، ثمّ تمسّك ببعض نصوص هذه القاعدة.

و أوّل من رأيته عبّر عن هذه القاعدة بقاعدة الإلزام هو صاحب الجواهر في

______________________________

(1) الاستبصار: ج 3، ص 291.

(2) الاستبصار: ص 292، ب 17، ح 5 و 6.

(3) الدروس: ج 2، ص 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 9

إجراء حدّ القتل علي المخالف؛ حيث قال: «بل قد يقال أيضا: إن كان من عليه الحدّ مخالفا و كان حدّه القتل في مذهبهم يجوز قتله و إن لم يصل إلي حدّ الاكراه، لقاعدة إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم و غيرها». «1» قوله: «و إن لم يصل إلي حدّ الإكراه» أي و إن لم يكن الشيعي مكرها من جانب السلطان علي إجراء الحدّ، و إلّا فلا إشكال فيه، و لو لم نقل باعتبار قاعدة الإجزاء.

و قد لاحظت من صاحب الجواهر أنّه عبّر في كلامه هذا عن دليل المسألة بقاعدة الإلزام. ثمّ بعده السيّد الحكيم في خاتمة النكاح. «2»

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 21، ص 393.

(2)

مستمسك العروة: ج 14، ص 524.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 10

مفاد القاعدة و نطاقها

اشارة

هذه القاعدة تفيد جواز إلزام المخالف علي ما جاء في مذهبه. بمعني أنّ ما جاء من الأحكام في مذهب العامّة و التزم به المخالفون يجوز للمؤمن الشيعي العمل به و ترتيب الأثر عليه فيما إذا كان ذلك بضررهم و بنفع الشيعي.

و لازم ذلك جواز إجبار المخالف و إلزامه علي ما يعتقده لحاكم الشرع الشيعي.

و لكن ليس المقصود من لفظ «الإلزام» المأخوذ في متن القاعدة هذا المعني، بل المقصود منه هو إلزام الشارع لهم بتنفيذ فعل الشيعي و إثبات الحقّ له و منعه عن المخالفة. و لا يختصّ ذلك بالمخالف، بل يأتي في غير الشيعي مطلقا.

بيان ذلك: أنّه ربما تقع معاملة أو نكاح أو طلاق بين الشيعي و بين غير الشيعي أو يترك إرث لهما أو يصدر فعل موجب للضمان من أحدهما، و كان غير الشيعي معتقدا بحكم أو قانون في مذهبه و مسلكه، و لا يعتقد الشيعي بذلك الحكم. و كان ترتيب الأثر علي ذلك الحكم في تلك الواقعة بنفع الشيعي و بضرر غير الشيعي. ففي مثل هذه الصورة تفيد قاعدة الإلزام ثبوت حقّ للشيعي في ترتيب الأثر علي ذلك الحكم. و لو امتنع المخالف من المساعدة علي إجراء ذلك يجوز للشيعي المراجعة إلي حاكم الشرع، و للحاكم إجبار المخالف علي العمل بذلك الحكم طبق مذهبه، ما لم تكن تقية في البين تقتضي المنع من إجرائه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 11

مثال لمجري القاعدة

مثال ذلك: أنّ الزواج بلا إشهاد عدلين صحيح عندنا و باطل عندهم، و عكس ذلك في الطلاق؛ حيث إنّهم يشترطون الإشهاد في الزواج دون الطلاق. فيجوز للشيعي التزوّج بالمرأة الّتي تزوّج منها المخالف بلا إشهاد، و كذا لو طلّق المخالف

زوجته بلا إشهاد فيجوز لنا التزوّج بها، و ذلك لإلزامهم علي معتقدهم.

و كذلك الطلاق ثلاثا بلفظ «أنت طالق ثلاثا» في مجلس واحد باطل عندنا و صحيح عندهم. فلو طلّق العامي زوجته ثلاثا بهذا اللفظ في مجلس واحد، صحّ للشيعي الزواج بها إلزاما له علي ذلك.

و أنت تري أنّ لازم ترتيب الأثر علي الحكم المطابق لمذهبهم في المورد الأوّل- و هو الزواج بلا إشهاد- الحكم بعدم تحقّق الزواج و كون المرأة غير متزوّجة شرعا، و في الموردين الأخيرين- و هما الطلاق بلا إشهاد و باللفظ المذكور- الحكم بتحقّق الطلاق الصحيح علي مذهبهم.

و هذه القاعدة تفيد جواز ترتيب الاثر علي ذلك للشيعي، بأن تدلّ علي صحّة الزواج مع تلك المرأة في الصور الثلاث المزبورة.

بيان المقصود من لفظ الإلزام

فاتّضح من ضوء هذا البيان أنّ المقصود من لفظ «الإلزام» المأخوذ في متن هذه القاعدة، ليس إلزام الحاكم، و ذلك لما رأيت من عدم دخل لحكم الحاكم في جواز ترتيب هذا الأثر شرعا. بل المقصود منه إلزام الشارع؛ بمعني أنّ ترتيب الأثر علي الحكم المطابق لرأيهم لمّا كان بضررهم و علي خلاف ميلهم ألزمهم الشارع بترتيب الأثر عليه. فحكم بحكمهم في مجاري هذه القاعدة إلزاما لهم بتحمّل آثاره و تبعاته المضارّة لهم و المضادّة لميولهم و منافعهم. و إن كان ذلك الحكم باطلا عنده في نفسه مع قطع النظر عن هذه الجهة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 12

و ممّا يشهد لذلك أنّه لا يعقل جواز إلزام شخص علي حكم غير لازم عليه شرعيا. فتجويز إلزام المخالفين علي أحكامهم في مورد هذه القاعدة، يدلّ بدلالة الاقتضاء علي كونهم ملزمين بأحكامهم عند الشارع في الرتبة السابقة و إلّا لم يجز إلزامهم في

نظره. و لا ينافي ذلك بطلان أحكامهم المختصّة بهم مع قطع النظر عن جهة مورد القاعدة.

نعم لمّا يثبت باقتضاء هذه القاعدة حق للشيعي في ترتيب الأثر علي حكمهم- كحقّ الزواج في الأمثلة المزبورة- يجوز له الرجوع إلي حاكم الشرع. و يجوز للحاكم إجبار المخالف علي ذلك لو امتنع منه و خاصم الشيعي، فيما إذا لم تقتض التقيّة حرمة ذلك. و إن يشكل جريان قاعدة التقيّة في موارد هذه القاعدة؛ نظرا إلي جريان هذه القاعدة في جهة وفق العامّة و ترتيب الأثر علي أحكامهم. و لكن ليس المقصود من لفظ «الإلزام» المأخوذ في متن القاعدة إلزام الحاكم، كما عرفت.

فتبيّن بهذا البيان أنّ ما ورد في نصوص المقام من قولهم عليهم السّلام: «ألزموهم ما ألزموا به أنفسهم»، «1» فالمراد منه أنّ ما يعتقده المخالفون في مذهبهم من الأحكام الدينية و يرون في اعتقادهم الباطل أنفسهم ملزمين به من ناحية الشارع الأقدس ألزمهم الشارع عليه في خصوص ما إذا كان ترتيب الأثر عليه بضررهم و بنفع الشيعي. و يجوز لكم يا معشر الشيعة الاثني عشرية إلزامهم علي حكمهم حينئذ، و إن لم يكن ثابتا في مذهبكم؛ أي رتّبوا الآثار علي ذلك الحكم، و إن كان بضررهم و رغم ميلهم. و في الحقيقة ألزمهم الشارع بذلك؛ لأنه أمرنا بإلزامهم علي ذلك، فالالزام هاهنا هو إلزام الشارع و إنفاذه؛ بمعني ترتيب الأثر عليه شرعا.

______________________________

(1) التهذيب: ج 9، ص 322، ح 12 و الاستبصار: ج 3، ص 292 و وسائل الشيعة: ج 15 ب 30 من مقدّمات الطلاق ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 13

و أمّا وجه التعبير بالإلزام أنّهم ملزمون شرعا بقبول أحكامهم و تحمل ما

يتوجّه إليهم من الضيق و الضرر من هذه الناحية.

و هذا هو المقصود من قوله عليه السّلام: «من دان بدين قوم لزمته أحكامهم». «1»

و قوله: «يجوز علي أهل كلّ ذي دين ما يستحلّون» «2»

و لا يخفي أنّ قوله: «خذوا منهم ما يأخذون منكم في سنّتهم و أحكامهم «3» و قوله:

«يجوز علي أهل كلّ ذي دين …» يشعر بسعة نطاق هذه القاعدة و شمولها لكلّ غير شيعي و لو من غير أهل العامّة، من أهل ساير الأديان و المذاهب.

هل الإلزام بمعني الإباحة و الرخصة أم غيرهما؟

لا ريب أنّ لفظ «الإلزام» لم يقصد معناه اللغوي في عنوان هذه القاعدة، بل المقصود جعل أصل المشروعية و الجواز، كما قلنا في بيان مفاد هذه القاعدة؛ نظرا إلي ورود صيغة الأمر في «ألزموهم» في موضع توهّم الحظر- كما بيّنّاه- فيفيد الإباحة و المشروعية. و إلزام الشارع هاهنا؛ بمعني مشروعية ترتيب الأثر علي الحكم المطابق لرأيهم، و إن كان بضررهم. فحكم الشارع حينئذ بحكم مذهبهم و دينهم رغم ميلهم و عصبيّتهم؛ إلزاما لهم بتحمّل آثاره و تبعاته المضادّة لميولهم.

و عليه فالّذي تفيده هذه القاعدة جواز ترتيب الأثر علي حكمهم رغم ميلهم، فلا تفيد أكثر من الإباحة و جواز ترتيب الأثر علي حكمهم و مشروعية العمل بما يعتقدونه. و لا يخفي أنّ المستفاد من هذه القاعدة حكم واقعي ثانوي؛ نظرا إلي ثبوته للطلاق بعنوانه الثانوي، و هو بما أنه صادر عن المخالف و كونه بضرره و بنفع الشيعي، كما أشرنا إليه سابقا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 15 ب 30 من مقدمات الطلاق: ح 11.

(2) التهذيب: ج 9، ص 322، ح 11.

(3) المصدر: ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 14

صيغة ألزموهم أمر بعد الحظر

ثمّ إنّ قولهم عليهم السّلام: «ألزموهم» و إن كان صيغة الأمر، لكنّه ورد مورد توهّم الحظر، بل وارد بعد الحظر في مذهبنا. فلا يفيد أكثر من الجواز و الإباحة. أمّا وجه وروده في موضع توهّم الحظر أنّ الطلاق الثلاث المطابق لمبني المخالفين باطل عندنا. و مقتضي ذلك عدم جواز تزوّج مطلّقتهم. و من هنا يكون الأمر المزبور واردا في موضع توهّم الحظر. و كذا في ساير أحكامهم الباطلة عندنا.

و أمّا عمومية هذه القاعدة بالنسبة إلي غير المسلمين يمكن استفادتها من إطلاق بعض هذه النصوص،

كقوله عليه السّلام: «من دان بدين قوم …» و عموم قوله: «يجوز علي أهل كلّ ذي دين …». و يدلّ عليه أيضا التعليل الوارد في بعض هذه النصوص.

و سيأتي تفصيلها في بيان مدارك هذه القاعدة.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ مفاد هذه القاعدة من قبيل الحكم الثانوي؛ نظرا إلي إفادتها لثبوت الجواز و الإباحة للطلاق بما أنّه صادر عن المخالف و أنّه بضرر المخالف بنفع الشيعي. فإنّ هذا العنوان ثابت للطلاق ثانيا و بالعرض، لا أوّلا و بالذات.

و إنّ اختلاف الحكم الأولي باختلاف الموارد- كاختلاف حكم الصلاة في الحضر و السفر- ليس بعزيز. و لو شئت إطلاق الحكم الثانوي عليه بلحاظ تعنونه بعنوان ما التزم به المخالفون- لا بعنوانه الذاتي- فلا بأس.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 15

مدرك القاعدة و حكم معارضتها

اشارة

1- الاستدلال بالنصوص.

2- نطاق مدلول الطائفتين من نصوص المقام.

3- الاستدلال بالإجماع.

4- لا تجري هذه القاعدة في ضروريات الدين.

5- حال هذه القاعدة مع معارضة ساير الأدلّة.

هذه القاعدة لمّا كانت تعبّدية محضة؛ لما سبق آنفا من إفادتها جواز ترتيب آثار الحكم المخالف للحقّ (و هو مذهب الإمامية الاثني عشرية)، فهي في اعتبارها بحاجة إلي دلالة نصّ صريح من كلام الشارع. فلا محالة ينحصر دليلها في الكتاب و السنّة.

أمّا الكتاب فلا دلالة لشي ء من آياته علي مفاد هذه القاعدة.

الاستدلال بالنصوص

و أمّا السنّة فالدالّة منها علي مضمون هذه القاعدة، يمكن تقسيمها إلي طائفتين؛

إحداهما: النصوص الخاصّة الناظرة إلي إلزام المخالفين و أهل العامّة علي مذهبهم. و هذه الطائفة وردت في موارد خاصّة؛ مثل باب الطلاق و باب الإرث.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 16

فمن هذه الطائفة معتبرة عبد اللّه بن محرز قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل ترك ابنته و اخته لأبيه و امّه، فقال عليه السّلام: المال كلّه لابنته، و ليس للأخت من الأب و الامّ شي ء، فقلت: فإنا قد احتجنا إلي هذا، و الميّت رجل من هؤلاء الناس، و اخته مؤمنة عارفة، قال عليه السّلام: فخذ لها النصف، خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنّتهم و قضاياهم، قال ابن اذينة: فذكرت ذلك لزرارة، فقال: إنّ علي ما جاء به ابن محرز لنورا». «1»

وجه الدلالة أنّ الأمر بالأخذ من المخالفين في قوله عليه السّلام: «خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنّتهم و قضاياهم» بمعني إلزامهم؛ أي جواز الأخذ منهم و مشروعيته لكم.

فإنّ الأمر فيها وارد موضع توهّم الحظر؛ نظرا إلي مخالفته للحقّ. و لا يفيد أكثر من رفع الحظر المتوهّم بالإباحة و الجواز.

و لا

يخفي أنّ المقصود من «هؤلاء الناس» في كلام الراوي، هو المخالفون من أهل العامّة. كما أنّهم مرجع ضمير «هم» في قوله عليه السّلام: «خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنّتهم و قضاياهم». و من هنا لا يدخل غير المخالفين من ساير فرق الشيعة و لا غير المسلمين من ساير الأديان في نطاق هذه المعتبرة، و ساير نصوص هذه الطائفة مثلها في هذه الجهة.

و أمّا سندا فلا إشكال في رجال سندها، إلّا عبد اللّه بن محرز؛ حيث لم يرد فيه توثيق من مشايخ التعديل. و لكن لا إشكال في روايته هذه بعد تصديق زرارة و تأييدها بأنّها النور، و إن يشكل استفادة حسن حاله من ذلك؛ لعدم الملازمة بين صدور الرواية عن المعصوم و بين عدم وثاقة الراوي.

و علي أيّ حال لا إشكال في اعتبار هذه الرواية سندا، كما لا إشكال في دلالتها علي مضمون هذه القاعدة في حقّ المخالفين.

و أمّا من حيث موضوع الحكم و موارده فهي عامّة شاملة لجميع الأحكام

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 17 ب 4 من ميراث الاخوة ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 17

و الموضوعات بمفهوم التعليل؛ نظرا إلي إطلاق قوله: «خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنّتهم و قضاياهم». و مثله خبره الآخر. «1».

فإنّ سياق هذه المعتبرة يشهد أنّ الجملة المزبورة في قوّة التعليل؛ حيث إنّ الإمام نطق بها بعد ما صرّح في جواب الرجل بجواز أخذ نصف التركة لأخته العارفة المؤمنة. فلم يبق وجه لذكر الجملة التالية، إلّا التعليل.

و من تكون هذه المعتبرة عامّة من حيث الموارد و يدخل في نطاقها الواسع جميع القضايا و الأحكام و الموضوعات. فتدلّ علي مفاد القاعدة في جميعها بعموم مفهوم

التعليل. و قد بحثنا عن حجّية مفهوم التعليل في مبحث المفاهيم في الجزء الثاني من كتابنا «بدائع البحوث».

و منها: صحيحة عبد الأعلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يطلّق امرأته ثلاثا؟ قال: إن كان مستخفّا بالطلاق ألزمته ذلك». «2»

و لا يخفي أنّ عبد الأعلي الواقع في سندها هو عبد الأعلي بن أعين.

و قوله: «مستخفّا بالطلاق» أي يري وقوع الطلاق الثلاث بمجرّد لفظ «ثلاثا» في مجلس واحد.

و أمّا وجه الدلالة قوله عليه السّلام: «ألزمته ذلك»؛ حيث لا خصوصيّة له عليه السّلام قطعا و إنّما قال تعليم أصحابه و شيعته.

و منها: خبر عليّ بن أبي حمزة: «أنّه سأل أبا الحسن عليه السّلام عن المطلّقة علي غير السنّة أ يتزوّجها الرجل؟ فقال: ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، و تزوّجوهنّ، فلا بأس بذلك». «3»

و مثله خبر جعفر بن سماعة «4» و لا إشكال في دلالتهما علي مضمون هذه القاعدة، إلّا أنّ قوله: «من ذلك» إشارة إلي مورد السؤال، و هو الطلاق الثلاث.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 17 ب 4 من ميراث الاخوة، ح 2.

(2) وسائل الشيعة: ج 15 ب 30 من مقدمات الطلاق: ح 7.

(3) المصدر: ح 5.

(4) المصدر: ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 18

و من هنا يتضيّق نطاق مدلولهما بمورد السؤال المشار إليه بقوله عليه السّلام: «من ذلك».

نعم نقل عن عليّ بن أبي حمزة بطريق آخر عن أبي الحسن عليه السّلام أنّه قال:

«ألزموهم بما ألزموا أنفسهم». «1» و هذه الرواية لم ترد في موضوع خاصّ، و خالية عن اسم الإشارة، و إن يرجع ضمير «هم» إلي المخالفين، لكنها من حيث المورد مطلق غير مختصّة بموضوع خاصّ، إلّا أنّه من

البعيد كونها رواية اخري غير تلكما الروايتين، و من المظنون قويّا نقلها بهذا الطريق مقطّعة أو نقلها بالمضمون، و إن نقلها الشيخ في الاستبصار رواية مستقلّة «2».

و منها: خبر جعفر بن محمّد بن عبد اللّه العلوي عن أبيه قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن تزويج المطلّقات ثلاثا، فقال لي: إنّ طلاقكم لا يحلّ لغيركم، و طلاقهم يحلّ لكم؛ لأنّكم لا ترون الثلاث شيئا، و هم يوجبونها». «3»

ثانيتهما: النصوص العامّة الدالّة علي مضمون هذه القاعدة بنطاقها الواسع و إلزام كلّ ذي دين من غير المسلمين علي ما يدين به و يستحلّه. فمن هذه النصوص: صحيحة ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «سألته عن الأحكام، قال: تجوز علي أهل كلّ ذوي دين ما يستحلّون». «4»

قوله عليه السّلام: «تجوز» أي تقع و تنفذ و أنّه جائز مشروع يترتّب عليه الأثر. و إنّ هذا المعني هو المراد من الإلزام، كما سبق آنفا في بيان مفاد القاعدة.

قوله: «علي أهل كلّ ذوي دين …» ظاهر في كون الحكم الموافق لهم بضررهم. و أمّا كونه بنفع الشيعي فهو ثابت بقرينة المقام حيث لا داعي إلي السؤال عن العمل به- مع كونه مخالفا للمذهب-، إلّا إذا كان فيه نفع و مصلحة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 17 ب 4 من ميراث الاخوة، ح 5.

(2) الاستبصار: ج 4، ص 148، ب 91، ح 11.

(3) وسائل الشيعة: ج 15 ب 30، من أبواب مقدّمات الطلاق، ح 9.

(4) وسائل الشيعة: ج 17 ب 4 من ميراث الاخوة ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 19

و منها: قول الإمام الرضا عليه السّلام: «من دان بدين قوم لزمته أحكامهم». «1»

هذه الرواية معتبرة؛ إذ

رواها الصدوق في العيون و معاني الأخبار و العلل بأسانيد مختلفة عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام. و رواها الكليني بسند آخر. و أيضا رواه الصدوق في الفقيه عن المعصوم مرسلا جازما. و تعدّد الطرق يجعل الرواية مستفيضة، و ذلك يوجب الوثوق النوعي بصدورها في المقام؛ نظرا إلي استناد مشهور الفقهاء بنصّ هذه الرواية.

قوله عليه السّلام: «لزمته أحكامهم» أي تقع و تنفذ شرعا علي ضررهم.

و هاتان المعتبرتان تدلّان علي حجّية هذه القاعدة بنطاقها الواسع، و إن لم تشتملا علي لفظ الإلزام. و ذلك بقرينة عدم كون الشارع بصدد تجويز أديانهم و إعطاء المشروعية لها، فلا وجه لما جاء من التعبير في قوله عليه السّلام: «تجوز علي» و «لزمته أحكامهم»، إلّا بيان مفاد هذه القاعدة. و لا سيّما بقرينة لفظة «علي» الظاهرة فيما كان بضررهم. و هذه النصوص (الخاصّة و العامّة) لا إشكال في سندها؛ لتظافرها و صحّة سند بعضها، مثل صحيح عبد الأعلي و معتبرة ابن محرز و صحيح ابن مسلم و المعتبرة الأخيرة.

نطاق مدلول الطائفتين من نصوص المقام

و لا إشكال في دلالة الطائفة الاولي علي مضمون قاعدة الإلزام بالنسبة إلي المخالفين، بل غير الشيعة الإمامية الاثني عشرية من ساير الفرق، كالزيديّة و الفطحيّة و الواقفيّة و نحوهم، نظرا إلي كون المخاطب في هذه الطائفة الشيعة الاثني عشرية، فتشمل غيرهم من ساير فرق الشيعة أيضا، كالمخالفين.

كما لا إشكال في دلالة الطائفة الثانية علي مضمون القاعدة عموما بالنسبة إلي كلّ ذي دين من غير المسلمين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 15 ب 30 من مقدّمات الطلاق ح 10 و 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 20

و أمّا موردا فالطائفتان كلتاهما، لا إشكال في دلالتهما علي جريان هذه القاعدة في

جميع الأحكام من العباديّات و المعاملات و لا سيما الحقوق و الجزائيّات و الضمانات، كما ستعرفها تفصيلا في مجاري هذه القاعدة و تطبيقاتها الفقهيّة.

و ذلك بدلالة عموم «أحكامهم» في قوله عليه السّلام: «لزمته أحكامهم»، و إطلاق «ما» الموصولة في قوله: «ما يستحلّون» و «ما ألزموا به أنفسهم» و «ما يأخذون منكم في سنّتهم و قضاياهم».

دعوي الإجماع في المقام

و أمّا دعوي الإجماع في ذلك فلا يعبأ به؛ نظرا إلي استناد القدماء و المتأخّرين في ذلك إلي هذه النصوص، فليس هذا الإجماع كاشفا تعبّديا عن رأي المعصوم. مضافا إلي عدم دعوي الإجماع علي ذلك من الفقهاء الفحول، و أن لا خلاف بينهم في الفتوي و العمل بمضمون هذه القاعدة. و إنّ تسالهم علي ذلك رصيد وثيق لهذه القاعدة.

لا تجري هذه القاعدة في ضروريّات الدين

فتحصّل أنّ هذه القاعدة لا إشكال في اعتبارها و حجّيتها بنطاقها الواسع، و لكن لا يخفي أنّه لا نظر لها إلي ضروريّات الدين كالنكاح مع المحارم و أكل الربا و الرشا، بل إنّما هي ناظرة إلي خصوص أحكام المذهب الّتي خالفهم العامّة في ذلك، بل و غير العامّة من ساير الفرق و النحل. و كذا ما ثبت بحكم قضاتهم و قيم المتلفات و المبيعات المحلّلة عندهم و اروش الجنايات الثابتة لديهم، و نحو ذلك.

و لا يخفي أنّ في ضروريّات الدين لا يتصوّر مخالفة العامّة و إنّما بتصوّر ذلك من غير المسلمين من أهل ساير الأديان.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 21

حال هذه القاعدة مع معارضة ساير الأدلّة

1- هذه القاعدة حاكمة علي أدلّة الأحكام الأوّلية.

2- لا تجري هذه القاعدة في موارد الضرر و الحرج.

3- حكم معارضتها مع قاعدة التقية.

هذه القاعدة حاكمة علي الحكم الأوّلي الثابت في موردها؛ إذ تفيد تضيق نطاق الحكم الأولي بلسان توسعة موضوعه فنقول- مثلا-: إنّ طلاق المخالف ثلاثا طلاق في حقّ الشيعي، و إن ليس بطلاق بلحاظ الحكم الواقعي الثابت في مذهب الحقّ.

و لا ريب في تقدّم قاعدتي نفي الضرر و الحرج عليها، بل لا تصلح للمعارضة معهما. و ذلك لأنّها شرّعت لأجل الإرفاق بالشيعة، فإذا كان ترتيب الأثر علي حكم المخالفين بضرر الشيعي أو موجبا للحرج و المشقّة عليه تسقط القاعدة عن الحجّية و الاعتبار؛ إذ لا نظر لها إلي هذه الصورة. فعدم حجّية هذه القاعدة حينئذ من باب قصور المقتضي، لا لأجل المعارضة.

بقي الكلام في حال هذه القاعدة مع قاعدة التقيّة. و لا يخفي أنّ هذه القاعدة لا تنافي مفاد قاعدة التقيّة و لا تخالفها بأيّ وجه. و ذلك لأنّها تفيد العمل

بحكم المخالفين و ترتيب الأثر عليه. فهي تؤكّد مفاد قاعدة التقيّة؛ لأنّ القاعدتين

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 22

كلتيهما تفيدان مراعاة حكم المخالفين و ترتيب الأثر علي ما يعتقدونه. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ خصوصيّة مورد هذه القاعدة- و هي كون العمل بحكمهم بنفع الشيعي و بضررهم- توجب سوء ظنّهم بالشيعي و غضبهم عليه في الواقعة و إثارة الفتنة بين العامّة و الخاصّة. و هذا علي خلاف جهة التقيّة. و لكن لا يعبأ بذلك بعد ما كان العمل علي وفق مسلكهم و مرامهم، و هو روح التقيّة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 23

مجاري القاعدة و تطبيقاتها الفقهيّة

1- مسألة الطلاق الثلاث.

2- مسألة إرث الاخوة و الأخوات مع وجود أحد الأبوين أو كليهما.

3- مسألة التعصيب.

4- مسألة التزويج بلا شاهد/ و تزويج العامي بسبب فاسد عندهم.

5- مسألة عدّة اليائسة.

6- مسألة طواف النساء.

7- مسائل أبواب الضمانات.

8- مسألة بيع ما لا يملك.

قد أفتي الفقهاء بمضمون هذه القاعدة و تمسّكوا بنصوصها في فروع كثيرة من مختلف أبواب الفقه.

و نذكر هاهنا نماذج من مجاري هذه القاعدة.

فمنها: مسألة الطلاق الثلاث. فإنّهم يحكمون بصحّته في مجلس واحد بلفظ «ثلاثا» و نحن نقول ببطلانها.

و منها: مسألة إرث الإخوة و الأخوات مع وجود الأبوين أو أحدهما. فإنّهم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 24

يقولون بإرث الإخوة و الأخوات مع وجود الأبوين أو أحدهما، و نحن نقول بعدمه.

و منها: مسألة التعصيب، و هو توريث العصبة ما فضل من السهام. و المراد من العصبة ما كان له جذر و عصب في الميّت من أقربائه، و هم الأب و الابن و من يتقرّب بهما إلي الميّت. و ذلك أنّ الإماميّة يقولون ببطلان التعصيب، و

أهل العامّة قائلون بصحّته.

و منها: التزويج بلا شاهد، فإنّهم يقولون ببطلانه و نحن قائلون بصحّته.

و منها: عدّة اليائسة فإنّهم يقولون: إنّها تعتدّ ثلاثة أشهر من زمان طلاقها كما في الفقه علي المذاهب الأربعة «1» و لا يقول بذلك فقهاؤنا الإماميّة.

و منها: طواف النساء فإنّهم لا يوجبونه و نحن نوجبه.

و منها: أبواب الضمانات فيما يخالف رأيهم لمذهب الإماميّة، إلي غير ذلك من الفروعات الّتي يخالف رأي العامّة لمذهب الإماميّة و كان العمل بالحكم علي رأيهم بضررهم و بنفع الشيعي.

و قد عرفت في بيان سابقة هذه القاعدة أنّ أوّل من أفتي بمضمونها هو الشيخ الطوسي في كتابه الاستبصار، في باب «أنّ المخالف إذا طلّق امرأته ثلاثا- و إن لم يستوف شرائط الطلاق- كان ذلك واقعا» «2» و ذكرنا هناك ما تمسّك به الشيخ لذلك من النصوص الدالّة علي مضمون هذه القاعدة.

و أيضا أفتي بمضمون هذه القاعدة في باب «أنّ الاخوة و الأخوات علي اختلاف أنسابهم لا يرثون مع الأبوين و لا مع واحد منهما شيئا» «3»، فإنّه قدّس سرّه بعد ما ذكر نصوصا معتبرة؛ مستدلّا بها لمفاد عنوان الباب المطابق لمذهب الشيعة الإماميّة، ذكر ثلاث روايات دالّة علي إرث الإخوة مع وجود الامّ. ثمّ ذكر لها

______________________________

(1) الفقه علي المذاهب الأربعة: ج 4، ص 549.

(2) الاستبصار: ج 3، ص 291.

(3) الاستبصار: ج 4، ص 146، ب 91.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 25

محملين؛ أحدهما: الحمل علي التقيّة، و الآخر: الحمل علي مضمون قاعدة الإلزام، ثمّ أشار إلي مضمون هذه القاعدة و استشهد لها بعدّة نصوص سبقت في بيان مدارك هذه القاعدة.

قال بعد نقل الروايات الثلاث المشار إليها: «فهذه الأخبار الثلاثة الأصل فيها زرارة و الطريق

إليها واحد. و مع ذلك فقد أجمعت الطائفة علي العمل بخلافها؛ لأنّه لا خلاف بينهم أنّ مع الامّ لا يرث أحد من الإخوة و الأخوات من أيّ جهة كانوا. فالوجه في هذه الأخبار أن نحملها علي ضرب من التقيّة. و يجوز أن نقول فيها وجها من التأويل؛ و هو أنّه وردت الرخصة في جواز الأخذ منهم علي ما يعتقدونه، كما يأخذونه منّا؛ و إنّما نحرّم الأخذ بها لمن يعتقد بطلانها». «1» ثمّ استشهد لذلك بروايات هذه القاعدة.

و يشهد لما استظهرناه من كلام شيخ الطائفة استظهار الشهيد الأوّل ذلك من كلام الشيخ. فإنّه- بعد ما نقل رواية زرارة الدالّة علي خلاف مذهب الإماميّة- قال: «و حملها الشيخ علي إلزامهم بمعتقدهم، بمعني؛ لو كانت الامّ تري ذلك حلّ للأخوات التناول». «2» و كذا الشهيد الثاني في المسالك. «3»

و ممّن أفتي بمضمون هذه القاعدة هو المحقّق صاحب الشرائع، حيث قال:

«و لو كان المطلّق مخالفا يعتقد الثلاث لزمته». «4»

و منهم الشهيد الأوّل فيما إذا حكم القاضي العامي بنفع الشيعي علي طبق رأي العامّة، و كان ذلك الحكم باطلا عندنا، فإنّه حكم بنفوذ حكم القاضي العامي و جواز أخذ ما حكم به للشيعي؛ مستدلّا بقولهم عليهم السّلام: «امضوا في أحكامهم، و من دان

______________________________

(1) الاستبصار: ج 4، ص 146 ب 91 ذيل الحديث 7.

(2) الدروس: ج 2، ص 356.

(3) مسالك الافهام: ج 13، ص 81.

(4) شرايع الإسلام/ تحقيق السيّد صادق الشيرازي: ج 3، ص 584- 585.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 26

بدين قوم لزمه حكمه». «1»

و منهم الشهيد الثاني في مسألة الطلاق الثلاث الواقع من المخالف. «2» و قد استشهد بهذه القاعدة في طلاق المخالف و إرثه جميع

المتأخّرين.

و من الفروع المستدلّ لها بهذه القاعدة تغسيل الميّت المخالف علي طبق مذهب العامّة. و قد علّله في المدارك بهذه القاعدة؛ حيث قال: «و أمّا تغسيله غسل أهل الخلاف فربّما كان مستنده ما اشتهر من قولهم عليهم السّلام ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم و لا بأس به». «3»

و قال المحقّق النراقي: «ثمّ المشهور- بل في شرح القواعد أنّه لا نعرف من أحد تصريحا بخلافه- أنّه يغسل غسلهم؛ لقولهم: ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم، و في دلالته نظر». «4»

و الّذي يقتضيه التأمّل في سياق نصوص هذه القاعدة، ما ذهب إليه المحقّق النراقي؛ نظرا إلي انصرافها عن الأموات؛ إذ ليسوا قابلين للإلزام و الالتزام. نعم إذا ترتّب في الأموات أثر حقوقي أو جزائي بالنسبة إلي أحيائهم، أو تصوّر فيه نفع للشيعي كما في مسألة الإرث و نحوها يمكن القول بجريان قاعدة الإلزام، و لكن ليس غسل الميّت من هذا القبيل. و لو تصوّر ذلك في هذا الفرع لا بأس بالتمسّك بنصوص هذه القاعدة لإثبات جواز غسل المخالف علي طبق مذهبهم. فإنّ الملاك في جريان هذه القاعدة تصوير الإرفاق للشيعة و الضيق و الضرر عليهم.

و يؤيّد ما قلنا كلام السيّد الحكيم فإنّي بعد ما خطر ببالي هذا الإشكال و حرّرته- صادفت كلام هذا العلم. و إليك نصّ كلامه؛

قال: «و أمّا قاعدة ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم، فدلالتها علي تغسيلهم لا تخلو من قصور كما في طهارة شيخنا الأعظم، و محلّ مناقشة كما في

______________________________

(1) الدروس: ج 2، ص 7.

(2) مسالك الافهام: ج 9، ص 96.

(3) مدارك الأحكام: ج 2، ص 92.

(4) مستند الشيعة: ج 3، ص 113.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 27

الجواهر: لكون التغسيل خطابا

للمغسّل لا للميّت. لكن يكفي في صدق الإلزام اعتقاده أنّ غسل الميّت- حتّي نفسه- بالكيفيّة الخاصّة و إن لم يكن مخاطبا بذلك. نعم قد تشكل القاعدة بعدم ظهور شمولها للأموات، و بعدم اقتضائها لزوم الإلزام؛ لأنّها واردة مورد الإرفاق». «1»

و ممّا يشهد لذلك عدم قابلية الميّت للالتزام و الإلزام كما أشكل بذلك السيّد الخوئي علي شمول القاعدة للمقام؛ حيث قال: «و فيه: أنّ قاعدة الإلزام تتضمّن الأمر و الإيجاب كما هو المستفاد من أدلّتها، كقوله: ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.

أو أنّ «من التزم بدين لزمته أحكامه» و من الظاهر أنّ الميّت غير قابل لأن يلزم بشي ء و يجب في حقّه شي ء. و إنّما هو حكم مختصّ بالأحياء، كما في الارث و الطلاق». «2»

و منها: بيع ما لا يملك- كالخمر و الخنزير- من الكفّار. فإنّ مقتضي قاعدة الإلزام صحّة بيعهما منهم و جواز تناول ثمنهما، و إن لا يجوز ذلك فيما بيننا، بل لا يجوز لهم و حرام عليهم واقعا بناء علي كونهم مكلّفين بالفروع، إلّا أنّهم بعد ما التزموا بجواز بيع ما لا يملك عندنا، يجوز لنا أكل ثمنه المنتقل إلينا بالبيع بمقتضي قاعدة الإلزام، كما أشار إلي ذلك صاحب الجواهر؛ حيث قال في ذيل كلام صاحب الشرائع:

«لكن ينبغي أن يعلم هاهنا أنّ ما يظهر من المصنّف و غيره من ملكيّة الكافر للخمر و الخنزير و نحوهما مناف لقاعدة تكليف الكافر بالفروع، و لما دلّ علي عدم قابليتهما للملك شرعا من غير فرق بين المسلم و الكافر، و عدم التعرّض لما في أيديهم من أديانهم لا يقتضي ملكيتهم ذلك في ديننا- بمعني أنّ المسلم فيه لا يملك بخلاف الكافر، فإنّه يملك ذلك-؛ ضرورة منافاته لما

عرفت، و لنسخ دينهم، فهو

______________________________

(1) مستمسك العروة: ج 4، ص 67- 68.

(2) مستند العروة/ كتاب الطهارة: ج 8، ص 84.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 28

حرام عليهم، و الثمن الّذي يأخذونه في مقابلته حرام عليهم، و تصرّفهم فيه حرام أيضا، و إن جاز لنا تناوله منهم، و معاملته معاملة المملوك، و إجراء الحكم الصحيح عليه؛ إلزاما لهم بما ألزموا به أنفسهم، فتأمّل جيّدا، فإنّه دقيق نافع». «1»

و أنت تري أنّ كلامه هذا في مطلق الكافر، لا خصوص العامي المخالف.

و منها: ما لو تزوّج العامي بسبب فاسد عندهم، كما لو رجع إلي المطلّقة ثلاثا في العدّة، كما قال في الجواهر: «و لو تزوّجوا بالسبب الفاسد عندهم الصحيح عندنا، أمكن جريان أحكام الصحيح عليه، لإطلاق ما دلّ علي صحّته الّتي لا يقدح فيها زعمهم الفساد، و يحتمل إلزامهم بأحكام الفاسد معاملة لهم بما يقتضيه دينهم و إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم، فالعامي المطلّق ثلاثا بصيغة واحدة لا يترتّب علي رجوعه بها في العدّة حكمه، بل لنا أن نتزوّجها و إن كان قد رجع بها، إلزاما لهم بما ألزموا به أنفسهم، و لعلّ هذا هو الأقوي، و اللّه العالم». «2»

و منها: تناول أموال أهل الكتاب بمقتضي هذه القاعدة فيما جرت في مجاريها. كما قال في الجواهر: «إنّ مقتضي الإلزام بما ألزموا به أنفسهم الإذن لنا في تناول ما يقتضيه دينهم فيهم؛ إلزاما لهم بذلك، لا الحكم فيما بينهم بما هو في دينهم المنسوخ الّذي هو في زمان نبيّنا صلّي اللّه عليه و آله حكم بغير ما أنزل اللّه». «3»

و قد عرفت من ذيل كلامه أنّه في مطلق الكفّار من أهل الكتاب لا خصوص أهل العامّة.

منها:

إجراء حدّ القتل علي المخالف فيما إذا كان ثابتا عليه في مذهبهم، كما صرّح بذلك في الجواهر؛ حيث قال: «بل قد يقال أيضا: إن كان من عليه الحدّ مخالفا و كان حدّه القتل في مذهبهم يجوز قتله، و إن لم يصل إلي حدّ الإكراه،

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 31، ص 9- 10.

(2) جواهر الكلام: ج 39، ص 324.

(3) جواهر الكلام: ج 41، ص 25.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 29

لقاعدة إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم و غيرها». «1» قوله: «و إن لم يصل إلي حدّ الإكراه» أي و إن لم يكن الشيعي مكرها من جانب السلطان علي إجراء الحدّ، و إلّا فلا إشكال فيه، و لو لم نقل باعتبار قاعدة الإلزام.

و قد لاحظت من صاحب الجواهر أنّه عبّر في كلامه هذا عن دليل المسألة بقاعدة الإلزام.

منها: في مطلق شئون العيش من كيفيّة وضع المسكن و اللباس و غير ذلك.

فيجوز إلزام أهل الكتاب بما يعتقدونه في دينهم، كما قال في الجواهر: «بل ينبغي له (أي الإمام) إلزامهم بما ألزم به بعضهم أنفسهم». «2» ثمّ تمسّك قدّس سرّه لذلك برسالة من النبيّ صلّي اللّه عليه و آله إلي بعض أهل الكتاب في زمانه.

منها: ما لو كان المدّعي عليه و الحاكم كلاهما من المخالفين، و رأي حاكمهم استحقاق المدّعي الشيعي علي أساس مذهب العامّة، فحكم الشيخ الأعظم بجواز الأخذ للمدّعي الشيعي بدليل قاعدة الإلزام؛ حيث قال: «و إن لم يعلم الاستحقاق لم يجز أخذها، إلّا إذا كان المدّعي عليه و الحاكم كلاهما من أهل الخلاف فيري الحاكم استحقاق المدّعي لملك العين في مذهبهم، فيجوز الأخذ هنا؛ بناء علي ما ورد من قوله عليه السّلام: ألزموهم بما

ألزموا به أنفسهم و نحو ذلك». «3»

و قد سبق هذا الفرع في كلام الشهيد الأوّل في الدروس.

إلي غير ذلك من الفروعات المنتشرة في أبواب العبادات و المعاملات و القضاوات و الجزائيات.

و لا يخفي أنّه بعد عمومية النصوص المعتبرة الواردة في المقام و شمولها بنطاقها الواسع لجميع أبواب الفقه و مختلف الفروع، لا يضرّنا عدم فتوي الأصحاب بمضمونها في آحاد الفروع.

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 21، ص 393.

(2) جواهر الكلام: ج 21، ص 273.

(3) كتاب القضاء و الشهادات للشيخ الأعظم: ص 62- 63.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 31

قاعدة الامتنان

اشارة

منصّة القاعدة و سابقتها

مفاد القاعدة و ماهيّتها

مدرك القاعدة و حكم معارضتها مع سائر الأدلّة

التطبيقات الفقهيّة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 33

منصة القاعدة و سابقتها

اشارة

1- منصة القاعدة و مناسبة البحث عنها.

2- قاعدة الامتنان في كلمات الفقهاء.

3- أوّل من عبّر عنها بقاعدة الامتنان.

منصّة القاعدة و مناسبة البحث عنها

و ممّا ينبغي أن يبحث عنه في هذا المجال قاعدة الامتنان.

و هي و إن كانت من القواعد الأصولية في الحقيقة- و قد بحثنا عنها في فذلكة مباحث العامّ و الخاصّ بلحاظ كونها موجبة لتضييق نطاق العام و المطلق أو توسيعه حسب اقتضاء الموارد-، إلّا أنّه تبتني قواعد فقهية كثيرة علي أساس الامتنان.

و أمّا كونها من القواعد الأصوليّة، فلأنّ القاعدة الأصوليّة- حسب ما اخترناه- هي القاعدة الممهّدة لتحصيل الحجّة علي الحكم الكلّي الفرعي، كما قرّرناه في المجلد الأوّل من كتابنا «بدائع البحوث». و إنّ البحث عن هذه القاعدة إثبات قرينية مقام الامتنان و حجّيته علي تضييق نطاق الخطاب أو توسيعه، و بالمآل تكون حجّة علي الحكم.

و بعبارة واضحة: ابتناء تشريع أيّ حكم علي الامتنان قرينة مقامية كاشفة عن مراد الشارع من الخطاب و معيّنة لظهوره، و حجّة علي تضييق ذلك الحكم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 34

بما وافق الامتنان، و علي عدم ثبوته فيما خالف الامتنان.

و أمّا وجه البحث عن هذه القاعدة هاهنا، فلمّا لها دخل أساسي في بعض القواعد الفقهية الآتية كقاعدة الجبّ و التقية و القرعة، و قاعدة نفي العسر و الحرج و نفي الضرر. ففي طليعة البحث عن تلك القواعد ينبغي البحث عن قاعدة الامتنان؛ نظرا إلي ابتناء تلك القواعد علي هذه القاعدة.

و عليه فالبحث عن هذه القاعدة في ضمن القواعد الفقهيّة استطرادي بمناسبة دورها الأساسي في كثير من القواعد الفقهيّة العامّة المبتنية علي أساس الامتنان الجارية في مختلف أبواب الفقه. و سوف نبحث عن تلك القواعد بعد البحث عن هذه القاعدة

في هذا الكتاب و ما يتلوه في المجلّد الثالث، إن شاء اللّه.

و قد اتّضح بما بيّنّاه أهمّية هذه القاعدة لسريانها في كثير من القواعد العباديّة و المعامليّة.

قاعدة الامتنان في كلمات القدماء

أوّل من رأيته تمسّك بهذه القاعدة هو السيّد المرتضي؛ حيث استظهر من قوله تعالي: وَ اللّٰهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعٰامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهٰا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقٰامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوٰافِهٰا وَ أَوْبٰارِهٰا وَ أَشْعٰارِهٰا أَثٰاثاً وَ مَتٰاعاً إِليٰ حِينٍ «1» أنّه تعالي في جعل ذلك المنافع بصدد الامتنان.

و بقرينة الامتنان استفاد من هذه الآية عدم تعلّق الجعل المزبور بالأنجاس من المذكورات؛ معلّلا بعدم جواز الامتنان بما هو نجس.

قال في الناصريات بعد ذكر الآية المزبورة: «فامتنّ علينا بأن جعل لنا في ذلك منافع. و لم يفرّق بين الذكية و الميتة، فلا يجوز الامتنان بما هو نجس؛ لأنّه لا يجوز الانتفاع به». «2»

______________________________

(1) النحل: 80.

(2) الناصريات/ للسيد المرتضي: ص 100.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 35

و عين هذا التعليل و التعبير جاء في كلام ابن زهرة في الغنية. «1»

و قد استدلّ ابن إدريس لإثبات عدم كون الخنثي قسما ثالثا من البشر غير الذكر و الأنثي بكون ما ذكر فيه من الآيات خلق الإنسان من الرجل و المرأة و الذكور و الاناث في مقام الامتنان علي العباد فلو كانت الخنثي قسم ثالث من الإنسان غير الذكر و الأنثي لاقتضي مقام الامتنان ذكره في هذه الآيات.

قال بعد بحث مفصّل في ذلك:

«و أيضا فالدليل علي أصل المسألة، قول اللّه سبحانه ممتنّا به علي خلقه و عباده: يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ بَثَّ مِنْهُمٰا

رِجٰالًا كَثِيراً وَ نِسٰاءً. و قال تعالي: يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ إِنٰاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ الذُّكُورَ …

فلو كان المجعول قسما آخر لذكره في امتنانه علينا، ألا تري إلي قوله تعالي في هذه الآيات و وجه الامتنان بها و ذكر التثنية في جميعها من غير إدخال قسم ثالث فيها؟». «2»

أوّل من عبّر عنها بقاعدة الامتنان

أوّل من رأيته عبّر عن هذه القاعدة بقاعدة الامتنان هو الفقيه الاصولي المحقّق السيّد المراغي في كتاب العناوين «3».

فإنّه قد استدلّ بهذه القاعدة للحكم بأصالة الطهارة في الشبهات الخبثية بصورها المختلفة. و قد قرّب الاستدلال بها ببيان جامع؛ حيث قال: «و الّذي يقضي بأصالة الطهارة فيها بصورها امور: أحدها: قاعدة الامتنان، و بيانه: أنّه تعالي لما كرّم بني آدم و جعله أشرف مخلوقاته و أعظمها، خلق لانتفاعه ما في الأرض جميعا و أباحه له. و قد حكم العقل بأنّ ما خلق لأجل الانتفاع، لا بد من إباحته.

______________________________

(1) غنية النزوع: ص 43.

(2) السرائر: ج 3، ص 280- 281.

(3) العناوين: ج 1، ص 485- 486.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 36

و ما لم يبح لا ينتفع به. و كذا يحكم بعد ذلك بأنّه ينبغي أن يكون ذلك طاهرا أيضا؛ إذ لا انتفاع بالنجس. و احتياج الإنسان إليه و عدم المناص عن استعماله يقتضي الانتفاع المستلزم للإباحة و الطهارة. و قد دلّ بهذا الامتنان آيات اخر أيضا في مقامات متعدّدة. و من أعظم الامتنان جعله طاهرا غير نجس». «1»

و قد سبقت الإشارة إلي بعض هذه الآيات في كلام السيّد المرتضي.

و سيأتي ذكر بعض آخر منها في التطبيقات الفقهيّة.

ثمّ بيّن وجه المناقشة في الاستدلال بها في مفروض كلامه، ثمّ أجاب عن المناقشة، فراجع 2.

______________________________

(1) (1 و 2)

(1 و 2) العناوين: ج 1، ص 485- 486.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 37

مفاد القاعدة

قبل الورود في البحث عن مفاد هذه القاعدة، ينبغي أن يعلم أنّه لا طائل تحت البحث عن أصل لفظ الامتنان و الفحص عن جذره اللغوي. و ذلك لأنّ هذه القاعدة من القواعد الأصولية الّتي لها جذر في السيرة العقلائية المحاورية، و لم ترد بلفظها و متنها في نصّ شرعي حتّي تترتّب الثمرة علي البحث عن لفظه.

فلا ينبغي البحث عن لفظ الامتنان في تنقيح مفادها. فلا بدّ في تنقيح مفادها من الرجوع إلي كلمات الفقهاء و الاصوليّين و ملاحظة مجموع تعابيرهم و تعاريفهم.

إذا عرفت ذلك، نقول في تنقيح مفاد هذه القاعدة: إنّ اللّه تعالي لأجل لطفه بالعباد، خلق لهم ما في الأرض جميعا و رزقهم من الطيّبات، كما قال تعالي: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. «1»

و قال: وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنٰاهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ الطَّيِّبٰاتِ وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَليٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنٰا تَفْضِيلًا. «2»

و من هنا يسّر عليهم الدين و سهّل عليهم الشريعة، و أعلنهم عدم مشروعية أيّ حكم موجب للعسر و الحرج و الضرر، كما قال تعالي: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و قال صلّي اللّه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في

______________________________

(1) البقرة: 29.

(2) الإسراء: 70.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 38

الإسلام» و من هنا سمّي الإسلام بالشريعة السمحة السهلة.

و علي هذا الأساس جعل كثيرا من أحكام الشريعة علي أساس الامتنان علي المكلّفين و الارفاق بهم، و لأجل لطفه بالعباد، كما

سيأتي ذكر نماذج منها في التطبيقات الفقهية. و من تلك الأحكام المجعولة علي أساس الامتنان، التقية.

فليس المقصود من الامتنان في هذه القاعدة الامتنان في تشريع أصل دين الإسلام و جعل أحكام الشريعة بلحاظ ما في تشريعها من الهداية و الكمال و السعادة، بل المقصود الامتنان المبنيّ عليه لسان جعل حكم خاصّ أو رفعه؛ لما في وضعها من المنافع المادّية و ما في رفعها من السهولة و الراحة.

و إذا ثبت في مورد أنّ الشارع في مقام الامتنان علي المكلّف في تشريع حكم أو رفعه، يكون مقام الامتنان قرينة عقلائية أو عقلية توجب انعقاد ظهور الخطاب حسب ما اقتضاه مقام الامتنان. فقد توجب تضييق دائرة الحكم، و اخري: توجب توسيعها و تعميم نطاق الخطاب، كما ستعرف في التطبيقات الفقهية.

و علي ضوء هذا البيان نستطيع أن نقول: إنّ مفاد هذه القاعدة: قرينية مقام الامتنان و حجّيته علي تضييق نطاق الخطاب أو توسيعه، و علي تحديد الحكم المستفاد منه بالمآل.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 39

التنبيه علي نكات مهمّة

اشارة

1- لا امتنان في إضرار الغير.

2- اختلاف مقتضي الامتنان وضعا و رفعا باختلاف الموارد.

3- مقتضي الامتنان صحّة معاملة كان في بطلانها ضيق.

4- اختصاص الرفع بما كان في وضعها ضيق.

ثمّ إنّه ينبغي لتحرير مفاد هذه القاعدة، التنبيه علي امور:

لا امتنان في إضرار الغير

إحداها: أنّه لا امتنان في رفع الأثر و الحكم عن المكلّف فيما إذا انجرّ إلي إضرار الغير؛ لأنّ الامتنان علي الامّة، لا علي شخص خاصّ، كما أشار إليه الشيخ الأعظم في تنقيح مفاد حديث الرفع بقوله:

«و اعلم أيضا أنّه لو حكمنا بعموم الرفع لجميع الآثار، فلا يبعد اختصاصه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان علي الامّة، كما إذا استلزم إضرار المسلم؛ فإتلاف المال المحترم نسيانا أو خطأ لا يرتفع معه الضمان. و كذلك الإضرار بمسلم لدفع الضرر عن نفسه لا يدخل في عموم ما اضطرّوا إليه؛ إذ لا امتنان في رفع الأثر عن الفاعل بإضرار الغير؛ فليس الإضرار بالغير نظير سائر المحرّمات الإلهيّة المسوّغة لدفع الضرر» «1».

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 2، ص 35.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 40

اختلاف مقتضي الامتنان وضعا و رفعا باختلاف الموارد

ثانيتها: أنّه يختلف مقتضي مقام الامتنان بحسب اختلاف الموارد.

فتارة: يقتضي رفع الحكم و تضييق نطاق الخطاب، كما في أدلّة نفي الحرج و الضرر، و في فقرات حديث الرفع و أدلّة البراءة الشرعيّة، كما جاء في كلمات الاصوليّين «1».

و اخري: يقتضي وضع حكم، و ذلك نظير الخطابات الدالّة علي إثبات الأحكام الوضعية امتنانا مثل قوله: «كلّ شي ء لك نظيف حتّي تعلم أنّه قذر». «2» و كلّ شي ء لك حلال حتّي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه.

فإنّ هذه النصوص قد دلّت علي جعل الحلّية و الطهارة في ظرف الشكّ امتنانا علي العباد و تسهيلا عليهم؛ حيث إنّه لولاها لوقع المكلّف في عسر و مشقّة من ناحية وجوب الاجتناب عن مشكوك الحلّية و النجاسة في الشبهات البدويّة.

و من هذا القبيل اقتضاء الامتنان صحّة معاملة المضطرّ؛ امتنانا عليه و علي عياله. و سيأتي بيان ذلك.

عموم النكرة

في سياق النفي إذا وقعت في مقام الامتنان، كما سبق آنفا.

و قد استدلّ بعمومها الشهيد الثاني لتعميم استحباب الزواج إلي التسرّي؛ حيث قال: «و قد نصّ الاصوليون علي أنّ النكرة المثبتة في معرض الامتنان تفيد العموم لهذه العلّة»؛ «3» أي لأجل مقام الامتنان.

ثمّ استدلّ بذلك لتعميم «رجل متزوّج» في قوله عليه السّلام: «الركعتان يصلّيهما

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 1، ص 164، مقالات الاصول، ج 1، ص 274 و ج 2، ص 168- 163.

(2) وسائل الشيعة: ج 2، ص 1054 و ج 1، ص 256.

(3) مسالك الافهام: ج 7، ص 14.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 41

رجل متزوّج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله و نهاره»؛ «1» إلي المتسرّي بالجواري و الإماء في ردّ من ادّعي اختصاص استحباب التزويج بغير المتسرّي. و قد وجّه استفادة عموم النكرة في سياق الإثبات بكون الخطاب المتضمّن لها في مقام الامتنان؛ إذ تفضيل المتزوّجين علي العزّاب في الأجر و الثواب امتنان علي المتزوّجين؛ نظرا إلي كون الزواج سنّة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، و لما في تشريع الزواج و النكاح من الامتنان علي الامّة. و السرّ في كون مثل قوله:

فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ و قوله: وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰاميٰ مِنْكُمْ وَ الصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ و نحو ذلك، أنّ في الزواج و النكاح سكونا و قرارا للنفس و ثباتا و هدوءا للأعصاب، كما قال تعالي: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا فهو علي وزان قوله تعالي: وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً فكما أنّ الليل سكن و هدوء للأعصاب فكذلك الزواج و النكاح. فاتّضح بذلك أنّ في تشريع حكم الزواج امتنان علي الامّة؛ اذ بذلك سهّل عليهم و دفع عنهم

عسر العزوبة و ضيقها عن العزّاب.

هذا، مع ما في تفصيل المتزوّجين و وعدهم بالثواب و الأجر المضاعف، امتنان آخر عليهم، كما قال الشهيد.

و نظير الاستدلال المزبور يظهر من كلام صاحب الحدائق. «2»

ثمّ لا يخفي أنّه إنّما يتحقّق الامتنان في مورد لم يستقلّ العقل برفع التكليف مع قطع النظر عن الامتنان؛ حيث لا يتصوّر الامتنان فيما هو مرفوع بحكم العقل، كالمجبور المقهور المسلوب الاختيار و الناسي حال نسيانه، و العاجز الّذي لا يتمكّن من الإتيان بالتكليف، لا معني لرفع التكليف عنهم حال الإجبار و النسيان و العجز امتنانا، إلّا بلحاظ الإعادة أو القضاء فيما بعد ارتفاع هذه الحالات.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 14 ب 2 من أبواب مقدمات النكاح ح 2 و الكافي: ج 5، ص 329، ح 6 و التهذيب: ج 7، ص 239، ح 1046.

(2) الحدائق الناضرة: ج 1، ص 174.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 42

مقتضي الامتنان صحّة معاملة كان في بطلانها ضيق

ثالثتها: كلّ مورد من موارد الرفع كان الحكم ببطلان المعاملة ضيقا علي المتعامل و خلاف الامتنان في حقّه، يقتضي مقام الامتنان صحّة المعاملة.

و من هنا فرّق المحقّق العراقي بين معاملة المضطرّ و بين معاملة المكره.

و حكم بأنّه يقتضي الامتنان صحّة معاملة المضطرّ، دون معاملة المكره؛ نظرا إلي كون الحكم ببطلان المعاملة ضيقا علي المضطرّ دون المكره، فيوجب فوت التكليف بسوء اختياره حينئذ.

فإنّه قال: «و أيضا نقول: إنّ سوق الامتنان في فقرة الاضطرار يقتضي صحّة المعاملة الّتي أقدم عليها لاضطراره؛ لأنّ بطلانها يوجب ضيقا عليه؛ لموت عياله من الجوع. ففي معاملاته لا بأس بشمول الحديث، حتّي ما كان اضطراره بسوء اختياره. و لا يجب عليه الحفظ في هذا المقام، لعدم انتهائه إلي فوت تكليف بسوء اختياره،

و به يمتاز باب المعاملات عن باب التكاليف، كما أشرنا.

كما أنّه يمتاز أيضا عن باب الإكراه، من حيث عدم اقتضاء الامتنان صحّة المعاملة في باب الإكراه دون الاضطرار، و إلّا فمن حيث الطيب الفعلي، و الكره الاقتضائي، كلاهما سيّان». «1»

قوله: «و لا يجب عليه الحفظ» أي لا يجب عليه حفظ نفسه عن الوقوع في الاضطرار في المعاملات. و هذا بخلاف باب التكاليف؛ لأنّه إذا لم يحفظ نفسه عن الوقوع في الاضطرار- الموجب لفوت الواجب العبادي- فوّت الفريضة عمدا.

و هذا بخلاف أبواب المعاملات فإنّ الاضطرار فيها و إن كان بسوء اختياره لا يرتفع أثرها و لا تبطل، بل صحّت المعاملة؛ لأنّ بطلانها- بحديث الرفع- ضيق عليه و خلاف الامتنان في حقّه، بل مقام الامتنان في الحديث يقتضي صحّة معاملته.

______________________________

(1) مقالات الاصول: ج 2، ص 165.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 43

و نظير ذلك جاء في كلام و مثله عن السيّد اليزدي «1» و السيّد الخوئي «2».

و مثله ما جاء في كلام السيّد الشهيد الصدر؛ حيث قال:

«نعم يختصّ الرفع بما إذا كان في الرفع امتنان علي العباد؛ لأنّ الحديث مسوق مساق الامتنان، و من أجل ذلك لا يمكن تطبيق الحديث علي البيع المضطرّ إليه لإبطاله؛ لأنّ إبطاله يعين إيقاع المضطرّ في المحذور و هو خلاف الامتنان، بخلاف تطبيقه علي بيع المكره عليه؛ فإنّ إبطاله يعني تعجيز المكره عن التوصّل إلي غرضه بالإكراه». «3»

اختصاص الرفع بما كان في وضعه ضيق

رابعتها: مقتضي الامتنان في رفع التكليف اختصاص الرفع بما كان وضعه ضيقا علي المكلّف و خلاف المنّة. فما ليس وضعه خلاف الامتنان، لا مجال للتمسّك بحديث الرفع و لو كان في رفعه امتنانا، كما أشار إلي ذلك المحقّق العراقي بقوله: «الظاهر

من حديث الرفع- بملاحظة وروده في مقام الامتنان علي الامّة- هو الاختصاص برفع الآثار الّتي يكون وضعها خلاف المنّة. فما لا يكون كذلك كان خارجا عن مصبّ الرفع، و لا مجال للتمسّك بالحديث لرفعه، و إن فرض الامتنان في رفعه». «4»

و قد رتّب العلم المزبور عدم ارتفاع الحكم الواقعي بحديث الرفع لعدم ضيق فيه بوجوده الواقعي. و علي هذا الاساس يجب الإعادة عند ارتفاع العذر.

و لا يخفي أنّه يبتني تشريع كثير من المندوبات و المكروهات علي الامتنان؛ لما في تشريع هذه الأحكام من فوائد و منافع للجسم و صحّة البدن و دفع الأمراض و نحو ذلك.

______________________________

(1) حاشية المكاسب: ج 1، ص 120.

(2) مصباح الفقاهة: ج 1، ص 410.

(3) دروس في علم الاصول في أدلّة البراءة من السنة، آخر، المرحلة الاولي.

(4) نهاية الأفكار: ج 2، ص 212.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 44

هل هي أمارة أو أصل؟

لا إشكال في عدم كون قاعدة الامتنان من الأصول العملية؛ لعدم أخذ الشكّ و التحيّر في موضوعها، و لا في مقام العمل بالوظيفة، بل في مقام الاستظهار من الخطاب و إنّما هي أمارة؛ نظرا إلي كون مقام الامتنان قرينة عقلائية و عقلية علي كشف مراد المتكلّم و تعيين ظاهر الخطاب؛ لما قلنا من جريان سيرة العقلاء علي ذلك، و حكم العقل به.

مدرك القاعدة

مدرك هذه القاعدة بناء العقلاء و حكم العقل. أمّا بناء العقلاء؛ حيث استقرّت سيرتهم في المحاورات علي تعيين مراد المتكلّم حسب ما يقتضيه مقام الامتنان و الإرفاق، فيما إذا أحرزوا أنّه بصدد الإرفاق و الامتنان علي المخاطب في كلامه. فكلّ ما يقتضيه مقام الامتنان يستظهرونه من كلام المتكلّم حينئذ و يرتّبون عليه الأثر في محاوراتهم، بل يقبّحونه حينئذ إذا توقّع و أراد من المخاطب خلاف ما يقتضيه مقام الامتنان.

و أمّا العقل: فحيث إنّه يحكم بأنّ تكليف العباد علي خلاف ما يقتضيه الامتنان قبيح علي الحكيم في تشريعاته المبنيّة علي الامتنان.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 45

و بعبارة اخري: أنّ العقل، بعد ما أحرز أنّ المتكلّم الحكيم بصدد الامتنان في أمره و تقنينه يري تكليف مخاطبه بما هو خلاف مقتضي الامتنان قبيحا منه.

و يري صدور ذلك من الشارع الحكيم مستحيلا.

فهذين الوجهان أساس حجّية قاعدة الامتنان.

و أمّا الآيات و النصوص الدالّة علي تشريع الأحكام الامتنانية، لا ربط لها بالمقام؛ إذ غاية مدلولها جعل الحكم علي أساس الامتنان. و لا دلالة لها علي حجّية مقام الامتنان علي تحديد نطاق الخطاب و الحكم، كما لا ربط لتشريع أصل دين الإسلام في قوله: بَلِ اللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ «1»، و قوله: لَقَدْ مَنَّ

اللّٰهُ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ؛ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا. «2» فإنّ الامتنان في ذلك من جهة الكمالات المعنويّة و السعادة الأبدية الحاصلة بالالتزام بالشريعة و العمل بالأحكام الإلهيّة، و لو بتحمّل الصعوبات و المشقّات الدنيويّة، الضرر المالي كما في وجوب الجهاد و الحجّ و الخمس و الزكاة و غير ذلك من الأحكام الّتي اخذ في موضوعاتها الضرر و الكلفة و المشقّة.

______________________________

(1) الحجرات: 17.

(2) آل عمران: 164.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 46

حالها مع معارضة ساير الأدلّة

لا إشكال في تقدّمها علي ساير الأمارات؛ نظرا إلي أنّها قرينة حافّة بكلام الشارع في مواردها، و إلي دوران تعيين مراد الشارع و انعقاد ظهور الخطاب مدارها؛ لأنّ أيّة أمارة من الأمارات و الحجج إذا كان الخطاب المتكفّل لإثبات اعتبارها مبتنيا علي الامتنان، يدور تعيين مدلولها و تحديد نطاقها مدار الامتنان.

فأدلّة اعتبار الأمارات تابعة في كيفية دلالتها و نطاق مدلولها مدار الامتنان.

و ليس هذا التقدّم من قبيل الحكومة. و ذلك لأنّ الحكومة في الاصطلاح إنّما هي بين دليلين مستقلّين، و يكون التقديم في المقام من قبيل تقديم القرينة علي ذي القرينة. كما أنّها واردة علي الاصول بنحو من العناية؛ لأنّها بتحديد نطاق الأدلّة اللفظية و تعيين ظهورها، ترفع الشكّ في الحكم، فلا تصل النوبة إلي الأصل مع وجود قرينة الامتنان.

هذا، و لكن في إطلاق الورود- المصطلح في الأصول- علي المورد مسامحة؛ لعدم كون قرينة الامتنان بنفسه دليلا لفظيّا حتّي يكون واردا أو حاكما. نعم لها نوع من التقدّم ينتج نتيجة الورود بالمآل. و هو تقدّم القرينة علي ذي القرينة و تعيين ظهور الدليل اللفظي. فيرتفع بذلك الشكّ في الحكم بالمآل.

و هذا هو نتيجة الورود.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص:

47

التطبيقات الفقهيّة

اشارة

1- مسألتا التطهير بالماء المضاف و المسح المزيل.

2- مسألة حرمة التعدّي عن أربع زوجات.

3- الدوران بين ضررين كان أحدهما أقلّ من الآخر.

4- وصيّة السفيه و إكراه المديون علي بيع ماله.

5- ثبوت الخيار للمغبون مع علمه بالحال حين العقد.

و قد تمسّك الفقهاء الفحول- من القدماء و المتأخّرين- بقاعدة الامتنان في الاستظهار من الأدلّة الشرعية لإثبات الأحكام و نفيها بحسب مؤدّي الخطابات.

و موارد ذلك في مختلف الفروع و الأبواب الفقهيّة أكثر من أن تحصي، مع ما عرفت بعض هذه الموارد من كلام السيّد المرتضي و ابني زهرة و إدريس.

مسألتا التطهير بالماء المضاف و المسح المزيل

فمن هذه الفروع مسألة التطهير- أي رفع الخبث- بالماء المضاف؛ حيث وقع فيه الخلاف، فذهب المشهور إلي عدم حصول التطهير به و خالفهم السيّد المرتضي فأفتي بجواز إزالة النجاسة به. «1»

______________________________

(1) راجع مختلف الشيعة: ج 1، ص 57، و الناصريات: ص 219، م 22.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 48

و استدلّ العلّامة للمشهور بقوله تعالي: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» حيث قال:

«و الحقّ عندي ما ذهب إليه الأكثر. لنا وجوه:

الأوّل: قوله تعالي: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وجه الاستدلال به: إنّه تعالي خصّص التطهير بالماء، فلا يقع بغيره. أمّا المقدّمة الاولي فلأنّه تعالي ذكرها في معرض الامتنان، فلو حصلت الطهارة بغيره، كان الامتنان بالأعمّ من أحد قسمي المطهّر أولي». «2»

و منها: مسألة تطهير الجسم الصيقل بالمسح المزيل للعين، فوقع فيه الخلاف بين الأصحاب. و قال السيّد المرتضي بجواز تطهيره به و خالفه الشيخ الطوسي و لم يجوّز تطهيره بغير الماء.

و قوّي العلّامة قول الشيخ- بعد نقل قولهما في المسألة-، و علّل لذلك بما سبق نظيره في منع التطهير

بالماء المضاف؛ حيث قال: «و الأقرب عندي ما قاله الشيخ؛ لقوله تعالي: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، فلو كان غيره مطهّرا؛ لكان التخصيص في معرض الامتنان منافيا للغرض»؛ «3» أي منافيا لغرض الامتنان.

و نظيره ما جاء في كلام المحقّق الكركي «4» فاستظهر من الآية المزبورة بقرينة مقام الامتنان و الاكتفاء بذكر الماء في هذا المقام انحصار المطهّر فيه و نفي مطهّرية الماء المضاف.

و مثله كلام صاحب الحدائق في المقام؛ حيث قال: «فإنّ الظاهر أنّ هذه الآيات كلّها واردة في معرض التفضّل و إظهار الامتنان و بيان الإنعام، و حينئذ فلو كان هناك فرد آخر لذكره». «5»

______________________________

(1) الأنفال: 11.

(2) مختلف الشيعة: ج 1، ص 58.

(3) منتهي المطلب: ج 3، ص 286.

(4) جامع المقاصد: ج 1، ص 123.

(5) الحدائق الناضرة: ج 1، ص 173- 174.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 49

و لا يرد عليهم النقض بالعلم بجعل بعض مطهّرات اخر في الكتاب و السنّة و انكسار الحصر بذلك.

لإمكان الجواب: بأنّ هذه الآية تؤسّس قاعدة عدم مطهّرية غير الماء، و لا ينافي ذلك ثبوت المطهّريّة لغيره بالنصّ. فلا بدّ حينئذ من الاقتصار بالمتيقّن من مدلول النصّ في مخالفة القاعدة، و لم يرد نصّ يدلّ علي مطهّرية المضاف، و لا المسح المزيل لنجاسة الجسم الصيقل، حتّي يخرجنا من مقتضي القاعدة المستفادة من الآية المزبورة.

نعم يرد عليهم إشكال صاحب المدارك من جواز التخصيص بالذكر في مقام الامتنان لأكثريّة الوجود و النفع قال قدّس سرّه: «بعد نقل الاستدلال المزبور: و فيه نظر؛ لجواز أن يخصّ أحد الشيئين الممتنّ بهما بالذكر إذا كان أبلغ و أكثر وجودا و أعمّ نفعا». «1»

و لكن في الحدائق «2» -

بعد الاستدلال بالآية المزبورة بقوله: «فإنّه تعالي ذكر الماء هنا في معرض الامتنان علي العباد. فلو حصلت الطهارة بغيره لكان الامتنان بالأعمّ أولي» - نقل إشكال صاحب المدارك من دون ذكر لاسمه، و سكت عنه.

و لكن إشكال صاحب المدارك وارد جدّا، و إن قوّي الاستدلال المزبور في الرياض، من غير اعتناء بإشكال، بل به دفع بعض الإشكالات، بل استدلّ في الجواهر بهذا الوجه للحكم بمطهّرية ما شكّ في قابليته للمطهّرية من افراد الماء- بعد توجيه العدم باستصحاب النجاسة و عدم نظر آيات مطهّرية الماء إلي كيفيّة التطهير- بقوله: «اللّهمّ إلّا أن يستند في ذلك للحكمة، سيّما في مثل قوله تعالي: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً من حيث وروده في معرض الامتنان» «3» و إن اشكل علي هذا الاستدلال بما جاء في كلام صاحب المدارك في مورد آخر. «4»

______________________________

(1) مدارك الأحكام: ج 1، ص 111.

(2) الحدائق الناضرة: ج 1، ص 396.

(3) جواهر الكلام: ج 1، ص 134.

(4) المصدر: ص 313.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 50

مسألة حرمة التعدّي عن أربع زوجات

و منها: مسألة حرمة التعدّي عن أربع زوجات. فاستدلّ لها صاحب الجواهر بكون الآية المجوّزة لزواج الأربع في مقام الامتنان و التوسيع علي العباد فلو كان زواج الأكثر منها جائزة لذكره. قال قدّس سرّه- بعد نقل الأقوال و البحث في ذلك-: «و علي كلّ حال فالأصل فيه قوله تعالي: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلّٰا تُقْسِطُوا فِي الْيَتٰاميٰ فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ مَثْنيٰ وَ ثُلٰاثَ وَ رُبٰاعَ، بناء علي ما عرفته سابقا من أنّ الأمر فيها للإباحة، و مقتضي إباحة الأعداد المخصوصة. ما عرفته سابقا من أنّ الأمر فيها للإباحة، و مقتضي إباحة الأعداد المخصوصة تحريم

ما زاد عليها، إذ لو كان مباحا لما خصّ الجواز بها، لمنافاته الامتنان و قصده التوسيع علي العباد، و لأنّ مفهوم إباحة الأربع حصر ما دون الأربع أو ما زاد عليها و الأوّل باطل بتجويز الثلاث فيها صريحا، فتعيّن الثاني». «1»

الدوران بين ضررين كان أحدهما أقلّ من الآخر

و منها: مسألة دوران الأمر بين ضرر شخصين كان الضرر الوارد علي أحدهما أقلّ من الآخر.

فاستدلّ الشيخ الأعظم بقاعدة الامتنان لترجيح أقلّ ضررا و تقديمه علي الآخر الّذي هو أكثر ضررا؛ حيث قال: «لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بحيث يكون الحكم بعدم أحدهما مستلزما للحكم بثبوت الآخر … إن كان بالنسبة إلي شخصين، فيمكن أن يقال بترجيح الأقلّ ضررا؛ إذ مقتضي نفي الضرر علي العباد في مقام الامتنان عدم الرضا بحكم يكون ضرره أكثر من ضرر الحكم الآخر». «2»

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 30، ص 3.

(2) رسائل الفقهية: ص 125.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 51

و قد علّل السيّد الخوئي لذلك بقوله: «و من المعلوم أنّ دفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغيره علي خلاف الامتنان». «1»

وصية السفيه و إكراه المديون علي بيع ماله

و منها: مسألة صحّة وصيّة السفيه؛ حيث قد يستدلّ لعدم صحّتها بأدلّة حجره. و لكن ردّه السيّد الحكيم بأنّ أدلّة حجر السفيه لمّا كانت في مقام الامتنان عليه لا تقتضي حرمانه عن الانتفاع بماله بالوصيّة؛ نظرا إلي أنّه ينتفع بالوصيّة في ماله.

قال قدّس سرّه: «و قصور أدلّة الحجر عن شمول المقام لظهورها في الامتنان عليه، فلا تقضي حرمانه عن الانتفاع بماله». «2»

و منها: مسألة إكراه المديون علي بيع داره لقضاء دينه. فقد استدلّ لبطلان بيعه حينئذ بإطلاق حديث الرفع، و لكن ردّه السيّد الحكيم بأنّ حديث الرفع لمّا ورد في مقام الامتنان علي الامّة، لا يشمل المقام؛ نظرا إلي كون إبطال البيع في مفروض الكلام خلاف الامتنان بالنسبة إلي الدائن.

قال قدّس سرّه: «و أمّا حديث الرفع فإطلاقه اللفظي و إن كان شاملا للمقام إلّا أنّه لمّا كان امتنانيا امتنع شموله له؛ إذ يكون تطبيقه خلاف الامتنان؛

لأنّ إبطال البيع في الفرض تعسير لا تيسير و تضييق لا توسعة، و مثله يقال أيضا فيما لو كان الإكراه بحقّ فإن إجراءه خلاف الامتنان في حقّ صاحب الحقّ. فلو اكره علي بيع داره لوفاء دينه كان بيعه صحيحا؛ لأنّ إبطاله ضرر علي الدائن فلا يشمله الحديث الشريف». «3»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: ج 1، ص 444.

(2) مستمسك العروة: ج 14، ص 585.

(3) نهج الفقاهة: ص 191.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 52

ثبوت الخيار للمغبون مع علمه بالحال حين العقد

و منها: مسألة ثبوت الخيار للمغبون مع علمه بالحال حين العقد. فقد استدلّ لذلك بحديث نفي الضرر، و نوقش فيه بأنّه في مقام الامتنان، و لا امتنان في حقّ العالم بالحال، فدليل خيار المغبون منصرف عمّا إذا كان عالما بالحال حين إقدامه علي العقد.

و لكن أجاب عنهم السيّد الإمام الراحل أوّلا: بأنّ الامتنان من قبيل الحكمة، لا العلّة لكي يدور الحكم مداره بحيث يقام إطلاق الخطاب. و ثانيا: نمنع كون جعل الخيار للعامل بالغبن خلاف الامتنان بل موافق للامتنان عليه بلحاظ حصول البداء للمغبون. قال قدّس سرّه: «و أمّا دليل نفي الضرر فقد يقال بعدم شموله له؛ لأنه وارد في مقام الامتنان و لا امتنان مع علم و إقدام و قالوا نظير ذلك في الدليل الحرج و في ساير ما ورد فيه في مقام و الظاهر عدم صحّة هذه المزعمة في شي ء من الموارد فإنّ كون الورود في مقام الامتنان لا يوجب تقييد الدليل لاحتمال كونه نكتة لجعل لا علّة للحكم و دعوي الانصراف عمّا لا يكون فيه الامتنان كما تري و عهدتها علي مدّعيها فإطلاق الدليل محكّم.

مع أنّ جعل الخيار حتّي للعامّ بالغبن لا يكون مخالفا للامتنان، بل يؤكّده باعتبار

احتمال حصول البداء للمغبون، لوضوح الفرق بين أمثال الصوم و الأغسال الضرريّة و الحرجيّة و بين البيع الضرري، لإمكان أن يقال فيها: إنّ المكلّف إذا تكلّف و أتي بها بعد ضرريتها و حرجيتها فالأمر بإتيانها ثانيا أو بقضاء ما يشترط فيها الطهارة خلاف الامتنان. و أمّا الخيار في البيع الضرري و لو مع إيقاعه عن علم به فلا يكون مخالفا للمنّة، بل هي المرتبة الأعلي منها». «1»

و لكن يرد عليه أنّ الامتنان و إن كانت من قبيل الحكمة إلّا أنّه قرينة عقلية أو

______________________________

(1) كتاب البيع للسيّد الإمام: ج 4، ص 283.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 53

عقلائية إذا اكتنفت بالكلام توجب له ظهورا عرفيا في مقتضاه. و الحكمة إنّما لا يدور الحكم مدارها إذا لم تكن من القرائن العقلائية أو العقلية الحافّة بالكلام.

و أمّا قوله بتحقّق الامتنان في حقّ المبغون العالم بالحال حين الإقدام بالعقد ففي غاية المتانة جدّا.

إلي غير ذلك من الفروع الكثيرة في مختلف أبواب الفقه و قد تمسّك الفقهاء لفتاويهم فيها بهذه القاعدة، و هي أكثر من أن تحصي في هذا المجال.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 55

قاعدة التقية

اشارة

منصة القاعدة و أهمّيتها و حكم تشريعها و سابقتها

مفاد القاعدة و ماهيتها

مدرك القاعدة و حكم معارضتها

التقية عند أهل العامّة

أقسام التقية

شرائط التقية و مستثنياتها

أحكام التقية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 57

منصّة القاعدة و حكم تشريعها و سابقتها

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 59

منصة القاعدة

1- تبدو منصّة قاعدة التقية في علمي الكلام و الفقه.

2- الأنسب عقد البحث عنها في الفقه.

3- لا تختصّ مشروعيتها بشريعة الإسلام.

تبدو منصّة قاعدة التقية في علمي الكلام و الفقه؛ حيث تري الأصحاب بحثوا عنها في ضمن المسائل الاعتقادية كما تعرّض لها المحدث الأقدم الشيخ الصدوق في اعتقاداته. «1» و تري الشيخ المفيد جعلها موردا للبحث و الدراسة في رسالته الاعتقادية. «2» و إن كان الأنسب عقد البحث عنها في الفقه؛ لأنّ عمدة البحث فيها راجعة إلي أحكامها الخمسة، و لا سيّما وجوبها و حرمتها و إجزائها بعد ارتفاع موضوعها في مختلف أبواب العبادات و المعاملات.

و ممّا يكشف عن منصّتها الخطيرة عدم اختصاصها بالإسلام و كونها مشروعة في الأديان و الامم السالفة، كما يفهم ذلك من بعض الآيات القرآنية في قضيّة مؤمن آل فرعون بأنّه كان يكتم إيمانه علي وجه التقية من فرعون و ملائه. و سيأتي ذكر هذه الآيات في بيان مدارك هذه القاعدة.

______________________________

(1) الاعتقادات: ص 107.

(2) تصحيح الاعتقاد: ص 137.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 60

أهمية القاعدة
اشارة

1- أهمّيتها في لسان النصوص القرآنية و الروائية.

2- هي من القواعد العامّة و عليها تترتّب فروع كثيرة.

3- بها تتعيّن جهة صدور الرواية.

4- دفع الاتّهام بالمداهنة و المصانعة مع الطواغيت.

5- بها ترتفع الشبهات العقائدية.

أهمّية البحث عن هذه القاعدة و خطورته تبدو من جهات.

إحداها: ما وردت من الآيات القرآنية و النصوص الروائية المتظافرة في أهمّيتها و التأكيد علي رعايتها، و الوعد بالثواب العظيم علي فعلها، و الوعيد بالعذاب الأليم علي تركها، و المدح الكثير لمن جعلها شعارا و منهجا لنفسه.

و سيأتي ذكر بعض هذه النصوص في بيان مدرك القاعدة. فإنّ كثيرا منها مشتمل علي لفظ التقية. مضافا إلي ما ورد من الآيات القرآنية حول هذه القاعدة، كما ستعرف في بيان مدرك القاعدة.

هي من القواعد العامّة و عليها تترتّب فروع كثيرة

ثانيتها: أنّه لا تختصّ هذه القاعدة بالعبادات، كما قد يتوهّم؛ بل تجري في المعاملات أيضا و لا خلاف في جريانها في المعاملات ما دام ملاكها باقيا و إنّما الخلاف في جريانها في المعاملات بعد ارتفاع موجب التقية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 61

و مقتضي التحقيق جريان قاعدة التقية و إجزائها في المعاملات بعد ارتفاع موجبها أيضا، كما هو المشهور.

و عليه فما قد يتوهّم من اختصاص هذه القاعدة بالعبادات؛ نظرا إلي كثرة ما ورد من النصوص الدالّة عليها في أبواب العبادات، غير وجيه؛ حيث تشمل عمومات التقية و إطلاقاتها للمعاملات أيضا، بلا قصور و لا إجمال.

لا إشكال في جريان التقية في المعاملات و ترتّب آثارها- من الصحّة و جواز التصرّف لمن انتقل إليه المال بإنشاء المعاملة وفقا لمذهب العامّة عن تقية، و إن خالف بعض ما يعتبر عند الخاصّة من الشرائط و القيود-، لكنّه ما دامت شرائط التقيّة باقية.

و أمّا إذا ارتفعت شرائط التقية وقع الكلام في بقاء آثار التقية، من صحّة المعاملة الواقعة عن تقية و دوام الملكية و الزوجية و جواز التصرّف في المنتقل إليه، فخالف ذلك جماعة من الفقهاء فقالوا بعدم بقاء آثارها بعد ارتفاع موجبات التقية و شرائطها؛ نظرا إلي

انتفاء المسبّب بعد ارتفاع السبب. كما سيأتي بيان ذلك من المحقّق الخوئي و غيره.

و لكن اختار جماعة آخرون استمرار آثارها و حكموا ببقاء الصحّة و الملكية و الزوجية، حتّي بعد ارتفاع شرائط التقيّة إذا كانت المعاملة انشئت حال حصولها، كما سيأتي بيان وجهه من السيّد الإمام الراحل قدّس سرّه. و هذه النظرية هي رأي مشهور الفقهاء، بل في الحدائق نفي الخلاف عن إجزاء التقية في المعاملات بعد ارتفاعها. و سيأتي نصّ كلامه.

و تترتّب علي هذه القاعدة فروع كثيرة في مختلف أبواب الفقه، و لا سيّما العباديات. و هذه الفروع رغم كثرتها، مغفول عنها بين المؤمنين و المتديّنين، و هي أكثر من أن تحصي، و منبثّة في جميع أبواب العبادات و المعاملات

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 62

و الجزائيات، من القضاء و الحدود و القصاص و الديات. و ستعرف بعض هذه الفروع في خلال البحث عن هذه القاعدة.

ثالثتها: دخلها في حجّية الخبر من جهة الصدور؛ نظرا إلي إناطة حجّية الرواية بصدورها عن المعصوم عليه السّلام علي غير وجه التقية.

دفع اتّهام المداهنة و المصانعة

ثالثتها: ما يرتفع من المشاكل و النوائب بالبحث و دراسة هذه القاعدة؛ و ذلك لأنّ جهل المؤمنين بموارد هذه القاعدة و شرائطها قد أوجب سوء ظنّهم بالعلماء و اتّهامهم بالمداهنة و المصانعة مع الطواغيت و الظالمين. و هذه عويصة و مشكلة ابتلي بها كثير من علمائنا في حكومة الطواغيت و لا يزالون مبتلين بهذه النائبة في طي القرون المتمادية، بل لم يكن أئمّتنا المعصومون عليهم السّلام مستثنين منها.

بل كانوا قد يتّهمون بالمداهنة و ترك الوظيفة من جانب خواصّ أصحابهم، كما يشهد لذلك معتبرة سدير الصيرفي قال: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام و

قلت له: و اللّه ما يسعك القعود. فقال: و لم يا سدير؟ قلت لكثرة مواليك و شيعتك و أنصارك. و اللّه لو كان لأمير المؤمنين عليه السّلام ما لك من الشيعة و الأنصار و الموالي ما طمع فيه تيم و لا عدي. فقال: يا سدير! و كم عسي أن يكونوا. قلت: مائة ألف. قال عليه السّلام: مأئة ألف؟ قلت: نعم و مأتي ألف. قال عليه السّلام: مأتي ألف؟

قلت: نعم و نصف الدنيا. قال: فسكت عنّي ثمّ … نظر إلي غلام يرعي جداء. فقال عليه السّلام: و اللّه يا سدير! لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود و نزلنا و صلّينا، فلمّا فرغنا من الصلاة.

عطفت علي الجداء فعدّدتها، فاذا هي سبعة عشر». «1»

و في ضوء دراسة هذه القاعدة و بيان مفادها و شرائطها و تنقيح مجاريها ترتفع النقاط المظلمة الموهمة منها و ينقلع بذلك جذر سوء الظنّ و الاتّهام.

______________________________

(1) اصول الكافي: ج 2، ص 242، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 63

بها ترتفع الشبهات العقائدية

رابعتها: ما يرتفع من الشبهات في العقائد الدينية ببركة دراسة هذه القاعدة. و ذلك لأنّ العمومات القرآنية و الروائية و إطلاقاتها تنادي بأعلي صوتها للاجتناب عن الطواغيت و عدم الركون إلي الظلمة و المنع عن المداهنة و المصانعة معهم و عدم الخضوع و الذلّ أمام السلاطين و المستكبرين.

فقد يخطر بالبال منافاة قاعدة التقية لهذه العمومات و من هنا كان المؤمنون، و لا سيّما الشباب منهم يتّهمون العلماء الربّانيين و الصلحاء بالركون إلي الظلمة و المداهنة معهم و الخضوع و الذلّ أمام السلاطين الجبابرة حينما كانوا يرون التقية منهم. و بدراسة هذه القاعدة و البحث عنها ترتفع هذه

الشبهات و تجفّ جذور هذه الاتّهامات.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 64

حكم تشريعها
اشارة

1- حقن الدماء و نفوس الأوصياء و المؤمنين.

2- صيانة الشريعة و المذهب.

3- حفظ وحدة المسلمين و السدّ عن إيجاد الشقاق و الفتنة بينهم.

4- تجفّ بها جذور الفتن.

إنّ تشريع قاعدة التقية تبتني علي حكم، و هي:

حقن الدماء و حفظ النفوس

ما يحتويه تشريع هذه القاعدة و العمل بها من المصالح المهمّة من حقن دماء الأوصياء و الأولياء و المؤمنين و عدم إراقتها و ذهابها هدرا، كما علّل بذلك في نصوص المقام مثل مرسل رفاعة عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «دخلت علي أبي العباس بالحيرة. فقال: يا أبا عبد اللّه! ما تقول في الصيام اليوم. فقلت: ذاك إلي الإمام، إن صمت صمنا. و إن أفطرت أفطرنا. و قال: يا غلام عليّ بالمائدة، فأكلت معه و أنا أعلم و اللّه أنّه من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما و قضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي و لا يعبد اللّه». «1»

و نظيره مرسل داود بن الحصين عن أبي عبد اللّه أنه قال: «إنّي دخلت عليه و قد شكّ الناس في الصوم، و هو و اللّه من شهر رمضان. فسلّمت عليه. فقال: يا أبا عبد اللّه! أصمت

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 7 ب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 65

اليوم؟ فقلت: لا، و المائدة بين يديه. قال: فادن فكل. قال عليه السّلام: فدنوت فأكلت. قال عليه السّلام و قلت: الصوم معك و الفطر معك. فقال الرجل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: تفطر يوما من شهر رمضان؟ فقال عليه السّلام: أي و اللّه أفطر يوما من شهر رمضان أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي». «1»

صيانة المذهب و الشريعة

من أهمّ ما يشكّل وجه اهتمام أهل البيت عليهم السّلام بالتقية و تأكيدهم بمراعاتها، حفظ الشريعة و صيانة معطيات رسالة النبيّ الأكرم صلّي اللّه عليه و آله و السدّ عن إيجاد الشقاق و الفرقة بين المسلمين و وقوع الفتنة المحرقة لجذور

مذهب الإماميّة الاثني عشرية و حقن دماء المؤمنين من الإراقة و الذهاب هدرا.

و قد اهتمّ الكتاب المجيد بهذا المهمّ في كثير من آياته.

كما قال تعالي: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كٰانُوا شِيَعاً، لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ. «2»

و قال: قُلْ هُوَ الْقٰادِرُ عَليٰ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذٰاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ … «3»

و قال: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَمِيعاً وَ لٰا تَفَرَّقُوا. «4»

و قال: إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ. «5»

و قال: وَ لٰا تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ. «6» و قد جاء ذكر هذا المهمّ في نصوص أهل البيت عليهم السّلام بأبلغ البيان و علّل به الأمر بالتقية و تشريعها.

كما يشهد لذلك قول الصادق عليه السّلام: «اتّقوا اللّه و صونوا دينكم بالورع و قوّوه بالتقية». «7»

و لا يبعد أن يكون الدين في قوله «دينكم» بمعني الإيمان و التديّن، و في مرجع الضمير في قوله: «قوّوه» بمعني أصل المذهب و الشريعة. و ذلك بشهادة

______________________________

(1) المصدر: ح 4.

(2) الأنعام: 159.

(3) الأنعام: 65.

(4) آل عمران: 103.

(5) آل عمران: 91.

(6) الأنفال: 46.

(7) أمالي المفيد: ص 59.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 66

قرينة السياق؛ لأنّ الّذي يحفظ بالورع و التقوي هو المعني الأوّل، و الّذي يحفظ بالتقية هو المعني الثاني.

و قوله عليه السّلام: «اتّقوا اللّه علي دينكم فاحجبوه بالتقية، فإنّه لا إيمان لمن لا تقيّة له، إنّما أنتم في الناس كالنحل في الطير، لو أنّ الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شي ء إلّا أكلته». «1»

و وصيّته عليه السّلام لأبي جعفر محمّد بن النعمان الأحول: «يا ابن النعمان إذا كانت دولة الظلم

فامش و استقبل من تتّقيه بالتحيّة، فإنّ المتعرّض للدولة قاتل نفسه و موبقها». «2»

هذا الكلام منه عليه السّلام محمول علي زمانه أو الغالب؛ نظرا إلي علمه عليه السّلام بعدم تمكّن المتعرّض للدول الجائرة من أهل زمانه علي الإطاحة بالطواغيت، أو لأنّ الغالب كذلك في مطلق الأعصار و الأزمنة.

و قوله عليه السّلام: «إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم. فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية». «3»

و لا إشكال في أنّ هذا الحصر إضافيّ؛ ضرورة تعليل الأمر بالتقية في نصوص المقام بامور اخري أيضا غير حقن الدم، كما سبق و يأتي، من حفظ الدين و جلب مودّتهم و سيّدهم عن تعبير الأئمّة و أهل البيت عليهم السّلام.

و ما ورد في تفسير الإمام العسكري عليه السّلام قال: «و قال الحسن بن عليّ عليه السّلام: إنّ التقية يصلح اللّه بها أمّة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم، فإن تركها أهلك أمّة». «4»

التقية تمنع من تعيير الأئمّة: و زعماء المذهب

و من علل الاهتمام بالتقية في نصوص أهل البيت عليهم السّلام قيام بعض عوام الشيعة أمام الحكومات الجائرة الاموية و العباسية، بلا عدّة و لا عدّة و لا برهان بليغ قاطع. فيلقون بأنفسهم إلي التهلكة من غير نيل إلي مقاصدهم، بل ربّما انجرّ ذلك إلي إراقة

______________________________

(1) اصول الكافي: ج 2، ص 218.

(2) بحار الأنوار: ج 78، ص 288.

(3) وسائل الشيعة: ج 11 ب 31 من ابواب الأمر و النهي ح 1.

(4) وسائل الشيعة: ج 11 ب 28 من الأمر بالمعروف، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 67

دماء كثير من الشيعة من غير تقوية للمذهب، بل ربّما يوجب وهنه.

و من هنا كان الأئمّة عليهم السّلام يؤكّدون علي التقية.

و منها: اجتناب الشيعة عن المعاشرة مع أبناء العامّة و

ترك رعاية كثير من حقوق الاخوان المسلمين- الّتي ندب إليها الشارع لعموم المسلمين- في حقّهم فكانوا يعابون علي ذلك من جانبهم و كان في ذلك شينا علي أئمّة أهل البيت.

فمن هنا كان الأئمّة عليهم السّلام يأمرون أصحابهم بمعاشرتهم و رعاية حقوق الأخ المسلم في حقّهم.

كما يشهد لذلك ما رواه في الكافي عن هشام الكندي، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إيّاكم أن تعملوا عملا نعيّر به. فإن ولد السوء يعيّر والده بعمله. كونوا لمن انقطعتم إليه زينا و لا تكونوا عليه شينا. صلوا في عشائرهم، و عودوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم، و لا يسبقونكم إلي شي ء من الخير، فأنتم أولي به منهم. و اللّه ما عبد اللّه بشي ء أحبّ إليه من الخبأ. قلت و ما الخبأ؟ قال: التقية». «1» الخبأ: بسكون الباء، جاء في اللغة بمعني الإخفاء، كما ورد في النصّ «المرء مخبوء تحت لسانه». و هذا المعني يناسب التقية. و ما رواه في الكافي أيضا عن مدرك بن الهزهاز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«رحم اللّه عبدا اجترّ مودّة الناس إلي نفسه، فحدّثهم بما يعرفون و ترك ما ينكرون». «2»

تجفّ بها جذور الفتن

و من أهمّ حكم تشريعها: السدّ عن انعقاد نطفة الفتن و الشقاق بين المسلمين و لا سيّما بين العامّة و الخاصّة، و لو لا التقية، كانت تحدث فتن كادت أن تهدم أساس المذهب، بل أصل الدين.

و يمكن استفادة ذلك من سيرة أهل البيت عليهم السّلام؛ حيث إنّ أئمّتنا المعصومين عليهم السّلام و أصحابهم إنّما استعانوا بالعمل بهذه القاعدة و اتّخاذها شعارا

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 26 من الأمر بالمعروف، ح 2.

(2) المصدر: ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية،

ج 2، ص: 68

و منهجا؛ لما في ذلك من حفظ الإسلام و صيانة مذهب الإماميّة الاثني عشرية، كما أنّ هذه الفوائد العظيمة و المصالح الخطيرة في فلسفة تشريع هذه القاعدة.

سابقة البحث عن هذه القاعدة

1- أوّل من بحث عن قاعدة التقية.

2- نصّ كلام الشيخ المفيد.

و قد اتّضح لك ممّا بيّنّاه سابقة هذه القاعدة و أنّ لها جذور اعتقادية في الكتاب المجيد و الروايات الصادرة عن زمن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام. و تبيّن أيضا أنّهم أوّل من ذاق مرارة طعم الاتّهامات المتوهّمة الشائعة حول التقية.

و من هنا صدر عنهم عليهم السّلام روايات متواترة في الترغيب و الحثّ علي التقية و بيان شرائطها و خصوصياتها و مصالح تشريعها. بل لها جذور تاريخية قبل الإسلام في الامم السالفة، كما عرفت آنفا إجمال ذلك و ستعرف تفصيله في مدرك هذه القاعدة.

و أمّا الفقهاء فأوّل من بسط المقال في تنقيح هذه القاعدة و كشف عن حقيقتها و شرائطها هو الفقيه الأقدم الأجلّ الشيخ المفيد. و إنّ المحدّث الجليل الشيخ الصدوق و إن تعرّض لهذه القاعدة في اعتقاداته «1» إلّا أنّه أجمل الكلام فيه، كما قال الشيخ المفيد. و ينبغي هاهنا نقل نصّ كلام المفيد في طليعة البحث عن هذه القاعدة.

قال قدّس سرّه: «التقية: كتمان الحقّ و ستر الاعتقاد فيه و مكاتمة المخالفين و ترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا. و فرض ذلك إذا علم بالضرورة أو قوي في الظنّ. فمتي لم يعلم ضررا بإظهار الحقّ و لا قوي في الظنّ ذلك، لم يجب فرض التقية.

______________________________

(1) اعتقادات الصدوق: ص 107.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 69

و قد أمر الصادقون عليهم السّلام جماعة من أشياعهم بالكفّ و الإمساك عن إظهار الحقّ،

و المباطنة و الستر له عن أعداء الدين، و المظاهرة لهم بما يزيل الريب عنهم في خلافهم. و كان ذلك هو الأصلح لهم، و أمروا طائفة اخري من شيعتهم بمكالمة الخصوم و مظاهرتهم و دعائهم إلي الحقّ، لعلمهم بأنّه لا ضرر عليهم في ذلك. فالتقية تجب بحسب ما ذكرناه، و يسقط فرضها في مواضع أخري، علي ما قدّمناه. و أبو جعفر «1» أجمل القول في هذا و لم يفصّله- علي ما بيّنّاه-،

______________________________

(1) و هو الشيخ الصدوق قدّس سرّه فانه قال في اعتقاداته: «قال الشيخ (و المقصود من الشيخ، هو الشيخ الصدوق مصنّف هذا الكتاب): اعتقادنا في التقية أنّها واجبة، من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة.

و قيل للصادق عليه السّلام: يا ابن رسول اللّه، انّا نري في المسجد رجلا يعلن بسبب أعدائكم و يسمّيهم، فقال: ماله- لعنة اللّه- يعرض بنا.

و قال اللّه تعالي: وَ لٰا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ فَيَسُبُّوا اللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. (الأنعام:

108).

قال الصادق عليه السّلام: في تفسير هذه الآية: لا تسبّوهم فإنّهم يسبّون عليكم.

و قال عليه السّلام: من سبّ ولي اللّه فقد سبّ اللّه.

و قال النبي صلّي اللّه عليه و آله لعلي: من سبّك- يا عليّ- فقد سبّني، و من سبّني فقد سبّ اللّه تعالي. (راجع عيون أخبار الرضا: ج 2، ص 67، ح 308).

و التقية واجبة لا يجوز رفعها إلي أن يخرج القائم عليه السّلام، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين اللّه و دين الإمامية و خالف اللّه و رسوله و الأئمّة.

و سئل الصادق عن قول اللّه عز و جل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ قال: أعملكم بالتقية. (رواه مسندا الطوسي في أماليه: ج 2، ص 274

و الحجرات: 13).

و قد أطلق اللّه تبارك و تعالي إظهار موالاة الكافرين في حال التقية.

و قال تعالي: لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً (آل عمران: 28).

و قال: لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَليٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ. (الممتحنة: 8- 9).

و قال الصادق عليه السّلام: إنّي لأسمع الرجل في المسجد و هو يشتمني فأستر منه بالسارية كي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 70

و قضي بما أطلقه فيه- من غير تقيّة- علي نفسه؛ لتضييع الغرض في التقية.

و حكم بترك الواجب في معناها؛ إذ قد كشف نفسه فيما اعتقده من الحقّ بمجالسه المشهورة و مقاماته الّتي كانت معروفة، و تصنيفاته الّتي سارت في الآفاق، و لم يشعر بمناقضته بين أقواله و أفعاله، و لو وضع القول في التقية موضعه، و قيّد من لفظه فيه ما أطلقه، لسلم من المناقضة، و تبيّن للمسترشدين حقيقة الأمر فيها، و لم يرتج عليهم بابها و يشكل بما ورد فيها معناها، لكنّه علي مذهب أصحاب الحديث في العمل علي ظواهر الألفاظ، و العدول عن طريق الاعتبار.

و هذا رأي يضرّ صاحبه في دينه، و يمنعه المقام عليه عن الاستبصار. «1»

______________________________

لا يراني. (رواه مسندا البرقي في المحاسن: ص 260).

و قال صلّي اللّه عليه و آله: خالطوا الناس بالبرّانية، و خالفوهم بالجوّانية، ما دامت الإمرة صبيانيّة. (الكافي:

ج 2، ص 175،

باب التقية، ح 20).

و قال عليه السّلام: الرياء مع المؤمن شرك، و مع المنافق في داره عبادة. (الهداية: ص 10).

قال عليّ عليه السّلام: من صلّي معهم في الصف الأوّل، فكأنّما صلّي مع رسول اللّه في الصفّ الأوّل.

(الفقيه: ج 1، ص 250، باب الجماعة و فضلها ح 1126).

و قال عليه السّلام: عودوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم، و صلّوا في مساجدهم. (الكافي: ج 2، ص 174، ح 1).

و قال عليه السّلام: كونوا لنا زينا، و لا تكونوا علينا شينا. (أمالي الطوسي: ج 2، ص 55).

و قال عليه السّلام: رحم اللّه عبدا حبّبنا إلي الناس، و لم يبغّضنا إليهم. (فضائل الشيعة: ص 102، ح 39)

و ذكر القصاصون عند الصادق، فقال عليه السّلام: لعنهم اللّه يشنّعون علينا.

و سئل عليه السّلام عن القصّاص، أ يحل الاستماع لهم؟ فقال: لا.

و قال عليه السلام: من أصغي إلي ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن اللّه فقد عبد اللّه و إن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس. (عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 304، ح 63).

و سئل الصادق عن قول اللّه عز و جل: الشعراء يتّبعهم الغاوون قال: هم القصّاص.

و قال النبيّ صلّي اللّه عليه و آله: من أتي ذا بدعة فوقّره فقد سعي في هدم الإسلام. (الفقيه: ج 3، ص 375) و اعتقادنا فيمن خالفنا في شي ء من امور الدين كاعتقادنا فيمن خالفنا في جميع امور الدين.

اعتقادات الصدوق/ المطبوع في ضمن مصنفات الشيخ المفيد: ج 5، ص 107- 110.

(1) تصحيح اعتقادات الإمامية/ للشيخ المفيد: ص 137- 138.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 71

قوله: قضي بما اطلقه: أي حكم الصدوق علي نفيه لأجل إطلاق كلامه في بيان حكم التقية

من دون تفكيك مواردها و بيان وجه التقية في كلّ مورد.

أو نشر مطالبه و مقالاته في التقية بين أهل العامّة مع أنّ الائمّة عليهم السّلام بيّنوا ذلك لبعض الرواة من شيعتهم من الموثّقين في ديانتهم و أمانتهم و رعايتهم لحدود التقية في بيان أحكامها. و في عدم رعايته للتقية في بيان ذلك نقض للغرض من تشريعها.

و قوله: و لم يرتج عليهم بابها؛ أي لم يوجب اضطرابا في معني التقية و بيان حكمها للمسترشدين، و لكنّ الإنصاف أنّ إشكال الشيخ المفيد غير وارد علي الشيخ الصدوق. و ذلك أوّلا: لأنّه لم يورد في كلامه شيئا غير نصوص الكتاب و السنّة.

و ثانيا: أنّه في مقام تنصيف عقائد الشيعة الإماميّة، فعليه أن يكتب في كتابه ما يطابق قول اللّه و رسوله.

و أمّا تفصيل جزئيات موارد التقية و بيان حكم كلّ قسم منها، فلم يكن بصدد بيانه، و ذلك لأنه بصدد وضع رسالة اعتقادية لا فقهية، و قد بيّن أحكامها الجزئية في مظانّها من الفروع الفقهية في كتبه الفقهية و جوامعه الروائية.

و ثالثا: لو توجّه إليه إشكال من ناحية نشر مطالبه في التقية لتوجّه هذا الإشكال إلي جميع فقهاء الشيعة- حتّي الشيخ المفيد نفسه- بلا اختصاص بالصدوق.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 73

مفاد القاعدة و ماهيتها

اشارة

تحقيق في لفظ التقية و مادّتها الأصلية

تحقيق معني الاصطلاحي

المراد من خوف الضرر المعتبر في مفهوم التقية

الفرق بين المداهنة و بين التقية

ماهية التقية؛ هل هي أمارة أو حكم أو أصل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 75

لفظ التقية لغة و اصطلاحا
اشارة

1- لفظ التقية في اللغة و مادّتها الأصلية.

2- كلمات أهل اللغة في لفظ التقية.

3- معناها الاصطلاحي و المقايسة بينه و بين معناها اللغوي.

4- تنقيح آراء الفقهاء و بيان مقتضي التحقيق.

5- ما هو المراد من خوف الضرر المعتبر في مفهوم التقية.

6- الفرق بين التقية و المداهنة.

المعني اللغوي

لفظ «التقية» مأخوذ في أصل اللغة من مادّة «وقي يقي». و أمّا ما جاء في بعض معاجم اللغة من أنّه مصدر تقي يتقي، فلا يصح؛ نظرا إلي أخذ هذين اللفظين من وقي يقي بعد قلب الواو تاء. و عليه فالمادّة الأصلية هي اللفيف المفروق من «وقي يقي» كما ذكرناه.

و يظهر من بعض أهل اللغة أنّه اسم مصدر للاتّقاء، كما قال في المصباح:

اتّقيت اللّه اتّقاء، و التقيّة و التقوي اسم، و كذا صرّح به في مجمع البحرين. و هو خيرة الشيخ الأعظم. «1» و يظهر من بعض أهل اللغة،- كالفيروزآبادي في القاموس و ابن الأثير في النهاية و الجوهري في الصحاح- أنه مصدر ثان للاتّقاء.

فعلي الأوّل يفترق لفظ الاتّقاء عن التقية في المعني من حيث المصدر و اسمه.

______________________________

(1) رسالة التقية: ص 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 76

المعني الاصطلاحي
اشارة

لا خلاف بين الفقهاء في معني التقية في اصطلاح الشرع و السنّة في الجملة.

تنقيح آراء الفقهاء

و لا ريب أنّ معناه الاصطلاحي أخصّ من معناه اللغوي مطلقا؛ ضرورة أنّه حفظ شي ء خاصّ و صيانته عن شي ء خاصّ، لا مطلق الحفظ و الصيانة.

و إنّ تعابير أعاظم الفقهاء و إن كانت مختلفة في تعريفها، إلّا أنّ مرادهم واحد. و إليك نصّ كلمات بعضهم؛

قال الشيخ المفيد- كما عرفت-: «التقية كتمان الحقّ و ستر الاعتقاد فيه و مكاتمة المخالفين و ترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين أو الدنيا». «1»

و قال الشهيد الأوّل في قواعده: «و التقية مجاملة الناس بما يعرفون و ترك ما ينكرون؛ حذرا من غوائلهم كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السّلام و موردها غالبا الطاعة و المعصية». «2»

و أمّا الحديث المشار إليه في كلامه جاء في تفسير الإمام العسكري عليه السّلام- و رواه في البحار و المستدرك- قال: قال عليّ عليه السّلام في حديث: «و يستعمل التقية عند البلايا إذا عمّت، و المحن إذا نزلت و الأعداء إذا غلبوا، و يعاشر عباد اللّه بما لا يثلم دينه، و لا يقدح في عرضه، و بما يسلم معه دينه و دنياه». «3»

و نظيره ما جاء عن أبي عبد اللّه في خبر مدرك بن زهير، قال: قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد عليهما السّلام: «يا مدرك، أمرنا ليس بقبوله فقط، و لكن بصيانته و كتمانه عن غير أهله. اقرأ أصحابنا السلام و رحمة اللّه و بركاته، و قل لهم: رحم اللّه امرأ اجترّ مودة الناس إلينا،

______________________________

(1) رسالة التقيّة: ص 11.

(2) القواعد و الفوائد: ج 2، ص 155.

(3) مستدرك وسائل الشيعة: ج 7 ب 16 من ابواب ما تجب فيه

الزكاة، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 77

فحدّثهم بما يعرفون و ترك ما ينكرون». «1»

قوله عليه السّلام: «و لكن بصيانته و كتمانه عن غير أهله» ظاهر في مورد الخوف من ضياع المذهب و وهنه بترك التقية. و هذه الفقرة تعطي الظهور لقوله: «اجترّ مودّة الناس …» في أنّ المقصود من جرّ المودّة ما إذا كان موجبا لصيانة المذهب من خطر الضياع و الوهن و ضرر الصدمة و التضعيف.

و عليه فدعوي ظهور الذيل في مشروعية التقية لمجرّد جرّ المودة من دون اعتبار خوف ضعف و وهن علي المذهب، في غير محلّها.

و نظيره ما رواه الكليني عن عبد الأعلي قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّه ليس احتمال أمرنا التصديق له و القبول فقط. من احتمال أمرنا ستره و صيانته عن غير أهله.

فأقرئهم السلام، و قل لهم: رحم اللّه عبدا اجترّ مودّة الناس إلينا. حدّثوهم بما يعرفون، و استروا عنهم ما ينكرون». «2»

و قال الشيخ الأعظم في تعريفه الاصطلاحي: «و المراد هنا: التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ». «3»

هذه كلمات بعض الأصحاب في تعريف التقية، و يمتاز بعضها عن بعضها الآخر بخصوصية.

فتعريف الشيخ المفيد يشتمل علي خصوصية، و هي: كتمان الحقّ و ستره فيما إذا كان إظهاره مستتبعا لضرر ديني أو دنيوي.

و لكنّ الشهيد عمّم التعريف إلي مجاملة العامّة بما يعرفون؛ أي يعتقدونه.

و المجاملة هي الموافقة و من مقولة الإظهار، لا الترك، و من هنا عطفه بقوله و ترك ما ينكرون تعميما لهما.

______________________________

(1) مستدرك وسائل الشيعة: ج 12 ب 30 من ابواب الأمر و النهي، ح 8.

(2) وسائل الشيعة: ج 11 ب 32 من الأمر و

النهي، ح 5.

(3) رسالة التقية: ص 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 78

و لكنّ الشيخ الأعظم عبّر بالتحفّظ عن ضرر الغير. و التعبير بالتحفّظ جامع للكتمان و إظهار الموافقة، و إن يمكن القول بشمول الكتمان للمعنيين بضرب من التأويل؛ لأنّ بإظهار الموافقة أيضا يتحقّق كتمان الحقّ و ستر الاعتقاد.

فتري الشيخ الأعظم اتّكل في تعريفها علي عناصر ثلاثة:

الأوّل: موافقة الغير و هو أعمّ من الترك، كترك وضع الجبهة علي التراب و ترك الصلاة علي آل محمّد أو الشهادة بالولاية في الأذان و الإقامة. و من الفعل كالتكتّف و نحوه، و إن يتحقّق الكتمان بالفعل أيضا؛ لأنّ بنفس الفعل الموافق لهم يستتر المذهب، فهو في الحقيقة أعمّ منه و من الترك، فلا يختصّ بالترك كما يظهر من كلام المفيد.

الثاني: مخالفة الحقّ، و هو مذهب الامامية الاثني عشرية. هذا القيد جاء في كلام المفيد، دون الشهيد (قدس سرهما).

الثالث: كونها لغرض تحفّظ النفس عن ضرر الغير، فإنّ لفظ التحفّظ و إن كان أعم من تحفّظ النفس، إلّا أنّه بقرينة قوله: «عن ضرر الغير» منصرف إليه.

و أمّا النقطة المشتركة بين هذه التعاريف عدم اختصاص شخص المتّقي منه بكونه من المخالفين.

مقتضي التحقيق في المقام

و الّذي يقتضيه التحقيق في تعريف التقية اعتبار امور فيه؛ ليتمّ طردا و عكسا و يكمل من حيث الجامعية أو المانعية.

منها: كتمان الحقّ، و هو إمّا بالموافقة بإتيان فعل موافق لهم، أو بعدم المخالفة بترك فعل حقّ مخالف لهم.

منها: ما يتحقّق به الحفظ و الأمن من الضرر و الخطر. سواء كان فعلا أو تركا؛ و إن شئت فقل: كلّ ما يتحقق به إراءة الموافقة الموجبة للأمن من ضرر العدوّ.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص:

79

و منها: أن يكون في تركها ضرر. و هو يشمل ما يتوجّه به الوهن و التضعيف إلي الإسلام و مذهب الإمامية الاثني عشرية. و ما يتوجّه به ضرر نفساني أو مالي عظيم إلي المتّقي، لو لم يتّق.

و منها: كون المتّقي منه أعمّ من المخالفين، فيشمل الطواغيت و الجبابرة و الكفّار و المشركين.

و منها: أعمّية المتّقي به من القول و الفعل و الإشارة و الكتابة و من الاعتقاديات و التكاليف الشرعية العملية و الأحكام الوضعية، و من العباديات و المعاملات.

و منها: بلوغ احتمال الضرر و الخطر إلي حدّ الخوف المعتني به عند العقلاء.

و بعبارة اخري: كون ما يتّقي لأجله ضررا بالغا حدّ الخوف علي النفس أو المال الكثير أو علي الإسلام أو المذهب أو علي المسلمين و نواميسهم.

كلّ هذه القيود يستفاد اعتبارها من نصوص المقام، و ستعرفها في خلال المباحث الآتية.

و عليه فالتعريف الجامع للتقية هو: كتمان الحقّ بموافقة الغير بأيّ نحو لدفع ضرر و خطر عن النفس أو المال الكثير أو عن الدين و المذهب أو عن المؤمنين و نواميسهم عند خوف ذلك، و لو نوعا.

و هذا التعريف جامع لجميع الخصوصيات المزبورة و مانع عن غيرها.

فيخرج بذلك ما لا كتمان حقّ فيه، و ما كان منها لأجل جلب المنفعة و ما لم يبلغ حدّ الخوف، و ما إذا كان المال المتضرّر به قليلا أو لم يكن الضرر في أحد الموارد المشار إليها.

و لا فرق في ذلك بين كون المتّقي حاكما شرعيا أو غيره من المكلّفين.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 80

هل الخوف المعتبر في التقية شخصي

لا ريب في مشروعية التقية مع الخوف الشخصي؛ لأنّه المتيقّن من النصوص. و أمّا الخوف النوعي بمعني ما يخاف عليه نوع

الناس و غالبهم، و إن لم يخف المتّقي لشدّة شجاعته. فإطلاق نصوص تشريع التقية يقتضي مشروعيتها معه. و ذلك لأنّ احتمال الضرر و الخطر الّذي شرّعت التقية لأجلها يصير عقلائيا بحصول الخوف لغالب الناس. و هذا يكفي لتحقّق موضوع حكم التقية.

و أمّا قوله عليه السّلام: «و ذلك إذا لم تخف علي نفسك و لا علي أصحابك» في رواية أعمش و إن كان ظاهر المخاطبة في قوله: «لم تخف» اعتبار الخوف الشخصي بضميمة مفهوم الشرط، إلّا أنّه محمول علي الغالب؛ إذ الخوف النوعي حاصل في غالب موارد الخوف الشخصي، هذا مضافا إلي إطلاق كلامه عليه السّلام: «و استعمال التقية في دار التقية واجب» في ذيل هذا الحديث؛ «1» حيث إنّه قد لا يحصل الخوف الشخصي للشجعان في دار الحرب، و لكن إطلاق الرواية يشمله.

و لقد أجاد الشيخ الأعظم الأنصاري في ذلك؛ حيث قال: «إنّه لا ريب في تحقّق التقيّة مع الخوف الشخصي؛ بأن يخاف علي نفسه أو غيره من ترك التقية في خصوص ذلك العمل. و لا يبعد أن يكتفي بالخوف من بنائه علي ترك التقية في سائر أعماله أو بناء سائر الشيعة علي تركها في العمل الخاصّ أو مطلق العمل النوعي في بلاد المخالفين، و إن لم يحصل للشخص بالخصوص خوف، و هو الّذي يفهم من إطلاق أوامر التقية و ما ورد من الاهتمام فيها.

و يؤيّده- بل يدلّ عليه- إطلاق قوله عليه السّلام: «ليس منّا «2» من لم يجعل التقية «3» شعاره

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 24 من ابواب الأمر بالمعروف، ح 21.

(2) في وسائل الشيعة: عليكم بالتقية، فانه ليس منا …

(3) في وسائل الشيعة: يجعلها.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص:

81

و دثاره «1» مع من يأمنه؛ لتكون سجيّته «2» مع من يحذره». «3»

نعم، في حديث أبي الحسن الرضا عليه السّلام- معاتبا لبعض أصحابه الّذين حجبهم-:

«أنكم تتقون «4» حيث لا تجب التقية، و تتركون التقية حيث لا بدّ من التقية. و ليحمل علي بعض ما لا ينافي القواعد». «5» و ذلك المحمل يمكن أن يكون التقية لأغراض دنيوي و جلب منافع و مطامع غير حقن الدم و حفظ الدين و تقوية الشريعة، أو كان بضرر الشريعة و موجبا لوهن الدين مع عدم ترتّب حقن الدم عليها.

و حاصل الكلام: أنّ الخوف المأخوذ في ماهية التقية أعمّ من الخوف الشخصي و النوعي، و لا سيّما فيما إذا كان الخوف علي نفوس المؤمنين و أموالهم؛ أو علي المذهب و الشريعة. لعدم عود نفع التقية أو ضرر تركها إلي شخص المتّقي حينئذ؛ لكي يكون أمرها بيده.

المراد من الضرر المأخوذ احتماله في مفهوم التقية

ثمّ إنّ الضرر المعتبر احتماله العقلائي في مفهوم التقية و مشروعيتها، ما كان موجبا للخوف علي النفس أو المال، سواء كان الخوف علي نفس المتّقي و ماله، أو علي نفس الأخ المؤمن و ماله. و قد دلّت علي ذلك عدّة نصوص معتبرة. و في هذه النصوص دلالة علي عدم اعتبار كون المتّقي منه من المخالفين.

منها: صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في حديث. قال: «سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك، فحلف؟ قال عليه السّلام: لا جناح

______________________________

(1) الشعار: ما ولي الجسد من الثياب و الدثار: ما كان من الثياب فوق الشعار- كما في مختار الصحاح- و المراد: شدة الالتزام بها.

(2) في وسائل الشيعة: لتكون سجية، و في «ش»: ليكون سجيته له.

(3) وسائل الشيعة: ج 11 ب 24

من أبواب الأمر و النهي، ح 28.

(4) في وسائل الشيعة: و تتقون.

(5) رسالة التقية: ص 34- 35.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 82

عليه. و عن رجل يخاف علي ماله من السلطان فيحلفه لينجو به منه؟ قال عليه السّلام: لا جناح عليه.

و سألته: هل يحلف الرجل علي مال أخيه كما يحلف علي ماله؟ قال: نعم». «1»

و منها: صحيحة زرارة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: «نمرّ بالمال علي العشّار، فيطلبون منّا أن نحلف لهم و يخلّون سبيلنا و لا يرضون منّا إلّا بذلك، قال عليه السّلام: فاحلف لهم، فهو أحل (أحلي) من التمر و الزبد». «2»

و الزبد بضمّ الباء و الدال أي السمن المأخوذ من اللبن. و الجمع الزّبد بفتح الباء.

و منها: صحيح الحلبي إنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام: «عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز بذلك ماله؟ قال عليه السّلام: نعم». «3»

و منها: صحيح أبي بكر الحضرمي قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل حلف للسلطان بالطلاق و العتاق، فقال عليه السّلام: إذا خشي سيفه و سطوته، فليس عليه شي ء. يا أبا بكر إنّ اللّه عز و جل يعفو و الناس لا يعفون». «4»

و منها: صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له: انّا نمر علي هؤلاء القوم فيستحلفونا علي أموالنا، و قد أدّينا زكاتها. فقال عليه السّلام: يا زرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاءوا. قلت:

جعلت فداك بالطلاق و العتاق؟ قال عليه السّلام: بما شاءوا». «5»

و منها: صحيح معمّر بن يحيي قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ معي بضايع للناس و نحن نمرّ بها علي هؤلاء العشارين، فيحلفونا عليها فنحلف لهم، فقال عليه السّلام: وددت أنّي

أقدر علي أن أجيز أموال المسلمين كلّها و احلف عليها، كل ما خاف المؤمن علي نفسه فيه ضرورة، فله فيه التقية». «6»

بل يشمل كلّ ظلم و ضرورة، كما في معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلي المأمون، قال عليه السّلام: «و التقية في دار التقية واجبة، و لا حنث علي

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16 ب 12 من كتاب الايمان، ح 1.

(2) المصدر: ح 6.

(3) المصدر: ح 8.

(4) المصدر: ح 11.

(5) المصدر: ح 14.

(6) المصدر: ح 16.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 83

من حلف تقية يدفع بها ظلما عن نفسه». «1»

و موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو اكره و اضطر إليه. و قال: ليس شي ء مما حرّم اللّه، إلّا و قد أحلّه لمن اضطر إليه». «2»

و يستفاد من هذه النصوص:

أوّلا: أعمية الضرر المعتبر في موضوع التقية من الضرر النفسي و المالي و العرضي، بل كل ضرر يجتنب عنه العقلاء و يتحرّزون عن الوقوع فيه.

و ثانيا: علي اعتبار بلوغ احتمال الضرر إلي حدّ الخوف علي النفس أو المال أو العرض. فما لم يصل الاحتمال إلي هذا الحد، لا يتحقق موضوع التقيّة.

و ثالثا: عدم الفرق في الضرر المأخوذ في موضوع التقية بين وروده علي شخص المتقي، و بين توجّهه إلي ساير المؤمنين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16 ب 12 من كتاب الايمان ح 10.

(2) المصدر: ح 18.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 84

الفرق بين التقية و بين المداهنة

لا ريب في حرمة المداهنة، و هو المرافقة مع الكفار و الطواغيت و الفجّار و المعاشرة معهم بلين و تكريم و تعظيم لجلب المنافع المادية

و نيل المطامع الدنيوية. و هذا غير التقية؛ نظرا إلي ابتناء أساس تشريعها علي حفظ الدين عن التفرقة و الاضمحلال، و حفظ النفس عن الخطر و الضرر المخوف، فلا ينبغي الخلط بينهما.

و لقد أجاد الشهيد الأوّل في بيان الفرق بينهما حيث قال: «المداهنة في قوله تعالي: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «1» معصية، و التقية غير معصية.

و الفرق بينهما: أنّ الأوّل تعظيم غير المستحق، لاجتلاب نفعه، أو لتحصيل صداقته، كمن يثني علي ظالم بسبب ظلمه، و يصوّره بصورة العدل، أو مبتدع علي بدعته، و يصورها بصورة الحق.

و التقية: مجاملة الناس بما يعرفون، و ترك ما ينكرون؛ حذرا من غوائلهم، كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السّلام. «2»

و موردها غالبا الطاعة و المعصية فمجاملة الظالم فيما يعتقده ظلما،

______________________________

(1) القلم: 9.

(2) ذكرنا الرواية آنفا.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 85

و الفاسق المتظاهر بفسقه، اتقاء شرهما، من باب المداهنة الجائزة و لا يكاد يسمّي تقية. قال بعض الصحابة: إنا لنكشر «1» في وجوه أقوام، و إنّ قلوبنا لتلعنهم». «2»

______________________________

(1) في الفروق: لنشكر … و الكشر: بدو الأسنان عند التبسم و كاشرة: إذا ضحك في وجهه و باسطه، انظر ابن منظور/ لسان العرب: ج 5، ص 142، مادة (كشر).

(2) القوائد و الفوائد: ج 2، ص 155.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 86

ماهية القاعدة
قاعدة التقية أمارة أو حكم أو أصل؟

هل قاعدة التقية أمارة أو حكم أو أصل؟ لا إشكال أنّ قاعدة التقية في حجيتها بحاجة إلي النصوص الواردة من جانب الشارع؛ نظرا إلي كون التقية علي خلاف مقتضي أدلّة الأحكام الأولية، كما بينّا ذلك عند البحث عن مدرك هذه القاعدة.

و عليه فقاعدة التقية قاعدة تعبدية ثابتة بدلالة النصوص. و لا إشكال

في كون النصوص المستدلّ بها لهذه القاعدة من الأمارات الشرعية.

و أمّا نفس القاعدة بمالها من المفاد، فمن الواضح عدم كونها بصدد جعل أمارة. فليست من الأمارات. و إنّما هي تفيد جواز الفعل المتّقي به في التقية المداراتية، و وجوبه في التقية الخوفية المتوقف عليها حفظ النفس، و كذا استحباب التقية و كراهتها و إباحتها.

و عمدة جهات البحث في هذه القاعدة لمّا كانت جواز التقية في المداراتية و وجوبها في الخوفية، و كذا في إجزاء التقية مطلقا. و يكون النزاع و عقد البحث لأجل إثبات ذلك و لو بالمآل، فمن هنا ينبغي أن يقال: إن مفادها من قبيل الحكم التكليفي و الوضعي. و هو جواز التقية و وجوبها و إجزائها في العبادات و المعاملات، و إن كانت التقية بنفسها فعل المكلّف المتقي، إلّا أن المقصود

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 87

بالبحث و النزاع في قاعدة التقية حكمها التكليفي و الوضعي.

و لا إشكال في أن حكمها التكليفي ثانوي كما هو شأن أي حكم اضطراري.

نعم جواز التقية المداراتية حكم أولي؛ نظرا إلي أنّ مفاد ادلتها استحباب المداراة مع أهل العامّة.

و ليست هذه القاعدة علي وزان حديث الرفع لكي تفيد مجرد رفع الحكم الأولي، بل هي بصدد جعل حكم واقعي ثانوي للفعل المتقي به كما قلنا.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 89

مدرك القاعدة و حكم معارضتها

اشارة

أدلّة القاعدة علي ضوء:

الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل

حكم معارضة قاعدة التقية مع ساير الأدلّة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 91

أدلّة القاعدة
اشارة

1- الاستدلال بالآيات القرآنية.

2- الإجابة عن إشكالين علي عموم الآيات.

3- الاستدلال بالروايات.

4- الاستدلال بحكم العقل و الإجماع.

5- حكم معارضتها مع ساير الأدلّة.

يمكن الاستدلال لإثبات أصل مشروعية التقية و جوازه بالكتاب و السنّة و الإجماع و العقل.

الاستدلال بآيات الكتاب

و قد دلّت علي مشروعية التقية عدّة آيات من القرآن الكريم.

منها: قوله تعالي: لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ، إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً. «1»

هذه الآية الشريفة- بعد ما ورد فيها من النهي عن تولّي الكافرين باتّخاذهم أولياء و إظهار المودّة لهم، و نفي كون فاعل ذلك في ولاية اللّه و رعايته و إعلان البراءة منه-، استثني فيها ما إذا كان ذلك لأجل التقية منهم. فدلّت علي جواز الموافقة و المرافقة معهم، بل إظهار المودّة لهم لأجل التقية منهم في مواردها.

______________________________

(1) آل عمران: 28.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 92

و إنّ للمفسّر الجليل الشيخ الطبرسي بيانا لهذه الآية، و إليك نصّ كلامه؛

قال قدّس سرّه: «و المعني: إلّا أن يكون الكفّار غالبين و المؤمنون مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم و لم يحسن العشرة معهم. فعند ذلك يجوز له إظهار مودّتهم بلسانه و مداراتهم؛ تقية منه و دفعا عن نفسه، من غير أن يعتقد ذلك.

و في هذه الآية دلالة علي أنّ التقية جائزة في الدين عند الخوف علي النفس». «1»

و لا يخفي أنّ لهذه الآية إطلاقا من جهة أنّ ما يتّقي به؛ تشمل مطلق المرافقة و الموافقة و إظهار المودّة بأيّ قول أو فعل و في أيّ مورد، بلا اختصاص بإظهار الكفر.

و لكن من جهة من يتّقي منه وردت هذه الآية في التقية من الكافرين، و

لا نظر لها إلي المخالفين. فلا يمكن الاستدلال بها لإثبات مشروعية التقية عن المخالفين، إلّا بضميمة النصوص المفسّرة؛ حيث إنّها وردت في تفسير الآية و ناظرة إليها و دلّت علي توسعة نطاقها إلي التقية من المخالفين. و إليك بعض هذه النصوص.

منها: ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث يقول لبعض اليونانيين: «و آمرك أن تستعمل التقية في دينك، فإنّ اللّه يقول: لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ، فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ، إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً. و إيّاك ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك، و أن تترك التقية الّتي أمرتك بها. فانك شائط بدمك و دماء اخوانك، معرض لنعمك و نعمهم للزوال، مذلّ لهم في أيدي أعداء دين اللّه، و قد أمرك باعزازهم». «2»

فإنّ قوله عليه السّلام: «و إيّاك، ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك» و قوله عليه السّلام: «فانّك شائط بدمك و دماء اخوانك …» ظاهر في إناطة وجوب التقية بكون المتّقي في معرض الهلاك و خائفا

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان: ج 1- 2، ص 430.

(2) الاحتجاج: ج 1، ص 355، و تفسير نور الثقلين: ج 1، ص 325، ح 82 و وسائل: ج 11 ب 29، من الأمر و النهي ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 93

علي نفسه أو علي نفوس إخوانه المؤمنين. و من الواضح عدم اختصاص هذا الملاك بالتقية من الكافرين. و إن كان ظاهر الفقرة الأخيرة- و هي قوله مذلّ لهم في أيدي أعداء دين اللّه- إرادة التقية من الكفّار، كما أنّ المراد من المؤمنين في مثل قوله: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، المسلمون،

لا خصوص الشيعة.

و منها: ما نقله في تفسير العياشي عن الحسين بن زيد بن عليّ عن جعفر عن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يقول: لا إيمان لمن لا تقية له، و يقول اللّه عزّ و جلّ: إلّا أن تتقوا منهم تقاة». «1»

و الحاصل: أنّه لا إشكال في دلالة هذه الآية علي مشروعية التقية، بل هي أدلّ الآيات الدالّة علي ذلك.

و منها: قوله تعالي: وَ قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّٰهُ وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كٰاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صٰادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّٰابٌ. «2» حيث إنّ كتمان الإيمان عن طاغوت مثل فرعون، لا يكون إلّا علي وجه التقية؛ لأنّ الظاهر من سياق هذه الآية و ما قبلها أنّ الرجل المؤمن خاف علي نفسه، بعد ما قال فرعون: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسيٰ و من هنا كتم إيمانه.

فهذه الآية ظاهرة في أنّ المؤمن من آل فرعون كتم إيمانه علي وجه التقية، كما اتّفق عليه المفسّرون.

و تدلّ أوّلا: علي مشروعية التقية في دين موسي و عدم اختصاصها بالإسلام.

و ثانيا: علي إمضائها و إبقائها علي مشروعيتها في الإسلام، كما هو ظاهر كلّ آية نقل فيها فعل من الأنبياء و الأولياء الماضين في مقام التأييد و التقرير و المدح.

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 166، ح 24 و تفسير نور الثقلين: ج 1، ص 325، ح 83.

(2) المؤمن: 28.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 94

و قد قلنا في تحرير مفاد القاعدة: إنّ كتمان الحقّ يحصل

بكلّ من الترك و الفعل الموافق لمن يتّقي منه. فلا ظهور لكتمان الإيمان في مجرّد عدم إظهار العقيدة. هذا مضافا إلي عدم انفكاك كتمان الحقّ عادة عن إظهار الفعل المخالف للحقّ بغرض الموافقة و المرافقة مع من يتّقي منه.

و منها: قوله تعالي: إِنَّمٰا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْكٰاذِبُونَ* مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ، وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ. «1»

وقع الخلاف بين المفسّرين في كون مَنْ كَفَرَ … بدلا من الكاذبين كما عن الزجّاج، أو كونه شرطا و جوابه محذوف لدلالة قوله: وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ، كما عن الكوفيّين. و لكن الأنسب بالسياق هو القول الأوّل.

و علي أيّ حال لا إشكال في دلالة قوله: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ علي استثناء التقية و مشروعيته، و لا خلاف بينهم في تفسير هذه الفقرة بالتقية، كما قال في مجمع البيان «إلّا من اكره فتكلّم بكلمة الكفر علي وجه التقية مكرها». «2»

و لا يخفي أنه يمكن الإشكال في عمومية دلالة هذه الآية من جهتين.

الإجابة عن إشكالين علي عموم الآيات

الاولي: أنّ الآية وردت في مورد التقية بإظهار كلمة الكفر و كتمان الإيمان فهي أخصّ من المدّعي الّذي هو التقية بكلّ قول و فعل مخالف للحقّ الشامل لمطلق الأفعال و الأقوال في أبواب العبادات و المعاملات، لا خصوص كتمان الإيمان بإظهار الكفر. و هذه الشبهة ترد علي عمومية الآية السابقة أيضا؛ لاختصاص قوله يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ بذلك.

______________________________

(1) النحل: 105- 106.

(2) تفسير مجمع البيان: ج 5- 6، ص 388.

مباني الفقه الفعال في

القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 95

و يمكن الجواب عن ذلك بأنّها تدلّ علي جواز التقية فيما دون الكفر بالأولوية و الفحوي القطعي.

و ذلك لأنّ الكفر و الشرك من أعظم الذنوب، كما دلّ عليه قوله: إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ «1» و قد دلّ علي هذا المعني نصوص كثيرة. و عليه فاذا جازت التقية في أعظم الذنوب تجوز فيما دونه بالأولوية و الفحوي.

هذا، مضافا إلي دلالة النصوص المفسّرة علي هذا التعميم، كما سبق ذكر بعضها آنفا.

الثانية: أنّها وردت في مورد الإكراه بدلالة قوله: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ و من الواضح أنه غير متحقّق في غالب موارد التقيّة. و عليه فهذه الآية أخصّ موردا من التقية.

و اجيب عن ذلك بأنّ الإكراه لا يتحقّق إلّا في مورد الخوف من الضرر علي النفس أو العرض أو المال، و أنّ التقية في مورد الإكراه لا تكون إلّا لغرض دفع الضرر فهو مشترك الملاك مع ساير موارد التقية.

و فيه: أنّ عنوان الإكراه اخذ في موضوع الحكم في الآية، و لا يصحّ التعدّي عنه إلّا بتنقيح الملاك، و هو مشكل؛ لاحتمال الخصوصية في الإكراه؛ حيث إنّ مورد هذه الآية هو الإكراه علي إظهار الكفر، كما قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره و يشهد له النصوص.

مثل صحيح محمّد بن مروان قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما منع ميثم رحمه اللّه من التقية؟! فو اللّه لقد علم أنّ هذه الآية نزلت في عمّار و أصحابه: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ». «2»

و صحيح عمر بن مروان، قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: رفع عن

أمّتي أربع خصال: خطاؤها و نسيانها و ما أكرهوا عليه و ما لم يطيقوا. و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ:

رَبَّنٰا لٰا تُؤٰاخِذْنٰا إِنْ نَسِينٰا أَوْ أَخْطَأْنٰا رَبَّنٰا وَ لٰا تَحْمِلْ عَلَيْنٰا إِصْراً كَمٰا حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنٰا رَبَّنٰا

______________________________

(1) النساء: 48 و 116.

(2) تفسير نور الثقلين: ج 3، ص 89، ح 238.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 96

وَ لٰا تُحَمِّلْنٰا مٰا لٰا طٰاقَةَ لَنٰا بِهِ و قوله: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ». «1»

و لا يخفي أنّ الظاهر من هاتين الصحيحتين كون مورد الآية هو الإكراه الموجب للخوف علي النفس كما هو المسلّم في قضيّة عمّار و أصحابه و التعدّي عنه بالفحوي إلي غيره ممّا يكون دونه، و إن لا وجه له؛ لأنّ الفحوي يقتضي هاهنا عكس المطلوب؛ حيث إنّ تجويز إظهار المخالفة للحقّ، بل إظهار الشرك و الكفر لأجل حفظ النفس لا يستلزم تجويزه لأجل ما دون ذلك في الأهميّة، بخلاف العكس.

و لكن بمقتضي عموم بعض النصوص المفسّرة، يمكن تعميم الآية إلي غير مورد الإكراه.

مثل صحيح بكر بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «إنّ التقاة ترس المؤمن، و لا إيمان لمن لا تقاة له، فقلت له: جعلت فداك، قول اللّه تبارك و تعالي: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ؟ قال عليه السّلام: و هل التقية، إلّا هذا؟!». «2»

و لا يخفي أن دلالة هذه الصحيحة علي عمومية الآية و شمولها للمخالفين واضحة و كذا للتقية بغير إظهار الكفر. نعم لا يخلو قوله عليه السّلام: «و هل التقية إلّا هذا» من إشعار بنفي تعميم التقية إلي غير مورد الإكراه، لكنّه يزول بالتأمّل؛ حيث إنّ مراده عليه السّلام

من الاستفهام الإنكاري قطعية كون مورد الآية من قبيل التقية، لا الاختصاص.

و في تفسير العياشي عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث:

«أنّه قيل له: مدّ الرقاب أحبّ إليك أم البراءة من عليّ عليه السّلام؟ فقال عليه السّلام: الرخصة أحبّ إليّ. أما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ في عمّار: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ». «3»

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في الاستدلال بالآيات أنّها تدلّ علي مشروعية

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين: ج 3، ص 89، ح 239.

(2) وسائل الشيعة: ج 11 ب 29 من ابواب الأمر و النهي ح 6.

(3) المصدر: ح 12.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 97

التقية في مطلق موارد الخوف علي النفس، بل مطلق الخوف و لو علي المال و العرض. و أمّا التقية المداراتية فلا يمكن استفادة مشروعيتها من الآيات، كما أنّ التقية من المخالفين أيضا لا يمكن استفادة مشروعيتها منها بنفسها، لو لا دلالة النصوص المفسّرة علي التعميم.

الاستدلال بالروايات

إنّ الروايات الواردة في التقية فوق حدّ التواتر، و يمكن تقسيمها إلي قسمين رئيسيّين.

الأوّل: النصوص الدالّة علي مشروعية التقية في كلّ فعل، سواء كان من العبادات أو المعاملات أو الجزائيات.

الثاني: ما دلّ علي مشروعيتها في العبادات، و هي تنقسم إلي النصوص العامّة الشاملة لمطلق العبادات و النصوص الخاصّة ببعض أبواب العبادات.

أمّا القسم الأوّل: فينقسم إلي طائفتين.

الاولي: ما دلّ من النصوص علي أصل مشروعية التقية و جوازها.

فمن هذه الطائفة ما دلّ علي أنّ التقية ترس المؤمن و حرزه و جنّته؛ حيث استعملها المؤمن لحفظ نفسه و للاتّقاء من شرّ العدوّ كما هو فائدة الجنّة و الترس في الحرب و القتال.

مثل ما رواه الكليني في الكافي

بسنده عن محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان أبي يقول: و أيّ شي ء أقرّ لعيني من التقية، إنّ التقية جنّة المؤمن» «1» و مثله صحيحة جميل. «2»

و ما رواه أيضا في الكافي عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «التقية ترس المؤمن و التقية حرز المؤمن». «3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 24 من ابواب الأمر بالمعروف، ح 4.

(2) المصدر: ح 24.

(3) المصدر: ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 98

و ما رواه أيضا في الكافي عن حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «التقية ترس اللّه بينه و بين خلقه». «1»

و منها: ما دلّ علي أنّها من كمال الدين و الإيمان، و أنّها من الدين و الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.

مثل ما رواه الكليني في الكافي بإسناده عن أبي عمر الأعجمي قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «يا أبا عمر! إنّ تسعة أعشار الدين في التقية، و لا دين لمن لا تقية له». «2»

و ما ورد في صحيح حريز عن المعلّي بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «يا معلّي إنّ التقية ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لا تقية له». «3» و مثله صحيح معمّر بن خلاد. «4»

و ما رواه الصدوق في علل الشرائع عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«التقية دين اللّه عزّ و جلّ قلت من دين اللّه؟! قال فقال: إي و اللّه من دين اللّه». «5»

و ما رواه الكليني عن ابن أبي يعفور عن الصادق عليه السّلام في حديث: «لا إيمان لمن لا

تقية له». «6»

و ما رواه في الكافي عن حبيب بن بشر قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام سمعت أبي يقول: «لا و اللّه ما علي وجه الأرض شي ء أحبّ من التقية، يا حبيب! إنّه من كان له تقية رفعه اللّه، يا حبيب! من لم تكن له تقية وضعه اللّه». «7»

و ما في تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السّلام أيضا قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

«مثل مؤمن لا تقية له، كمثل جسد لا رأس له». «8»

و عنه عليه السّلام أيضا عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «التقية من أفضل أعمال المؤمن، يصون بها نفسه و إخوانه عن الفاجرين». «9»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 24 من أبواب الأمر بالمعروف، ح 12.

(2) المصدر: ح 2.

(3) المصدر: ح 23.

(4) المصدر: ح 3.

(5) المصدر: ح 18.

(6) المصدر: ح 6.

(7) المصدر: ح 8.

(8) المصدر: ج 11 ب 28، ح 2.

(9) المصدر: ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 99

و منها: ما دلّ علي صدورها عن أنبياء السلف، مثل ما رواه في العلل أيضا عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «التقية دين اللّه عزّ و جلّ، قلت من دين اللّه؟ قال: فقال إي و اللّه من دين اللّه، لقد قال يوسف: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ. و اللّه ما كانوا سرقوا شيئا». «1»

و ما رواه الكليني في الكافي عن أبي بصير أيضا قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«التقية من دين اللّه» ثمّ روي نحو الرواية السابقة، ثمّ زاد قوله: و لقد قال إبراهيم عليه السّلام إِنِّي سَقِيمٌ و اللّه ما كان سقيما». «2»

و ما رواه في معاني الأخبار عن سفيان بن

سعيد، قال سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام يقول: «عليك بالتقية فإنّها سنّة إبراهيم الخليل عليه السّلام- إلي أن قال: - و إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله كان إذا أراد سفرا داري بعيره. و قال: أمرني ربي مداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض. و لقد أدّبه اللّه عزّ و جلّ بالتقية. فقال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدٰاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ مٰا يُلَقّٰاهٰا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا. يا سفيان من استعمل التقية في دين اللّه فقد تسنّم الذورة العليا من القرآن. و إنّ عزّ المؤمن في حفظ لسانه، و من لم يملك لسانه ندم». «3»

و ما رواه الكليني عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان و أظهروا الشرك فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين». «4»

و ممّا دلّ علي عمومية مشروعية التقية لجميع أبواب الفقه صحيحة الفضلاء قالوا سمعنا أبا جعفر عليه السّلام يقول: «التقية في كلّ شي ء يضطرّ إليه ابن آدم، فقد أحلّه اللّه له». «5»

و منها: صحيح زرارة عن أبي جعفر: «التقية في كلّ ضرورة، و صاحبها أعلم بها حين تنزل به». «6»

و منها: صحيحة الحارث بن المغيرة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «التقية في كلّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 24، ح 18.

(2) المصدر: ج 11 ب 25، ح 4.

(3) المصدر: ب 24، ح 16.

(4) المصدر: ج 11 ب 29، ح 1.

(5) وسائل الشيعة: ج 11 ب 25 من الأمر و النهي، ح 2.

(6) المصدر: ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 100

ضرورة». «1» و رواه غيره

أيضا.

الثانية: ما دلّ علي وجوبها مثل ما روي في تفسير الإمام الحسن بن عليّ العسكري في قوله تعالي: وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ قال: قضوا الفرائض كلّها بعد التوحيد و اعتقاد النبوّة و الإمامة. قال عليه السّلام و أعظمهما فرضان: قضاء حقوق الاخوان في اللّه و استعمال التقية من أعداء اللّه». «2»

و ما روي فيه عنه عليه السّلام قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: «و لو شاء لحرّم عليكم التقية، و أمركم بالصبر علي ما ينالكم من أعدائكم عند إظهاركم الحقّ، ألا فأعظم فرائض اللّه عليكم بعد فرض موالاتنا و معاداة أعدائكم استعمال التقية علي أنفسكم و أموالكم و معارفكم و قضاء حقوق إخوانكم، و إنّ اللّه يغفر كلّ ذنب بعد ذلك و لا يستقصي، و أمّا هذان فقلّ من ينجو منهما، إلّا بعد مسّ عذاب شديد، إلّا أن يكون لهم مظالم علي النواصب و الكفّار، فيكون عقاب هذين علي اولئك الكفّار و النواصب؛ قصاصا بما لكم عليه من الحقوق، و مالهم إليكم من الظلم، فاتّقوا اللّه و لا تتعرّضوا لمقت اللّه بترك التقية و التقصير، في حقوق إخوانكم المؤمنين». «3»

و عنه عليه السّلام أيضا عن جدّه عليّ بن الحسين عليه السّلام: «يغفر اللّه للمؤمن كلّ ذنب و يطهّره منه في الدنيا و الآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية و تضييع حقوق الاخوان». «4»

و ممّا يدلّ علي وجوب التقية ما رواه الصدوق باسناده عن جعفر بن محمّد عليه السّلام في حديث: «استعمال التقية في دار التقية واجب. و لا حنث و لا كفّارة علي من حلف تقية يدفع بذلك ظلما عن نفسه». «5»

هذه نبذة من النصوص العامّة الواردة في التقية. و هي دلّت أوّلا: علي

مشروعية التقية و جوازها في مطلق موارد الاضطرار و جميع الضرورات العرفية.

و ثانيا: علي عدم اختصاص مشروعية التقية بالتقية من المخالفين.

و لا يخفي أنّ حكم الصحّة و الإجزاء في العبادات و آثار الصحّة في العقود

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 25 من الأمر و النهي، ح 8.

(2) المصدر: ج 11 ب 28، ح 1.

(3) المصدر: ح 13.

(4) المصدر: ج 11 ب 28، ح 6.

(5) المصدر: ج 11 ب 24، ح 21.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 101

و الإيقاعات إنّما يترتّب علي أصل مشروعية التقية و يمتاز وجوبها حرمة تركها تكليفا و استحقاق العقاب عليه. و أمّا الأحكام و الآثار الوضعية فجميعها تترتّب علي جوازها.

و أمّا ما ورد من نصوص التقية في أبواب العبادات فسيأتي ذكرها في خلال المباحث اللاحقة. و في هذا المقدار من النصوص المذكورة كفاية لإثبات أصل مشروعية التقية و جوازها و ما يترتّب عليه من الآثار.

الاستدلال بحكم العقل

يمكن الاستدلال لجواز التقية بحكم العقل فيما إذا توقّف عليها حفظ النفس و دفع الظلم. و ذلك لحكم العقل بدفع الضرر عن النفس و حفظها و دفع الظلم و السدّ عنه. فإذا توقّف حفظ النفس و دفع الظلم علي التقية في مورد، يحكم العقل فيه بحسن التقية و رجحانها؛ بملاك توقّف حفظ النفس و دفع الظلم و الضرر عليه.

و أمّا تقريب دليل العقل بحكمه بترجيح الأهمّ عند الدوران بينه و بين المهمّ، ففيه أنّ العقل بعد ما التفت إلي نهي المولي عن فعل و أمره بتركه- كما هو المفروض في موارد التقية- لا يري ذلك الفعل مهمّا حتّي يقع الدوران بينه و بين الأهمّ، بل يراه مرجوحا قبيحا و يري تركه حسنا راجحا،

اللّهمّ إلّا أن يقاس مع قطع النظر عن مقام التقية، و هو خارج عن محلّ الكلام.

الاستدلال بالإجماع

لا إشكال في إمكان تحصيل الإجماع علي مشروعية التقية؛ لعدم مخالف من فقهاء الخاصّة لمشروعيتها، بل أصل مشروعيتها من ضروري المذهب، كما قال في الجواهر: «بل أصل التقية من ضروريات مذهب الشيعة». «1»

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 2، ص 236.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 102

بل ذلك من ضروري الدين، بلا اختصاص بالمذهب، كما عرفت من لسان الآيات الناطقة بمشروعيتها.

و عليه فلا حاجة إلي الإجماع بعد كونها من ضروريات المذهب، بل الدين، و بعد دلالة الكتاب و السنّة المتواترة علي مشروعيتها. بل الإجماع في مثل هذه الموارد لا يكون تعبّديا كاشفا عن رأي المعصوم بما أنّه إجماع؛ نظرا إلي استناد مشروعيتها إلي الأدلّة اللفظية من الكتاب و السنّة، بل و حكم العقل في الجملة.

أمّا الاستدلال بأدلّة لا ضرر، فهو أخصّ من المدّعي؛ لأنّها إنّما تصلح للاستدلال في موارد ترتّب الضرر علي ترك التقية، و موارد التقية أعمّ من ذلك؛ نظرا إلي شمولها لما إذا كان ترك التقية موجبا لوهن الدين، أو كان في التقية مصلحة الإسلام و المسلمين و تقوية الشريعة و اعتلاء المذهب، كما في التقية المداراتية.

حكم معارضتها مع ساير الأدلّة

لا ريب في عدم مشروعية التقية المباحة و المستحبّة في موارد ورد بها ضرر علي شخص المتّقي أو حرج؛ نظرا إلي حكومة أدلّة نفي الحرج و الضرر و إلي كون أدلّة التقية في مقام الامتنان علي الشيعة، كما هو واضح. و في الحقيقة لا معارضة بين قاعدة التقية و بين أدلّة نفي الضرر و الحرج. و ذلك لخروجهما عن نطاق أدلّة التقية؛ نظرا إلي كونها في مقام الامتنان علي شخص المتّقي و موارد لزوم الضرر و الحرج علي شخص المتّقي خلاف مقتضي وضع التقية و

لسان أدلّتها. و قد عرفت سابقا انتفاء وجوب التقية إذا كانت موجبة لإراقة الدم. و قد دلّ عليه قوله: «فإذا بلغت الدم فلا تقية». «1»

و أمّا في غير موارد إراقة الدم، فلا إشكال في كون تحمّل الضرر و الحرج

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 31، من الأمر و النهي، ح 1 و 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 103

لأجل التقية خلاف مقتضي لسان أدلّتها من الامتنان علي شخص المتّقي. و من هنا لا تعارض بين قاعدة التقية و بين أدلّة نفي الضرر و الحرج دائما؛ نظرا إلي خروج مواردهما عن مصبّ هذه القاعدة.

ثمّ إنّ أوّل ما يعارضه أدلّة التقية و نصوصها هو دليل الحكم الأوّلي؛ حيث يفيد وجوب إتيان متعلّقه و عدم الصحّة و لا إجزاء الإتيان بغيره.

و لكن أدلّة التقية- كأيّ دليل اضطراري آخر- يكون لها لسان البدلية بالنسبة إلي أدلّة الأحكام الأولية و تفيد تنزيل المأتيّ به تقية منزلة الواجب الأوّلي الاختياري. و قد قرّرنا في قاعدة الإجزاء- من علم الاصول في كتابنا «بدائع البحوث» - أنّ دليل البدل الاضطراري حاكم علي دليل الواجب المبدل الاختياري، بتوسعة موضوعه و متعلّقه إلي البدل.

كذلك دليل التقية- الّذي هو من قبيل الأوامر الاضطرارية- حاكم علي دليل الحكم الأوّلي الاختياري. فهو متقدّم عليه بالحكومة.

و من الأدلّة الّتي يخالفها أدلّة التقية و تعارضها، أصالة عدم النقل و الانتقال في المعاملات. فإنّ أدلّة التقية و نصوصها واردة علي هذا الأصل. و ذلك لأنّ موضوعه الشكّ في صحّة المعاملة.

بيان ذلك: أنّ حصول النقل و انتقال الملك شرعا يتوقّف علي تحقّق السبب الشرعي لذلك. فلو شككنا في صحّة عقد يرجع ذلك في الحقيقة إلي الشكّ في تحقّق السبب

الشرعي للنقل و انتقال المال من ملك صاحبه إلي غيره. و مقتضي ذلك الشكّ في خروج المال علي ملك مالكه و عدم خروجه؛ لأنّ النقل و الانتقال أمر حادث و الأصل عدم تحقّقه. و هذا معني أصالة عدم النقل في المعاملات.

و في المقام إذا شككنا في صحّة المعاملة الواقعة تقية و في كفايتها عن تجديد العقد عند رفع موجب التقية، مقتضي الأمر بالتقية صحّتها و إجزائها عن

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 104

تجديد العقد حتّي بعد ارتفاع موجبها. و بذلك يرتفع الشكّ المأخوذ موضوعا لأصالة عدم النقل.

و من هنا تكون أدلّة التقية واردة علي أصالة عدم النقل في المعاملات، كما هو شأن الأمارات بالنسبة إلي أيّ أصل من الاصول.

ثمّ إنّ من موارد المعارضة في المقام معارضة ما دلّ من الكتاب و السنّة علي مقابلة الطاغوت و مجاهدة الظالم و دفع الظلم و تحريم إعانة الظالم و الجائر و لو بالسكوت.

كقوله تعالي: وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ. «1»

و قوله صلّي اللّه عليه و آله: «من أعان ظالما علي ظلمه و هو يعلم أنه ظالم، فقد برئ من الإسلام». «2»

و قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «أمرنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن نلقي أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة». «3»

و قوله صلّي اللّه عليه و آله: «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر». «4»

و وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام للحسن و الحسين لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه اللّه):

«كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا» «5» إلي غير ذلك من النصوص الدالّة علي وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فإنّها تنادي بأعلي صوتها حرمة كتمان الحقّ و السكوت في قبال الظلم و

الجور و الظالم و الجائر، و وجوب التغيّر و الإنكار و الردع.

و لكن أدلّة التقية تأمر بموافقة الباطل و كتمان الحقّ في جميع هذه الموارد تقية و حفظا للنفس و العرض و المال.

______________________________

(1) هود: 113.

(2) نوادر الراوندي ص 17.

(3) وسائل الشيعة: ج 11 ب 6 من الأمر و النهي ح 1 و الكافي: ج 5، ح 10.

(4) عوالي اللئالي: ج 1، ص 432.

(5) نهج البلاغة/ رسالة 47: ص 421.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 105

و قد يجاب عن ذلك بحكومة أدلّة التقية، كما يجمع بذلك بين أدلّة الأحكام الأوّلية و بين أدلّة التقية.

و لكنّه غير وجيه و ذلك لأنّ الأدلّة الأوّلية لم يؤخذ في موضوعها الخطر و الضرر بخلاف النصوص المزبورة.

و الجواب الصحيح: أنّ أدلّة التقية تخصّص عموم النصوص المزبورة كما هو لسان الآية في قوله: إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً، مع أنّ المستثني منه في الآية من قبيل النصوص المزبورة. و مثله قوله: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ؛ فإنّ النصوص الآمرة بالتغير و إنكار الظالمين و نهيهم عن الظلم و المنكر و تحريم عونهم و إيجاب مخاصمتهم، و إن كانت مشتركة مع نصوص التقية موضوعة؛ لأنّ في موضوعهما كليهما اخذ الخوف و الخطر، إلّا أنّ الثاني بالغ الحدّ الشديد بالإكراه و الاضطرار، مع ضمّ اطمينان القلب بالإيمان، و استثني من الأوامر الواردة في تلك النصوص.

و أيضا من القواعد الّتي يعارضها قاعدة التقية، قاعدة «لا تعاد» في الخمس المستفاد وجوب إعادتها من حديث «لا تعاد». و ذلك لأنّ قاعدة التقية- بناء علي القول بإجزائها- تنفي وجوب الإعادة بعد رفع الاضطرار، و لكن قاعدة «لا تعاد» تقتضي وجوب الإعادة عند الاختلال

بأحد الخمس المذكورات في الحديث.

و هذه المعارضة لا تختصّ بقاعدة التقية، بل تقع بين جميع الأوامر الاضطرارية و بين قاعدة «لا تعاد» علي النحو المذكور.

و لكن هذه المعارضة بدوية ترتفع بالتأمّل في مفاد حديث لا تعاد و مورده؛ إذ مورده كما قرّر في محلّه ترك أجزاء الصلاة و شرائطها نسيانا، لا اضطرارا، كما قرّر في محلّه.

و عليه فقاعدة التقية- كسائر أدلّة الاضطرارية- تقتضي الإجزاء في التقية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 106

الخوفية- الاضطرارية و الإكراهية-، و لا معارضة بينها و بين حديث «لا تعاد».

و من هنا لم يعمل الأصحاب بحديث «لا تعاد» في موارد الاضطرار كالتيمّم و نحوه، و لم يفصّلوا في إجزاء الأوامر الاضطرارية بين الخمس المستثني في حديث «لا تعاد» و بين غيرها.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 107

التقية عند أهل العامة

اشارة

تحقيق نصوص أهل العامّة في التقية

أدلّة أهل العامّة لعدم جواز التقية

شبهات واهية و دفوع قاطعة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 109

التقية عند أهل العامّة 1- تحرير آراء العامّة.

2- نظرة إلي نصوص أهل العامّة في التقية.

3- ما استدلّ به العامّة لعدم جواز التقية.

4- شبهات و دفوع: هل التقية كذب؟/ مشروعية التقية هل تنافي حجّية روايات الشيعة؟/ الجواب عن إشكال تحريم كتمان ما أنزل اللّه./ هل التقية من النفاق و الرياء؟/ هل التقية تنافي الشجاعة.

تحرير آراء العامّة

اختلف العامّة في مشروعية التقية، فذهب جماعة منهم إلي عدم جوازها، و آخرون إلي جوازها و مشروعيتها، بل وجوبها في موارد الخوف من الهلكة. و نكتفي هاهنا بذكر كلام بعض القائلين بالجواز؛ لسهولة الوصول إلي كلمات المانعين منهم.

قال السرخسي (المتوفي بسنة 483) في المبسوط: «و عن الحسن البصري رحمه اللّه التقية جائزة للمؤمن إلي يوم القيامة، إلّا أنه كان لا يجعل في القتل تقية و به نأخذ. و التقية أن يقي نفسه من العقوبة بما ظهره، و إن كان يضمر خلافه.

و قد كان بعض الناس يأبي ذلك و يقول إنّه من النفاق. و الصحيح أن ذلك جائز؛ لقوله تعالي: إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً. و اجراء كلمة الشرك علي اللسان مكرها مع

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 110

طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقية. و قد بيّنّا أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله رخّص فيه لعمّار بن ياسر رضي اللّه عنه». «1»

و نظيره عن ابن حجر العسقلاني (المتوفّي بسنة 852).

نظرة إلي نصوص أهل العامّة في التقية

و قد رووا في جوامعهم الروائية أحاديث كثيرة دالّة علي جواز التقية و الترغيب إليها و التأكيد عليها.

و هذه النصوص علي طائفتين. الاولي: ما نقلها العامّة في تفسير الآيات القرآنية الناظرة إلي التقية.

فمنها: ما رواه الحاكم في المستدرك و ابن ماجة في سننه و الماوردي و الرازي في تفسيرهما في قضيّة عمّار بن ياسر عند ما أمره المشركون بسبّ الرسول صلّي اللّه عليه و آله و امتداح الأصنام، ففعل ذلك تحت وطأة التعذيب الشديد، فلمّا أتي الرسول، قال له: «ما وراءك»؟ قال: شرّ يا رسول اللّه، ما تركت حتّي نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير، فقال: «كيف تجد قلبك»؟ قال: مطمئنّ

بالإيمان، قال صلّي اللّه عليه و آله:

«إن عادوا فعد». «2»

و قد جعل المراغي في تفسيره من جملة موارد التقية: مداراة الكفرة، و الظلمة، و الفسقة، و إلانة الكلام لهم، و التبسّم في وجوههم، و بذل المال لهم لكفّ أذاهم و صيانة العرض منهم، و أخرج الطبراني، قوله صلّي اللّه عليه و آله: «ما وقي به المؤمن عرضه، فهو صدقة». «3»

الثانية: ما رووه في جوامعهم الروائية:

______________________________

(1) المبسوط: ج 24، ص 45.

(2) المستدرك للحاكم: ج 2، ص 357 و راجع سنن ابن ماجة: ج 1، ص 150، ب 11 و تفسير الماوردي: ج 3، ص 192، و تفسير الرازي: ج 20، ص 121.

(3) تفسير المراغي: ج 3، ص 136.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 111

فمن هذه الطائفة ما نقله ابن حزم عن الحارث بن سويد: قال سمعت عبد اللّه ابن مسعود: يقول: ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاما يدرأ عنّي سوطا أو سوطين، إلّا كنت متكلّما به. و أخرجه ابن حزم في المحلّي، و قال: و لا يعرف له من الصحابة رضي اللّه عنه مخالف. «1»

و أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء، أنّه كان يقول: إنّا لنكشر في وجوه أقوام، و إن قلوبنا لتلعنهم. «2»

و نسب هذا القول إلي أبي موسي الأشعري أيضا «3». و الي أمير المؤمنين. «4»

و أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه قال: حفظت من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله وعاءين: فأما أحدهما: فبثثته، و أمّا الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. «5»

و روي القرطبي المالكي: «و قال إدريس بن يحيي: كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسّسون الخلق، و يأتون بالأخبار، فجلس

رجل منهم في حلقة رجاء بن حياة، فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه.

فقال: يا رجاء! اذكر بالسوء في مجلسك و لم تغيّر؟!

فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.

فقال له الوليد: قل اللّه الّذي لا إله إلّا هو.

قال: اللّه الّذي لا إله إلّا هو.

فأمر الوليد بالجاسوس، فضرب سبعين سوطا، فكان يلقي رجاء فيقول: يا رجاء! بك يستسقي المطر و سبعين سوطا في ظهري!

______________________________

(1) المحلّي، ابن حزم: ج 8، ص 336، مسألة 1409.

(2) صحيح البخاري: ج 8، ص 37، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس.

(3) الفروق، القراضي المالكي: ج 4، ص 236، الفرق الرابع و الستون بعد المائتين.

(4) مستدرك وسائل الشيعة: ج 12، ص 261، باب 27 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ح 2.

(5) صحيح البخاري: ج 1، ص 41، كتاب العلم، باب حفظ العلم.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 112

فيقول رجاء: سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم. «1»

و أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن سفيان بن وكيع، قال: جاء عمر بن حمّاد بن أبي حنيفة فجلس إلينا، فقال: سمعت أبي حمّاد يقول: بعث ابن أبي ليلي إلي أبي حنيفة فسأله عن القرآن؟ فقال مخلوق، فقال: تتوب و إلّا أقدمت عليك؟ قال: فتتابعه، فقال: القرآن كلام اللّه.

قال: فدار به في الخلق بخبرهم أنّه قد تاب، من قوله القرآن مخلوق.

فقال أبي: فقلت لأبي حنيفة: كيف صرت إلي هذا و تابعته؟ قال: يا بني، خفت أن يقدم عليّ فأعطيته التقية. «2»

و منها: ما رواه ابن أبي شيبة الكوفي (المتوفّي بسنة: 235 هق) باسناده عن الحسن أنّ عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين فأكّدهما مسيلمة علي الشهادة برسالته،

فأبي أحدهما فقتله و شهد الآخر فأرسله. فأتي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله فقال للرجل:

«أما صاحبك فمضي علي إيمانه، و أمّا أنت فأخذت بالرخصة». «3»

و ما رواه عن عطاء «في رجل أخذه العدوّ، فأكرهوه علي شرب الخمر و أكل الخنزير. قال: إن أكل و شرب فرخصة، و إن قتل أصحاب خير». «4»

و ما رواه أيضا عن الحسن قال: «التقية جائزة للمؤمن إلي يوم القيامة». «5»

و ما رواه بسنده عن ابن الحنيفة، قال: سمعته يقول: «لا إيمان لمن لا تقية له». «6»

و ما رواه بسنده عن عبد اللّه بن مسعود، قال: «ما من كلام أتكلّم به بين يدي

______________________________

(1) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: ج 10، ص 124.

(2) المصدر السابق: ج 13، ص 379- 380، في ترجمة أبو حنيفة تحت عنوان ذكر الروايات عمّن حكي عن أبي حنيفة، القول بخلق القرآن.

(3) المصنّف/ لابن أبي شيبة الكوفي: ج 7، ص 642، ح 1.

(4) المصدر: ح 4.

(5) المصدر: ص 643، ح 7.

(6) المصدر: ص 643، ح 10.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 113

سلطان يدرأ عنّي به ما بين سوط إلي سوطين، إلّا كنت متكلّما به». «1»

و ما رواه بسنده عن النزال بن سبرة، قال دخل ابن مسعود و حذيفة علي عثمان، فقال عثمان لحذيفة: بلغني أنّك قلت كذا و كذا؟ قال: لا و اللّه ما قلته. فلمّا خرج، قال له عبد اللّه: مالك؟ فلم تقوله ما سمعتك تقول؟ قال: إنّي اشتري ديني بعضه ببعض؛ مخافة أن يذهب كلّه». «2»

ما استدلّ به العامّة لعدم جواز التقية

و عمدة ما استدلّ به القائلون بعدم جواز التقية من أبناء العامّة و اتّكلوا عليه في التشنيع علي الشيعة و الهجمة عليهم تتلخّص في ثلاثة وجوه:

1- إنّ

التقية كذب؛ حيث ترجع إلي إظهار ما لا واقع له في اعتقاد المتّقي.

2- التقية نفاق و رياء؛ نظرا إلي ما فيها من مخالفة اللسان مع القلب. و ابتغاء مرضاة الخلق بمخالفة أمر اللّه و حكمه الواقعي.

3- لو جازت التقية للأئمّة كما يقول به الشيعة لسقطت رواياتهم كلّها عن الحجّية؛ لاحتمال تطرّق التقية في جميعها.

و لكن ضعف هذه الوجوه أظهر من أن يخفي علي من له أدني اطّلاع و خبرة بماهية التقية المصطلحة عند الشيعة و شرائطها. و سوف تعرف وجود المناقشة في هذه الأدلّة الواهية في ضمن شبهات و دفوع.

______________________________

(1) المصنّف/ لابن أبي شيبة الكوفي: ج 7، ص 643، ح 11.

(2) المصدر: ص 643، ح 15.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 114

شبهات واهية و دفوع قاطعة

اشارة

1- هل التقية كذب؟!

2- هل تنافي مشروعية التقية حجيّة روايات الشيعة؟

3- الجواب عن إشكال تحريم كتمان ما أنزل اللّه.

4- هل التقية من النفاق و الرياء؟

5- التقية لا تنافي الشجاعة.

هل التقية كذب؟!

و قد ادّعي بعض أبناء العامّة من أنّ التقية في الحقيقة كذب؛ لزعم رجوعها إلي إظهار ما لا يطابق الواقع في اعتقاد شخص المتّقي.

ففي الحقيقة هو إخبار عمّا لا يطابق الواقع عند المخبر.

و هذا الإشكال لا وجه له.

و ذلك أوّلا: لأنّ الكذب هو الإخبار الغير المطابق للواقع فهو من مقولة اللفظ. و أمّا التقية فهي أعمّ من القول و الفعل. و الغالب في التقية الفعل و لا يصدق عليه الكذب.

و أمّا في موارد التقية بالقول الغير المطابق للواقع، فيرتفع قبح الكذب بسبب أهمّية التقية و خطورتها، كما تعرف في الوجه الثاني. هذا، مع أنّ التقية أجنبيّة عن مفهوم الإخبار، حيث إنّه لم يتضمّن مفهوم الإخبار كما هو واضح لمن لاحظ موارد التقية، و تأمّل في كلمات الفقهاء في تعريف التقية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 115

و ثانيا: ليس قبح الكذب ذاتيا- مثلا- إذا توقّف إنجاء النفس المحترمة علي الكذب في واقعة، لا يشكّ أحد من المسلمين في جوازه حينئذ. و التقية أيضا إنّما شرّعت للاضطرار. فيرتفع إثم الكذب عند الاضطرار، كما قال اللّه تعالي: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ. بل قد جوّز الكذب لمصالح مهمّة كإصلاح ذات البين، و نحو ذلك من المصالح الهامّة المبتنية عليها مشروعية التقية المداراتية.

هل تنافي مشروعية التقية حجّية روايات الشيعة

و أمّا تطرق احتمال التقية في جميع الروايات الصادرة عن أهل البيت عليهم السّلام فلا أساس له، بل إنّما يعتقد الشيعة الإمامية أنّ الأئمّة عليهم السّلام لم يتّقون في بيان الأحكام الشرعية، إلّا في موارد خاصّة يصان و يحفظ فيها دماء المسلمين و كيان المذهب و يسدّ فيها عن الفرقة و العداوة و البغضاء بين المسلمين ببيان الحكم

الموافق لأبناء العامّة. هذا، مع أنّ و في مثل هذه الموارد توجد قرائن تمنع عن الإغراء بالجهل و عن اشتباه الحكم الواقعي. و من تلك القرائن وجود أخبار مبيّنة للحكم الشرعي الواقعي المطابق للحقّ، و اتّفاق أهل العامّة علي الحكم الموافق للتقية، أو اشتهار ذلك الحكم بين العامّة. ثمّ أمروا شيعتهم بالأخذ بما خالف العامّة و طرح ما وافقهم. فما دام لم تتوفّر هذه القرائن، لا يجوز حمل الأخبار الصادرة عنهم عليهم السّلام علي التقية، بل لا يحتمل التقية حينئذ؛ لعدم وجه مجوّز لها.

و الحاصل: أنّ للتقية في الروايات ضابطة تبتني علي القرينتين المذكورتين، و لا يمكن حمل الأخبار علي التقية في غير موردهما.

و أمّا عدم جواز كتمان الإيمان فهو في غاية البطلان و السخافة؛ لما صرّح به في الكتاب العزيز بقوله تعالي يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ في قضيّة مؤمن آل فرعون.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 116

الجواب عن إشكال تحريم كتمان ما أنزل اللّه

و أمّا شبهة أنّ التقية راجعة إلي كتمان ما أنزل اللّه، و هو حرام بدلالة قوله: «الّذين يكتمون ما أنزلناه من بعد ما بيّناه للناس».

فجوابها: أنّ دلالة الآية الشريفة ناظرة إلي كتمان رسالة نبيّنا علي الدوام، لا في واقعة اقتضته التقية فيها، بل و كتمان ولاية أهل البيت عليهم السّلام و إمامتهم لغرض إضلال الناس عن الإمامة و إعطاء زمامها إلي غير أهلها، كما في قضيّة سقيفة بني ساعدة؛ نظرا إلي أنّ بالولاية و الإمامة يتحقّق إكمال الدين و الرسالة، كما قال تعالي: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً و قوله:

وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ «1» و ليست آية تحريم الكتمان، ناظرة إلي الأحكام الجزئية المتوقّف عليه حفظ النفس و المال

و رفع الاضطرار و شوكة المسلمين.

نعم، إذا كان كتمان الرسالة أو الولاية في مورد جزئي خارجي يتوقّف عليه حفظ النفس لا ريب عند أحد من المسلمين جوازه؛ لأهمّية حفظ النفس، و لقوله تعالي: إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً.

و العجب من هذا المستشكل أنّه كيف أشكل بذلك في أصل مشروعيّة التقية، مع أنه قرأ آية إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً؟! و إنّها صريحة في مشروعية التقية.

و أمّا عدم صدور التقية من أصحاب النبيّ صلّي اللّه عليه و آله، لو سلّم، فلا يصلح للدليليّة علي عدم مشروعية التقية بعد ما صرّحت بجوازها في الآيات القرآنية؛ ضرورة أنّ فعل الأصحاب لا يصلح للدليليّة علي الأحكام الشرعية، إلّا أن يبلغ إلي حدّ السيرة و لم يكن مخالفا للكتاب. و دون إثبات ذلك خرط القتاد.

هل التقية من النفاق و الرياء؟

و أمّا شبهة كون التقية من النفاق و الرياء، فجوابه: أنّ حقيقة النفاق إظهار الإيمان ممن لا اعتقاد و لا إيمان له في

______________________________

(1) المائدة: 67.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 117

الباطن، و هذا بخلاف التقية، فإنها عكس ذلك؛ لأنّها إظهار الكفر و الفسق ممّن قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ و فكره مستحكم بالاعتقاد بالمذهب الحقّ، مع كونها لغرض مشروع، بل واجب، من حفظ نفس محترمة، أو السدّ عن العداوة و البغضاء بين المسلمين. و قد صرّح في الكتاب العزيز بأنّ إيقاع العداوة و البغضاء من إرادة الشيطان و أمره، كما قال تعالي: إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ. «1»

و أمّا الرياء: فهو إظهار قول أو فعل لتحصيل رضي الخلق فقط، من دون أن يكون غرضه التوسّل بذلك إلي امتثال أمر اللّه و جلب رضي الخالق.

و لكن التقية إنّما هي إظهار قول

أو فعل جالب لمودّة مخالف في المذهب أو رافع لغيظ ظالم أو دافع لضرر و خطر، و كلّ ذلك لغرض طاعة الشارع الأقدس و ابتغاء مرضاة اللّه تعالي. فلو لم يكن لغرض ذلك يخرج عن حقيقة التقية المصطلحة عند الشيعة الإمامية.

التقية لا تنافي الشجاعة

و أمّا إشكال بعض أبناء العامّة بأنّ اعتقادكم بشجاعة أمير المؤمنين عليّ و ساير أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ينافي و يناقض مشروعية التقية الخوفية، فإنّ الرجل الشجاع لا يخاف من أحد.

فالجواب عنه واضح.

و ذلك أوّلا: لا يكون الخوف المعتبر في موضوع التقية في اصطلاح الفقهاء النصوص هو بمعني الجبن، بل بمعني الاحتمال العقلائي لتوجّه الضرر و هلاك النفس و ضياع المال.

و ثانيا: أنّ الشجاعة لا ينافي احتمال توجّه الضرر و الخطر و هلاك النفس و المال. و هذا لا يستلزم الجبن، كما هو واضح.

______________________________

(1) المائدة: 91.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 119

أقسام التقية

اشارة

أقسام التقية بحسب الأحكام الخمسة

تقسيم التقية من جهات اخر

تحقيق في التقية الاضطرارية و المداراتية التقية الاكراهية

التقية في مقام الإفتاء و القضاء

أقسام اخري؛ جزئية أو تكرارية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 121

أقسام التقية بحسب الأحكام الخمسة 1- تنقيح كلام الشهيد و نقده.

2- تحرير كلام الشيخ الأنصاري و نقده.

3- إعطاء الضابطة في هذا التقسيم.

4- تقسيم التقية من جهات اخر.

5- التقية الاضطرارية و المداراتية.

6- هل تعمّ عمومات التقية المداراتية عصرنا هذا؟

7- نقد كلام المحقق الهمداني.

8- التقية الاكراهية/ مناقشة السيّد الإمام و جوابه عنها.

9- التقية في مقام الإفتاء و القضاء.

10- أقسام اخري جزئية أو تكرارية.

تنقسم التقية في كلمات الفقهاء من جهات:

الأولي: تقسيمها بحسب ما تتّصفها من الأحكام الخمسة، كما جاء في كلام الشهيد الأوّل و الشيخ الأنصاري. (قدس سرهما)

تنقيح كلام الشهيد و نقده

قال الشهيد في قواعده: «التقية تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة:

فالواجب: إذا علم أو ظنّ نزول الضرر بتركها به، أو ببعض المؤمنين.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 122

و المستحبّ: إذا كان لا يخاف ضررا عاجلا، و يتوهّم ضررا آجلا، أو ضررا سهلا، أو كان تقية في المستحبّ، كالترتيب في تسبيح الزهراء عليها السلام، و ترك بعض فصول الأذان.

و المكروه: التقية في المستحبّ حيث لا ضرر عاجلا و لا آجلا، و يخاف منه الالتباس علي عوام المذهب.

و الحرام: التقية حيث يأمن الضرر عاجلا و آجلا، أو في قتل مسلم. قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقية. «1»

و المباح: التقية في بعض المباحات الّتي ترجّحها العامّة، و لا يحصل بتركها ضرر». «2»

و لا يخفي أنّ المستفاد من كلامه قدّس سرّه في الفرق بين القسم المستحبّ و بين المكروه- بعد

اشتراكهما في عدم الخوف من الضرر العاجل و الآجل المهمّ- أنّ في المستحبّ يعتبر كون الضرر المترتب علي ترك التقية آجلا محتملا دون حدّ الخوف، أو ضررا عاجلا قليلا سهل المؤونة.

قوله: «أو كان تقية في المستحبّ» يدلّ بقرينة المقابلة أنّ مراده من الفقرة المتقدّمة التقية في المباح، فتكون التقية فيه مستحبّة إذا احتمل ضعيفا في تركها ضررا آجلا أو عاجلا يسيرا.

و لكن اعتبر في التقية المكروهة، أن لا يحتمل ضرر آجل و لا ضرر عاجل في فعل المستحبّ، و لو قليلا، بل كان تركه موجبا للالتباس علي عوام المذهب.

و أمّا ما قال في تعريف التقية الحرام، فغير قابل للالتزام بظاهره؛ ضرورة

______________________________

(1) الكافي: ج 2، ص 220، باب التقية من كتاب الايمان، حديث: 6. و قد ورد فيه بلفظ:

(… فإذا بلغ الدم فليس تقية). وسائل الشيعة: ج 11 ب 31 من ابواب الأمر و النهي: ح 1 و 2.

(2) القواعد و الفوائد: ج 2، ص 157- 158.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 123

أنّ التقية مع عدم الضرر العاجل و الآجل مع خوف الالتباس إذا كانت مكروهة، فلا محالة ترتفع الكراهة مع عدم خوف الالتباس، فتكون مباحة. فكيف تكون حراما حينئذ.

فلا بدّ أن يكون مقصوده التقية بترك الواجب مع الأمن من الضرر فتكون حينئذ حراما؛ ضرورة حرمة ترك الواجب من دون عذر.

و أمّا تخصيصه التقية المباحة بالمباحات الّتي ترجّحها العامّة، فيرد عليه أنّ فعل ذلك المباح لو كان مرجّحا عند العامّة، تدخل التقية حينئذ في التقية المداراتية؛ حيث يجلب بموافقتهم في ذلك مودّتهم و محبّتهم. فتدخل في عمومات الأمر بالتقية المداراتية كقوله عليه السّلام: «رحم اللّه امرأ اجترّ مودّة الناس إلينا بالتقية …» «1».

فلا

مناص حينئذ من الالتزام باستحباب مثل هذه التقية.

أمّا ما جاء في كلامه من اشتراط خوف الالتباس علي العوام، فإنّه يأتي فيما إذا كان المتّقي من العلماء و الفقهاء.

و الوجه في اشتراط ذلك عدم كون مجرّد ترك المستحبّ مكروها، فإنّ المكروه ما دلّ نصّ شرعيّ علي حزازته و منقصته المادّية أو المعنوية عند الشارع بعنوانه و كون مجرّد ترك المستحبّ من هذا القبيل غير معلوم، بل معلوم العدم.

تحرير كلام الشيخ الأنصاري

و قال الشيخ الأنصاري: «التقية تنقسم إلي الأحكام الخمسة.

فالواجب منها: ما كان لدفع الضرر الواجب فعلا، و أمثلته كثيرة.

و المستحبّ: ما كان فيه التحرّز عن معارض الضرر؛ بأن يكون تركه مفضيا

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 32 من ابواب الأمر و النهي ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 124

تدريجا إلي حصول الضرر، كترك المداراة مع العامّة و هجرهم في المعاشرة في بلادهم، فإنّه ينجرّ غالبا إلي حصول المباينة الموجب لتضرّره منهم.

و المباح: ما كان التحرّز عن الضرر و فعله مساويا في نظر الشارع، كالتّقية في إظهار كلمة الكفر علي ما ذكره جمع من الأصحاب، و يدلّ عليه الخبر الوارد في رجلين اخذا بالكوفة و امرا بسبّ أمير المؤمنين عليه السّلام. «1»

و المكروه: ما كان تركها و تحمّل الضرر أولي من فعله، كما ذكر ذلك بعضهم في إظهار كلمة الكفر، و أنّ الأولي تركها ممّن يقتدي به الناس إعلاء لكلمة الإسلام. و المراد بالمكروه حينئذ ما يكون ضدّه أفضل.

و المحرم منه: ما كان في الدماء». «2»

و قد عرفت من كلامه في تعريف التقية الواجبة، أنّه اعتبر فيها قيدين، أحدهما: كون الضرر المدفوع بالتقية واجب الدفع، ثانيهما: كونه ضررا فعليا.

و في التقية المستحبّة أخذ عدم فعلية

الضرر، و اعتبر التحرّز عن معارض الضرر.

و في المباحة اعتبر مساواة التحرّز عن الضرر و عدمه في نظر الشارع.

و في المكروهة رجحان تركها و تحمّل الضرر بذلك في نظر الشارع من فعلها و دفع الضرر.

و في الحرام كون التقية موجبا لإراقة الدماء.

نقد كلام الشيخ

و يرد عليه أوّلا: أنّ تخصيصه التقية المستحبّة بما يتحرّز به عن الوقوع في معرض الضرر و يدفع به عن حصوله

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 29 من أبواب الأمر و النهي، ح 4.

(2) رسالة التقية للشيخ الأنصاري: ص 13- 14.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 125

التدريجي، لا مخصّص له؛ نظرا إلي شمول هذا النوع من التقية لموارد التحرّز عن الضرر الفعلي اليسير أو تقوية المذهب و مطلق ما يوجب اعتلاء كلمة المسلمين، كما في بعض المراتب من التقية المداراتية الموجبة لجرّ مودّتهم و جلب محبّتهم و مظاهرة الشيعة الإماميّة في المواضع السياسيّة و الاجتماعيّة.

فكان الأولي أن يعرّف المستحبّ بعكس المكروه، بأن يقول- مثلا- ما كان من التقية فعله و عدم تحمّل الضرر، أولي من تركه و تحمّل الضرر لأجله.

و ثانيا: تخصيص المحرّم منها بالدماء لا دليل عليه؛ ضرورة أعمّية ما يجب دفعه من القتل، كما سيأتي في إعطاء الضابطة. كما ستعرف وجه ذلك. كما أنّ تخصيص الواجب منها بما كان لدفع الضرر فعلا، لا مخصّص له.

إعطاء الضابطة في هذا التقسيم

و يمكن إعطاء الضابطة الكلّية في هذا التقسيم- الّتي هي الحدّ المشترك بين كلام الشهيد و الشيخ الأعظم، بل كلّ من قسّم التقية بهذا التقسيم و عرّف الأقسام- بما حاصله:

أنّ التقية الواجبة: هي الّتي يدفع بها كلّ ما يجب دفعه، من وقوع حرام، أو ضرر واجب الدفع، أو قتل نفس، أو الفتنة و الشقاق بين المسلمين، أو وهن المذهب أو إهانة المحترمات و هتك الشعائر.

و أمّا ما قال الشيخ الأعظم قدّس سرّه من كون تقية عمّار من قبيل التقية المباحة، فلا يمكن الالتزام به. و الرواية الدالّة علي ذلك لا بدّ من توجيهها؛ إمّا بأنّ

عمّار لمّا لم يقصد من ترك التقية، إلّا اعتلاء كلمة الإسلام و التوحيد و النبوّة، كما مأجورا من باب التفضّل، و إن كان تكليفه الواقعي غير ذلك، أو بأنّ عمّار كان جاهلا بوجوب التقية؛ لعدم بيان حكم التقية في ذلك الزمان، أو بمحامل اخري، و سيأتي تفصيل ذلك في بيان أحكام التقية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 126

و الحرام منها: ما يوجب وقوع واحد من المحرّمات المزبورة.

و المستحبّة: هي الّتي يدفع بها ضرر غير واجب الدفع، أو وقوع مكروه، أو يتمكن بها من الإتيان بمستحبّ شرعي، أو تجرّ به مودّة المخالفين، أو كان لها دخل في وحدة المسلمين و اعتلاء كلمة الإسلام. ما لم تكن موجبة للفتنة و اختلاف المسلمين و وهن المذهب، و لا ترك واجب أو فعل حرام.

و المكروهة: الّتي تمنع من فعل مستحبّ، أو تجرّ إلي فعل ما هو مكروه في نظر الشارع. ما لم تكن راجحة؛ لجرّ مودّة المخالفين أو وحدة المسلمين و اعتلاء كلمة الإسلام و نحو ذلك.

و المباح: ما يتمكّن بسببه من فعل مباح. أو ما كانت المفسدة المترتّبة علي تركها متساوية في الأهمّية و الخطر مع المفسدة المترتّبة علي فعلها.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 127

تقسيم التقية من جهات اخر

الثانية: تقسيمها بلحاظ ملاكات تشريعها: و ذلك لاختلاف المناطات و تنوّع الجهات الّتي لأجلها شرّعت التقية، من خوف ضرر ديني أو دنيوي، أو مداراة لجرّ مودّة، أو اضطرار أو إكراه. و سيأتي هاهنا تعريف كلّ قسم.

و جعل السيّد الإمام الراحل «1» هذا النوع من تقسيم التقية بحسب ذاتها.

و لكن ما قلناه هو الأنسب.

الثالثة: تقسيمها بلحاظ شخص المتّقي؛ حيث إنّه تارة: يكون من العوام، و اخري: من

الرؤساء و السلاطين و الامراء و الحكّام. و ثالثة: من الفقهاء و العلماء. فربما تحرم التقية علي القائد الديني و مرجع المسلمين، و إن كان انجرّ تركها إلي قتله، كما إذا كانت التقية منه موجبة لوهن الدين و المذهب و انحراف الامّة و ضلالتهم. «2»

______________________________

(1) الرسائل: ج 2، ص 174.

(2) كما نقل: أنّه اتفق ذلك لبعض فقهاء عصرنا. و هو السيّد الجليل الاصولي الفقيه الشهيد الصدر علي ما نقل من أنّ عمّال الحكومة البعثية العراقية أكرهوه علي الحكم بنفي مشروعية النظام الثائر الجمهوري الاسلامي المقدّس في إيران و علي هتك السيّد الإمام الراحل و تأييد النظام العراقي البعثي، و هدّدوه بالقتل عند الامتناع، فامتنع عن ذلك و ترك التقية فقتلوه، رحمه اللّه و أعلي اللّه مقامه الرفيع و حشره مع أجداده الطاهرين.

و إليك مواضع مهمّة من رسالة صدّام حسين و جواب آية اللّه الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه.

أما رسالة صدّام:

و إنّنا نحبّ علماء الإسلام و ندعمهم ما داموا لا يتدخّلون فيما لا يعنيهم من شئون السياسة و الدولة، و لا ندري بعد ذلك لما ذا حرّمتم حزبنا علي الناس؟ و لما ذا دعوتم إلي القيام ضدّنا و لما ذا أيّدتم أعداءنا في ايران؟ و قد أنذرناكم و نصحنا لكم و أعذرنا إليكم في هذه الامور جميعا، غير أنّكم أبيتم و أصررتم و رفضتم إلّا طريق العناد مما يجعل قيادة هذه الثورة تشعر بأنّكم خصمها العنيد و عدوها اللدود و أنتم تعرفون ما موقفها ممن يناصبها العداء و حكمه في قانونها؟

و قد اقترحت رأفة بكم أن نعرض عليكم أمورا إن أنتم نزلتم علي رأينا فيها أمنتم حكم القانون و كان لكم ما تحبون من

المكانة العظيمة و الجاه الكبير و المنزلة الرفيعة لدي الدولة و مسئوليها، تقضي بها كل حاجاتكم و تلبي كل رغباتكم، و إن أبيتم كان ما قد تعلمون من حكمها نافذا فيكم و ساريا عليكم مهما كانت الأحوال، و امورنا الّتي نختار منها ثلاثة، لا يكلفكم تنفيذها أكثر من سطور قليلة يخطها قلمكم لتنشر في الصحف الرسمية و حديث تلفزيوني جوابا علي تلك الاقتراحات، لتعودوا بعد ذلك مكرمين معززين من حيث أتيتم لتروا من بعدها من فنون التعظيم و التكريم ما لم تره عيونكم و ما لم يخطر علي بالكم.

أول تلك الامور: هو أن تعلنوا تأييدكم و رضاكم عن الحزب القائد و ثورته المظفرة.

ثانيهما: أن تعلنوا تنازلكم عن التدخل في الشؤون السياسية و تعترفوا بأنّ الإسلام لا ربط له بشؤون الدولة.

ثالثها: أن تعلنوا تنازلكم عن تأييد الحكومة القائمة في إيران و تظهروا تأييدكم لموقف العراق منها، و هذه الامور كما ترون يسيرة التنفيذ كثيرة الاثر جمّة النفع لكم من قبلنا فلا تضيعوا هذه الفرصة التي بذلتها رحمة الثورة لكم.

و أمّا جواب آية اللّه الشهيد الصدر قدّس سرّه:

لقد كنت أحسب أنكم تعقلون القول و تتعقّلون …

أشباه اليهود و أتباع الشيطان، أعداء الرحمن علي حرماته الغارة الرعناء، و تربصتم بأوليائه كل دائرة بسطتم إليهم أيديكم بكل مساءة، و قعدتم لهم كل مرصد و أخذتموهم علي الشبهات و قتلتموهم علي الظنة علي سنن آبائكم الاولين، تقتفون آثارهم و تنهجون سبيلهم، لا يردعكم عن كبائر الاثم رادع و لا يزعجكم عن عظام الجرم وازع، قد ركبتم ظهور الأهواء فتحولت بكم في المهالك، و اتبعتم داعي الشهوات فأوردكم أسوأ المسالك، قد نصبتم حبائل المكر و أقمتم كمائن الغدر … أ ظننتم

أنكم بالموت تخيفونني و بكر القتل تلونني و ليس الموت إلّا سنة اللّه في

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 129

فيفترق حكم التقية باختلاف خصوصيات شخص المتقي.

الرابعة: تقسيمها بحسب من يتقي منه؛ حيث إنّ شخص من يتّقي منه تختلف خصوصياته أيضا، كاختلاف خصوصيات شخص المتقي علي المنوال المزبور.

و لا ريب في عدم اختصاص من يتّقي منه بالعامّة، بل يشمل كلّ من يخاف في إضراره و إيذائه من الظالمين و الطواغيت و المشركين و الفاسقين؛ نظرا إلي ما سبق من العمومات و الآيات الواردة في التقية في الأديان و الامم السالفة و ما ورد في تقية عمّار و غيره في صدر الإسلام.

هذا كلّه مضافا إلي دلالة موثّقة سماعة علي أنّ قول يوسف و إبراهيم عليهما السّلام من قبيل التقية الّتي تكون من دين اللّه.

ففي موثّقة أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «التقية من دين اللّه قلت: من دين اللّه؟ قال: أي و اللّه من دين اللّه، و لقد قال يوسف أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ و اللّه ما كانوا سرقوا شيئا، و لقد قال إبراهيم: إِنِّي سَقِيمٌ و اللّه ما كان سقيما». «1»

الخامسة: تقسيمها بحسب ما يتقي به من الأفعال و التروك. فقد تكون بفعل

______________________________

خلقه … أو ليس القتل علي أيدي الظالمين إلّا كرامة اللّه لعباده المخلصين. فاجمعوا أمركم و كيدوا كيدكم و اسعوا سعيكم، فأمركم إلي تباب و موعدكم سوء العذاب. تريدون منّي أن أبيع الحق بالباطل، و أن أشتري طاعة اللّه بطاعتكم، و أن أسخطه و أرضيكم، و أن أخسر الحياة الباقية لأربح الحطام الزائل، ضللت إذا، و ما أنا من المهتدين. تبّا لكم و لما تريدون، و أ ظننتم

أنّ الإسلام عندي شي ء من المتاع يشتري و يباع؟ …

فو اللّه لن تلبثوا بعد قتلي إلّا أذلة خائفين، تهول أهوالكم و تتقلب أحوالكم و يسلّط عليكم من يجرعكم مرارة الذل و الهوان، يسيقكم مصاب الهزيمة و الخسران، و يذيقكم ما لم تحتسبوه من طعم العناء، و يريكم ما لم ترتجوه من البلاء./ مجلّة العصر العراقية/ العدد الثامن و العشرون/ رسالة صدّام إلي آية اللّه الصدر و جواب آية اللّه الشهيد الصدر.

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 25 من أبواب الأمر و النهي ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 130

حرام أو مكروه أو مباح، فيختلف حكم التقية بحسب اختلافها.

و اخري: بترك واجب أو مستحبّ أو مباح و هكذا … فيختلف حكمها بذلك.

و ثالثة: بفعل مانع أو قاطع أو ترك شرط أو جزء في عبادة أو معاملة.

و رابعة: بترتيب الأثر علي موضوع خارجي ثابت ظاهرا ببيّنة أو خبر ثقة أو بحكم حاكم. و ذلك الموضوع إمّا معلوم الخلاف عنده أو مشكوك التحقّق.

هذه الأقسام الأربعة الأخيرة تفطّن لها السيّد الإمام الراحل. و لكن الثلاثة الأخيرة منها لا ينبغي أن تعدّ من أقسام التقية، بل من مواردها المندرجة في التقسيم الأوّل. فهي في الحقيقة تبيّن وجوه كلّ من الأحكام الخمسة؛ بأن تجب لوجوه و تحرم لوجوه و هكذا. فإنّ التقية من جهة هذه الأقسام لا تتّصف، إلّا بأحد الأحكام الخمسة.

السادسة: تقسيمها إلي التقية في مقام العمل و التقية في مقام الإفتاء و القضاء.

و لا يخفي أنّ بعض هذه الأقسام المذكورة يحتاج إلي تعريف ماهيته و بيان حدوده و خصوصياته، و هي ما يلي:

1- التقية المداراتية.

2- التقية الاضطرارية.

3- التقية الإكراهية.

4- التقية في مقام الإفتاء و القضاء.

التقية الاضطرارية

و هي الّتي شرّعت عند عروض الاضطرار؛ لغرض دفع الضرر عن النفس أو العرض أو المال و التخلّص عن المخمصة الّتي وقع فيها المكلّف. فما من شي ء حرام، إلّا و قد أحلّه الاضطرار، و إنّ الضرورات تبيح المحظورات، كما سبق ذكر بعض النصوص الدالّة علي ذلك في

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 131

تحقيق مدرك هذه القاعدة، مثل قوله عليه السّلام: «التقية في كلّ شي ء يضطرّ إليه ابن آدم»، و قوله: «التقية في كلّ ضرورة». «1» و قوله عليه السّلام: «إنّه كلّما خاف المؤمن علي نفسه فيه ضرورة، فله فيه التقية». «2»

و لا يخفي أنّ الاضطرار مختصّ بشخص المضطر. فإذا صدق عنوان المضطرّ علي المتّقي تشمله أدلّة هذا النوع من التقية. و من هنا لا تشمله ما إذا توجّه بسبب تقيته ضرر إلي الإسلام و المسلمين؛ نظرا إلي عدم صدق عنوان المضطرّ عليه لأجل ذلك. كما أنّ التقية الإكراهية أيضا كذلك من هذه الجهة؛ حيث لا يصدق عنوان المكره عليه لأجل ذلك، و سيأتي توضيح ذلك في محلّه.

التقية المداراتية

و هي الّتي شرّعت لوحدة الكلمة بين المسلمين- العامّة و الخاصّة- و تحبيب قلوب المخالفين و جرّ مودّتهم و جلب محبّتهم اتّقاء من فتنة الاختلاف بين المسلمين و تقوية للمذهب و صونا له من موجبات الوهن و الضعف.

و قد دلّت علي ذلك عدّة نصوص.

منها: ما رواه في الكافي عن هشام الكندي، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

«إيّاكم أن تعملوا عملا نعيّر به، فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله. كونوا لمن انقطعتم إليه زينا و لا تكونوا عليه شينا. صلّوا في عشائرهم، و عودوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم و لا يسبقونكم إلي شي ء من

الخير، فانتم أولي به منهم. و اللّه ما عبد اللّه بشي ء أحبّ إليه من الخبأ. قلت:

و ما الخبأ؟ قال عليه السّلام: التقية». «3» الخبأ في اللغة بمعني الإخفاء، كما ورد في النصّ «المرء مخبوء تحت لسانه». و هذا المعني يناسب التقية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 25 من الأمر و النهي، ح 1 و 2.

(2) وسائل الشيعة: ج 11 ب 12، من كتاب الأيمان ح 16.

(3) وسائل الشيعة: ج 11 ب 26 من الأمر بالمعروف، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 132

و منها: ما رواه في الكافي أيضا عن مدرك بن الهزهاز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «رحم اللّه عبدا اجترّ مودّة الناس إلي نفسه، فحدثهم بما يعرفون و ترك ما ينكرون». «1»

و منها: رواية أبي بصير، قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «خالطوهم بالبرّانية، و خالفوهم بالجوّانية إذا كانت الإمرة صبيانيّة». «2»

و المقصود هو الأمر بالمخالطة مع المخالفين في الظاهر و بالمخالفة معهم في الباطن إذا كانت الحكومة بيد الطواغيت و الفسقة الّذين هم في العقل كالصبيان.

هل تعمّ عمومات التقية المداراتية عصرنا هذا

وقع الكلام في أنّ التقية المداراتية من العامّة هل تختصّ بأعصار الأئمّة عليهم السّلام؟ بدعوي انصراف عموماتها إلي زمان شوكة العامّة و اقتدارهم، و عدم شمولها لمثل هذه الأعصار؛ نظرا إلي ذهاب اقتدارهم و عدم بقاء تلك الشوكة و العظمة لهم حتّي يخاف منهم؟ أو لا تختصّ بتلك الأعصار، بل تعمّ هذه الأعصار. ففي المثال لو تشرّف شيعيّ إلي المدينة أو مكّة أو دمشق أو غيرها من بلاد أهل العامّة في يومنا هذا فهل يستحبّ له الحضور في مساجدهم و الصلاة معهم علي وفق مذهبهم و ساير الامور المذكورة في روايات

التقية المداراتية؟ أو لا يستحبّ، بل لا يجوز له ذلك؛ لاختصاص مشروعيتها بالعصور المتقدّمة؟

نقد كلام المحقق الهمداني

نسب إلي المحقّق الهمداني «3» اختصاص مشروعيتها بزمان اقتدارهم و أيّام شوكتهم من العصور المتقدّمة.

و عدم مشروعيتها في مثل هذه الأعصار.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 26 من الأمر بالمعروف، ح 4.

(2) المصدر: ح 3.

(3) راجع التنقيح في شرح العروة الوثقي/ من تقريرات المحقّق الخوئي: ج 4، ص 319.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 133

و اشكل عليه بأنّ شوكتهم و اقتدارهم إنّما لها دخل في مشروعية التقية الخوفية و الاضطرارية، دون المداراتية. و ذلك لأخذ الخوف و احتمال الخطر و الضرر في مشروعية القسمين الأوّلين، دون الأخير؛ لأنّ الحكمة في مشروعيتها- حسبما يستفاد من نصوصها- جلب محبّتهم و جرّ مودّتهم و تقوية الوحدة بين الشيعة و السنّة، فإنّ المسلمين يد واحدة علي من سواهم من الكفّار و المشركين، و لا سيّما الصهيونية الجائرة الغاصبة.

و هذا الإشكال متين لا غبار عليه. فإنّ في النصوص الآمرة بالتقية المداراتية ما ورد فيه الأمر بترك ما ينكرون و فعل ما يعرفون، و الترحّم علي من جرّ مودّتهم علي نحو الإطلاق، من دون قيد كما سبق ذكرها عند البحث عن التقية المداراتية. و دعوي انصرافها إلي تلك الأعصار المتقدّمة لا شاهد لها، مع منافاتها لما ذكر فيها من الحكم و المصالح لهذا النوع من التقية. و لأجلها يتقوّي ظهور بعض التعابير- الموهمة للاختصاص بذلك الزمان كقوله: «عشائرهم و …» - فيما قلنا. و أنّ ذكر ذلك من باب المصداق.

ثمّ إنّه لا يخفي أنّ التقية فيما إذا لم يترتّب علي تركها ضرر و لا خوف خطر، إنما تجوز لأجل جلب المودّة و المنفعة و

التحابب إليهم و المجاملة في المستحبّات، كما ذكر بعضها في النصّ المذكور آنفا. و أمّا الواجبات، فإنّما تجوز معهم في خصوص الصلاة، لا في غيرها من فعل ساير المحرّمات و ترك الواجبات، فإنّ ذلك من قبيل المداهنة المحرّمة، كما سبق.

و الحاصل: أنّ التقية المداراتية لا تجوز في غير الصلاة؛ نظرا إلي نصوصها الخاصّة.

التقية الإكراهية

و هي الّتي يستعملها الشخص عند الإكراه؛ بأن يتّقي من الغير؛ خوفا من تهديده بضرب أو قتل أو هتك عرض أو إضرار. فإنّ

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 134

الإكراه هو تهديد الغير و توعيده بشي ء من ذلك. و عليه فالتقية الإكراهية إنّما تتحقّق عند الإكراه بالتهديد و التوعيد؛ حذرا من توجّه الصدمة و الضرر و خوفا من تحقّق توعيد الغير؛ بإيذائه و إضراره، بل ضربه و قتله، أو هتك حرمته، أو فعل شي ء من ذلك بأهله و عياله و أولاده و أبويه و ساير أقاربه.

قال الشيخ الأنصاري: «إنّ حقيقة الإكراه لغة و عرفا حمل الغير علي ما يكرهه، و يعتبر في وقوع الفعل من ذلك الحمل اقترانه بوعيد منه مظنون الترتّب علي ترك ذلك الفعل، مضرّ بحال الفاعل أو متعلّقه نفسا أو عرضا أو مالا». «1»

و قال في التنبيه الثاني من تنبيهات الإكراه: «إن الإكراه يتحقّق بالتوعّد بالضرر علي ترك المكره عليه ضررا متعلّقا بنفسه أو ماله أو عرضه أو بأهله ممّن يكون ضرره راجعا إلي تضرّره و تألّمه». «2» و لا يخفي أنّ لفظ الإكراه و الاستكراه في النصوص بمعني واحد.

مناقشة السيّد الإمام الراحل قدّس سرّه و جوابه عنها

و قد ناقش السيّد الإمام الراحل في اتّصاف التقية بالإكراهية، بل في أصل جعل التقية في موارد الإكراه، بقوله: «إنّ عنوان الإكراه غير عنوان التقية كما يظهر من الأخبار: فإنّ التقية عبارة عن الاحتراز و التجنّب عن شرّ قوم مخالف للمذهب، بإتيان أعمال توافق مذهبهم، من غير أن أكرهوه علي إتيانها و أوعدوه علي تركها- إلي أن قال- و يظهر من جملة من الروايات أنّ التقية مقابل الإذاعة، «3» و هي أيضا بوجه داخلة في التفسير، فإنّها عبارة عن كتمان

المذهب خوفا و تجنّبا من المخالف.

______________________________

(1) كتاب المكاسب: ص 119، كتاب البيع: في مسألة ذكر الاختيار من شرائط المتعاقدين.

(2) المصدر: ص 58، المسألة السادسة و العشرون، التنبيه الثاني من تنبيهات الإكراه.

(3) وسائل الشيعة: ج 11، ص 483، الباب 32 من أبواب الأمر و النهي، الأحاديث: 1 و 4 و 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 135

و أمّا الإكراه فعبارة عن تحميل الغير عملا و إيعاده علي تركه بما يلجئه إلي العمل، أو الإيعاد علي فعل شي ء بما يلجئه علي تركه.

و أيضا التقية واجبة حسب الأدلّة الكثيرة و راجحة في بعض الموارد، «1» و دليل الإكراه رافع للحكم، «2» فمقتضي دليل الرفع رفع الحرمة أو الوجوب عمّا أكره عليه، لا جعل الوجوب أو الاستحباب لفعله أو تركه. و مقتضي دليل التقيّة جعل الحكم لا نفيه.

و أيضا ظاهر أدلّة التقية أنّها شرّعت لحفظ دماء الشيعة و أعراضهم و أموالهم من غير خصوصية للمتّقي، و دليل الرفع منّة علي المكره و لوحظ فيه حفظ نفسه و عرضه و ماله.

فبعد كونهما عنوانين مختلفين موضوعا و حكما و موردا و غاية، لا وجه لتسرية الحكم من التقية إلي الإكراه، بل ظاهر قوله: «إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم …» «3» أنّ تشريعها لحفظ الدم، سواء كان دم المتّقي أو غيره من أفراد الشيعة، فاذا بلغت الدم، أي صارت موجبة لإراقة ما شرّعت لأجله، فلا تقيّة.

و أمّا نفي الإكراه لمّا شرّع لحفظ مصلحة خصوص المكره، فلا يكون بلوغه دم غيره مخالفا لتشريعه، فحينئذ يكون هذا الحكم مختصّا بالتقية، و بقي دليل نفي ما اكرهوا علي عمومه. و دعوي إلغاء الخصوصية ممنوعة، بل لا مورد لها، لأنّ خصوصية ما

اكره تخالف خصوصيّة التقيّة، فإنّ في مورد الإكراه توجّه الشرّ إلي الغير و يكون المكره وسيلة و آلة للمكره و مورد التقية ليس كذلك نوعا.

و أيضا جعل التقية لحفظ مطلق دم الشيعة، و رفع ما أكره لحفظ خصوص

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة: ج 11، ص 459، الباب 24 و ما بعده من أبواب الأمر و النهي.

(2) وسائل الشيعة: ج 11، ص 295، الباب 56، من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه.

(3) راجع وسائل الشيعة: ج 11، ص 483، الباب 31 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 136

المكره، فكيف يمكن أن يقال بإلغاء الخصوصية عرفا أو يدّعي وحدة المناط أو يدّعي أنّ سلب التقية في الدماء لأهميّتها فلا فرق بين البابين؟». «1»

ثمّ إنّه قدّس سرّه قد أجاب عن هذه المناقشة بما حاصله: أنّ التقية أعمّ مفهوما من الإكراه و أنّ التقية الإكراهية من مصاديق التقية، و استشهد لذلك ببعض النصوص.

مقتضي التحقيق في المقام

مقتضي التحقيق أنّ الكلام تارة: في أنّه هل تتحقّق شرائط التقية في مورد الإكراه أم لا.

و اخري: تغاير عنواني التقية و الإكراه مفهوما، و المغايرة و الاختلاف في نطاق أدلّتهما تبعا لتغاير عنوانهما.

أمّا الجهة الأولي: فلا إشكال في تحقّق شرائط التقية في مورد الإكراه و أنّ التقية الإكراهية من أقسام التقية؛ لما دلّ علي ذلك نصوص من الكتاب و السنّة، قوله تعالي: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ. «2» و قوله تعالي: يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ «3» في تقية مؤمن آل فرعون؛ حيث كانت بعد توعيد فرعون بالعذاب كما جاء في الآية.

و قد بحثنا عن هاتين الآيتين و مفادهما في بيان مدرك القاعدة، فراجع.

و ممّا يشهد لذلك ما ورد

من النصوص المفسّرة، مثل رواية محمّد بن مروان قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما منع ميثم رحمه اللّه من التقية؟ فو اللّه لقد علم أنّ هذه الآية نزلت في عمّار و أصحابه: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ». «4»

و صحيحة بكر بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ التقية ترس المؤمن، و لا ايمان لمن لا تقية له، فقلت له: جعلت فداك قول اللّه تبارك و تعالي: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة/ للإمام الخميني قدّس سرّه: ج 2، ص 223- 226.

(2) النحل: 106.

(3) الغافر: 28.

(4) وسائل الشيعة: ج 11 ب 29 من أبواب الأمر و النهي، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 137

بِالْإِيمٰانِ قال: و هل التقية إلّا هذا؟». «1»

و بعد صراحة مثل هذه النصوص في مشروعية التقية في موارد الإكراه، لا مجال للمناقشة في ذلك، فلا حاجة إلي الإطناب في الجواب عن المناقشة المزبورة.

أمّا الجهة الثانية: فلا إشكال في تغاير عنوانهما مفهوما. نعم مفهوم التقية أعمّ مطلقا من التقية الإكراهية؛ لأنّها من مصاديق مفهوم عنوان التقية، كما لا يخفي.

التقية في مقام الإفتاء و القضاء

و هي أن يفتي الفقيه الشيعي بخلاف مذهب الحقّ أو يحكم الحاكم بخلافه لإحدي الجهات الّتي لأجلها شرّعت التقية.

و لا يخفي أنّها لا تجوز في مقام الفتوي أو الحكم لغرض دفع الضرر عن النفس، إذا كانت موجبة للخوف علي نفوس المؤمنين أو أعراضهم أو أموالهم، أو مورثة للبدعة و إضلال الناس أو وهن المذهب.

و أمّا دعوي حرمة التقية في مقام الإفتاء و الحكم مطلقا في جميع الموارد بزعم دلالة مثل قوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ،

فغير وجيهة.

و ذلك لأنّ الإفتاء و القضاء حينئذ كأيّ حرام بعنوانه الأوّلي يتغيّر حكمه الأوّلي بالتقية عند تحقّق شرائطها. نعم إذا كان ما يترتّب عليهما من المحذور أهمّ و أعظم خطرا عند الشارع ممّا يترتّب من المصلحة علي تركها بالتقية، لا تجوز التقية فيهما قطعا، هذا مقتضي القاعدة.

و يشهد لما قلناه ما صدر من أئمّتنا المعصومين عليهم السّلام من الفتوي علي خلاف الحكم الأوّلي الواقعي في مقام التقية. فإذا حصل للفقيه ما كان حاصلا لهم عليهم السّلام من الشرائط المجوّزة، يجوز له أيضا الإفتاء علي خلاف الحكم الأوّلي عن تقية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 29 من أبواب الأمر و النهي، ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 138

و يشهد ذلك بالخصوص صحيحة أبان بن تغلب، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

إني أقعد في المسجد فيجي ء الناس فيسألوني فإن لم اجبهم لم يقبلوا منّي، و أكره أن أجيبهم بقولكم و ما جاء عنكم. فقال عليه السّلام لي: انظر ما علمت أنّه من قولهم، فأخبرهم بذلك». «1»

و خبر معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت: نعم، و أردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إنّي أقعد في المسجد فيجي ء الرجل فيسألني عن الشي ء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. و يجي ء الرجل أعرفه بمودّتكم، فاخبره بما جاء عنكم. و يجي ء الرجل لا أعرفه و لا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا و جاء عن فلان كذا، فادخل قولكم فيما بين ذلك، قال: فقال لي: اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع». «2»

و قد عقد صاحب وسائل الشيعة عنوان

هذا الباب بقوله: «باب وجوب التقية في الفتوي مع الضرورة». «3»

حيث إنّه لا فرق بين الموردين بعد حصول ملاك جواز التقية في الإفتاء و توفّر شرائطها. فما يظهر من بعض المحقّقين «4» اتّضح بهذا البيان عدم وجاهته.

و كذلك الكلام بعينه في إنشاء الحكم بخلاف الحقّ، بلا فرق بينه و بين الفتوي.

نعم كثير من المحاذير و المضارّ المترتّبة علي ترك التقية- المجوّزة لها في غير الفتوي و الحكم- لا تصلح لتجويز التقية فيهما؛ نظرا إلي شدّة مبغوضية الفتوي و الحكم بخلاف الحقّ في نظر الشارع؛ لما فيه من تحريف الدين و إضلال الناس، كما قال تعالي: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ و وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ و وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ. «5»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 30 من أبواب الأمر و النهي، ح 1.

(2) المصدر: ح 2.

(3) وسائل الشيعة: ج 11 ب 30 من أبواب الأمر و النهي.

(4) القواعد الفقهية/ للمحقّق البجنوردي: ج 5، ص 79.

(5) المائدة: 44 و 50 و 52.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 139

عناوين اخري للتقية جزئية أو تكرارية

و لا يخفي أنّه ذكر للتقية أقسام اخري، كانقسامها إلي التقية المداراتية المشروعية لحفظ شئون الشيعة و شعائر المذهب و دفع ما يوجب وهنه. و التقية الكتمانية المأمور بها لعدم الإذاعة و إفشاء سرّهم عليهم السّلام كما وردت في الروايات. و في جعل الأخير قسما من أقسام التقية نظر. و ذلك لما سبق في تعريف التقية، من أخذ الكتمان في ماهيتها و مفهومها، و أنّ الكتمان يتحقّق بكلّ من الفعل و الترك.

و يصحّ التعبير بالتقية الخوفية عند

خوف أيّ ضرر و خطر نفسي أو مالي أو عرضي، راجع إلي نفس المتّقي أو أقاربه أو إخوانه المؤمنين. و قد سبق ما دلّ من النصوص الكثيرة علي أخذ خوف الضرر في مشروعية التقية.

و من أقسام التقية ما كانت التقية فيه لأجل دفع خطر متوجّه إلي الإسلام و المسلمين. بأن كان ترك التقية فيه موجبا لوهن الإسلام أو ضعف المذهب و إهانة الشعائر و هتك المحترمات أو قتل نفوس المؤمنين أو نهب أموالهم أو سلب الأمنية منهم، و نحو هذه المحاذير ممّا يتوجّه ضرره إلي المذهب و المؤمنين.

و يمكن التعبير عن هذا القسم أيضا بالتقية الخوفية؛ لما فيه من الخوف علي كيان المذهب و نفوس المؤمنين و أموالهم و فروجهم، مع عدم صدق عنوان الاضطرار عليه. و يمكن إدراجه في بعض مراتب التقية المداراتية، لكن يفترق حكمها عن ساير مراتب المداراة الدانية.

و سيأتي البحث عن حكم آحاد هذه الأقسام عند البحث عن أحكام التقية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 141

شرائط التقية و مستثنياتها

اشارة

اعتبار عدم المندوحة في التقية

تحقيق آراء فقهاء الفحول/ الجمع بين النصوص

اشتراط عدم كون التقية موجبة لإراقة الدم

اشتراط عدم فساد في الدين

موارد استثناء التقية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 143

اعتبار عدم المندوحة
اشارة

1- تحرير محل النزاع.

2- تحرير آراء الأصحاب.

3- تفصيل المحقّق الكركي.

4- مناقشة الشيخ في كلام المحقّق الكركي.

5- تحرير كلام الشيخ الأعظم./ لا يعتبر تبديل موضوع التقية./ تحقيق نصوص اعتبار عدم المندوحة في كلام الشيخ.

6- نقد كلام الشيخ الاعظم و مقتضي التحقيق في المقام/ نظرة إلي النصوص.

7- نقد كلام السيّد البجنوردي و تقوية كلام السيّد الإمام قدّس سرّه.

تحرير محلّ النزاع

وقع الكلام في أنّه هل يعتبر في مشروعية التقية مطلقا و في إجزائها في العبادات عدم المندوحة أم لا؟

فذهب جماعة إلي اعتبار عدمها، و آخرون إلي عدم اعتبار ذلك، و في المقام تفاصيل يأتي بيانها في خلال البحث.

و لفظ المندوحة في اللغة بمعني السعة و الفسحة و التمكّن.

قال الخليل (المتوفي: 175 هق) في كتاب العين: النّدح: السعة و الفسحة،

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 144

تقول: إنّه لفي ندحة من الأمر و مندوحة منه.

و قال الجوهري (المتوفّي: 393 ه. ق) في الصحاح: ولي عن هذا الأمر مندوحة و منتدح؛ أي سعة.

و المراد من المندوحة تمكّن المكلّف من الإتيان بالمأمور به الواقعي- تامّ الأجزاء الشرائط المطابق للمذهب الحقّ-؛ إمّا في حين التقية، أو بعدها في داخل الوقت مع التأخير، أو بتغيير المكان، بأن يأتي به في مكان مأمون خال عن الخطر.

و النزاع إنّما وقع في اعتبار عدم تمكّن المكلّف من ذلك في مشروعية التقية.

و إنّ للشيخ الأنصاري تحقيقا جامعا في المقام ينبغي تحرير مرامه و بيان ظرائف نكاته؛ لما فيه من النفع لتحقيق هذا المطلب.

و إليك بيانه في ضمن العناوين التالية:

تحرير آراء الأصحاب

ذهب جمع من الأصحاب إلي اعتبار عدم المندوحة في جريان قاعدة التقية، كصاحب المدارك. «1»

و خالف ذلك جماعة، فاختاروا عدم اعتباره، كالشهيدين في البيان و الروض. «2» و المحقّق الثاني في جامع المقاصد «3».

و فصّل ثالث بين ما ورد فيه الإذن بالتقية بخصوصه، كغسل الرجلين في الوضوء و التكتّف في الصلاة، و بين ما لم يرد فيه نصّ يدلّ علي مشروعية التقية فيه بالخصوص، كفعل الصلاة إلي غير جهة القبلة و الوضوء بالنبيذ أو مع الإخلال بالموالاة بحيث يجفّ مواضع الوضوء.

______________________________

(1) مدارك الأحكام:

ج 1، ص 223.

(2) البيان: ص 48 و روض الجنان: ص 37.

(3) جامع المقاصد: ج 1، ص 222.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 145

فعلي الأوّل لا يعتبر عدم المندوحة في مشروعية التقية، بل هي مشروعة و مجزئة في العبادات حينئذ حتّي مع المندوحة.

و علي الثاني يعتبر في مشروعيتها و إجزائها عدم المندوحة، فلا تجوز و لا تجزي معها، فيجب حينئذ علي المكلّف الإعادة في الوقت لو أمكن له ذلك.

و إذا خرج الوقت، فوجوب قضائه تابع لدليله؛ لأنّ القضاء فرض جديد.

تفصيل المحقق الكركي

هذا التفصيل ذهب إليه المحقّق الكركي في المقام. «1»

و قال الشيخ الأعظم الأنصاري في توضيح كلامه ما حاصله:

أنّ ظاهر قوله: «لا تجب الإعادة، و لو تمكّن منها علي غير وجه التقية قبل خروج الوقت» اعتبار عدم التمكّن من فعل الواجب علي وجه غير التقية حين العمل.

و عليه فمن تمكّن منه حينه بالذهاب إلي مكان الأمن يجب عليه فعله طبق مذهب الحقّ. فمعني قوله في صدر كلامه: «و إن كان للمكلّف مندوحة عن فعله» ثبوتها في آخر الوقت بعد ارتفاع التقية، لا حين العمل.

______________________________

(1) رسائل المحقق الكركي: ج 2، ص 52. قال قدّس سرّه: «إنّ التقية قد تكون في العبادات، و قد تكون في غيرها من المعاملات، و ربما كان متعلقها مأذونا فيه بخصوصه كغسل الرجلين في الوضوء، و التكتّف في الصلاة. و قد لا يكون مأذونا فيه بخصوصه، بل جواز التقية فيه مستفاد من العمومات السالفة و نحوها.

فما ورد فيه نصّ بخصوصه إذا فعل علي الوجه المأذون فيه، كان صحيحا مجزيا، سواء كان للمكلّف مندوحة عن فعله كذلك أم لم يكن؛ التفاتا إلي أنّ الشارع أقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين

التقية، فكان الإتيان به امتثالا فيقضي الإجزاء. و علي هذا فلا تجب الإعادة و لو تمكّن منها علي غير وجه التقية قبل خروج الوقت، و لا أعلم في ذلك خلافا بين الأصحاب.

و ما لم يرد فيه نصّ بخصوصه كفعل الصلاة إلي غير القبلة، و بالوضوء بالنبيذ و مع الإخلال بالموالاة بحيث يجف البلل كما يراه بعض العامّة، و نكاح الحليلة مع تخلل الفاصل بين الإيجاب و القبول، فإنّ المكلّف يجب عليه إذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف فيه، إظهار الموافقة لهم».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 146

مناقشة الشيخ الأعظم في كلام المحقّق الكركي

و قد ناقش في كلامه الشيخ الأعظم قدّس سرّه؛

أوّلا: بما حاصله: أنّ كلامه يرجع في الحقيقة إلي القول باعتبار عدم المندوحة علي الإطلاق، كصاحب المدارك؛ إذ ليس مقصود صاحب المدارك من قوله باعتبار عدم المندوحة عدمها في مجموع الوقت، بل مقصوده اعتبار عدمها حين العمل و إن كانت حاصلة إلي آخر الوقت.

و إلّا فالقول باعتبار عدمها في جميع الوقت لم يقل به أحد من الأصحاب ظاهرا؛ لما سيجي ء من أنّه مخالف لظاهر نصوص التقية، بل لصريح بعضها.

و عليه فمن تمكّن من الصلاة في بيته مغلقا عليه الباب لا يجب عليه ذلك، بل يجوز له الصلاة في السوق و دكّانه بمحضر المخالفين.

هذا تحرير المناقشة الأولي للشيخ في كلام المحقّق الكركي علي ما أفاده الشيخ الأعظم قدّس سرّه «1».

و قد عرفت أنّ حاصل هذا البيان إرجاع كلام المحقّق الكركي في الحقيقة إلي اعتبار عدم المندوحة حين العمل في مشروعية التقية مطلقا بزعم أنّ اعتبار عدمها في تمام الوقت ممّا لم يقل به أحد من الأصحاب.

و لكن يرد علي الشيخ الأعظم الأنصاري أنّ الّذي يفهم من كلام المحقّق

الكركي- صدرا و ذيلا- اختصاص ذلك بما ورد فيه نصّ خاصّ، و اعتبار عدمها في تمام الوقت و استيعاب الاضطرار في مشروعيتها فيما لم يرد فيه نصّ خاص. فإن قوله: «و لو تمكّن منها …» بيان لنفي اعتبار عدم المندوحة في مطلق الوقت، لا من بعد زمان العمل إلي خروج وقت الواجب خاصّة.

و قوله: «قيل خروج الوقت» بيان أمد المندوحة. و المقصود إخراج المندوحة بعد خروج الوقت عن محلّ الكلام، كما هو كذلك.

______________________________

(1) رسالة التقية للشيخ الأنصاري: ص 22- 21.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 147

و ناقش ثانيا بما حاصله:

انّه إن أراد من عدم ورود نصّ بالخصوص عدم نصّ دالّ علي مشروعية الإتيان بالواجب علي وجه التقية، ففيه: أنّه بعد توفّر شرائط التقية و شمول عموماتها، لا دليل علي مشروعية امتثال الأمر المتعلّق بالواجب الواقعي؛ لأنّ التحفّظ عن الضرر لو توقّف علي ترك ذلك الواجب رأسا- بأن يترك الصلاة في حال التقية- يجب تركه. و لا يشرع الدخول في العمل المخالف للواقع تقية بعد فرض تأدّي التقية بترك الواجب الواقعي رأسا. و إن فرضنا أنّ التقية ألجأته إلي فعل ما يخالف الواقع لتوقّفها عليه، فيكون فعل ذلك واجبا و مجزيا لعمومات التقية، من دون دخل للأمر الأوّلي المتعلّق بالواجب الواقعي.

و إن أراد به عدم النص الدالّ علي مشروعية العمل المطابق للتقية بالخصوص، مع فرض وجود عمومات التقية، ففيه أنّ عمومات التقية كما تدلّ علي مشروعية أصل التقية في العبادات، كذلك تدل علي إجزاء المأتيّ به عن تقية، من غير حاجة إلي نصّ يدلّ علي ذلك بالخصوص.

و حاصل كلام الشيخ الأعظم في هذه المناقشة أنّه لا وجه لتفصيل المحقّق الثاني بين ما ورد

فيه نصّ خاصّ دالّ علي جواز التقية فيه بالخصوص و بين غيره ممّا هو داخل في عمومات التقية. فإنّ هذه العمومات كافية لإثبات مشروعية موارد التقية و إجزاء الفعل المطابق للتقية، من دون حاجة إلي النصّ الخاصّ.

و فيه: أنّ موضوع التقية في النصوص العامّة هو المضطرّ كما يظهر من قوله عليه السّلام: «التقية في كلّ شي ء اضطرّ إليه ابن آدم» و نحوه من العمومات. و الاضطرار إذا صدق حين العمل يتحقّق موضوع التقية، لا بعده.

و أمّا النصوص الخاصّة فموضوع التقية فيها نفس عنوان العمل كغسل الرجلين حين الوضوء و التكتّف، دون الاضطرار لينصرف إلي حين العمل.

و لكن الّذي يردّ هذا التفصيل أنّ المستفاد من النصوص الخاصّة أيضا

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 148

اشتراط خوف الضرر و الاضطرار في مشروعية التقية و وجوبها في الموارد الخاصّة. و إنّما العامّ المزبور حاكم علي النصوص الخاصّة بتفسير موضوع التقية و تعميمها إلي خصوص مورد الاضطرار. فهذه النصوص مضيقة لموضوع الأدلّة الخاصّة بزمان الاضطرار، و هو حين العمل.

رأي الشيخ الأعظم قدّس سرّه: اعتبار عدم المندوحة حين العمل

حاصل كلام الشيخ «1» في المقام يمكن تلخيصه في ثلاث نكات؛ الاولي: اعتبار عدم المندوحة حين العمل؛ بمعني عدم

______________________________

(1) قال قدّس سرّه: ثمّ إنّ الّذي يقوي في النظر في أصل مسألة اعتبار عدم المندوحة: أنّه إن اريد عدم المندوحة بمعني عدم التمكن حين العمل من الإتيان به موافقا للواقع، مثل أنّه يمكنه عند إرادة التكفير للتقية من الفصل بين يديه؛ بأن لا يضع بطن إحداهما علي ظهر الاخري بل يقارب بينهما، كما إذا تمكّن من صبّه الماء من الكفّ إلي المرافق لكنّه ينوي الغسل عند رجوعه من المرفق إلي الكفّ؛ وجب ذلك و لم يجز العمل علي وجه

التقية بل التقية علي هذا الوجه غير جائزة في غير العبادات أيضا، و كأنّه مما لا خلاف فيه.

و إن اريد به عدم التمكن من العمل علي طبق الواقع في مجموع الوقت المضروب لذلك العمل، حتي لا يصح العمل تقيّة إلّا لمن لم يتمكن في مجموع الوقت من الذهاب إلي موضع مأمون، فالظاهر عدم اعتباره؛ لأنّ حمل أخبار الإذن في التقية في الوضوء و الصلاة علي صورة عدم التمكن من اتيان الحق في مجموع الوقت مما يأباه ظاهرها أكثرها، بل صريح بعضها، و لا يبعد- أيضا- كونه وفاقيا.

و إن اريد عدم المندوحة حين العمل من تبديل موضوع التقيّة بموضوع الأمن، كأن يكون في سوقهم و مساجدهم، و لا يتمكن في ذلك الحين من العمل علي طبق الواقع إلّا بالخروج إلي مكان خال، أو التحيّل في إزعاج من يتقي منه عن مكانه، لئلا يراه فالأظهر في أخبار التقية عدم اعتباره؛ إذ الظاهر منها الإذن بالعمل علي التقية في أفعالهم المتعارفة من دون إلزامهم بترك ما يريدون فعله بحسب مقاصدهم العرفية، أو فعل ما يجب تركه كذلك، مع لزوم الحرج العظيم في ترك مقاصدهم و مشاغلهم لأجل فعل الحقّ بقدر الإمكان، مع أنّ التقية إنّما شرّعت تسهيلا للأمر علي الشيعة و رفعا للحرج عنهم، مع أنّ التخفّي عن المخالفين في الأعمال ربّما يؤدّي إلي اطّلاعهم علي ذلك فيصير سيبا لتفقدهم و مراقبتهم للشيعة وقت العمل فيوجب نقض غرض التقيّة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 149

التمكن حينه من الإتيان بالعمل موافقا للواقع.

و عليه فمن لم تمكّن حين العمل من الفصل بين يديه؛ بأن يقارب بينهما، من دون أن يضع بطن إحداهما علي ظهر الاخري في الصلاة،

أو تمكّن من نيّة غسل اليد حينما يرجع الماء من المرفق إلي الكف عكس في صبّ الماء تقية، يجب عليه الفصل في التكفير و نية غسل اليد من الأعلي إلي الأسفل في الوضوء، و لا يجوز له التقية فيهما حينئذ؛ نظرا إلي وجود المندوحة حين العمل. و هذا بخلاف ما إذا لم يتمكّن من ذلك حين صلاته و وضوئه، فالتقية مشروعة له حينئذ، و إن احتمل التمكّن بعد مضيّ العمل من ذلك، فلا يجب عليه أن يؤخّر العمل و يترقّب حتّي ييأس من حصول المندوحة إلي آخر الوقت.

الثانية: أنّه لا يعتبر عدم المندوحة في مجموع الوقت المضروب للعمل، بأن لم يتمكّن المتقي من الإتيان بالواجب الواقعي في تمام الوقت، بل يكفي عدم التمكّن منه في بعض الوقت- أي حينما أراد العمل- في مشروعية التقية. و ذلك لأنّ حمل نصوص التقية علي صورة عدم التمكّن من الإتيان بما يوافق المذهب في تمام الوقت مخالف لظاهر أكثر نصوص المقام.

و لا يخفي أنّ اعتبار عدم المندوحة في تمام الوقت عبارة اخري عن اعتبار عدمها حين العمل، أو لازم ذلك و أمّا ذكرهما في كلام الشيخ في شرطيتين مستقلّتين فهو في الحقيقة تفنّن في العبارة.

لا يعتبر تبديل موضوع التقية

الثالثة: أنّه لا يعتبر عدم المندوحة من تبديل موضوع التقية حين العمل؛ بأن لم يتمكّن حينه من الخروج إلي مكان أمن خال عن الخوف و الخطر. فلا يعتبر ذلك؛ بمعني أنّ التقية مشروعة و إن تمكّن من التبديل.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 150

و ذلك لأنّ اعتبار ذلك مخالف لظاهر أخبار التقية؛ إذ الظاهر منها جواز العمل المطابق للتقية حسب ما يقتضيه المتعارف من عادتهم و مشاغلهم، بلا تحمّل للحرج و

المشقّة؛ نظرا إلي تشريع التقية علي أساس تسهيل الأمر للشيعة و رفع الحرج عنهم. و من اعتبار ذلك ربّما يلزم الحرج و المشقّة و ينقض به الغرض من تشريع التقية؛ حيث إنّ تبديل موضوع التقية بالخروج و التحيّز إلي مكان الخلوة و الأمن ربّما يؤدّي إلي اطّلاعهم علي ذلك، فيصير سببا لتفقّدهم و مراقبتهم للشيعة وقت العمل، و ينجرّ ذلك بالمآل إلي ما شرّعت التقية لأجل الفرار عنه، فيوجب نقض غرض التقية.

تحقيق الشيخ في نصوص المقام

ثمّ قال الشيخ الأعظم ما لفظه: «نعم في بعض الأخبار ما يدلّ علي اعتبار عدم المندوحة في ذلك الجزء من الوقت و عدم التمكّن من دفع موضوع التقية.

مثل: رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن إبراهيم بن شيبة قال: كتبت إلي أبي جعفر الثاني عليه السّلام أسأله عن الصلاة خلف من يتولّي أمير المؤمنين و هو يري المسح علي الخفّين، أو خلف من يحرّم المسح علي الخفّين و هو يمسح، فكتب عليه السّلام: إن جامعك و إيّاهم موضع لا تجد بدّا من الصلاة معهم، فأذّن لنفسك و أقم، فان سبقك إلي القراءة فسبّح «1» فإنّ ظاهرها اعتبار تعذّر ترك الصلاة معهم. «2»

و نحوها ما عن الفقه الرضوي من المرسل، عن العالم عليه السّلام قال: و لا تصلّ خلف أحد إلّا خلف رجلين: أحدهما من تثق به و بدينه «3» و ورعه، و آخر من تتقي

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5، ص 427، الباب 33 من أبواب الصلاة الجماعة، الحديث 2.

(2) فلا إشكال في دلالتها علي المطلوب، و لكن سندها ضعيف بإبراهيم بن شيبة؛ إذ لم يوثق و إلّا باقي رجال الحديث من الأجلّاء و الموثّقين.

(3) في المصدر و تدينه.

مباني الفقه الفعال في القواعد

الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 151

سيفه و سوطه و شرّه و بوائقه و شيعته «1»، فصلّ خلفه علي سبيل التقية و المداراة، و أذّن لنفسك و أقم و اقرأ فيه، فانه «2» غير مؤتمن به … الخ. «3»

و في رواية معمّر بن يحيي- الواردة في تخليص الأموال من أيدي العشّار-:

إنّه كلّما خاف المؤمن علي نفسه فيه ضرورة، فله فيه التقية. «4»

و عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام: لا تصلّوا خلف ناصب و لا كرامة، «5» إلّا أن تخافوا علي أنفسكم أن تشهروا و يشار إليكم، فصلّوا في بيوتكم ثمّ صلّوا معهم، و اجعلوا صلاتكم معهم تطوّعا. «6»

و يؤيّده العمومات الدالّة علي أنّ التقية في كلّ شي ء يضطرّ إليه ابن آدم، «7» فإنّ ظاهرها حصر التقية في حال الاضطرار، و لا يصدق الاضطرار مع التمكّن من تبديل موضوع التقية بالذهاب إلي موضع الأمن، مع التمكّن و عدم الحرج.

نعم، لو لزم من التزام ذلك حرج أو ضيق من تفقّد المخالفين و ظهور حاله في مخالفتهم سرّا، فهذا- أيضا- داخل في الاضطرار.

و بالجملة: فمراعاة عدم المندوحة في الجزء من الزمان الّذي يوقع فيه الفعل أقوي، مع أنّه أحوط.

______________________________

(1) في المصدر: و شنعه و في «ع» و شنيعته.

(2) في المصدر: لأنه.

(3) الفقه الرضوي: ص 144- 145 و عنه في المستدرك: ج 6، ص 481 و فيه: و شنعته.

و قوله بواثقه: جمع الباثق؛ أي ما يوجب الجرح، و هو كناية عن الضرب.

(4) وسائل الشيعة: ج 16، ص 136، الباب 12 من كتاب الأيمان، الحديث 16 و ب 25، من أبواب الأمر و النهي، ح 1.

(5) في «ن» و «ش» و «ع»: كرامية. و هم فرقة من المشبّهة، أصحاب

أبي عبد اللّه، محمد بن كرام، انظر: الملل و النحل: ج 2، ص 99.

(6) دعائم الإسلام: ج 1، ص 151.

(7) كما في صحيح زرارة و إسماعيل الجعفي، رواه في وسائل الشيعة: ج 11، ص 468، الباب 25 من أبواب الأمر و النهي، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 152

نعم، تأخير الفعل عن أوّل وقته لتحقّق الأمن و ارتفاع الخوف ممّا لا دليل عليه، بل الأخبار بين ظاهر و صريح في خلافه، كما تقدّم». «1» انتهي كلام الشيخ الأعظم.

نقد كلام الشيخ الأعظم

حاصل إشكال الشيخ علي تفصيل المحقّق الثاني أنّ ملاك مشروعية التقية تحقّق موضوعها و شرائطها، فإذا تحقّق ذلك في مورد يدخل في نطاق أدلّة التقية من غير فرق بين ورود الإذن بالخصوص و بين عدم وروده، ممّا لم يرد فيه- غير إطلاقات التقية- نصّ بالخصوص. و أنّ الظاهر من الأدلّة كفاية عدم المندوحة حين العمل مطلقا و لو لم يرد فيه نصّ خاصّ.

و فيه: أنّ إطلاقات التقية لمّا اخذ في موضوعها الاضطرار و الضرورة و الإكراه و الخوف علي النفس، لا تشمل ما لم يتحقّق فيه واحد هذه العناوين.

و من الواضح عدم صدقها فيما لو كان المكلّف متمكّنا بإتيان الواجب علي غير وجه التقية بالتأخير أو بتعويض المكان. و قد سبق ذكر هذه الاطلاقات في مطاوي البحوث السابقة و لا سيّما في أقسام التقية.

و هذا بخلاف النصوص الخاصّة الدالّة بإطلاقها علي مشروعية التقية مطلقا، مثل ما ورد منها في الصلاة مع المخالفين؛ حيث قد يقال: إنّه لم يؤخذ في موضوعها واحد من العناوين المذكورة. و من هنا تدلّ هذه النصوص علي مشروعية التقية في الصلاة مع المخالفين مطلقا، سواء وجدت مندوحة أم لا.

نعم

موضوع هذه النصوص هو التقية المداراتية، إلّا أنّها تدلّ بإطلاقها علي مشروعية التقية المداراتية مطلقا، حتّي مع المندوحة حين العمل فضلا عمّا

______________________________

(1) رسالة التقية/ للشيخ الأعظم: ص 26- 27.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 153

بعده. ففي هذه الصورة أيضا يكون ما ذهب إليه الشيخ مخالفا لظاهر أخبار التقية المداراتية. فلا يمكن موافقة الشيخ مطلقا.

مقتضي التحقيق في المقام

مقتضي التحقيق: التفصيل في اعتبار عدم المندوحة بين التقية الاضطرارية و الخوفية و بين التقية المداراتية.

و ذلك لأنّ الّذي يقتضيه التأمّل أنّ الدليل علي اعتبار عدم المندوحة في التقية الاضطرارية و الخوفية، دوران تحقّق مناط التقية و ملاك تشريعها مدار عدم وجود المندوحة.

و ذلك لانتفاء ملاك الاضطرار و الضرورة في صورة وجود المندوحة و تمكّن المكلّف من الاتيان بالمأمور به الواقعي- المطابق لمذهب الحق- حين التقية أو في الزمان اللّاحق المتأخّر عن زمانها، أو بتبديل مكانه إلي مكان أمن؛ نظرا إلي تمكّن المكلّف حينئذ من رفع الاضطرار بالتأخير في زمان فعل المأمور به، أو بتغيير مكان فعله. و كذلك الكلام في ملاك الخوف، فيمكن إزالته بذلك.

إلّا في صورة استيعاب الاضطرار أو الخوف لتمام الوقت أو لجميع الأمكنة الممكن فيها الإتيان بالمأمور به؛ بمعني توقّف رفع الاضطرار و الخوف علي موافقة المخالف في زمان أو مكان خاصّ فلا إشكال حينئذ في مشروعية التقية الاضطرارية و أخواتها.

هذا، كلّه فيما إذا كان ملاك مشروعية التقية أحد عناوين الاضطرار و الإكراه و الخوف، و ذلك في غير التقية المداراتية.

و أمّا التقية المداراتية- الّتي لا دخل لواحد من العناوين المزبورة في مشروعيتها- فلا وجه للقول باشتراط عدم المندوحة في مشروعيتها.

فالأقوي في المقام التفصيل في اعتبار عدم المندوحة بين التقية المداراتية

مباني الفقه الفعال في

القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 154

و بين غيرها. فلا يشترط في مشروعية التقية المداراتية عدم المندوحة و هذا بخلاف غيرها من أقسام التقية. فيعتبر فيه عدم المندوحة حين العمل بالبيان الآتي.

بيان ذلك:

أنّه قد تقدّم منّا سابقا التفصيل في مشروعية التقية الاضطرارية بين صورة استيعاب العذر و بأن لم يتمكّن المكلّف من ترك التقية حال العمل و الإتيان بالمأمور به الواقعي في زمان آخر من الوقت المضروب له، و لا بتغيير المكان، و توقّف رفع الاضطرار علي موافقة المخالف حال العمل، فالتقية الاضطرارية حينئذ جائزة مشروعة، بل واجبة.

و بين صورة عدم استيعاب العذر؛ بأن تمكّن المكلّف من ترك التقية حين العمل و الإتيان بالمأمور به الواقعي في زمان آخر من الوقت المضروب له أو بتغيير المكان فلا يجوز التقية الاضطرارية حينئذ؛ لعدم صدق الاضطرار حينئذ، فضلا عن توقّف رفعه علي الموافقة حين العمل.

و مقتضي التفصيل المزبور اعتبار عدم المندوحة حين العمل في مشروعية التقية الاضطرارية؛ بمعني تحقّق الاضطرار حقيقة و واقعا علي النحو المطلق حين العمل بأن علم المكلّف حين العمل عدم تمكّنه من المأمور به الواقعي في غير وقت العمل. فالمراد من عدم المندوحة حين العمل ما كان بمعني استيعاب الاضطرار، لا الاضطرار في خصوص حال العمل؛ بأن تمكّن من ترك التقية و لرفع الاضطرار بإعمال الحلّية و الإتيان بالمأمور به الواقعي في ساير آنات من عدم المندوحة حين العمل. فإنّ مقصودهم اختصاص الاضطرار بحين العمل؛ بمعني تمكّن المكلّف من ترك التقية قبل الدخول في العمل و الاشتغال فيه بضرب من الحيل و الإتيان بالمأمور به الواقعي في وقت أو مكان آخر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 155

فإنّ عدم المندوحة حين العمل

بالمعني المقصود عندهم لا يكفي في مشروعية التقية الاضطرارية و الخوفية و في الحقيقة يعتبر في مشروعية التقية الخوفية و الاضطرارية عدم المندوحة من الإتيان بالمأمور به الواقعي في غير حين العمل. و الضابطة فيه توقّف رفع الاضطرار و الخوف علي التقية في وقت خاصّ؛ بأن علم عدم تمكّنه من الإتيان بالمأمور به في غير ذلك الوقت.

و السرّ في ذلك كلّه دخل عدم المندوحة في صدق عنوان الاضطرار و الخوف و الضرورة و ما شابهها من العناوين؛ ضرورة أنّه لا يقال لمن تمكّن من الإتيان بالمأمور به الواقعي في بعض الوقت المضروب له في مكان من الأمكنة، إنّه مضطرّ. فلا يتحقّق حينئذ ملاك التقية الاضطرارية. و من هنا تكون التقية مشروعة عند استيعاب العذر و توقّف رفع الاضطرار و الخوف علي موافقة العامّة في زمان أو مكان خاصّ. و لا تكون مشروعية عند عدم استيعاب العذر؛ لعدم التوقّف المزبور.

و علي هذا الأساس فلو ارتفع المحذور بمجرّد ترك الوظيفة في الزمان و المكان المخوف فيهما، من دون أن يتوقّف ارتفاعه علي ذلك، لا يجوز التقية بالفعل الموافق للعامّة، بل يجب الاتيان بها في الزمان و المكان المأمون فيهما.

و هذا بخلاف التقية المداراتية بين أهل العامّة، حيث إنّه لا دخل للعناوين المزبورة في مشروعيتها.

و أمّا النصوص الواردة في الصلاة مع المخالفين فهي ناظرة إلي التقية المداراتية، و من هنا يعتبر فيه عدم المندوحة.

و الحاصل: أنّه لا مشروعية للتقية ما دام لم يتحقّق واحد من الملاكين؛ أي الضرورة و المداراة، من جرّ مودّتهم و تحبيب قلوبهم و تقوية المذهب و الشريعة و وحدة الكلمة بين المسلمين و السدّ عن الاختلاف و التفرقة بينهم. لو لم يتحقّق

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 156

عناوين الاضطرار و الإكراه و الخوف بوجه من الوجوه، لا مشروعية للتقية.

و أمّا لو تحقّق واحد منهما تكون التقية مشروعة علي التفصيل المزبور.

نظرة إلي النصوص

و أمّا النصوص:

فمنها ما هو ناظر إلي التقية المداراتية، و منها ما هو ناظر إلي ساير أقسام التقية من الاضطرارية و الإكراهية و الخوفية. فكلّ قسم منها يدلّ علي مشروعية قسم من التقية، إلّا أنّ ما ورد منها في التقية المداراتية ينفي بإطلاقها اعتبار عدم المندوحة في مشروعيتها؛ نظرا إلي عدم دخل للمندوحة في تحقّق ملاك هذا النوع من التقية. و ذلك لأنّ جرّ مودّة العامّة و تحبيب قلوبهم و تحكيم الوحدة بين الفريقين و تقوية المذهب و الشريعة امور لا دخل لوجود المندوحة في تحقّقها و حصولها.

و هذا بخلاف ما دلّ من النصوص علي مشروعية ساير أنحاء التقية بملاك الاضطرار و الضرورة و الإكراه و الخوف علي النفس أو العرض أو المال.

لو تمكّن المكلّف من الإتيان بالمأمور به الواقعي في وقت أو مكان، تنتفي العناوين المزبورة و يرتفع، و ينتفي ملاك مشروعية التقية لا محالة.

فاتّضح ممّا بيّناه أنّ نصوص التقية علي وفق التفصيل الّذي بيّنّاه.

و أمّا النصوص- العامّة و الخاصّة- الدالّة بإطلاقها علي نفي اعتبار عدم المندوحة، فكلّها ناظرة إلي التقية المداراتية، كما أنّ الظاهرة منها في اعتبار عدم المندوحة ناظرة إلي غير المداراتية من ساير أنحاء التقية. و سيأتي بيان هذه النصوص في خلال المباحث القادمة، إن شاء اللّه.

و إنّ ما فصّلناه في المقام يمكن الجمع به بين النصوص الدالّة علي اعتبار عدم المندوحة و بين ما دلّ منها علي عدم اعتباره.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 157

نقد كلام السيّد البجنوردي و تقوية كلام السيّد الإمام

و أمّا ما يقال «1» من كون عدم المندوحة محقّقا لموضوع التقية لا شرطا فيها، فلا يرجع إلي محصّل.

و قد عرفت وجه المناقشة فيه بما بيّنّاه؛ ضرورة عدم دخل لعدم المندوحة في

التقية المداراتية، لا موضوعا و لا حكما.

و أمّا ساير أنحاء التقية فعدم المندوحة محقّق لملاك مشروعيتها الّذي هو الاضطرار و الإكراه و الخوف. و الفرق بين هذه العناوين و بين موضوع التقية واضح. فإنّ موضوع التقية هو الفعل العبادي أو المعاملي الّذي يؤتي به علي وجه التقية و أين هذا و الاضطرار و الضرورة و الخوف و الإكراه؟!

ثمّ إنّ هاهنا نكتة و هي: أنّ التقية المداراتية تختصّ بالمخالفين؛ نظرا إلي ظهور نصوصها في ذلك. كما سيأتي بيانها تفصيلا في تحقيق الصلاة مع المخالفين. و أمّا التقية الاضطرارية و الخوفية و الإكراهية، فهي أعمّ من التقية من المخالفين و غيرهم.

و بهذا البيان اتّضح وجه ما ذهب إليه السيّد الإمام الراحل «2» من التفصيل في

______________________________

(1) القواعد الفقهية: للسيد المحقق البجنوردي: ج 5، ص 73.

(2) الرسائل: ج 2، ص 203؛ حيث قال قدّس سرّه: «هذا حال ما يستفاد حكمه من دليل الاضطرار و قد عرفت اعتبار عدم المندوحة مطلقا فيجب اعمال الحيلة في التخلص عن المتقي منه و في اتيان العمل موافقا للحق بقدر المقدور فان الضرورات تتقدّر بقدرها نعم لو خاف من اعمال الحيلة افشاء سر و ورود ضرر عليه يكون ذلك أيضا من الاضطرار و الضرورة عرفا.

و أمّا ما يستفاد حكمه من ساير الأدلة الّتي تختص ظاهرا بالمخالفين فالظاهر أنّه لا يعتبر فيها عدم المندوحة مطلقا. فمن تمكن من إتيان الصلاة بغير وجه التقية، لا يجب عليه إتيانها كذلك بل الراجح اتيانها بمحضر منهم علي صفة التقية، و كذا لا يجب عليه اعمال الحيلة في ازعاج من يتقي منه عن مكانه أو تغيير مكانه من السوق أو المسجد إلي مكان امن لظهور الأدلة بل صراحة بعضها

في رجحان الحضور في جماعاتهم و أنّ الصلاة معهم كالصلاة مع رسول اللّه، و لا شك في أنّ هذه الترغيبات تنافي إعمال الحيلة و تعويق العمل، فمن سمع قول

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 158

المقام بين التقية من المخالفين و بين التقية الاضطرارية من اعتبار عدم المندوحة في التقية الاضطرارية و عدم اعتباره في التقية من المخالفين.

و السرّ في ذلك عدم دخل للاضطرار في تحقّق المداراة و من هنا لا يعتبر عدم المندوحة في التقية المداراتية، و هذا بخلاف التقية الاضطرارية و الخوفية و الإكراهية، فإنّ صدق هذه العناوين كلّها يتوقّف علي عدم وجود المندوحة.

حصيلة التحقيق

تحصّل ممّا حقّقناه في اعتبار عدم المندوحة التفصيل بين التقية المداراتية و يعتبر في غيرها، من الاضطرارية و الخوفية و الإكراهية.

أمّا وجه عدم اعتباره في المداراتية عدم دخل الضرورة و الاضطرار و الخوف في ملاك المداراة.

و أمّا وجه اعتباره في غير المداراتية فلدوران تحقّق الاضطرار و الخوف- الّذي هو معيار التقية الاضطرارية و الخوفية و ملاك تشريعها- مدار عدم وجود المندوحة.

و مقتضي ذلك اعتبار عدم المندوحة في غير المداراتية التفصيل في مشروعيته التقية؛

بين صورة استيعاب العذر، و لو في علم المكلّف حين العمل بعدم تمكّنه من الإتيان بالمأمور به الواقعي في غير وقت العمل، أو توقّف رفع الاضطرار

______________________________

أبي جعفر قدّس سرّه: «صلوا في عشائرهم مذيلا بقوله: و اللّه ما عبد اللّه بشي ء احب إليه من الخباء، لا يشك في أنّ المراودة معهم و جلب قلوبهم مطلوبة و الصلاة معهم و في عشائرهم محبوبة و من أحسن العبادات، و هي تنافي أعمال الحيلة و الانعزال عنهم في عباداته و كذا سمع قول أبي عبد اللّه قدّس سرّه في

صحيحة حماد بن عثمان: من صلي معهم في الصف الأوّل كمن صلي خلف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله يشد الرحال إلي الصلاة معهم للنيل بهذا الفوز العظيم، فهما كغيرهما من الأخبار الكثيرة المرغبة منافية لأعمال الحيلة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 159

و الضرورة علي موافقة المخالف في زمان أو مكان خاصّ، فلا إشكال حينئذ في مشروعية التقية.

و بين صورة عدم استيعاب العذر و عدم العلم به حين العمل، و عدم التوقّف المزبور، فلا يشرع التقية الاضطرارية و الخوفية حينئذ.

و لا يخفي أنّه ليس عدم المندوحة مقوّما لموضوع التقية، كما توهّم بعض، بل شرط مشروعيتها في غير المداراتية، كما يظهر من السيّد الإمام الراحل قدّس سرّه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 160

اشتراط عدم كون التقية موجبة لإراقة الدم
اشارة

1- الاستدلال بالإجماع.

2- الاستدلال بالنصوص.

3- هل المنفيّ في موارد إراقة الدم وجوب التقية؟ أو أصل مشروعيتها.

4- المراد من الدم في قوله عليه السّلام: إذا بلغت الدم …

5- الدوران بين قتل الغير و بين إيقاع النفس في الهلكة.

و يشترط في جريان قاعدة التقية عدم الخوف علي النفس المحترمة مطلقا، سواء كان نفس المتّقي أو نفوس ساير المؤمنين.

الاستدلال بالإجماع

و قد نقل الأصحاب الإجماع علي اشتراط ذلك في مشروعية التقية، كما عن ابن إدريس فإنّه قد نفي الخلاف بين الأصحاب في نفي التقية في قتل النفوس. «1» و كذا العلّامة في كتاب المنتهي في باب الأمر بالمعروف. «2»

و في الرياض الإجماع علي استثناء إنفاذ أمر الجائر في قتل المسلم، «3» و كذا

______________________________

(1) السرائر: ج 2، ص 203، كتاب المكاسب: باب عمل السلطان و أخذ جوائزهم.

(2) منتهي المطلب: ج 2، ص 994، كتاب الجهاد، البحث الثالث من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(3) رياض المسائل: ج 1، ص 510، كتاب التجارة: أواخر الفصل الأوّل، المسألة السادسة في الولاية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 161

ادّعاه الأردبيلي «1» و بقسميه في الجواهر «2»، و ادّعاه في المستند، «3» و هو ظاهر الشيخ الأنصاري «4» و هو منقول عن جماعة. «5»

و لكن هذا الإجماع مدركي؛ لدلالة النصّ علي ذلك، فلا يكون كاشفا عن رأي المعصوم تعبّدا بما هو إجماع.

الاستدلال بالنصوص

و قد دلّت علي ذلك عدّة من النصوص المعتبرة و غيرها. ففي صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس التقية.» «6»

و في موثّقة أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّما جعل التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية». «7»

و في مرسلة الصدوق في الهداية قال: قال الصادق عليه السّلام: «لو قلت: إنّ تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا، و التقية في كلّ شي ء حتّي يبلغ الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة». «8»

قوله إنّما جعلت التقية؛ أي شرّعت في أوّل تشريعها، كما أشار إليه السيّد

______________________________

(1) مجمع الفائدة

و البرهان: ج 8، ص 97، كتاب المتاجر، مبحث الولاية من قبل العادل أو الجائر، في كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: ج 7، ص 550.

(2) جواهر الكلام: ج 22، ص 169، كتاب التجارة: المسألة الرابعة في جواز الولاية.

(3) مستند الشيعة: ج 2، ص 351، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المسألة السادسة من المقصد الرابع في حرمة تولية القضاء و الحكم و نحوه عن السلطان الجائر.

(4) كتاب المكاسب: ص 57، المسألة السادسة و العشرون في بيان الولاية من قبل الجائر، في ذيل التنبيه الأوّل من تنبيهات الإكراه.

(5) مفتاح الكرامة: ج 4، ص 511.

(6) وسائل الشيعة: ج 11، ص 483، الباب 31 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(7) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(8) الجوامع الفقهية: ص 47، كتاب الهداية: باب التقية، و عنه في مستدرك وسائل الشيعة:

ج 12، ص 274، الباب 29 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 162

الإمام الراحل قدّس سرّه «1» و ذلك في قضيّة عمّار. فالحصر باعتبار مبدأ تشريعها، لا بمعني حصر جواز التقية في حقن الدم. و بذلك يرتفع التعارض المتوهّم بين هذه الطائفة و بين ساير النصوص، و يحفظ ظهور «إنّما».

و لا يخفي أنّ هذه الطائفة من النصوص بعقدها السلبي حاكمة علي عمومات التقية الاضطرارية، و تقيّد إطلاقاتها بالحكومة. و ذلك لأنّها إنّما تنفي حكم التقية بلسان نفي عنوانها و موضوعها ادّعاء و تنزيلا؛ لأنّ لسان قوله:

«لا تقية» نفي وجود التقية- الّتي هي موضوع الوجوب أو الجواز- بالدلالة الاستعمالية و لكن المراد الجدّي نفي حكمها، من الوجوب أو الجواز علي ما سيأتي البحث فيه.

هل المنفيّ عند إراقة الدم وجوب التقية؟ أو أصل مشروعيتها؟

وقع الكلام في موارد انجرار

التقية إلي إراقة الدم و قتل النفس، في أنّ المنفيّ بقوله عليه السّلام: «فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية» هل هو أصل مشروعيتها و جوازها فتكون حراما حينئذ؟ أو المرفوع وجوبها فتكون جائزة غير واجبة؟

فقد يحتمل إرادة رفع الوجوب؛ نظرا إلي أنّ المجعول في الفقرة السابقة لمّا كان وجوب التقية لحفظ النفس و حقن الدم، كما يرشد إلي ذلك قوله عليه السّلام: «إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم …» «2» فالمرفوع في الفقرة اللاحقة وجوبها؛ لانتفاء ملاك الجعل- و هو حقن الدم المعلّل به في صدر الرواية-، و لمناسبة الحكم و الموضوع.

و قد يقال برفع أصل المشروعية و الجواز. و يعلّل لذلك أيضا «3» بمناسبة

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة: ج 2، ص 224.

(2) وسائل الشيعة: ج 11 ب 31، من الأمر و النهي، ح 1 و 2.

(3) راجع المكاسب المحرّمة للسيّد الإمام الراحل: ج 2، ص 229.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 163

الحكم و الموضوع و فهم أهل العرف الساذج. و ذلك لأنّ الجملة في هذه الرواية إنّما سيقت لأهميّة الدم و حفظ النفس المحترمة و أنّها أوجبت التقية. فإذا كان حفظ النفوس و حقن الدماء بدرجة من الأهميّة و الخطورة العظيمة بحيث صار سببا لوجوب التقية، فلا محالة يكون إراقتها سببا لحرمتها؛ لأنّ في حفظ الدم كما تكون مصلحة إلزامية فكذلك في إراقتها مفسدة إلزامية. و هذا الوجه هو الملاك المشكّل لمناسبة الحكم و الموضوع في المقام و موجب للتناسب بين الفقرتين، لا الوجه السابق.

هذا مضافا إلي لزوم نقض الغرض بتجويز التقية عند ما كانت موجبة لإراقة الدم، فلا يناسب رفع الوجوب لما سيقت الرواية لأجل أهمّيته، و هو حقن الدماء و حفظ

النفوس المحترمة.

و أنت تري ما في هذا الوجه من القوّة و المتانة، و من هنا جعل السيّد الإمام الراحل «1» هذا الاحتمال أرجح و قوّاه و أيّده بفهم الأصحاب ذلك من الصحيحة المزبورة و من ساير نصوص المقام، و أشكل بذلك علي تردّد بعض المدقّقين «2»، و جعل تردّده في غير محلّه.

المراد من الدم في قوله: إذا بلغت الدم …

لا إشكال في أنّ المراد من الدم في قوله عليه السّلام: «ليحقن بها الدم، فإذا بلغت الدم فلا تقية» ليس مطلق الدماء و النفوس، بل إنّما المقصود خصوص دم النفس المحترمة ممّن كان محقون الدم.

و الوجه في ذلك أنّ من ليست نفسه محترمة عند الشارع كالكافر الحربي لا حرمة لدمه عند الشارع حتّي يأمر بحقنه. و كذا المؤمن المستحقّ للقتل حدّا

______________________________

(1) راجع المكاسب المحرّمة للسيّد الإمام الراحل: ج 2 ص 229- 230.

(2) و هو المحقق العلّامة الميرزا محمّد تقي الشيرازي في مبحث حرمة الولاية من قبل الجائر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 164

كالزاني محصنا و اللاطي. فإنّه غير محقون الدم عند الشارع؛ حيث أمر بقتله و إراقة دمه فكيف يرفع وجوب التقية و يحرّمها لغرض حقن دمه؟!

نعم إطلاق كلمات الأصحاب في المقام يقتضي عدم الفرق بين أفراد المؤمنين كما هو مقتضي إطلاق النصّ المزبور. و لعلّ لذلك استظهر الشيخ الأنصاري «1» من كلمات المشهور عدم جواز التقية في المؤمن المستحقّ للقتل حدّا، إلّا أنّ تسالم الأصحاب و إجماعهم «2» علي عدم كونه محقون الدم، يكشف عن قولهم هاهنا بجواز التقية فيه فيما إذا أوجبت إراقة دمه.

كما أنّ تظافر النصوص علي استحقاقه للقتل- كما ادّعاه في الرياض في الشرط الخامس من شرائط القصاص- و أمر الشارع فيها بقتله قرينة صارفة للنصوص-

النافية للتقية البالغة حدّ الدم- عن مثله.

الدوران بين قتل الغير و بين ايقاع النفس في الهلكة

إذا دار الأمر بين إيقاع النفس في الهلكة و بين قتل نفس محترمة مباشرة؛ بأن اكره الإنسان علي قتل غيره و علم أنّه لو لم يقتله لقتله المكره الظالم، لا ريب في لزوم ملاحظة ما هو أهمّ خطرا في نظر الشارع عند تزاحم الملاكات أو تعارضها، من المصالح و المفاسد.

و يظهر من السيّد الإمام الراحل «3» أهمّية حرمة مباشرة قتل النفس المحترمة من حرمة إيقاع النفس في الهلكة عند الشارع. فلا يجوز للمكره في مفروض الكلام قتل غيره حفظا لنفسه من الهلاك مطلقا، بلا فرق بين درجات

______________________________

(1) مكاسب الشيخ: ص 59/ المسألة السادسة و العشرون/ التنبيه الخامس من تنبيهات الإكراه.

(2) السرائر: ج 3، ص 361 و الشرائع: ج 4- 3، ص 991 و الجوامع الفقهية: ص 557.

(3) المكاسب المحرّمة للسيّد الإمام الراحل: ج 2، ص 231.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 165

الأشخاص و مراتب خطورتهم في نظر الشارع، كما هو كذلك في باب التزاحم.

و علّل ذلك بأنّ الدوران في المقام بين واجب و هو حفظ النفس عن الهلاك و بين حرام و هو قتل النفس المحترمة أو بين فعلين حرامين أحدهما: إيقاع النفس في الهلكة، و الآخر مباشرة قتل الغير ممّن له النفس المحترمة. و من المعلوم أهميّة حرمة مباشرة القتل من حرمة إلقاء النفس في التهلكة.

و قد يقال بالتخيير لتزاحم الملاكين. و مقتضي التحقيق ملاحظة الأهميّة من جهة الأشخاص. فلو كان من اكره علي قتله جماعة من المؤمنين أو قائدا دينيا أو مثله، لا إشكال حينئذ في عدم جواز مباشرة القتل؛ للقطع بأهميّته حرمة قتله من حرمة إيقاع النفس في الهلكة.

و أمّا لو كان

الأمر بالعكس؛ بأن كان المكره قائدا دينيا أو جماعة من المؤمنين و كان من أكره علي قتله أحد المؤمنين، يشكل ترجيح حرمة مباشرة القتل و الحكم بترك التقية فيما إذا ترتّبت علي إلقاء النفس في التهلكة مفاسد كثيرة شديدة يقطع بعدم رضي الشارع به، كانهزام عسكر الإسلام و إيجاد الرعب و الوحشة في المسلمين و التعرّض إلي نواميسهم بسبب هلاكة قائدهم أو أمير جيشهم و نحو ذلك.

و لكن ما دام لم تحرز أهميّة ذلك لا إشكال في عدم مشروعية التقية المستلزمة للمباشرة في قتل النفس المحترمة، فيجب تركها و لو انجرّ إلي إلقاء نفس المتّقي في التهلكة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 166

اشتراط عدم الفساد في الدين

يشترط في جريان قاعدة التقية عدم الوقوع في المحرّمات العظيمة، كمحو شعائر الدين و البدعة الموجبة لإضلال الناس و تحريف الكتاب، و بعض الفواحش، كالزنا، و لا سيّما بذات محرم و اللواط، و ارتكاب ما يوجب فساد دين المتّقي و ذهاب إيمانه و ضلالته.

و ذلك لما دلّت عليه النصوص المستفيضة الناطقة بأنّ التقية لحفظ المذهب و صيانة معارف الأئمّة عليهم السّلام عن الضياع.

كقول الصادق عليه السّلام: «اتّقوا اللّه و صونوا دينكم بالورع و قوّوه بالتقية». «1»

و قوله عليه السّلام: «اتّقوا اللّه علي دينكم فاحجبوه بالتقية …». «2»

و من الواضح أنّ التقية إذا شرّعت لصيانة الدين و حفظه و لأجل عبادة اللّه و القرب إليه، فلا تكون مشروعة إذا كانت موجبة للفساد في الدين.

و قد سبق ذكر بعض هذه النصوص في بيان مدارك هذه القاعدة. و ما دلّ بالخصوص علي عدم مشروعيتها إذا أدّت إلي الفساد في الدين، كما في موثّقة مسعدة بن صدقة أو معتبرته عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام قال: «إنّ المؤمن إذا أظهر ثمّ ظهر منه ما يدلّ علي نقضه، خرج ممّا وصف و أظهر و كان له ناقضا، و إلّا أن يدعي أنّه إنّما عمل ذلك تقية.

______________________________

(1) أمالي المفيد: ص 59.

(2) اصول الكافي: ج 2، ص 218.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 167

و مع ذلك ينظر فيه، فإن كان ليس ممّا يمكن أن تكون التقيّة في مثله، لم يقبل منه ذلك؛ لأنّ للتقية مواضع، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له. و تفسير ما يتّقي، مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم و فعلهم علي غير حكم الحقّ و فعله. فكلّ شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدّي إلي الفساد في الدين، فإنّه جائز». «1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 25 من الأمر و النهي، ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 168

موارد استثناء التقية
اشارة

1- قتل النفس المحترمة.

2- الفساد في الدين، مسح الخفّين، شرب الخمر، متعة الحجّ.

3- التبرّي من أمير المؤمنين عليه السّلام.

قتل النفس المحترمة

قد استثني مشروعية التقية في موارد، و هي ثلاثة:

منها: ما إذا اكره المتّقي علي قتل نفس محترمة. فلا يجوز فيه التقية. و قد سبق تفصيل الكلام في ذلك في بيان شرائط التقية. و حاصله: أنّ النصوص صريحة في عدم مشروعية التقية في موارد الإكراه علي إهراق الدم و قتل النفس المحترمة.

كما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية»، و نظيرها موثّقة الحسن بن عليّ ابن فضّال عن شعيب العقرقوفي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. «1»

و قد سبق نقل الإجماع في كلمات الأصحاب علي استثناء التقية في ما إذا كانت موجبه لإراقة الدم، و عدم مشروعيتها حينئذ، كما عن ابن إدريس فإنّه قد

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 31، من أبواب الأمر و النهي، ح 1 و 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 169

نفي الخلاف بين الأصحاب في نفي التقية في قتل النفوس. «1» و كذا العلّامة في كتاب المنتهي في باب الأمر بالمعروف. «2» و في الرياض الإجماع علي استثناء إنفاذ أمر الجائر في قتل المسلم، «3» و كذا ادّعاه الأردبيلي «4» و بقسميه في الجواهر «5»، و ادّعاه في المستند، «6» و هو ظاهر الشيخ الأنصاري. «7»

و قد قلنا هناك: إنّ هذا الإجماع مدركي لدلالة النصّ علي ذلك.

و أمّا فقه الحديث فقد قلنا سابقا إنّ قوله عليه السّلام: «إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم …» بمعني جعلها لذلك في أوّل تشريعها

و ذلك في قضية عمّار، فالحصر باعتبار مبدأ تشريعها كما أشار إليه السيّد الإمام الراحل قدّس سرّه. «8» فليس المقصود في هذه النصوص الحصر الحقيقي. و بذلك يندفع توهّم المعارضة بينها و ساير النصوص الدالّة علي مشروعية التقية في غير موارد حقن الدم.

الفساد في الدين مسح الخفّين، شرب الخمر، متعة الحجّ

و منها: ما لو أدّت التقية إلي الفساد في الدين، كما دلّ عليه موثّق مسعدة بن صدقة أو معتبرته عن

______________________________

(1) السرائر: ج 2، ص 203 و كتاب المكاسب: باب عمل السلطان و أخذ جوائزهم.

(2) منتهي المطلب: ج 2، ص 994، كتاب الجهاد، البحث الثالث من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(3) رياض المسائل: ج 1، ص 510، كتاب التجارة: أواخر الفصل الأوّل، المسألة السادسة في الولاية.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: ج 8، ص 97، كتاب المتاجر، مبحث الولاية من قبل العادل أو الجائر، في كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: ج 7، ص 550.

(5) جواهر الكلام: ج 22، ص 169، كتاب التجارة: المسألة الرابعة في جواز الولاية.

(6) مستند الشيعة: ج 2، ص 351، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المسألة السادسة من المقصد الرابع في حرمة تولية القضاء و الحكم و نحوه عن السلطان الجائر.

(7) كتاب المكاسب: ص 57، المسألة السادسة و العشرون في بيان الولاية من قبل الجائر، في ذيل التنبيه الأوّل من تنبيهات الإكراه.

(8) المكاسب المحرّمة: ج 2، ص 224.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 170

أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال في حديث: «فكلّ شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدّي إلي الفساد في الدين فإنّه جائز». «1»

و قد سبق في بيان شرائط التقية ذكر ما دلّ علي ذلك من النصوص بالعموم.

و منها: مسح الخفّين

و شرب المسكر و متعة الحجّ. فقد أفتي الفقهاء بعدم مشروعية التقية في المسح علي الخفّين. و دليل ذلك عدّة نصوص:

منها: صحيح زرارة قال: «قلت له في مسح الخفّين تقية؟ فقال: ثلاث لا أتقي فيهنّ أحدا: شرب المسكر، و مسح الخفّين و متعة الحجّ. قال زرارة: و لم يقل: الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحدا». «2»

و لا يخفي أنّ ذيل الحديث قول زرارة و هو استنباطه و فهمه من كلام الإمام عليه السّلام. و مقصوده أنّ قول الإمام: «لا أتّقي …» ظاهر في كون ترك التقية في الثلاث مختصّ بالإمام.

و لكن يرد علي ذلك أنّ كلامه عليه السّلام لتعليم الشيعة، فلو كانت التقية واجبة لم يتركه الإمام، و يمكن حمله علي غير موارد الاضطرار، أو إشارة إلي عدم تحقّق ملاك التقية و هو الاضطرار في الثلاث.

و منها: صحيح هشام بن سالم، عن أبي «ابن خ» عمر الأعجمي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث إنّه قال: «لا دين لمن لا تقية له، و التقية في كلّ شي ء إلّا في النبيذ و المسح علي الخفّين». «3»

و عليه فاحتمال اختصاص الاستثناء بالإمام عليه السّلام بقرينة قوله «أتّقي» و في بعض النسخ «نتّقي»، كما استظهر ذلك السيّد الخوئي «4»، مدفوع بأنّ ذلك من باب «إيّاك أعني و اسمعي يا جاره».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 25 من أبواب الأمر و النهي، ح 6.

(2) وسائل الشيعة: ج 11 باب 25 من أبواب الأمر و النهي، ح 5.

(3) المصدر: ح 3.

(4) التنقيح: ج 4، ص 260.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 171

و قد ورد في كثير من النصوص بيان الأحكام عنهم عليه السّلام بصيغة المتكلّم

مع الغير أو وحده.

التبرّي من أمير المؤمنين عليه السّلام

منها: ما إذا اكره علي التبرّي عن أمير المؤمنين عليه السّلام؛ بدليل ما ورد في عدّة من النصوص من الأمر بمدّ الأعناق و النهي عن التبرّي عن عليّ عليه السّلام لأنّه علي الفطرة.

فمن هذه النصوص خبر الميثمي قال: «سمعت ميثم النهرواني يقول: دعاني أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و قال: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعي بني أمية- عبيد اللّه بن زياد- إلي البراءة منّي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أنا و اللّه لا أبرأ منك؟ قال: إذا و اللّه يقتلك و يصلبك، قلت: أصبر فداك في اللّه قليل فقال: يا ميثم إذا تكون معي في درجتي». «1»

و منها: خبر محمّد بن ميمون، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه صلّي اللّه عليه و آله قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام ستدعون إلي سبّي فسبّوني، و تدعون إلي البراءة منّي فمدّوا الرقاب فإنّي علي الفطرة». «2»

و منها: خبر عليّ بن عليّ أخي دعبل الخزائي عن عليّ بن موسي الرضا عليه السّلام عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام إنّه قال: «انكم ستعرضون علي سبّي، فإن خفتم علي أنفسكم فسبّوني، ألا و انّكم ستعرضون علي البراءة منّي فلا تفعلوا فإنّي علي الفطرة». «3» و مثله ما ورد في نهج البلاغة. «4»

و لكن يخالف هذه النصوص في الدلالة ما رواه العيّاشي في تفسيره عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث إنّه قيل له: «مدّ الرقاب أحبّ إليك

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 باب 29، من ابواب الأمر و النهي، ح 7.

(2) المصدر: ح 8.

(3) المصدر: ح 9.

(4) المصدر: ح 10.

مباني الفقه

الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 172

أم البراءة من عليّ عليه السّلام؟ فقال: الرخصة أحبّ إليّ، أما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ في عمّار: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ». «1»

و خبر عبد اللّه بن عجلان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته فقلت له: إنّ الضحاك قد ظهر بالكوفة و يوشك أن ندعي البراءة من عليّ عليه السّلام، فكيف نصنع قال: فابرأ منه، قلت: أيهما أحبّ إليك؟ قال: ان تمضوا علي ما مضي عليه عمار بن ياسر، اخذ بمكة فقالوا له: ابرأ من رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فبرئ منه فأنزل اللّه عزّ و جلّ عنده: إلّا من اكره و قلبه مطمئنّ بالإيمان». «2»

و لكن رجّح الشيخ المفيد الطائفة الاولي؛ حيث قال في الإرشاد: «استفاض عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: ستعرضون من بعدي علي سبّي فسبّوني، فمن عرض عليه البراءة منّي فليمدد عنقه، فإن برئ منّي فلا دنيا له و لا آخرة». «3»

و مقتضي القاعدة الجواز و ذلك أوّلا لصراحة الطائفة الثانية في الجواز فيؤخذ بالصريح و يحمل ظهور الطائفة الاولي في الحرمة علي الكراهة.

و ثانيا: لأنّ المرجع المحكّم عند تعارض النصوص الكتاب و قد دلّ قوله:

إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ علي الجواز، و لا سيّما بلحاظ النصوص المفسّرة، كما في صحيح محمد بن مروان قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما منع ميثم رحمة اللّه من التقية؟ فو اللّه لقد علم أنّ هذه الآية نزلت في عمّار و أصحابه؛ إلّا من اكره و قلبه مطمئن بالايمان». «4»

هذا مضافا إلي تكذيب ما ورد من النهي عن التبري في معتبرة مسعدة بن صدقة

أو موثّقته قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يروون أنّ عليّا عليه السّلام قال علي منبر الكوفة: أيّها الناس انكم ستدعون إلي سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلي البراءة منّي فلا تبرءوا منّي، فقال عليه السّلام: ما أكثر ما يكذب الناس علي عليّ عليه السّلام، ثمّ قال: إنّما قال: أنّكم ستدعون إلي سبّي

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 باب 29 من أبواب الأمر و النهي ح 12.

(2) المصدر: ح 13.

(3) المصدر: ح 21.

(4) المصدر: ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 173

فسبّوني، ثمّ تدعون إلي البراءة منّي و إنّي لعلي دين محمّد صلّي اللّه عليه و آله، و لم يقل و لا تبرءوا منّي». «1»

و أمّا ما لا ضرر و لا خطر فيه فلا إشكال في عدم مشروعية التقية فيها و لكن لا من باب استثناء مشروعيتها بل لأنّ الخوف عن الضرر و الخطر شرط مشروعيتها، كما أنّ موارد الإضرار بالغير الناشئ من التقية لا إشكال في عدم جواز التقية فيها و لكن لا من باب أنّه من مستثنيات التقية، بل من أجل حكومة أدلّة نفي الضرر علي أدلّة التقية فيما إذا أوجبت الضرر علي الغير لقصور أدلّة التقية عن شمول هذه الموارد.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 باب 29 من أبواب الأمر و النهي، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 175

احكام التقية

اشارة

تأسيس الأصل علي ضوء النصوص و الفتاوي

حكم التقية الاضطرارية

حكم التقية لدفع الضرر و الحرج عن الغير

إجزاء التقية في العبادات و المعاملات

حكم ترك التقية تكليفا و وضعا

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 177

تأسيس الأصل علي ضوء النصوص و الفتاوي
اشارة

1- نظرة إلي النصوص.

2- نظرة إلي كلمات الفقهاء.

3- كلام الشيخ الأعظم في إباحة المحظورات بالتقية و المناقشة فيه.

يمكن تأسيس الأصل في المقام بتجويز التقية و مشروعيتها مطلقا، بمقتضي القاعدة و النصوص بمعني أنّ كلّ ما وجد فيه ملاك التقية- المذكور في تعريفها- يكون التقية فيه جائزة مشروعة و يترتّب علي جوازها الإجزاء في العبادات و الصحّة و ترتيب آثارها- كالملكية و الزوجية و نحوهما- في المعاملات، حتّي بعد زمان ارتفاع ملاكها.

نظرة إلي النصوص

و يمكن الاستدلال لتأسيس هذا الأصل بما دلّ من المطلقات و العمومات علي مشروعية التقية مطلقا، كما في صحيح حريز عن المعلّي بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يا معلّي إنّ التقية ديني و دين آبائي». «1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 24 من أبواب الأمر بالمعروف، ح 23.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 178

و مثله صحيح معمّر بن خلّاد. «1»

و ما رواه الصدوق و الكليني في العلل و الكافي بأسناد عديدة عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «التقية من دين اللّه عزّ و جلّ. قلت: من دين اللّه؟ قال: فقال عليه السّلام: إي و اللّه من دين اللّه» «2»

و ما في صحيحة الفضلاء، قالوا: سمعنا أبا جعفر عليه السّلام يقول: «التقية في كلّ شي ء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له». «3»

و ما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «التقية في كلّ ضرورة». «4»

و قوله عليه السّلام: «رحم اللّه عبدا اجترّ مودّة الناس إلي نفسه، فحدّثهم بما يعرفون و ترك ما ينكرون». «5»

و ما رواه في الكافي عن هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «…

و اللّه ما عبد اللّه بشي ء أحبّ إليه من الخبأ. قلت: و ما الخبأ؟ قال عليه السّلام: التقية». «6»

و أدلّ من ذلك كلّه ثلاث روايات:

إحداها: قول أبي عبد اللّه عليه السّلام: «فكلّ شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدّي إلي الفساد في الدين فانّه جائز» «7» في معتبرة مسعدة بن صدقة. و هو من أصحاب الصادق عليه السّلام، و له عدّة من الكتب و الاصول الروائية، و كثير الرواية، و واقع في أسناد كامل الزيارات و لم يرد فيه أيّ قدح. و استظهر السيّد الخوئي وثاقته.

و لكن الأقوي اعتبار رواياته؛ لعدم ورود قدح فيه مع ماله من الكتب و الاصول الرّوائية و الروايات الكثيرة، فلو كان فيه ضعف و قدح مع ماله من

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 24 من أبواب الأمر بالمعروف، ح 3.

(2) الوسائل: ج 11 ب 24 من أبواب الأمر بالمعروف، ح 18، و الباب 25 ح 4.

(3) المصدر: ب 25، ح 2.

(4) المصدر: ح 1.

(5) المصدر: ب 26، ح 4.

(6) المصدر: ح 2.

(7) المصدر: ب 25 من أبواب الأمر و النهي، ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 179

الاشتهار لنقل و بان، و لا سيما أنّ الأصحاب و فحول الفقهاء اعتمدوا علي رواياته.

فيكشف ذلك كلّه عن اعتبار رواياته، بل حسن حاله. فيكون روايته معتبرة.

و أمّا دلالتها علي المطلوب واضحة؛ فإنّ جواز التقية و مشروعية الفعل المأتيّ به علي وجه التقية، تقتضي صحّته و إجزاءه في العبادات و ترتيب آثار الصحّة عليه في المعاملات.

و ثانيتها: قوله عليه السّلام: «ما صنعتم من شي ء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة» في صحيح أبي الصباح

الكناني. «1»

لا إشكال في رجال سنده، و أمّا دلالتها علي المطلوب واضحة؛ لأنّ قوله عليه السّلام «في سعة» بمعني الجواز و المشروعية. و لازم ذلك الإجزاء في العبادات و ترتيب آثار الصحّة في المعاملات، حتّي بعد ارتفاع شرط التقية.

و ثالثتها: قوله عليه السّلام: «فانّ التقية واسعة. و ليس شي ء من التقية، إلّا و صاحبها مأجور عليها إن شاء اللّه» في موثّقة سماعة. «2» فإنّ عموم هذه الكبري يصلح لتأسيس الأصل، و إن وقع تعليلا لمشروعية الصلاة مع المخالفين علي وجه التقية.

هذه النصوص بعمومها أو إطلاقها تدلّ علي مشروعية التقية بجميع أنحائها، بل علي استحبابها. و ذلك لأنّ ما كان من دين الأئمّة و ديدن النبي صلّي اللّه عليه و آله، فهو سنّة، و كذا ما وعد عليه الأجر. و مقتضي مدلولها إجزاء المأتي به علي وجه التقية عن الإعادة و القضاء في العبادات بعد ارتفاع ملاك التقية و شرطها.

و يقتضي ترتيب آثار الصحّة في المعاملات بعد ارتفاع ملاك التقية.

نظرة إلي كلمات الفقهاء

و اتّضح ممّا بيّنّاه جواز الدخول في مطلق العبادات و المعاملات تقية؛ نظرا إلي سعة نطاق مدلول هذه النصوص.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16 ب 12 من كتاب الايمان، ح 2.

(2) وسائل الشيعة: ج 5 ب 56 من صلاة الجماعة، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 180

و يشهد لذلك كلمات الفقهاء الفحول.

قال المحقّق الكركي: «فاعلم أنّ التقية قد تكون في العبادات. و قد تكون في غيرها من المعاملات …». «1»

و يظهر ذلك من الشيخ الأعظم و السيّد الإمام الراحل و السيّد الخوئي و غيرهم، و سيأتي نصّ كلماتهم في خلال هذا البحث، بل ادّعي في الحدائق عدم الخلاف في ذلك بين الأصحاب؛ حيث

قال: «إذا فعل المكلّف فعلا علي وجه التقية من العبادات أو المعاملات، فهو صحيح مجز، بلا خلاف». «2»

و قد اتّضح ممّا بيّنّاه لك أنّه يمكن تأسيس الأصل المفيد لمشروعية التقية و جوازها في مطلق العبادات و المعاملات. و لازم ذلك الإجزاء في العبادات و ترتيب آثار الصحّة في المعاملات.

كلام الشيخ الأعظم في إباحة المحظورات بالتقية

يظهر من الشيخ الأعظم أنّ التقية إذا كانت واجبة عند توفّر شرائط وجوبها، لا إشكال في ارتفاع الحرمة عن كلّ محظور و إباحته في موارد وجوب التقية. و علّل ذلك بحكومة حديث نفي الضرر و حديث الرفع و أدلّة التقية الواجبة علي أدلّة الواجبات و المحرّمات. و هذه الأدلّة قد سبق ذكرها في بيان أدلّة التقية الاضطرارية و الإكراهية و الخوفية.

و أنّها إذا كانت مستحبّة و استلزمت ترك واجب أو فعل حرام، فمقتضي القاعدة عدم مشروعية التقية حينئذ، فضلا عن استحبابها، إلّا بدليل خاصّ يدلّ علي إباحة المحظور حينئذ بالخصوص، كما في صلاة الجماعة خلف المخالفين، علي القول بجواز الاكتفاء بها عن الصلاة الواقعية. فلا بدّ في إباحة

______________________________

(1) رسائل المحقّق الكركي: ج 2، ص 51.

(2) الحدائق الناضرة: ج 2، ص 316.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 181

المحظور بالتقية المستحبّة، من الاقتصار علي مورد النصّ الدالّ علي ذلك بالخصوص علي مشروعية الفعل المخالف للحقّ الموافق للعامّة بالخصوص، و إلّا فليست التقية مستحبّة، بل و لا مشروعة و لا تباح لأجلها المحظورات.

قال قدّس سرّه: «ثمّ الواجب منها يبيح كلّ محظور: من فعل الحرام و ترك الواجب.

و الأصل في ذلك: أدلّة نفي الضرر، و حديث: رفع عن أمّتي تسعة أشياء، و منها:

ما اضطرّوا إليه، مضافا إلي عمومات التقية، مثل قوله في الخبر: إنّ التقية واسعة، و

ليس شي ء من التقية إلّا و صاحبها مأجور. و غير ذلك من الأخبار المتفرّقة في خصوص الموارد. و جميع هذه الأدلّة حاكمة علي أدلّة الواجبات و المحرّمات، فلا يعارض بها شي ء منها حتّي يلتمس الترجيح و يرجع إلي الاصول بعد فقده، كما زعمه بعض في بعض موارد هذه المسألة.

و أمّا المستحبّ من التقية فالظاهر وجوب الاقتصار فيه علي مورد النصّ، و قد ورد النصّ بالحثّ علي المعاشرة مع العامّة و عيادة مرضاهم، و تشييع جنائزهم، و الصلاة في مساجدهم، و الإذن لهم، فلا يجوز التعدّي عن ذلك إلي ما لم يرد النصّ فيه من الأفعال المخالفة للحقّ، كذمّ بعض رؤساء الشيعة للتحبّب إليهم، و كذلك المحرّم و المباح و المكروه، فإنّ هذه الأحكام علي خلاف عمومات التقية، فتحتاج إلي الدليل الخاصّ». «1»

المناقشة في كلام الشيخ

و يرد عليه: أنّه لو كان مراده دخل وجوب التقية في إباحة المحظور، ففيه أنّ الّذي يرفع حرمة المحظور هو أصل مشروعية التقية، من دون دخل للوجوب. و ذلك أنّ مقتضي مشروعيتها جواز مخالفة الحكم الأوّلي الواقعي حينئذ شرعا. و معني جواز مخالفة الحرام الأوّلي

______________________________

(1) رسالة التقية للشيخ الأعظم: ص 14- 15.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 182

الواقعي ارتفاع حرمته المحظور. فثبت أنّ حرمة المحظور ترتفع بنفس جعل مشروعية التقية و جوازها في مورد ذلك المحظور، من دون دخل لوجوب التقية في ذلك.

و عليه فلا فرق بين التقية الواجبة و بين التقية المستحبّة، و لا بين ثبوت مشروعية التقية بعمومات التقية و إطلاقاتها و بين ثبوتها بالنصوص الخاصّة.

و لو كان مقصود الشيخ احتياج ثبوت أصل استحباب التقية إلي نصّ خاصّ يدلّ عليه بالخصوص، فيرد عليه أنّه يكفي عمومات الترغيب و

الأمر بالتقية المداراتية لإثبات استحبابها، من دون حاجة إلي نصّ خاصّ زائدا عن عموماتها.

و العجب من الشيخ كيف جمع بين جواز التقية و مشروعيتها الثابتة بعمومات التقية في مواردها و بين بقاء مواردها علي حرمتها الأوّلية؟! فهل يرجع ذلك إلّا إلي الجمع بين جواز الفعل و حرمته الموجب لاجتماع المتناقضين؟.

هذا، و لكن الإنصاف يقضي صحّة كلام الشيخ؛ إذ من تأمّل في كلامه يفهم أنّ لبّ مراده احتياج استحباب التقية في موارد وجود المحظور من ترك واجب أو فعل حرام إلي دليل خاصّ يثبت استحبابه في ذلك المورد بالخصوص، و إنّ استحباب التقية المداراتية إنّما ثبت في المندوبات الأولية كتشييع الجنازة و عيادة المرضي و حسن المعاشرة و فعل الخيرات ما لم تستتبع المداراة فيها فعل حرام أو ترك واجب، إلّا في الصلاة خلف المخالفين بناء علي ثبوت استحباب التقية فيها إذا استلزمت ترك الفريضة. و ذلك إنّما يثبت بدليل خاصّ، و لم يحضرني الآن قيام دليل علي استحباب التقية مداراة فيما إذا استلزمت ترك واجب أو فعل حرام في غير مورد الصلاة خلف المخالفين. و فيه كلام سيأتي تفصيله.

و علي فرض ورود دليل خاصّ علي استحباب التقية المستلزم لترك واجب أو فعل حرام، فالظاهر من الشيخ أيضا إباحة المحظور في موردها بنفس ذلك

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 183

الدليل الخاصّ بدلالته علي استحباب التقية في ذلك الدليل الخاصّ بدلالته علي استحباب التقية في ذلك المورد بالخصوص.

و عليه فالأصحّ أن يقال: إنّ التقية إذا صارت مشروعة ترفع بذاتها حرمة موردها و تبيح المحظور، بلا فرق بين المستحبّة و الواجبة.

و لقد أجاد الشهيد الأوّل في بيان ذلك؛ حيث قال: «التقية تبيح كلّ شي ء حتّي

إظهار كلمة الكفر، و لو تركها حينئذ أثم إلّا في هذا المقام، و مقام التبرّي من أهل البيت عليهم السّلام، فإنّه لا يأثم بتركها، بل صبره حينئذ إمّا مباح أو مستحبّ، و خصوصا إذا كان ممّن يقتدي به». «1»

و يستفاد من ذيل كلامه أنّ بمجرّد مشروعية التقية عند تجويز تركها، بل رجحانه، ترتفع حرمة المحظور بها، و هو إظهار كلمة الكفر الّذي من أعظم المحرّمات.

و قد اعترف الشيخ الأعظم بذلك في بعض مواضع كلامه، كقوله: «إنّك قد عرفت أنّ صحّة العبادة و إسقاطها للفعل ثانيا تابع للمشروعية الدخول فيها و الإذن فيها من الشارع». «2» فلو لم يكن ترك الفريضة جائزة مباحا، لا معني لإسقاط فعلها ثانيا بعد ارتفاع التقية.

فيفهم من كلامه هذا أنّه قدّس سرّه استظهر من عمومات التقية مشروعية مطلق العبادات تقية. و قد عرفت آنفا أنّ مقتضي مشروعية التقية رفع الحظر و المنع عن الفعل المأتيّ به تقية. و ذلك لأنّ المناط في رفع الحظر و المنع أصل مشروعية التقية، لا وجوبها. و عليه فلا وجه للتفصيل المزبور بين التقية الواجبة و المستحبّة.

______________________________

(1) القواعد و الفوائد: ج 2، ص 158.

(2) رسالة التقية للشيخ الأعظم: ص 28.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 184

حكم التقية الاضطرارية
اشارة

1- التقية الاضطرارية و حكمها التكليفي.

2- نظرة إلي كلمات الفقهاء في التقية الاضطرارية.

3- مقتضي الأصل عند الشكّ.

4- التقية الاضطرارية و حكمها الوضعي.

5- نظرة إلي نصوص التقية الاضطرارية.

6- رفع الجزئية و الشرطية و المانعية بأدلّة التقية.

7- كلام السيّد الإمام الراحل قدّس سرّه.

التقية الاضطرارية و حكمها التكليفي

كلّ ما سبق من البحث كان بمقتضي القاعدة و النصوص و الفتاوي في مطلق التقية إجمالا- الأعمّ من الاضطراري و غيرها- و الكلام هنا، إنّما في حكم التقية الاضطرارية.

و قبل الخوض في بيان حكم التقية الاضطرارية و أخواتها- و هي الإكراهية و الخوفية-، ينبغي تحرير محلّ الكلام. فنقول:

إنّ الاضطرار تارة: يكون إلي فعل لا يرتبط بالغير؛ بأن اضطرّ إلي دفع ضرر أو خطر ناش من علل و عوامل طبيعية، من مرض و حرق و غرق و نحو ذلك. فلا ربط لذلك بالتقية بلا فرق في ذلك بين دفع الضرر عن نفسه أو عن

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 185

غيره، فكما يضطرّ الإنسان إلي دفع مرض أو ضرر أو غرق عن نفسه، فكذلك قد يضطرّ إلي دفع الضرر أو المرض أو الغرق عن غيره كما لو اضطرّ إلي بيع داره أو فرشه أو الدخول في أرض الغير أو التصرّف في ماله لإنقاذ أولاده أو عياله أو والديه. و لا ربط لهذا النوع من الاضطرار بالتقية.

و اخري: إلي فعل يرتبط بالغير؛ بأن اضطرّ إلي دفع خطر أو ضرر ناش عن ظلم ظالم؛ سواء كان من المخالفين أو لا. و هذا النوع من الاضطرار مصبّ قاعدة التقية.

نعم عقد الفقهاء عنوان الكلام في الاضطرار إلي التقية من أهل العامّة، و لكن ملاك التقية و معيارها لا يختصّ بهم. و علي أيّ حال فهذا النوع الثاني

من الاضطرار هو مورد التقية.

نظرة إلي كلمات الفقهاء في التقية الاضطرارية

و ينبغي لتحقيق حكم التقية الاضطرارية و الخوفية نظرة إلي كلمات أعاظم الأصحاب من فحول الفقهاء.

قال الشيخ في النهاية: «فإن اضطرّ إلي تنفيذ حكم علي مذهب أهل الخلاف بالخوف علي النفس أو الأهل أو المؤمنين أو علي أموالهم، جاز له تنفيذ الحكم ما لم يبلغ ذلك قتل النفس، فإنّه لا تقيّة في قتل النفوس». «1»

و قال سلّار في المراسم: «و قد فوّضوا عليهم السّلام إلي الفقهاء إقامة الحدود و الأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدّوا واجبا و لا يتجاوزوا حدّا- إلي أن قال- فإن اضطرّتهم تقيّة به أجابوا داعيها، إلّا في الدماء خاصّة، فلا تقية فيها». «2»

و قال ابن إدريس في السرائر: «فإن اضطرّ إلي تنفيذ حكم علي مذهب أهل

______________________________

(1) النهاية: ص 300 و 302، كتاب الجهاد، باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الجوامع الفقهية: ص 319- 320.

(2) الجوامع الفقهية: ص 599 و كتاب المراسم، آخر كتاب الحدود، باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 186

الخلاف، بالخوف علي علي النفس، أو الأهل، أو المؤمنين، أو علي أموالهم، جاز له تنفيذ الحكم، ما لم يبلغ ذلك قتل النفوس، فإنّه لا تقيّة له في قتل النفوس». «1»

و قال المحقّق في الشرائع: «فإن اضطرّ إلي العمل بمذهب أهل الخلاف جاز، إذا لم يمكن التخلّص عن ذلك، ما لم يكن قتلا لغير مستحقّ». «2»

و قال العلّامة في المنتهي: «فإن اضطرّ إلي استعمال ما لا يجوز من ظلم مؤمن أو قهره جاز ذلك للضرورة، ما لم يبلغ الدماء، فلا يجوز التقيّة فيها علي حال». «3»

و يظهر من كلماتهم أمران:

أحدهما: كون التقية الاضطرارية في موارد

الاضطرار إلي العمل بمذهب أهل الخلاف.

ثانيهما: جواز التقية عند الاضطرار إلي العمل بمذهب العامّة.

و في كلا الأمرين نظر.

أمّا الأوّل: فلما عرفت سابقا من عدم اختصاص ملاك مشروعية التقية الاضطرارية بالاضطرار إلي العمل بمذهب العامّة، بل يأتي في الاضطرار إلي دفع مطلق الضرر الناشي عن الغير، سواء كان من المخالفين، أو غيرهم ممّن يخاف من ضرره و خطره. و لكن يمكن تأويل كلامهم إلي كون ذكر المخالفين بعنوان المورد الغالب المفروض في غالب النصوص.

و أمّا الثاني: فلأنّ بالتقية الاضطرارية تحفظ النفس المحترمة عن الهلاك و أموال محترم المال عن الضياع و التلف. و لا ريب في وجوب حفظ النفوس و الأموال المحترمة فمقتضي القاعدة وجوب التقية الاضطرارية.

______________________________

(1) السرائر: ج 2، ص 25 و 26، باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(2) شرايع الإسلام: ج 2- 1، ص 260.

(3) منتهي المطلب: ج 2، ص 1025، كتاب التجارة، البحث الثالث من المقصد الثاني في عمل السلطان، المسألة 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 187

و لكن يمكن تأويل كلامهم إلي إرادة الجواز بالمعني الأعمّ الملائم للوجوب.

فالمقصود نفي الحرمة. فأرادوا أصل المشروعية؛ لينفوا بذلك المشروعية.

ثمّ إنّه لا إشكال في مشروعية التقية و جواز مخالفة الحكم الأوّلي المطابق للحقّ عند الاضطرار و الإكراه و خوف الخطر.

و ذلك لأنّ الاضطرار إلي فعل المحرّم أو ترك الواجب يرفع الإلزام عن ترك الحرام و فعل الواجب؛ لحديث الرفع و غيره ممّا هو ظاهر في رفع الحكم الإلزامي الأوّلي و حلّيّة الفعل المضطرّ إليه. و قد ثبت في محلّه أنّ المرتفع ليس المؤاخذة أو استحقاق العقاب؛ حيث لا تنالهما يد الجعل و التشريع رفعا و وضعا. فإنّ المرفوع لا بدّ أن يكون

ممّا تناله يد الجعل و التشريع من الأحكام الاعتبارية، نعم رفع الحكم منشأ لارتفاع العقاب و المؤاخذة بالمآل. بل رفع الحكم الإلزامي الأوّلي في موارد الاضطرار هو المتيقّن من أدلّة تشريع التقية كما قلنا سابقا، لو لم نقل بإثبات الحرمة لفعله؛ لأنّ بإتيانه تتحقّق مخالفة التقية الاضطرارية الواجبة.

و كذا يأتي عين هذا الكلام في التقية الإكراهية و الخوفية.

مقتضي الأصل عند الشكّ

إذا شكّ المكلّف في جواز التقية؛ كأن شكّ في صدق الاضطرار و تحقّق الخوف الموجب للتقية، أو شكّ في تحقّق ملاك التقية المداراتية في مورد، فمقتضي الأصل عدم تحقّق موضوع التقية. و لا تصلح عمومات التقية و إطلاقاتها لإثبات موضوعها؛ ضرورة عدم تكفّل الخطابات الشرعية لإثبات موضوعها. فلا مناص حينئذ من تحكيم أدلّة الأحكام الأوّلية.

هذا من جهة الحكم التكليفي.

التقية الاضطرارية و حكمها الوضعي

و أمّا الكلام في الحكم الوضعي، فيقع من جهتين:

إحداهما: رفع آثار ترك الحكم الواقعي بسبب التقية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 188

ثانيتهما: رفع الجزئية و الشرطية.

فالكلام في مقامين.

أمّا المقام الأوّل: فإنّ الأحكام و الآثار المترتّبة علي ترك الواجب الواقعي الأوّلي.

إمّا تكليفية، كوجوب الكفّارة المترتّبة علي ترك الصوم في شهر رمضان أو علي إتيان بعض المحرّمات في الحجّ، و وجوب الإعادة و القضاء في الصلاة و نحو ذلك.

و إمّا وضعية كالضمان المترتّب علي إتلاف مال الغير.

فالكلام يقع حينئذ في أنّه إذا ترك صوم شهر رمضان أو أتي ببعض المحرّمات في الحجّ تقية، فهل ترتفع الكفّارة بالتقية، أم لا؟ و فيما لو أتي بالصلاة موافقا للعامّة علي وفق التقية، فهل يرتفع بالتقية الإعادة و القضاء؟.

و كذا فيما إذا أتلف مال الغير تقية، كما لو حكم الحاكم الشيعي تقية بنفع العامي فأعطاه مال الشيعي المحكوم عليه. فهل يضمن له، أو يرتفع الضمان بالتقية؟، و ما إذا حكم الحاكم العامي برأيه علي شيعي، فأعطي ماله إلي شيعي آخر محكوم عليه. ثمّ أتلفه المحكوم له تقية- لو تصوّرت التقية في إتلافه-، فهل المحكوم له ضامن لمال ذلك الشيعي أو يرتفع ضمانه بالتقية؟

و الضابطة في المقام إتلاف مال محترم المال بالتقية الاضطرارية، سواء كان بسبب إصدار حكم عن تقية

أو بنفس التصرّف عن تقية.

نعم يعتبر في المقام كون الحاكم شيعيا و كون الحكم علي الشيعي و بنفع الإمامي. و إلّا فلو كان الحاكم عاميا يخرج عن مورد التقية. كما لو كان الحكم علي العامي و بنفع الشيعي يخرج عن المقام، و لو كان الحكم علي أساس مذهب العامّة و عن تقية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 189

و ذلك لدخوله حينئذ في مصبّ قاعدة الإلزام بلا فرق بين كون المتخاصمان كلاهما عاميين أو كان أحدهما عامّيا. فعلي أيّ حال يجوز إلزامهم بما التزموا به في مذهبهم. و قد دلّ علي ذلك عمومات نصوص قاعدة الإلزام و خصوص ما ورد منها في باب الميراث. و قد بحثنا عن ذلك في أوائل هذا الكتاب، فراجع.

مقتضي القاعدة في المقام

و الّذي تقتضيه القاعدة رفع جميع الآثار و الأحكام ما لم يكن ارتفاعها خلاف الامتنان في حقّ غيره.

و ذلك لما دلّ عليه حديث الرفع من رفع الحكم الإلزامي و حلّية الفعل المضطرّ إليه و المستكره عليه ممّا فيه خوف الضرر و الخطر و هلاك النفس و ذهاب المال و تلفه و هتك العرض.

و قد سبق آنفا أنّ المرفوع بهذا الحديث هو الحكم الإلزامي التكليفي.

فالمقصود أنّ الحكم التكليفي الثابت للفعل- الواجب أو الحرام- بعنوانه الذاتي الأوّلي، قد رفعه الشارع عند عروض الاضطرار و الاستكراه، من وجوب الإعادة و القضاء و وجوب الكفّارات.

و علي هذا الوزان قوله: «و قد أحلّه الاضطرار» و قاعدة لا ضرر و لا حرج.

فإنّ الحكم التكليفي الأوّلي إذا كان العمل به ضرريا و حرجيا، قد نفي الشارع مشروعيتها و حكم بجواز مخالفتها. و مقتضي إطلاق الرفع و النفي في هذه النصوص ارتفاع جميع آثارها التكليفية حتّي بعد

ارتفاع الاضطرار.

هذا بحسب الآثار التكليفية.

و أمّا الآثار الوضعية كالضمانات فيشكل القول برفعها؛ نظرا إلي أنّ الّذي تتحقّق به التقية و يندفع به خطر ترك التقية هو إباحة التصرّف في مال الغير و رفع الحرمة التكليفية، و أمّا الضمان فلا تتوقّف التقية علي رفعه بوجه؛

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 190

ضرورة تحقّق التقية بالتصرّف في مال الغير و ارتفاع حرمته التكليفية بما دلّ علي مشروعية التقية. و لا ينافي ذلك كون ضمان ما أتلفه بالتقية في عهدته.

و هذا واضح.

و عليه فلا تقتضي التقية ارتفاع ضمان المال المتلف بالتقية.

هذا، و قد يستدلّ لارتفاع الضمان بالتقية الاضطرارية بأنّ التقية إذا كانت واجبة، و توقّفت علي التصرّف في مال الغير و إتلافه، لا بدّ من ارتفاع ضمانه لأنّه كان بأمر الشارع و إيجابه. فلو لم يرتفع الضمان لزم كون الأمر بالتقية ضرريا.

و قد دلّ حديث «لا ضرر» علي نفيه، فيفهم بحكومة أدلّة نفي الضرر عدم مشروعية التقية المستلزمة للضرر علي المتّقي.

و أمّا الإضرار بالغير فهو مأخوذ في موضوع التقية في الامور المالية؛ نظرا إلي استلزامها الإضرار بالغير غالبا؛ لتوقّف امتثال الأمر بها علي إضرار الغير بإتلاف ماله غالبا، فيكون الإتلاف بأمر الشارع فيما إذا توقّفت التقية الاضطرارية الواجبة علي إتلاف مال الغير.

و لكن يمكن ردّ ذلك بأنّ أدلّة التقية في مقام الامتنان علي الشيعة لا الامتنان في حقّ خصوص لشخص المتّقي و التقية إذا أوجبت الإضرار بشيعي آخر تكون علي خلاف مقتضي الامتنان بالنسبة إليه.

توضيح ذلك أنّ نصوص التقية لمّا كانت في مقام الامتنان، إنّما تدلّ علي رفع التكاليف و التبعات و الآثار الوضعية عنه ما لم يكن ارتفاعها عنه مخالفا للامتنان علي غيره.

و من هنا

لا ترفع الضمان عنه إذا أتلف مال الغير عن تقية؛ لأنّه خلاف الامتنان بالنسبة إلي المالك الشيعي، كما هو شأن حديث الرفع و نحوه ممّا هو في مقام الامتنان.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 191

هذا، مضافا إلي عدم توقّف التقية علي ارتفاع الضمان. و أمر الشارع بالتقية لغرض دفع الاضطرار لا ينافي ضمان الضرر الوارد بالغير؛ حيث لا ينافي ذلك تحقّق الغرض المزبور.

هذا، في الحكم الوضعي المالي؛ أعني به الضمان. و أمّا الآثار الوضعية غير المالية من الأحكام الوضعية التعبّدية كالنجاسة و البطلان، فكذلك ترفعها التقية الاضطرارية، فيحكم بحصول الطهارة و الصحّة و ما يتبعها من الآثار في الغسل و الوضوء عن تقية.

و ذلك لما قلنا آنفا و لأنّ عدم رفعها خلاف مقتضي الامتنان المبنيّة عليه مشروعية التقية و الأمر بها. و كون أدلّتها في مقام الامتنان لا ينافي وجوبها، كما في تحريم الصوم في السفر و المرض امتنانا، كما دلّ عليه قوله تعالي:

يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ بعد تشريع الحكم المزبور في الكتاب العزيز.

نظرة إلي نصوص التقية الاضطرارية

كلّ ما سبق كان بمقتضي القاعدة. و أمّا نصوص التقية فهي علي قسمين:

القسم الأوّل: النصوص العامّة، و هي ما سبق من النصوص المتواترة العامّة الناطقة بأنّ التقية من دين اللّه تعالي و أنّها مشروعة و مرخّص فيها من جانب الشارع، و أنّه قد أجاز، بل أمر بالفعل الموافق للتقية المخالف للواقع. و مقتضي ذلك ارتفاع ما كان مترتّبا عليه من الأحكام التكليفية و التبعات و الآثار الوضعية.

و القسم الثاني: ما دلّ من نصوص التقية علي ارتفاع الآثار و الأحكام الوضعية بالتقية بالخصوص.

مثل قول أبي عبد اللّه عليه السّلام في رواية أعمش: «لا حنث

و لا كفّارة علي من حلف تقية يدفع بذلك ظلما عن نفسه». «1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 24 من أبواب الأمر و النهي، ح 21.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 192

و ممّا يدلّ علي ذلك رواية محمّد بن الفضل: «أنّ عليّ بن يقطين كتب إلي أبي الحسن موسي عليه السّلام يسأله عن الوضوء. فكتب إليه أبو الحسن عليه السّلام: فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء. و الّذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثا، و تستنشق ثلاثا، و تغسل وجهك ثلاثا، و تخلل شعر لحيتك و تغسل يديك إلي المرفقين ثلاثا، و تمسح رأسك كلّه، و تمسح ظاهر أذنيك و باطنهما، و تغسل رجليك إلي الكعبين ثلاثا، و لا تخالف ذلك إلي غيره.

فلمّا وصل الكتاب إلي عليّ بن يقطين تعجّب ممّا رسم له أبو الحسن عليه السّلام فيه ممّا جميع العصابة علي خلافه. ثمّ قال: مولاي أعلم بما قال، و أنا أمتثل أمره، فكان يعمل في وضوئه علي هذا الحدّ و يخالف ما عليه جميع الشيعة، امتثالا لأمر أبي الحسن عليه السّلام، و سعي بعليّ بن يقطين إلي الرشيد، و قيل: إنّه رافضيّ فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر، فلمّا نظر إلي وضوئه ناداه:

كذب يا عليّ بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة!، و صلحت حاله عنده. و ورد عليه كتاب أبي الحسن عليه السّلام ابتدأ من الآن يا عليّ بن يقطين و توضّأ كما أمرك اللّه تعالي اغسل وجهك مرّة فريضة، و اخري إسباغا، و اغسل يديك من المرفقين كذلك، و امسح بمقدم رأسك و ظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنّا نخاف منه عليك و

السلام». «1»

و نظيره رواية داود الرقّي. «2»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 1 ب 32 من أبواب الوضوء، ح 3.

(2) قال: «دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: جعلت فداك كم عدّة الطهارة؟ فقال:

ما أوجبه اللّه فواحدة و أضاف إليها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله واحدة لضعف الناس، و من توضّأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له، أنا معه في ذا حتي جاءه داود بن زربي فسأله عن عدّة الطهارة فقال له: ثلاثا ثلاثا من نقص عنه فلا صلاة له، قال: فارتعدت فرائصي و كاد أن يدخلني الشيطان فأبصر أبو عبد اللّه عليه السّلام إلي و قد تغيّر لوني، فقال: اسكن يا داود! هذا هو الكفر، أو ضرب الأعناق، قال: فخرجنا من عنده و كان ابن زربي إلي جوار بستان أبي جعفر المنصور، و كان قد القي إلي أبي جعفر أمر داود بن زربي و أنّه رافضيّ يختلف إلي جعفر بن محمّد فقال أبو جعفر المنصور: إنّي مطلع إلي طهارته فإن هو توضّأ وضوء جعفر بن محمّد فإنّي لأعرف طهارته حقّقت عليه القول و قتلته فاطلع و داود يتهيّأ للصلاة من حيث لا يراه فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا ثلاثا كما أمره أبو عبد اللّه عليه السّلام فما تمّ وضوئه حتّي بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه قال: فقال داود:

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 193

و رواية عثمان بن زياد: «أنّه دخل أبا عبد اللّه عليه السّلام فقال له رجل: إنّي سألت أباك عن الوضوء، فقال: مرّة مرّة، فما تقول: أنت؟ فقال: إنّك لن تسألني عن هذه المسألة إلّا و أنت تري أنّي اخالف أبي توضّأ ثلاثا و خلّل أصابعك»

… «1»

و مرسلة محمّد بن إسحاق و محمّد بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«يجزيك إذا كنت معهم من القراءة مثل حديث النفس». «2» وجه الدلالة أنّ حديث النفس ليس من القراءة مع تصريحه عليه السّلام بالإجزاء.

و موثّقة إسحاق بن عمّار في حديث قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي أدخل المسجد فأجد الإمام قد ركع و قد ركع القوم، فلا يمكنني أن اؤذّن و اقيم و اكبّر. فقال عليه السّلام لي: فإذا كان ذلك فادخل معهم في الركعة و اعتدّ بها، فإنّها من أفضل ركعاتك.

قال إسحاق: فلمّا سمعت أذان المغرب و أنا علي بابي قاعد-، قلت للغلام: انظر اقيمت الصلاة؟ فجاءني فقال: نعم فقمت مبادرا فدخلت المسجد فوجدت الناس قد ركعوا، فركعت مع أوّل صفّ أدركت و اعتددت بها. ثمّ صلّيت بعد الانصراف أربع ركعات ثمّ انصرفت.

فإذا خمسة أو ستّة من جيراني قد قاموا إليّ من المخزوميين و الأمويين، فأقعدوني، ثمّ قالوا: يا أبا هاشم، جزاك اللّه عن نفسك خيرا، فقد و اللّه رأيناك خلاف ما ظنّنا بك و ما قيل فيك.

فقلت: و أيّ شي ء ذاك؟ قالوا: اتبعناك حين قمت إلي الصلاة و نحن نري أنّك لا تقتدي بالصلاة

______________________________

فلما أن دخلت عليه رحب بي و قال: يا داود قيل فيك شي ء باطل و ما أنت كذلك قد اطلعت علي طهارتك و ليس طهارتك طهارة الرافضة فاجعلني في حلّ و أمر له بمائة ألف درهم، قال:

فقال داود الرقّي: التقيت أنا و داود بن زربي عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له داود بن زربي: جعلت فداك حقنت دماؤنا في دار الدنيا، و نرجو أن ندخل بيمنك و بركتك الجنّة، فقال

أبو عبد اللّه عليه السّلام:

فعل اللّه ذلك بك و بإخوانك من جميع المؤمنين، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام لداود بن زربي: حدّث داود الرقّي بما مرّ عليكم حتّي تسكن روعته، قال: فحدّثته بالأمر كلّه، قال: فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لهذا أفتيته لأنّه كان أشرف علي القتل من يد هذا العدوّ، ثمّ قال: يا داود ابن زربي توضّأ مثني مثني و لا تزدنّ عليه و أنّك إن زدت عليه فلا صلاة لك».

(1) وسائل الشيعة: ج 1 ب 32 من أبواب الوضوء ح 4.

(2) وسائل الشيعة: ج 5 ب 33 من صلاة الجماعة، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 194

معنا، فقد وجدناك قد اعتددت بالصلاة معنا و صلّيت بصلاتنا، فرضي اللّه عنك و جزاك اللّه خيرا.

قال: قلت لهم: سبحان اللّه أ لمثلي يقال هذا؟ قال: فعلمت أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام لم يأمرني إلّا و هو يخاف علي هذا و شبهه». «1»

هذه النصوص لا إشكال في دلالتها علي نفي الإعادة و القضاء لما صرّح في بعضها بالإجزاء، و لظهور بعضها الآخر في ذلك بدلالة الأمر و نفي البأس.

و مثل هذه النصوص صحيحة صفوان و البزنطي جميعا عن أبي الحسن عليه السّلام:

«في الرجل يستكره علي اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك أ يلزمه ذلك؟ فقال عليه السّلام:

لا، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: وضع عن أمّتي ما اكرهوا عليه و ما لم يطيقوا و ما أخطئوا». «2»

لا ريب في شمول هذه الصحيحة للتقية الإكراهية، بل هي في مورده؛ لأنّ الإتيان بفعل عن إكراه لا يكون إلّا عن تقية، بلا فرق بين كون المتّقي منه من

أهل العامّة أو غيرهم.

وجه الدلالة أنّ مقتضي رفع التكليف عدم ثبوت الإعادة و القضاء؛ نظرا إلي تبعيتهما لثبوت أصل التكليف.

و غير ذلك من النصوص الدالّة علي ذلك يجدها المتتبّع.

رفع الجزئية و الشرطية و المانعية بالتقية

المقام الثاني: رفع الجزئية و الشرطية و المانعية فيما إذا ترك المكلّف في مقام التقية جزءا أو شرطا، كما لو صلّي بلا سورة أو من دون البسملة لعدم كونهما جزءا عند المخالفين، أو صلّي مع المانع، كما لو صلّي في شي ء من الميتة لطهارتها عندهم بالدبغ.

مقتضي التحقيق: رفع الجزئية و الشرطية و المانعية، لكن لا مطلقا، بل فيما

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 34 من أبواب صلاة الجماعة، ح 4.

(2) وسائل الشيعة: ج 16 ب 12 من كتاب الايمان، ح 12.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 195

إذا توقّفت التقية علي الإتيان بالفعل الموافق لمذهب العامّة، و لم تتحقّق بمجرّد ترك الفعل.

و ذلك لأنّ الأمر بإتيان الفعل الموافق لمذهبهم يدلّ علي أنّه الّذي يجب علي المكلّف حينئذ، لا المأمور به الواقعي الأوّلي. و مع إيجابه كيف يتّصف ضدّه بالجزئية و الشرطية؟

نعم لو كانت التقية متحقّقة بمجرّد ترك الواجب الواقعي الأوّلي، يمكن أن يقال: إنّ المنفيّ بدليل التقية أصل وجوب الواجب و حكمه التكليفي، لا الجزئية و الشرطية و المانعية عن أجزائه و شرائطه و موانعه؛ لعدم ملازمة في البين، كما هو واضح. و مقتضي القاعدة حينئذ وجوب الإتيان بالواجب الأوّلي المطابق لمذهب الحقّ بعد ارتفاع موجب التقية إعادة في داخل الوقت، أو قضاء في خارجه؛ لفرض عدم إتيانه بالمأمور به الاضطراري حتّي يقتضي الإجزاء، و إنّما هو معذور في ترك الواجب الواقعي بل مأمور به ما دام الاضطرار.

فتحصّل أنّ التقية لدفع الاضطرار إنّما هي

مشروعية إذا لم يتوجّه بها ضرر أو حرج إلي ساير المؤمنين. فلو اضطرّ مثلا إلي تنفيذ حكم الحاكم العامي لاضطرار أو خوف علي نفسه أو عرضه أو ماله، جاز له تنفيذ حكمه تقية ما لم يتوجّه بتقيته ضرر أو حرج إلي الغير الشيعي. و ذلك لما قلنا من كون أدلّة التقية في مقام الامتنان علي الشيعة و إنّها قاصرة عن شمولها لما إذا كانت التقية مخالفة للامتنان في حقّ غير المتّقي من المؤمنين.

و ما سبق من كلمات فحول القدماء- كالشيخ و ابن إدريس و المحقّق و العلّامة- في بيان مشروعية التقية، لا بدّ من حملها علي ما قلنا.

كلام السيّد الإمام الراحل قدّس سرّه

ثمّ إنّه قد استدلّ السيّد الإمام الراحل لعدم مشروعية التقية الموجبة للحرج علي الغير؛ بأنّ أدلّة التقية الاضطرارية و الخوفية، و إن تقتضي جواز التقية في جميع موارد الاضطرار، إلّا أنّ أدلّة نفي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 196

الضرر و الحرج حاكمة علي أدلّة التقية.

قال قدّس سرّه: «إنّ مقتضي تلك الأدلّة عموما و إطلاقا و إن كان جواز التقية في كلّ ما يضطرّ إليه ابن آدم، من غير فرق بين حقّ الناس و غيره، لكن مقتضي حكومة دليل نفي الحرج كحكومته علي سائر الأدلّة، تخصيص الحكم بموارد لا يلزم منها الحرج علي الغير بفعله» «1».

و فيه: أولا: أنّ إطلاقات أدلّة التقية لمّا كانت في مقام الامتنان علي الشيعة، لا خصوص شخص المتّقي، تكون قاصرة عن الشمول لمثل المقام. و ذلك لفرض توجّه الحرج و الضرر إلي سائر المؤمنين من الشيعة بنفس التقية.

فالتقية حينئذ خلاف الامتنان في حقّ غير المتّقي من سائر المؤمنين.

و حاصل هذا الإشكال: قصور إطلاقات أدلّة التقية لمثل المقام. فلا إطلاق لها

في مفروض الكلام: لكي يعارض أدلّة نفي الحرج و الضرر، حتّي تقدم تلك الأدلّة عليها بالحكومة.

و ثانيا: أنّ في موارد التقية يتوجّه الضرر و الحرج و خوف الهلاك إلي شخص المتّقي ابتداء، فيشمله عموم نفي الضرر و الحرج قبل أن يتوجّه إلي غيره. و لا يجب عليه تحمّل الحرج و الضرر بترك التقية لأجل دفعها عن الغير، اللّهم إلّا بلحاظ أهمّيّة الضرر المتوجّه إلي الغير. و عليه فمقتضي أدلّة نفي الحرج و الضرر مشروعية التقية؛ لأنّ وجوب تحمّل الحرج و الضرر لأجل دفعهما عن الغير، حكم ضرري و حرجي منفيّ بأدلّة نفيهما.

و عليه فلا يصلح للاستدلال علي عدم مشروعية التقية في المقام، إلّا ما قلناه، من أنّ أدلّة التقية في مقام الامتنان علي الشيعة، لا خصوص شخص المتّقي، فلا يشمل ما إذا كانت التقية خلاف الامتنان في حقّ سائر أفراد الشيعة.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للسيّد الإمام الراحل: ص 241.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 197

إجزاء التقية في العبادات
اشارة

1- بيان مقتضي القاعدة في المقام.

2- حكم التقية في الطهارات.

3- الإجزاء عن الإعادة و القضاء.

4- تحقيق في كلام الشيخ الأنصاري.

5- تفصيل السيد الخوئي و نقده.

قد سبق الكلام في أصل مشروعية التقية في مطلق العبادات و المعاملات من حيث الحكم التكليفي.

و أيضا سبق بعض الكلام في حكمها الوضعي.

و الكلام هنا في حكم إجزاء التقية في العبادات و المعاملات.

إعطاء الضابطة و تنقيح محلّ الكلام

و ينبغي قبل الورود في البحث عن ذلك في كلّ واحد من العبادات و المعاملات، أن نشير إلي مقتضي القاعدة في كلا المقامين باعطاء الضابطة الكليّة.

و هي أنّ الشارع إذا رفع حكما شاقّا عن المكلّفين و وضع مكانه حكما سهلا؛ امتنانا لهم و تسهيلا عليهم، يكون حكمه بإعادة ذلك الواجب المرفوع أو قضائه بعد رفع الضرورة، مخالفا لمقتضي الامتنان. فإنّ الامتنان إنّما يتمّ برفع

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 198

ذلك الواجب الشاقّ رأسا و تماما، و إيجاب إعادته أو قضائه بعد رفع الضرورة ينافي ذلك. و هذه الضابطة لا تختصّ بالعبادات، بل تأتي في المعاملات أيضا؛ لعمومية الملاك.

هذا مع أنّ مقتضي الأمر الثانوي الاضطراري بدلية المأمور به الاضطراري عن الاختياري الأوّلي. و إطلاق دليل البدلية يقتضي الإجزاء عن الإعادة و القضاء، كما قرّرنا ذلك في مبحث الإجزاء من كتابنا «بدائع البحوث».

و لا فرق في ذلك بين الاضطرار إلي التقية و بين الاضطرار إلي غيرها. و عليه فمقتضي أوامر التقية الاضطرارية الإجزاء في العبادات علي القاعدة.

و قد سبق منّا أنّ مقتضي مشروعية التقية فيها إجزاء العبادة المأتيّ بها علي وجه التقية عن الإعادة و القضاء بعد ارتفاع ملاك التقية، لكن لا مطلقا، بل فيما إذا توقف التقية علي الإتيان بالعبادة علي الوجه الموافق للعامّة، دون ما

إذا أمكنت بتركها في بعض الوقت. و كان كلّ ما سبق من البحث في غير التقية المداراتية؛ من التقية الاضطرارية و الإكراهية و الخوفية.

أمّا التقية المداراتية، ففي المندوبات و حقوق الاخوان ممّا يدخل في عنوان المعروف، فلا إشكال في مشروعيتها، بل استحبابها؛ لما يظهر من نصوص هذا النوع من التقية. و لا يترتّب عليها حكم وضعي من الإعادة و القضاء، و الكفّارة لكي يتطرّق إليها بحث الإجزاء. و كذا في الواجبات الّتي لا إعادة و لا قضاء فيها.

و أمّا التقية المداراتية في الصلاة، فسيأتي الكلام فيها تفصيلا، و إن كانت هي غير خارجة عن الضابطة الّتي ذكرناها. و هي إجزاء كلّ عبادة ثبتت مشروعيتها علي الوجه الموافق للعامّة، و لو بعمومات أدلّة التقية من غير حاجة إلي النصوص الخاصّة، كما سبق منّا. و هذه الضابطة الكلّية تشمل الصلاة و غيرها ممّا يكون له إعادة و قضاء.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 199

إلّا أنّ الكلام في الصلاة مع المخالفين يقع مستقلّا؛ لما فيها من مباحث عديدة مبسوطة، كالبحث عن شرائط مشروعيتها و كيفية التقية المشروعية فيها، و ما دلّت عليه النصوص الخاصّة من كيفية الإتيان بها و خصوصيات الصلاة المأتيّ بها مع المخالفين عن تقية. و ما دلّ منها علي عدم الإجزاء في بعض الصور و بالنسبة إلي بعض الأجزاء في الجملة. و سيأتي البحث عنها مفصّلا.

ثمّ إنّ الكلام في المقام يقع تارة: في إجزاء العبادات، و اخري: في إجزاء المعاملات.

و يقع الكلام في العبادات:

تارة: في إجزاء التقية في الطهارات، من الغسل و الوضوء و التيمّم و الغسل.

و اخري: في إجزاء التقية من حيث الإعادة و القضاء.

و ثالثة: في إجزاء المعاملات.

حكم التقية في الطهارات

و هاهنا

جهات من البحث ينبغي تنقيحها.

الاولي: أنّ إطلاقات أدلّة التقية الاضطرارية هل يستفاد منها رفع الحدث بالوضوء المأتيّ به علي وجه التقية؟ أو لا، بل إنّما تدلّ علي مجرّد مشروعية الدخول في الصلاة و كونه مبيحا لها.

الثانية: أنّه علي فرض دلالتها علي كون الوضوء المأتيّ به علي وجه التقية رافعا للحدث- لا مجرّد كونه مبيحا للدخول في الصلاة الّتي توضّأ لأجلها-، فهل تدلّ علي ذلك بالنسبة إلي خصوص الصلاة الّتي توضّأ لأجلها، أو تعمّ الصلوات الآتية، بل و غيرها، ممّا يشترط فيه الطهارة عن الحدث. و كذلك الكلام في الغسل.

الثالثة: أنّ إطلاقات أدلّة التقية الاضطرارية هل تدلّ علي رفع الخبث

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 200

و حصول الطهارة عنه بالتطهير علي وجه التقية، كتجفيف موضع البول؟.

أمّا الجهة الأولي: فلا إشكال في دلالة نصوص التقية الاضطرارية علي كون الوضوء أو الغسل المأتيّ به علي وجه التقية رافعا للحدث، كما هو شأن أدلّة الطهارة الترابية الاضطرارية. فكما أنّ أدلّة التيمّم الاضطرارية تدلّ علي جواز الدخول في الصلاة مطلقا و غيرها ممّا يشترط فيه الطهارة المائية ما دام الاضطرار، كذلك أدلّة التقية الاضطرارية. فإنّها تدلّ علي جواز الدخول في الصلاة بالطهارة الاضطرارية ما دام الاضطرار، من غير فرق بين الصلاة الّتي لأجلها توضّئ تقيّة و بين ساير الصلوات الآتية لكن ما دام الاضطرار. و كذلك تدلّ علي مشروعية الدخول بها في ساير ما يشترط فيه الطهارة. و يكشف ذلك عن دلالة نصوص التقية في الوضوء علي رفع الحدث بالوضوء علي وجه التقية.

و أمّا الجهة الثانية: فقد تبيّن ممّا ذكرناه أنّ دلالة أدلّة التقية علي رافعية الطهارة- المأتيّ بها علي وجه التقية- للحدث لا تختصّ بالصلاة الّتي

لأجل إتيانها تطهّر المكلّف علي وجه التقية، بل تعمّ غيرها من الصلوات الآتية و ما يشترط فيه الطهارة، و لكن ما دام اضطرار التقية باقيا. و أمّا بعد ارتفاع الاضطرار، فلا دلالة لها علي ذلك.

و ذلك لأنّ وزان دلالة أدلّة التقية الاضطرارية علي الإجزاء، مثل وزان دلالة أدلّة التيمّم علي الإجزاء، بلا فرق بينهما. فكما أنّ أدلّة التيمّم لا تقتضي إجزاء التيمّم بعد ارتفاع العذر عن غير الصلاة الّتي لأجلها تيمّم المكلّف، فكذلك أدلّة التقية الاضطرارية لا تقتضي الإجزاء عن غير الصلاة- الّتي لأجلها توضّأ المكلّف عن تقية- بعد ارتفاع الاضطرار.

و أمّا الجهة الثالثة: فقد يقال بعدم دلالة أدلّة التقية علي رفع الخبث بالتطهير

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 201

عنه علي وجه التقية، بل غاية مدلولها إباحة فعل ما يشترط فيه الطهارة عن الخبث بتجفيف موضع البول- مثلا- إذا اضطرّ إلي الصلاة معه لأجل التقية؛ بمعني ارتفاع العقاب عنه، لا الإجزاء عن الصلاة الواقعية بعد ارتفاع التقية.

و يستدلّ لذلك بأنّه فرق بين الطهارة عن الحدث و بين الطهارة عن الخبث.

و ذلك إمّا للفهم العرفي من الجواز و الحلّية؛ نظرا إلي أنّ المتفاهم منهما عرفا في الطهارة عن الحدث، هو صحّتها المستلزمة لرفعه. و لكن في الطهارة عن الخبث يتفاهم منها عرفا جواز نفس عمل التطهير عن الخبث لا رفعه. فمن هنا لا تدلّ أدلّة التقية في التطهير عن الخبث علي رفعه، بل غاية مفادها جواز الدخول في ما يشترط فيه الطهارة عن الخبث.

و إمّا لمقتضي سياق أدلّة التقية؛ حيث إنّ مقتضي مفهوم التقية و ماهيتها التحرّز عن الضرر و التحفّظ عنه و دفع الاضطرار بها. و هذه الدلالة السياقية تعطي لأدلّة التقية

ظهورا في كون الأمر بالتقية لأجل هذا الغرض. و هو يتحقّق بصرف جواز العمل العبادي و إباحته.

و لكن لا يخفي ما في هذين الوجهين من المناقشة.

أمّا الفهم العرفي، فهو يقتضي خلاف ما ادّعاه المستدلّ. و ذلك لأنّه لو سئل الإمام عليه السّلام عن حكم التطهير عن الخبث بتجفيف موضع البول بخرقة أو طين أو حجر، فأجاب الإمام عليه السّلام- مثلا-: «لا بأس به فإنّه جائز»، فكيف يستفاد من جوابه هذا حصول الطهارة عن الخبث بذلك، فكذلك لو أفاد نصوص التقية جواز التطهير عن الخبث تقية. فلا فرق بين التطهير عن الخبث و بين التطهير عن الحدث في المتفاهم العرفي من أدلّة التقية الاضطرارية.

و أمّا الوجه الثاني، فان المقصود من الأمر بالتقية الاضطرارية في نصوصها، و إن كان هو مجرّد التحرّز عن الضرر و التحفّظ عنه، و لكن لو حصل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 202

هذا الغرض بنفس جواز الفعل المتّقي به تكليفا، من دون توقّف علي رفع الحدث، فلا تفيد الإجزاء حينئذ مطلقا، بلا فرق بين تطهير عن الحدث و بين تطهير عن الخبث.

كما أنّه لو قلنا بظهور أدلّة التقية في الأعمّ من الجواز الوضعي و التكليفي بالإطلاق أو بقرينة مقام الامتنان، فلا فرق أيضا بين المقامين. و علي أيّ حال فلا يمكن القول بالفرق بين المقامين لهذه الوجوه المذكورة. و مقتضي ذلك إجزاء العبادة المأتيّ بها في الثوب المتطهّر بالغسل عن تقية و لو كان فاقد للشرائط المعتبرة عندنا.

اللّهمّ إلّا أن يتمسّك لإثبات الفرق بينهما بارتكاز المتشرّعة أو الضرورة أو الإجماع و نحو ذلك من الأدلّة غير اللفظية، فيقال بعدم دلالة إطلاقات التقية علي رفع الخبث بالغسل علي وجه التقية؛ رغما

لمقتضي إطلاقاتها بمقتضي الفهم العرفي، مع قطع النظر عن أيّة قرينة كما قلناه. و هو و إن كان غير بعيد، لكنه بحاجة إلي الإثبات.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 203

الإجزاء عن الإعادة و القضاء
اشارة

1- كلام الشيخ الأنصاري قدّس سرّه.

2- تفصيل السيّد الخوئي قدّس سرّه و نقده.

3- المناقشة في كلام الشيخ الأعظم.

كلام الشيخ الانصاري قدّس سرّه

إنّ للشيخ الأعظم في المقام كلاما تحريره: أنه إذا استفدنا من أدلّة التقية- عموما أو خصوصا- إذن الشارع بإتيان الواجب الموسّع علي وجه التقية؛ بجعل المأتيّ به عن تقية بدلا اضطراريا، لا إشكال في إجزائه عن الإعادة و القضاء.

و مثّل لما دلّ من نصوصها علي الإذن خصوصا بالنصوص الدالّة علي الاذن بالصلاة متكتّفا حال التقية، و علي الإذن العامّ بقوله عليه السّلام: «التقية في كلّ شي ء، إلّا في النبيذ و المسح علي الخفّين». «1»

و علّل ذلك بما قرّر في محلّه بقوله: «إنّ الأمر بالكلّي كما يسقط بفرده الاختياري، كذلك يسقط بفرده الاضطراري إذا تحقّق الاضطرار الموجب للأمر به، فكما أنّ الأمر بالصلاة يسقط بالصلاة مع الطهارة المائيّة، كذلك يسقط مع

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 25، من أبواب الأمر و النهي، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 204

الطهارة الترابية إذا وقعت علي الوجه المأمور به». «1»

و أمّا إذا لم نستفد الإذن المزبور من أدلّة التقية بأحد الوجهين، حكم بأنّه لا بدّ من الرجوع إلي مقتضي القاعدة في حال الاضطرار. و المحكّم حينئذ أدلّة الأجزاء و الشرائط المتعذّره بالاضطرار و أدلّة التقية معا.

ثمّ ساق قدّس سرّه الكلام إلي أنّ الأوامر الأولية بتلك الأجزاء و الشرائط هل تدلّ بضميمة أدلّة التقية علي الأمر بامتثال الواجب الأولي علي وجه التقية؟ أو لا، بل غاية مفاد أدلّة التقية سقوط الواجب الواقعي الأوّلي عن المكلّف في حال التقية، و لو استوعب الوقت.

و الفرق أنّ أدلّة التقية علي الأوّل حاكمة علي الأدلّة الأولية بتوسعة الصلاة الاختيارية إلي الاضطرارية علي

وجه التقية. و أمّا علي الثاني فغاية مفادها مشروعية العمل و جوازه علي وجه التقية.

و لكنّ التحقيق يقتضي الجمع بينها و بين أدلّة الواجب بتوسعة متعلّق أمرها إلي المأتيّ به علي وجه التقية؛ لحكومة أدلّة التقية علي أدلّة الأحكام الأوّلية بمقتضي التوفيق بين أدلّتها و بين إطلاقات الأدلّة الأولية لتلك العبادة.

ثمّ قال قدّس سرّه في بيان مقتضي التحقيق في الصورة الثانية ما حاصله: أنّه ينظر إلي مقتضي أدلّة تلك الأجزاء و الشرائط المتعذّرة لأجل التقية.

فإن اقتضت دخل الأجزاء و الشرائط في العبادة مطلقا، بلا فرق بين حالتي الاختيار و الاضطرار، يسقط أصل التكليف بالعبادة حينما تعذّر ذلك الجزء أو الشرط للتقية. و لا معني للإجزاء حينئذ؛ حيث لا أمر بالمأتيّ به الاضطراري بما أنّه عبادة، فيكون كفاقد الطهورين.

______________________________

(1) رسالة التقية للشيخ الأعظم: ص 17.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 205

و أمّا لو اقتضت اعتبارها في العبادة بشرط التمكّن يبقي الأمر العبادي علي حاله و لا يسقط بتعذّر ذلك الجزء أو الشرط للتقية. و لازم ذلك صحّة العبادة المأتيّ بها علي وجه التقية؛ و إجزائها عن الأمر الواقعي؛ نظرا إلي إذن الشارع بالدخول فيها مع فقدان ما تعذّر من أجزائها و شرائطها لأجل التقية. و أمّا في جواز البدار عند استيعاب العذر خلاف معروف قرّر في محلّه.

فاستنتج الشيخ قدّس سرّه من جميع ما ذكره إناطة صحّة العبادة المأتيّ بها علي وجه التقية بإذن الشارع في الإتيان بها كذلك بأحد النحوين المزبورين.

و لكنّه قدّس سرّه اشترط في ثبوت الإذن علي النحو الثاني أوّلا: كون المتعذّر لأجل التقية من الأجزاء و الشرائط الاختيارية. و ثانيا: عدم وجود المندوحة في تمام الوقت أو حين العمل مع

اليأس من التمكّن إلي آخر الوقت.

و اشترط في الوجه الأوّل من الإذن أوّلا: كون التقية من المخالفين، لا من الكفّار أو ظلمة الشيعة. ثمّ تنظّر في هذا الشرط لعموم نصوص مشروعية التقية.

و ثانيا: كون التقية في الأحكام، لا الموضوعات؛ لخروجها عن منصرف إطلاقات أدلّة التقية؛ نظرا إلي عدم دخل للموضوعات في المذهب، إلّا في الموضوعات الثابتة الّتي استقرّ عليها مذهب المخالفين، كتحقّق المغرب باستتار قرص الشمس، فالصلاة عند اختفاء الشمس داخلة في نطاق إطلاقات التقية. و كذلك الموضوعات الراجعة إلي الأحكام كثبوت الهلال بحكم الحاكم.

هذا حاصل كلام الشيخ في المقام. «1»

و لكن يرد عليه: أنّه لا وجه لتشكيكه في دلالة أدلّة التقية علي صحّة العبادة

______________________________

(1) رسالة التقية للشيخ الأعظم: ص 17- 19.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 206

المأتيّ بها علي وجه التقية؛ بدعوي احتمال استفادة اعتبار الأجزاء و شرائط الواجب الواقعي مطلقا، حتّي عند التعذّر حال التقية.

و ذلك أنّه بعد دلالة أدلّة التقية و نصوصها الخاصّة و العامّة علي الإذن في الإتيان بالعبادة علي وجه التقية في موردها، كما اعترف به الشيخ سابقا و هاهنا، لا مجال للتشكيك علي صحّة العبادة المأتيّ بها علي وجه التقية.

و دعوي ظهور الأدلّة الأولية في اعتبار جزء أو شرط مطلقا حتّي في صورة عدم التمكّن؛ بحيث يوجب سقوط أصل الأمر، ممّا لا وجه له بعد ثبوت الإذن بالدخول في تلك العبادة علي وجه التقية؛ بمقتضي حكومة أدلّة التقية علي أدلّة الأحكام الأولية؛ حيث إنّ معني ذلك سقوط اعتبار ذلك الجزء أو الشرط في صحّة العبادة عند تعذّره لأجل التقية. أمّا اعتبار عدم المندوحة و عدمه، فهو أمر آخر قد بحثنا عنه مفصّلا.

تفصيل السيد الخوئي

و قد فصّل بعض

الأعلام «1» في المقام بينما إذا كان الاضطرار من غير جهة التقية و بينما إذا كان من جهة التقية. ففي الصورة الأولي فصّل بين الصلاة و بين غيرها.

ففي غير الصلاة حكم بارتفاع أصل الأمر المتعلّق بالواجب المركّب العبادي لأجل تعذّر جزء أو شرط منه بالاضطرار؛ نظرا إلي إطلاق أدلّة الجزئية و الشرطية و شمولها لصورتي التمكّن منها و عدمه.

و أمّا في الصلاة فلمّا لا تسقط بحال لدلالة النصوص الخاصّة، يوجب ذلك انصراف أدلّة أجزائها و شرائطها إلي صورة التمكّن.

______________________________

(1) و هو السيد الخوئي في التنقيح: ج 4، ص 288- 292.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 207

و أمّا في الصورة الثانية؛ و هي ما إذا كان الاضطرار لأجل التقية، فقد فصّل أوّلا: بين ما ورد فيه الأمر بالتقية بالخصوص، فحكم فيه بالصحّة مطلقا؛ لظهوره في جعل العمل المتّقي به مصداقا لطبيعة العبادة المأمور بها بالأمر الأوّلي. فلا بدّ من الحكم بتحقّق امتثاله بإتيانها علي وجه التقية و سقوط الأمر الأوّلي بذلك لا محالة.

و بين ما لم يرد فيه أمر بالتقية بالخصوص، ممّا هو داخل تحت عمومات التقية.

ثمّ فصّل في هذه الصورة بينما كثر الابتلاء به فحكم فيه بالصحّة و الإجزاء؛ نظرا إلي قيام السيرة القطعية من لدن زمن الأئمّة عليهم السّلام إلي زماننا فيه علي الاكتفاء به كالتكتّف في الصلاة و غسل الرجلين في الوضوء و عدم ورود ردع ذلك في شي ء من النصوص و لا أمر بالإعادة أو القضاء، و لو استحبابا، بل ورد ما لا إشكال في دلالته علي الإجزاء، مثل ما دلّ منها علي أنّ من صلّي معهم كمن صلّي خلف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، بل في

بعضها أنّ المصلّي معهم في الصفّ الأوّل كالشاهر سيفه في سبيل اللّه. «1»

نعم ورد في بعضها الأمر بالصلاة قبل الإمام أو بعده، و لو بجعلها تطوّعا؛ لعدم جواز الصلاة خلف من لا يوثق به و هو أعمّ من أن يكون عاميا أو شيعيا.

ثمّ قيّد ذلك بما إذا لم تؤدّ التقية إلي ترك الواجب العبادي الأوّلي و المأتيّ به الموافق للتقية رأسا، و إلّا لا إشكال في وجوب الإعادة أو القضاء. حيث قال:

«و أمّا إذا أدّت التقية إلي ترك العمل برمّته كما إذا ترك الصلاة- مثلا- تقية، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في وجوب الإتيان بالمأمور به الأوّلي بعد ذلك في

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 5، من ابواب الصلاة الجماعة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 208

الوقت إن كان باقيا و في خارجه إذا كانت التقية مستوعبة للوقت فإنّ ترك العمل لا يجزي عن العمل و هذا بحسب الكبري ممّا لا إشكال فيه عند الأعلام». «1»

نقد كلام السيد الخوئي

و فيه: أنّه لا عبرة بكثرة الابتلاء و قيام السيرة و عدمه بعد ظهور الأدلة اللفظية و دلالة نصوص التقية بعمومها و إطلاقها علي جواز الإتيان بالعمل العبادي علي وجه التقية في موردها. نعم إذا قامت السيرة القطعية من الشيعة علي عدم الاكتفاء بالصلاة المأتيّ بها علي وجه التقية، تصلح للقرينية علي صرف إطلاقات التقية عن الإجزاء و إلي ظهورها في أصل الجواز و مشروعية المأتيّ به عن تقية. و لكن دون إثبات هذه السيرة خرط القتاد بعد ذهاب جماعة من الفقهاء إلي الإجزاء، بل و دعوي مثل صاحب الحدائق الإجماع عليه في العبادات و المعاملات، كما سبق و يأتي أيضا نصّ كلامه. و كذا ظاهر المحقّق الكركي.

و

هذا الإجماع المدّعي يؤكّد مدلول عمومات التقية الظاهرة في الإجزاء، مثل قول أبي عبد اللّه عليه السّلام في موثّقة مسعدة بن صدقة: «فكلّ شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلي الفساد في الدين فإنّه جائز». «2» فانّه بمنزلة قوله عليه السّلام: «الصلح جائز بين المسلمين»؛ حيث لا وجه لدعوي اختصاصه بالجواز التكليفي، بل يشمل الوضعي أيضا، كما أشار إليه السيّد الإمام الراحل قدّس سرّه. «3»

و منها: صحيحة أبي الصباح الكناني قال: «و اللّه لقد قال لي جعفر بن محمّد عليه السّلام: انّ اللّه علّم نبيّه التنزيل و التأويل فعلّمه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام قال: و علّمنا و اللّه، ثمّ قال: ما صنعتم من شي ء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة». «4»

______________________________

(1) التنقيح: ج 4، ص 300.

(2) وسائل الشيعة: ج 11 ب 25، من الأمر و النهي، ح 6.

(3) الرسائل: ج 2، ص 192.

(4) وسائل الشيعة: ج 16 ب 12 من كتاب الأيمان، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 209

و منها: قوله عليه السّلام: «التقية في كلّ شي ء يضطرّ إليه ابن آدم، فقد أحلّه اللّه له» في صحيحة محمّد بن مسلم و زرارة و غيرهما. «1» فأيّ فرق بين قوله عليه السّلام: «أحلّه اللّه» و بين قوله تعالي: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ في الدلالة علي الحلّية الوضعية و ترتيب آثار الصحّة؟!.

و منها: قوله عليه السّلام في موثّقة سماعة: «فإنّ التقية واسعة، و ليس شي ء من التقية إلّا و صاحبها مأجور عليها إن شاء اللّه». «2» فإنّ كون المكلّف في سعة من ناحية التقية و كونه مأجورا عليها يعمّ الجواز

الوضعي و يقتضي صحّة العبادة المأتيّ بها عن تقية.

فإنّ الإتيان بالعبادة الباطلة لا يناسبه هذا التعبير. و مثل ذلك ما دلّ علي أنّ التقية دين أهل البيت و أنّها من دين اللّه، فكيف تكون العمل العبادي الباطل من دين اللّه؟!

و حاصل الكلام: أنّه لا غبار في دلالة هذه النصوص علي إجزاء التقية في العبادات كما استدلّ بها السيّد الإمام الراحل «3» لذلك. و لكن لا مطلقا، بل علي تفصيل سبق منّا آنفا؛ جمعا بين أدلّة التقية و بين أدلّة الأوامر الأولية المتعلّقة بالعبادات.

و قد سبق ذكر طوائف من النصوص الدالّة علي إجزاء التقية في العبادات آنفا في خلال هذا البحث.

المناقشة في كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه

و قد تبيّن من خلال ما بيّنّاه إجزاء التقية في العبادات من غير جهة الإعادة و القضاء، من صحّة الوضوء المأتيّ به علي وجه التقية و ترتّب آثارها.

فإنّ العمومات المزبورة لا تختصّ في دلالتها علي الإجزاء بجهة خاصّة، بل

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 25 من أبواب الأمر و النهي ح 2.

(2) وسائل الشيعة: ج 5 ب 56 من صلاة الجماعة، ح 2.

(3) الرسائل: ج 2، ص 192- 195.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 210

تدلّ علي صحّة العمل العبادي المأتي به علي وجه التقية من مطلق الجهات المترتّبة علي صحّة العمل، كحصول الطهارة المعتبرة في الصلاة و نحوها.

و بما بيّنّاه يتضح ما في كلام الشيخ الأعظم «1» من النقاش؛ حيث جعل مقتضي القاعدة عدم ترتيب آثار الصحّة- من غير جهة الإجزاء عن الإعادة و القضاء- علي التقية بدعوي عدم دلالة أدلّتها علي أكثر من وجوب التحرّز عن الضرر، من دون دلالة علي ترتّب آثار الصحّة، و رتّب علي ذلك عدم جواز الاكتفاء

بالوضوء علي وجه التقية للصلاة و رفع الحدث.

و قد عرفت أنّه لا وجه لاختصاص الجواز و الترخيص في نصوص التقية بالجواز التكليفي بعد قابلية المورد لجواز الوضعي. نعم لو لم يكن المورد قابلا لذلك كشرب النبيذ، لا بدّ من حمل الجواز فيه علي التكليفي. و أمّا في مثل الوضوء و الصلاة و ساير الأفعال العبادية القابلة للاتّصاف بالجواز الوضعي، لا وجه للحمل علي خصوص التكليفي، لما قلنا من أنّ جواز كلّ شي ء بحسبه.

و دعوي عدم الملازمة بين الجواز التكليفي و بين الصحّة، و إن كانت وجيهة عقلا، إلّا أنّه خلاف ما هو المتفاهم العرفي من مشروعية العبادة و جوازها؛ نظرا إلي ظهورها عرفا في الصحّة و الإجزاء. و من هنا تري الفقهاء لا يزالون يستدلّون بالأوامر المتعلّقة بالعبادات في الخطابات الشرعية لإثبات صحّتها و إجزائها.

و العجب من الشيخ الأعظم، فإنّه مع اعترافه بهذه النكتة أنكر دلالة نصوص التقية علي الجواز الوضعي في غير الإعادة و القضاء.

هذا مضافا إلي اعتراف الشيخ في ردّ تفصيل المحقّق الكركي؛ بأنّ جواز الدخول في العبادة المأتيّ بها عن تقية و الإذن بها- المستفاد من أدلّة التقية-،

______________________________

(1) رسالة التقية: ص 37.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 211

مستلزم لإجزائها مطلقا، بلا فرق بين أدلّة التقية العامّة و بين أدلّتها الخاصّة؛ حيث قال: «بل كلّما يوجب الإذن في الدخول في العبادة امتثالا لأوامرها، كان امتثاله موجبا للإجزاء و سقوط الإعادة، سواء كان نصّا خاصّا أو دليلا عامّا.

و كلّما لا يدلّ علي الإذن في الدخول علي الوجه المذكور، لم يشرع بمجرّده الدخول في العبادة علي وجه التقية امتثالا لأمرها». «1»

و لازم كلامه هذا إجزاء العمل المأتيّ به عن تقية مطلقا، بلا

فرق بين الإعادة و القضاء و بين غيرهما من الآثار.

فقد تحصّل ممّا بيّنّاه في المقام امور:

1- مقتضي قاعدة الامتنان إجزاء التقية مطلقا. و مقتضي قاعدة البدلية- أي بدلية المأمور به الاضطراري عن الاختياري- إجزاء التقية الاضطرارية في العبادات.

2- إنّ التقية المداراتية في المندوبات الّتي لا إعادة و لا قضاء لها خارجة عن محلّ الكلام، حيث لا يتصوّر فيها الإجزاء. و أمّا ما يتصوّر فيه العادة و القضاء من الواجبات و المندوبات، فمقتضي القاعدة فيها الإجزاء.

3- لا إشكال في دلالة أدلّة التقية الاضطرارية علي رفع الحدث بالوضوء و الغسل عن تقية، كدلالة أدلّة التيمّم علي ذلك؛ لقاعدتي البدلية و الامتنان، من غير اختصاص بالصلاة الّتي تطهّر لها، لكن ما دام الاضطرار، كما في التيمّم.

4- أمّا الغسل عن تقية، فمقتضي أدلّة التقية الاضطرارية لمّا كان جوازه امتنانا، يستفاد منها رفع الخبث؛ لأنّه مدلول سياقها الموافق للمتفاهم العرفي، لا مجرّد إباحة الدخول في العبادة، كما قيل. فمقتضي القاعدة إجزاء العبادة بالغسل عن تقية. اللّهمّ إلّا أن يكون هناك إجماع أو سيرة ارتكازية علي عدم رفع

______________________________

(1) رسالة التقية للشيخ الأعظم: ص 24.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 212

الخبث و عدم الإجزاء، لكنّه بحاجة إلي الإثبات.

5- مقتضي القاعدة في العبادات إجزاء التقية من حيث الإعادة و القضاء.

و ذلك أوّلا: للملازمة العرفية بين مشروعية العبادة و بين إجزائها.

و ثانيا: لقاعدة الامتنان؛ حيث ينافي التكليف بالإعادة و القضاء مقتضي الامتنان.

و ثالثا: لقاعدة البدلية؛ لأنّ المتفاهم العرفي من تشريع عبادة و وضعها مكان اخري إجزائها عنها. و بذلك تبيّن ما في بعض التفاصيل من المناقشة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 213

إجزاء التقية في المعاملات
اشارة

1- كلام الشيخ و نقده.

2- كلام

المحقّق الكركي و نقده.

3- نقد كلام السيّد الخوئي.

4- نظرة إلي رأي السيّد الإمام.

5- تقريب استدلال السيّد الخوئي.

6- المناقشة في استدلال السيّد الخوئي.

7- إذا اعتقد التقية ثمّ بان الخلاف.

8- بيان الاستدلال علي المختار.

9- التنبيه علي امور.

وقع الكلام في أنّ إنشاء المعاملة علي وجه التقية هل يجزي عن تجديد إنشائها بعد ارتفاع سبب التقية، أم لا؟ بمعني أنّه هل تدلّ نصوص التقية علي ترتيب آثار الصحّة علي المعاملة المنشأة علي وجه التقية، بحيث لا يحتاج إلي إنشائها بعد ارتفاع سبب التقية؟

و قد ادّعي في الحدائق عدم الخلاف بين الأصحاب في إجزاء التقية في المعاملات؛ حيث قال: «إذا فعل المكلّف فعلا علي وجه التقية من العبادات أو

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 214

المعاملات، فهو صحيح مجز، بلا خلاف». «1»

و قد أنكر الشيخ الأعظم دلالة عمومات مشروعية التقية علي صحّة المعاملة الواقعة علي وجه التقية.

كلام الشيخ و نقده

قال قدّس سرّه: «و ربّما يتوهّم أنّ ما تقدّم من الأخبار- الواردة في أنّ كلّ ما يعمل للتقية فهو جائز، و أنّ كلّ شي ء يضطرّ إليه للتقية فهو جائز- يدلّ علي ترتيب الآثار مطلقا، بناء علي أنّ معني الجواز و المنع في كلّ شي ء بحسبه؛ فكما أنّ الجواز و المنع في الأفعال المستقلّة في الحكم- كشرب النبيذ و نحوه- يراد به الإثم و العدم، و في الامور الداخلة في العبادات فعلا أو تركا يراد به الإذن و المنع من جهة تحقّق الامتثال بتلك العبادات، فكذلك الكلام في المعاملات؛ بمعني عدم البأس و ثبوته من جهة ترتّب الآثار المقصودة من تلك المعاملة، كما في قول الشارع: يجوز المعاملة الفلانيّة أو لا يجوز، و هذا توهّم مدفوع بما لا يخفي علي المتأمّل». «2»

و

يرد عليه ما أشكلنا به عليه آنفا في توجيهه لإنكار إجزاء التقية في العبادات من غير جهة الإعادة و القضاء.

فإنّ المعاملات لمّا كانت قابلة للاتّصاف بالصحّة و الفساد. فإذا قال الشارع: «أحلّ اللّه البيع أو جاز البيع الفلاني، أو لا يجوز، أو حرّم الربا»، يتبادر منه الإرشاد إلي الصحّة و الفساد.

نعم مجرّد النهي عن معاملة لا يقتضي فسادها ما لم يتعلّق بأصل عنوانها.

و أمّا إذا دلّ دليل علي جواز معاملة و مشروعيتها يتبادر منه عرفا صحّة تلك المعاملة.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 2، ص 316.

(2) رسالة التقية للشيخ الأعظم: ص 40.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 215

و من هنا تدلّ نصوص مشروعية التقية و جواز المأتيّ به عن تقية علي مشروعية المعاملة و جوازها علي وجه التقية. و مقتضي جوازها و مشروعيتها عند الشارع ترتّب آثار الصحّة عليها، كما هو الظاهر من التعبير بالجواز و حلّيّة المعاملة في غير المقام.

كلام المحقق الكركي و نقده

ذهب المحقّق الثاني إلي عدم إجزاء التقية في المعاملات و أنّه لا يجوز ترتيب آثار الصحّة علي خلاف مذهب أهل الحقّ في شي ء من المعاملات الواقعة علي وجه التقية.

فإنّه بعد ما أشار إلي وجود القول بعدم الفرق بين العبادات و المعاملات ردّه؛ معلّلا بأنّ إطلاقات التقية لا تدلّ علي أزيد من مشروعية إظهار الموافقة للعامّة تكليفا. و أمّا الإجزاء و ترتيب آثار الصحّة وضعا فلا تدلّ عليه بإحدي الدلالات.

و إنّما التزم بالصحّة و الإجزاء في خصوص موارد من العبادات ورد فيها الأمر بالتقية بالخصوص. و هي لم ترد إلّا في موارد خاصّة من العبادات، و أمّا ما لم يرد فيه نصّ خاصّ كالمعاملات و ساير موارد العبادات- كفعل الصلاة إلي غير القبلة، و

بالوضوء بالنبيذ، و مع الإخلال بالموالاة بحيث يجفّ البلل كما يراه بعض العامّة-، فلم يلتزم بترتيب آثار الصحّة علي ما وقع منها علي وجه التقية؛ لقصور إطلاقات التقية عن إثبات أزيد من جواز إظهار الموافقة تكليفا.

و إليك شطر من كلامه قال:

«و أمّا في المعاملات، فلا يحلّ له باطنا وطي المنكوحة للتقية علي خلاف مذهب أهل الحقّ، و لا التصرّف في المال المأخوذ من المضمون عنه لو اقتضت التقية أخذه، و لا تزوّج الخامسة لو طلّق الرابعة علي مقتضي مذهب أهل الخلاف دون المذهب الحقّ- إلي أن قال-: و ربّما قيل بعدم الفرق بين المقامين في كون المأتيّ به شرعا مجزيا علي كلّ تقدير، و هو مردود.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 216

لنا: إنّ الشارع كلّف بالعبادة علي وجه مخصوص و رتّب الأثر في المقالة لوقوعها علي وجه مخصوص، فلا يثبت الإجزاء و الصحّة بمعني ترتّب الأثر من دونهما، و هو ظاهر.

و الإذن في التقية من جهة الإطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة، أمّا كون المأتيّ به هو المكلّف به أو المعاملة المعتبرة عند أهل البيت عليهم السّلام فأمر زائد علي ذلك، لا يدلّ عليه الاذن في التقية من جهة الإطلاق بإحدي الدلالات». «1»

و فيه: أنّا نمنع قصور إطلاقات نصوص التقية عن الدلالة علي الصحّة و الإجزاء، بلا فرق بين العبادات و المعاملات؛ لما بيّنّا وجه ذلك آنفا في الجواب عن الشيخ الأعظم. اللّهمّ إلّا أن يكون إجماع في البين علي عدم ترتيب آثار الصحّة علي التقية في المعاملات أو في مطلق ما لم يرد فيه نصّ خاصّ حتّي في العبادات، و كيف يمكن دعوي مثل هذا الإجماع؟ مع نسبة المحقّق الكركي

نفي الفرق إلي كثير من الأصحاب بقوله: «ربّما قيل بعدم الفرق بين المقامين في كون المأتيّ به شرعا مجزيا علي كلّ تقدير»؟! «2»، بل ادّعي صاحب الحدائق اتّفاق الأصحاب علي إجزاء التقية في العبادات و المعاملات مطلقا، كما عرفت آنفا.

نقد كلام السيّد الخوئي

و العجب من السيّد الخوئي؛ حيث إنّه اعترف بعدم الفرق بين العبادات و المعاملات من حيث صحّة ما وقع علي وجه التقية و إجزائه بمقتضي إطلاقات التقية و أنّه لا قصور لاطلاقاتها من هذه الجهة، و أنّ الجواز و الحلّية الواردة في هذه النصوص أعمّ من الوضعي منهما، و أنّها تدلّ علي سقوط الجزئية و الشرطية و المانعية عند التقية.

______________________________

(1) رسائل المحقّق الكركي: ج 2، ص 52- 53.

(2) رسائل المحقّق الكركي: ج 2، ص 52.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 217

و مع ذلك امتنع عن الالتزام بمفادها و أنكر الالتزام بإجزاء التقية في المعاملات؛ بدعوي عدم معهودية التزام أحد بذلك، بل جعل ذلك من أحد محاذير الاستدلال بإطلاقات التقية في المقام، و التجأ لذلك إلي السيرة و استدلّ بها علي عدم إجزاء التقية في المعاملات.

فإنّه قدّس سرّه بعد الاستدلال لذلك بالسيرة قال:

«و أمّا بناء علي الاعتماد علي شي ء من الأدلّة اللفظية المتقدّمة، فيشكل الأمر في المسألة؛ لأنّ مقتضي عمومها و إطلاقها عدم الفرق في الحكم بالصحّة و الإجزاء بين العبادات و المعاملات؛ لأنّ مثل قوله عليه السّلام: «التقية في كلّ شي ء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له»، أعمّ من الحلّية التكليفية و الوضعية علي ما أفاده شيخنا الأنصاري.

فيحكم بسقوط الجزئية و الشرطية و المانعية عند التقية حتّي في المعاملات.

و لازم ذلك عدم الفرق في الصحّة و الإجزاء بين العبادات و

المعاملات، و لا نعهد أحدا التزم بالإجزاء في المعاملات، فليكن هذا أيضا من أحد المحاذير المترتّبة علي الاستدلال بالأدلّة اللفظية في المقام». «1»

و قد لا حظت كلام المحقّق آنفا من نسبة القول بإجزاء التقية مطلقا إلي قول كثير، بل عرفت ما سبق من المحدّث البحراني «2» من دعوي اتّفاق الأصحاب علي ذلك. و مع ذلك فكيف يمكن دعوي عدم معهودية التزام أحد بالإجزاء في المعاملات كما جاء في كلام هذا العلم؟!

و أمّا استقرار سيرة المتشرّعة علي الفرق، فإحرازها مشكل بعد دعوي مثل صاحب الحدائق اتّفاق الأصحاب علي الإجزاء. مع أنّه لم يدّعها علي الفرق بين المقامين غير هذا العلم، فلا يصلح مثل هذه السيرة المدّعاة للاستدلال به في قبال ما ورد في المقام من إطلاقات النصوص الشرعية المحكّمة في التوقيفيات.

______________________________

(1) التنقيح: ج 4، ص 304.

(2) الحدائق الناضرة: ج 2، ص 316.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 218

تقريب استدلال السيد الخوئي

و قد أطنب السيّد الخوئي «1» في تقريب الاستدلال لنفي دلالة إطلاقات التقية علي إجزائها بما حاصله: أنّ ما دلّ علي حلّية العمل المضطرّ إليه لأجل التقية- كقوله عليه السّلام: «فقد أحلّه اللّه» و قوله عليه السّلام: «فانتم منه في سعة» و قوله عليه السّلام: «فإنه جائز» -، «2» غاية ما يظهر منه نفي الحرمة التكليفية عن نفس الفعل المتّقي به. فإذا كان- لو لا التقية- حراما؛ إمّا لعدم الأمر به في العبادات و رجوعه إلي التشريع المحرّم أو لتعلّق النهي به، ترتفع عنه الحرمة بأدلّة التقية و يصير جائزا حلالا.

و أمّا الشرطية و المانعية، فهي مأخوذة في موضوع الحلّية و الصحّة.

و لا توجب الحلّية التكليفية تغيّر موضوعها؛ لأنّ الحكم لا يكون مثبتا و لا

مغيّرا لموضوعه. بل إنّما مرجع التجويز و التحليل إلي أنّ ما يتّصف بالبطلان لفقدان شرط أو وجود مانع، يصير فعله جائزا حلالا بأدلّة التقية. و مرجع ذلك في الحقيقة إلي جواز إبطال الصلاة عند التقية.

و بذلك يرتفع الضيق عن شخص المتّقي فيكون في سعة من الفعل المتّقي به، كما ورد في النصّ.

ثمّ قال في ختام الكلام: «و ممّا يوضح ذلك بل يدلّ عليه، ملاحظة غير العبادات من المعاملات بالمعني الأعمّ؛ فإنّه إذا اضطرّ أحد إلي غسل ثوبه المتنجّس بالبول مرّة واحدة و لم يتمكّن من غسله مرّتين، أو لم يتمكّن من غسله بالماء فغسله بغير الماء، أو لم يتمكّن من طلاق زوجته عند عدلين فطلّقها عند فاسقين اضطرارا، لم يمكن أن يحكم بحصول الطهارة للثوب و لا بوقوع الطلاق علي الزوجة بدعوي أنّه أمر قد صدر عن تقية أو اضطرار.

______________________________

(1) التنقيح: ج 4، ص 273- 287.

(2) وسائل الشيعة: ج 11 ب 25 من الأمر و النهي و ج 16 ب 12 من كتاب الأيمان.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 219

فهذا أقوي شاهد و دليل علي عدم ارتفاع الشرطية أو الجزئية أو المانعية في حال الاضطرار و التقية، اذا لا يكون العمل الفاقد لشي ء من ذلك- أي من الجزء أو الشرط- مجزيا في مقام الامتثال». «1»

المناقشة في استدلال السيّد الخوئي

و لكن يرد عليه أوّلا: أنّ السببية الشرعية يمكن استفادتها من نفس حلّية المعاملة، كما يستفاد ذلك من قوله تعالي: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ.

و السرّ في ذلك أنّ ألفاظ المعاملات و صيغها، لا شأن لها في ارتكاز العقلاء إلّا الآلية الصرفة لتحقّق مسبّباتها الّتي هي عناوين المعاملات. كما أنّ عناوين المعاملات الّتي هي بمعناها المسبّبي لا مطلوبية و

لا شأنية لها في ارتكازهم بما أنّها امور اعتبارية في نفسها مستقلّا، بل إنّما تعلّق اعتبار العقلاء بها؛ لغرض حصول آثار وضعية مترقّبة منها، كالملكية و الزوجية و جواز التصرّف فيما انتقل بها من الأعيان و المنافع و الحقوق.

و لأجل ذلك إذا صدر منهم تجويز معاملة أو منع عنها في مقام التقنين، لا يتعلّق ذلك التجويز أو المنع منهم بإنشائها بالصيغة بمعناها السببي بما أنه فعل في نفسه، و لا بنفس المسبّب و العنوان بما أنه في نفسه أمر اعتباري عندهم؛ حيث لا مصلحة و لا مفسدة في هذه الامور الاعتبارية في نفسها. بل إنما يتعلّق في الحقيقة بترتيب الآثار المتوقّعة منها.

و من هنا يكون المتفاهم العرفي من تجويز المعاملات و تحليلها الوارد في الخطابات الشرعية صحّتها و جواز ترتيب آثارها، بلا فرق بين كون التجويز و التحليل بالحكم الأوّلي الاختياري أو الثانوي الاضطراري، كما هو المتفاهم

______________________________

(1) التنقيح: ج 4، ص 280- 281.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 220

من تجويز العبادات بلا فرق بين الموردين.

و ثانيا: أنه لو كان دخل التقية و رفع الاضطرار به في تشريع جواز العمل المتّقي به و حلّيته مانعا من شموله للجواز و الحلّية وضعا، لكان مانعا عن ذلك في العبادات أيضا. و بعبارة اخري: لو لم تكن مشروعية التقية و جواز العمل المتّقي به دالّا علي الصحة و الإجزاء، لم يدلّ علي ذلك في العبادات أيضا، بلا فرق. و دعوي عدم كفاية التعبّد بالجواز التكليفي الثابت بالاضطرار للسببية الشرعية في المعاملات، فرع اختصاص الجواز فيها بالتكليفي و عدم ظهورها في الأعمّ من الوضعي، و هو ممنوع.

و ثالثا: إنّ ما ورد في نصوص التقية من أنّ صاحبها

مأجور، لا يناسب إرادة بطلان العبادة بها، بل إنّما يلائم صحّة العبادة المأتيّ بها علي وجه التقية، بل قبولها و الثواب عليها.

و كذا ما جاء في بعضها: «أنّ التقية من دين اللّه»، فهل تري كون إبطال العبادة المأمور بها من دين اللّه؟! فإنّ هذا التعبير ظاهر في الصحّة و الإجزاء، كما علّل به في الجواهر لصحّة الصلاة مع التكفير علي وجه التقية بقوله: «و في بطلانها بسبب فعله و جهان أقواهما الصحّة؛ لأنّ الشارع قد جعل حكم التقية في الواقع دينا». «1»

فإذا كان إنشاء المعاملة علي وجه التقية في الواقع من دين اللّه، لا مناص من الالتزام بصحّتها شرعا. و مقتضي ذلك إجزاؤها بعد ارتفاع التقية، كما هو مقتضي القاعدة في الأدلّة الاضطرارية.

و أمّا ما جاء في كلامه من استغراب التزام أحد بالصحّة و الإجزاء، فقد عرفت من صاحب الحدائق التصريح باتّفاق الأصحاب علي نفي الفرق بين

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 11، ص 25.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 221

العبادات و المعاملات من جهة دلالة أدلّة التقية علي الصحّة و الإجزاء فيهما، و نسبة المحقّق الكركي ذلك إلي كثير من الفقهاء. بل هذا الاستبعاد غريب من هذا العلم جدّا.

نظرة إلي رأي السيد الإمام راحل قدّس سرّه

حاصل كلام السيّد الإمام الراحل قدّس سرّه إجزاء التقية في المعاملات.

و علّل ذلك بإطلاقات التقية بالتقريب المتقدّم منّا آنفا. و كذا استدلّ لذلك بالأدلّة الخاصّة من التقية.

و زاد في الاستدلال لذلك: أنّ ظاهر كثير من عمومات التقية و إطلاقاتها كون العمل الموافق للتقية مصداقا لماهية المأمور بها، و مقتضاه سقوط أمره بإتيانه علي وجه التقية. و بذلك استدلّ علي إجزاء التقية في مطلق العبادات، ممّا لم يرد فيه نص خاص، و في مثل الوضوء

و الغسل و نحوهما.

و تعجّب من الشيخ الأعظم؛ حيث أشكل علي تفصيل المحقّق الثاني بين ما ورد فيه نصّ خاصّ و بين إطلاقات التقية، بعدم الفرق في دلالتها علي الصحّة و الإجزاء بين كون التقية مأذونا فيها بالخصوص أو بالعموم، و مع ذلك نسب في المقام إجزاء التقية في المعاملات إلي توهّم مدفوع.

قال قدّس سرّه: «و العجب من الشيخ الأعظم؛ حيث اعترف بعموم الحلّية و الجواز للوضعي. و قال في الردّ علي المحقّق الثاني؛ حيث فصّل بين كون متعلّق التقية مأذونا فيه بخصوصه و غيره: معلّلا بانّ الفرق بين كون متعلّق التقية مأذونا فيه بالخصوص أو بالعموم، لا نفهم له وجها. و مع ذلك نسب استفادة صحّة المعاملات من الأدلّة العامّة في المقام إلي توهّم مدفوع ممّا لا يخفي علي المتأمّل.

فنقول: عدم استفادة صحّة البيع من قوله: كلّ شي ء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 222

إمّا لأجل عدم شموله للحلّية الوضعية، فقد اعترف بشموله لها. نعم، كلماته في كيفية استفادة الحلّية الوضعية من مثل قوله: «أحلّ اللّه البيع» مختلفة، فمقتضي بعضها استفادتها منه ابتداء بحسب فهم العرف، و مقتضي الآخر أنّها مستفادة من الحكم التكليفي.

و إمّا لعدم ورود الحلّ بالخصوص بالنسبة إلي كلّ معاملة، فقد اعترف بعدم الفرق.

و الإنصاف أنّه لا قصور في الأدلّة العامّة حتّي حديث الرفع في استفادة الصحّة». «1»

مقتضي التحقيق في المقام

و قد اتّضح بما بيّنّاه قوّة ما ذهب إليه السيّد الإمام الراحل في المقام، من إجزاء التقية في المعاملات. و هذا هو مقتضي التحقيق في المقام. و ذلك لما قلنا دلالة مشروعية التقية و تجويزها و حلّية العمل الموافق للتقية و الوعد بالأجر عليها

في لسان نصوص التقية علي صحّة العمل الموافق لها و إجزائها؛ لما بين المعنيين من الملازمة بحسب المتفاهم العرفي.

و عليه فما ورد في صريح نصوص المقام من جواز التقية و حلّية العمل المتّقي به، ظاهر في الأعمّ من الجواز التكليفي و الوضعي، فيما إذا كان العمل المتّقي به قابلا للاتّصاف بالصحّة و الفساد، كالمركّبات العبادية و المعاملية.

و ممّا يؤكّد ذلك أنّ النصوص الآمرة بالتقية في مقام الامتنان علي الشيعة بحقن دمائهم و السدّ عن وقوعهم في الحرج و المشقّة و لدفع الضرر عن أنفسهم و أموالهم. و إيجاب قضاء ما رفع عنهم امتنانا بعد ارتفاع موجب التقية خلاف مقتضي الامتنان عليهم.

______________________________

(1) الرسائل: ج 2، ص 208.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 223

و قد بيّنّا تقريب دلالة هذه النصوص علي إجزاء التقية في العبادات مفصّلا في الجواب عن إشكال القائلين بعدم إجزاء التقية فيها.

و علي أيّ حال مقتضي القاعدة إجزاء التقية في المعاملات، و جواز ترتيب أثر السبب الشرعي الأوّلي علي ما وقع من المعاملات علي وجه التقية، حتّي بعد رفع الاضطرار بلا فرق بينها و بين العبادات. و لا إجماع في البين علي عدم الإجزاء في المعاملات، بل لا ينبغي التفوّه به بعد ما عرفته في كلام صاحب الحدائق، من نفي الخلاف بين الأصحاب علي إجزاء التقية مطلقا و نسبة المحقّق الكركي إجزاؤها في المعاملات إلي كثير من الأصحاب، مع أنّ نفسه من المخالفين للإجزاء في المعاملات. إلّا أن يكون الالتزام بذلك خلاف إجماع أو ضرورة في مورد خاصّ. فلا مناص حينئذ من رفع اليد عن ظاهر إطلاقات التقية في ذلك المورد الخاصّ، لكنّه بحاجة إلي دليل قطعي ثابت بالإجماع أو الضرورة.

إذا اعتقد التقية ثمّ بان الخلاف

إذا اعتقد المكلّف تحقّق موضوع التقية، ثمّ انكشف الخلاف و بان له أنّه لم يكن موضوعها متحقّقا، ففي صحّة عمله المتّقي به إشكال، كما قال في العروة و وافقه السيّد الخوئي. «1»

و لكن المسألة تحتاج إلي تحرير.

و ذلك أنّ الكلام تارة: في إجزاء التقية بعد ارتفاع موضوعها، كمن أتي بالصلاة تقية. ثمّ ارتفع موضوعها في داخل الوقت أو في خارجها، فوقع الكلام في إجزاء المأتي به تقية عن الإعادة في الوقت أو عن القضاء في خارجه عند ارتفاع موجب التقية و موضوعها؟

______________________________

(1) التنقيح: ج 4، ص 327.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 224

و التحقيق حينئذ اجزاء التقية مطلقا بلا فرق بين العبادات و المعاملات.

و ذلك لما بيّنّاه من أنّ أدلّة التقية الاضطرارية و نصوصها من قبيل الأوامر الاضطرارية. و قد أثبتنا في محلّه من علم الأصول إجزاء الأوامر الاضطرارية من غير فرق بين الإعادة و القضاء.

و لا يخفي أنّ هذه الصورة خارجة عن محلّ الكلام.

و اخري: في إجزاء التقية عند انكشاف الخلاف؛ بأن انكشف بعد الإتيان بالعمل الموافق للتقية عدم وجود الضرر و الخطر حال العمل واقعا.

و هذا هو موضوع الكلام في المقام.

و يمكن تصوير انكشاف الخلاف في موارد التقية علي نحوين:

أحدهما: إذا احتمل المكلّف الضرر في الإتيان بالوظيفة الأوّلية فخاف لأجله علي نفسه، ثمّ انكشف له عدم وجود الضرر المخوف في الإتيان بالمأمور به الأوّلي واقعا؛ حيث لا وجه للحكم ببطلان العمل المأتي به علي وجه التقية و لا وقع للإشكال في صحّته حينئذ؛ لأنّ احتمال الضرر و الخوف علي النفس بنفسه موضوع مشروعية التقية و أدلّة التقية شاملة له و لا يضرّ بصحّة العمل المأتيّ به علي وجه التقية عدم

وجود الضرر واقعا. نعم لا دخل للضرر و لا احتماله في مشروعية التقية المداراتية بوجه، كما سبق.

ثانيهما: ما إذا اعتقد المكلّف تحقّق الاضطرار فأتي بالتكليف الاضطراري ثمّ انكشف له أنّه لم يكن لمنشإ الاضطرار وجود في الخارج، بل إنّما أحسّ الاضطرار لأمر وهمي، من دون اضطرار في البين واقعا كما عرفت أمثلة ذلك آنفا.

و ذلك كما اعتقد أنّ أهل البلد الّذي نزل فيه من العامّة، أو كان أعمي فزعم أنّ الحاضرين في المسجد من المخالفين، ثمّ انكشف له أنّهم كانوا من الخاصّة، أو اعتقد أنّ من رآه من البعيد حيوانا سبعا أو شخصا عدوّا له فمسح علي خفّيه؛

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 225

لاحتياج المسح علي رجليه إلي زمان يخاف فيه من وصول ذلك السبع أو العدوّ إليه، ثمّ تبيّن خلاف ذلك.

و إنّما الكلام في هذه الصورة. و من هذا القبيل ما إذا اعتقد فقدان الماء بالفحص و اليأس عنه، ثمّ تبيّن له أنّ الماء كان موجودا في رحله و هو غفل عنه أو نسيه. و اختلف الفحول في الإجزاء حينئذ.

فهل يبطل المأتي به علي وفق التقية بانكشاف الخلاف حينئذ، أم لا، بل تصحّ كما في الصورة السابقة؟

يظهر من شيخ الطائفة الإجزاء؛ حيث أفتي بالإجزاء في من نسي الماء في رحله و فحص، فلم يجده، و تيمّم. قال في الخلاف:

«من نسي الماء في رحله فتيمّم، ثمّ وجد الماء في رحله. فإن كان قد فتّش و طلب، و لم يظفر به، بأن خفي عليه مكانه، أو ظنّ أنه ليس معه ماء، مضت صلاته. و إن كان فرّط و تيمّم ثمّ ذكر، وجب عليه إعادة الصلاة». «1»

ثمّ علّل ذلك- بعد نقل الإجزاء مطلقا عن

أبي حنيفة- بقوله:

«دليلنا: علي أنّه إذا لم يفتّش لزمته الإعادة؛ لأنّه ترك الطلب، و قد بيّنّا أنّه واجب. فإذا كان واجبا، لم يجز التيمّم من دونه. و أمّا إذا طلب و لم يجد، فإنّما قلنا لا يجب عليه الإعادة؛ لأنّه فعل ما امر به، فإنّ فرضه في هذا الوقت التيمّم و الصلاة، و قد فعلهما، و وجوب الإعادة يحتاج إلي دليل». «2»

و أنت تعرف أنّه علّل الإجزاء في صورة الفحص بأنّه أتي بالمأمور به الاضطراري مع العمل بشرطه الواجب، و هو الفحص.

و مصبّ النزاع في المقام من هذا القبيل؛ حيث إنّ شرط الواجب الاضطراري

______________________________

(1) الخلاف: ج 1، ص 164- 165، م 116.

(2) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 226

- و هو العمل المطابق للتقية- تحقّق باحتمال الضرر و الخوف علي النفس، كما في المثال المزبور.

هذا، و لكن استظهر السيّد الخوئي من كلام صاحب العروة في المقام عدم الإجزاء مطلقا؛ حيث قال:

«و علي الجملة، المكلّف إذا اعتقد وجود موضوع التقية- سواء خاف أم لم يخف- و لم يكن هناك موضوع واقعا، فالظاهر بطلان عمله. و هذا هو الّذي أراده الماتن من عبارته». «1»

بيان الاستدلال علي المختار

و لكن التحقيق بطلان العمل المأتيّ به الاضطراري حينئذ و عدم الإجزاء عند انكشاف الخلاف في الأوامر الاضطرارية، بلا فرق بين المقام و بين مورد المثال المزبور و بين موارد التقية.

و الوجه في بطلان ما أتي به، عدم تحقق الاضطرار الّذي هو موضوع التقية، بل الّذي تحقق إنّما كان مجرّد تخيّل الاضطرار، فلا وجه لترتّب حكم التقية.

و ذلك لأنّ الخطابات الشرعية لا تتكفّل لإثبات موضوعها و إنّما تدلّ علي ثبوت حكمها علي فرض تحقّق موضوعها في الخارج واقعا.

و ذلك كمن

اعتقد عدم وجود الماء و حصل له اليأس عن وجدانه إلي آخر الوقت، فصلّي متيمّما، ثمّ تبيّن له في الوقت أنّ الماء كان في رحله، فكيف يجب عليه الإعادة هناك؟ فكذلك في المقام.

و هذا بخلاف ما لو تحقّق موضوع التقية؛ بأن كان منشأ الضرر و الخوف- كأهل العامّة أو الظالم الشرور أو الحيوان السبع- موجودا في الخارج واقعا، و المتّقي احتمل الضرر و خاف علي نفسه فأتي بالوظيفة علي وفق التقية، ثمّ

______________________________

(1) التنقيح: ج 4، ص 329.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 227

انكشف له عدم توجّه ضرر منهم إليه واقعا لو كان أتي بالتكليف الأوّلي، لجهة من الجهات المغفول عنها. فإن موضوع التقية حينئذ تحقّق في الخارج واقعا، إلّا أنّ احتماله و خوفه لم يطابق الواقع. و من الواضح أنّ ملاك مشروعية التقية نفس الخوف و احتمال الضرر، لا الضرر الواقعي. فهاهنا- بعد المفروغية عن مشروعية التقية و تحقّق موضوعها- وقع الكلام في إجزاء المأتيّ به عن تقية.

و السرّ في ذلك ظهور الأدلّة الاضطرارية في أنّ موضوع التكليف الاضطراري هو الاضطرار الواقعي، لا التخيّلي الوهمي، كما هو ظاهر أيّ خطاب شرعي؛ إذا الخطابات الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية. و شأنها جعل الحكم للموضوع المقدّر وجوده الواقعي. و مقتضاها ثبوت الحكم لموضوعه المتحقّق واقعا لا تخيّلا و وهما.

بيان ذلك: إنّ الدليل علي بطلان المأتيّ به تقية و عدم إجزائه في مفروض الكلام، إنّما هو عدم الدليل علي مشروعيته. و ذلك لأنّ المأتيّ به العبادي يحتاج في مشروعيته إلي الدليل الشرعي و تعلّق الأمر به لكي يمكن قصد امتثاله.

و عليه فما لم يثبت تعلّق أمر الشارع به بدليل شرعي، لا يمكن الإتيان به بقصد

امتثال الأمر، فليس بعبادة مشروعة. كما أنّ المأتيّ به المعاملي يحتاج في صحته و سببيته الشرعية للنقل و الانتقال إلي إمضاء من الشارع ثابت بدليل قطعي شرعي حتّي ترفع لأجله اليد عن أصالة بقاء الملك و عدم انتقاله إلي الغير.

و ذلك الدليل المخرج في المقام: إمّا هو السيرة، كما يقول به. السيّد الخوئي؛ حيث علّل بطلان الوضوء و الصلاة في مفروض الكلام بقوله: «و ذلك لأنّ مدرك صحّة العمل المأتيّ به تقية و إجزائه عن المأمور به الواقعي، إنّما هو السيرة العملية، كما مرّ. و من المعلوم أنّها إنّما كانت متحقّقة عند إتيان العمل علي طبق مسلك العامّة عند وجودهم و حضورهم عنده. و أمّا العمل طبق مذهبهم، من دون أن يكون

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 228

عندهم و لا بمحضرهم، فلا سيرة عملية تقتضي الإجزاء و الحكم بصحّته». «1»

و إمّا هو ظاهر إطلاقات نصوص التقية؛ لما قلنا من عدم وصول النوبة إلي السيرة مع وجود النصوص المتظافرة، بل المتواترة. و قد استظهرنا منها تشريع جواز التقية أو وجوبها لموضوعها الواقعي علي نحو القضيّة الحقيقية؛ بمعني أنّه كلّما تحقّق في الخارج موضوعها تجب علي المكلّف. و لا تشمل هذه النصوص الموضوع الوهمي التخيّلي، بل منصرفة عنه. فلا تصلح للدليلية علي مشروعية العمل المأتي به. و من الواضح أنّ المأتي به العبادي في أصل مشروعيته، و كذا المأتي به المعاملي في سببيته للنقل، يحتاجان إلي دليل شرعي، كما قلنا. فالمأتيّ به تقية ليس بمشروعة؛ لفرض مخالفته للحكم الواقعي الأوّلي و عدم دليل شرعي علي مخالفته في مفروض الكلام.

و لا يمكن إحراز سيرة عملية من المتشرّعة في مفروض الكلام علي الاكتفاء بالمأتي به تقية

عن الإعادة و القضاء في العبادات، و لا عن تجديد الصيغة في المعاملات. فلا دليل من السيرة و لا غيرها علي مشروعية العمل تقية في مفروض الكلام.

و قد تبيّن علي ضوء ما بيّناه، أنّ مقتضي التحقيق في مسألة من نسي الماء ثمّ وجده في رحله عدم الإجزاء، كما في المقام.

و أما صورة تبيّن عدم الضرر واقعا مع تحقّق من يتّقي منه واقعا.

فالموضوع متحقّق حقيقة و واقعا، و هو الخوف علي النفس ممّن شأنه أن يخاف منه واقعا. فهو لا ينبغي وقوع الخلاف المزبور فيه.

فالحق في المقام مع صاحب العروة و السيّد الخوئي.

______________________________

(1) التنقيح: كتاب الطهارة: ج 4، ص 329.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 229

التنبيه علي نكات مهمّة

و ينبغي في ختام هذا البحث التنبيه علي امور:

1- كلّ ما بيّنّاه كان في التقية الخوفية، اضطرارية كانت أو إكراهية. و أمّا التقية المداراتية، فهل يمكن تصوير هذا النزاع و ترتّب الثمرة فيها؟

فالتحقيق تصوير النزاع و ترتّب الثمرة المزبورة في التقية المداراتية بناء علي إجزائها كما سبق أنّه مختار جمع من الفقهاء الفحول، منهم السيّد الإمام في الصلاة مع المخالفين. و أمّا بناء علي عدم إجزائها في الصلاة خلف العامّة كما هو مقتضي التحقيق عندنا؛ لما سيأتي منّا وجه ذلك مفصّلا في الصلاة خلف المخالفين، فلا يأتي النزاع المزبور فيها و لا تترتّب أيّة ثمرة عليها.

2- يدور الإجزاء و عدمه في محلّ الكلام مدار طريقية الخوف و عدمه، كما يظهر من السيّد الحكيم. «1» و لمّا بنينا علي طريقته و عدم أخذه في موضوع وجوب التقية، و أنّ موضوع التقية هو الاضطرار- لا بدّ من تحقّقه واقعا حتّي تشمله إطلاقات نصوص التقية؛ لما قلنا من أنّه شأن

القضايا الحقيقية، و أنّها منصرفة عن الموضوع التخيّلي الوهمي.

3- لا وجه للتفصيل بين الجاهل القاصر و بين الجاهل المقصّر من حيث عدم الإجزاء عند كشف الخلاف. و ذلك لعدم تحقّق موضوع التقية- الّذي هو ملاك الإجزاء- مطلقا واقعا؛ نظرا إلي كون المتحقّق أمرا وهميا تخيّليا، بلا فرق بين كون الجاهل قاصرا أو مقصّرا.

نعم يمكن الفرق بينهما من جهة الحكم التكليفي. و ذلك لحرمة الإتيان بالعمل الموافق للتقية في المقام للجاهل المقصّر؛ نظرا إلي التفاته و احتماله عدم تحقّق موضوع التقية، و إلي تمكّنه من إحراز تحقّقه أو عدمه. و ما دام لم يحرز تحقّق موضوع التقية ليست أدلّة التقية في حقّه حجّة، فلا حجّة له علي مخالفة

______________________________

(1) مستمسك العروة: ج 2، ص 412.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 230

التكليف الواقعي بإتيان العمل علي وجه التقية، و هذا بخلاف الجاهل القاصر الّذي لا يحتمل الخلاف.

و لكن لا يخفي أنّ الحرمة الثابتة في الجاهل المقصّر قبل انكشاف الخلاف خارجة عن محلّ البحث؛ لأنّ الكلام إنّما هو في الحكم الوضعي، و هو إجزاء التقية بعد انكشاف الخلاف.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 231

حكم التقية لدفع الضرر و الحرج عن الغير
اشارة

1- تفصيل السيّد الإمام الراحل في المقام و نقده.

2- التنبيه علي نكتتين.

إذا خاف المتّقي علي نفوس سائر المؤمنين أو علي أموالهم أو أعراضهم- لا علي نفسه أو عرضه أو ماله- وقع الكلام في أنّ التقية هل تكون مشروعة حينئذ أم لا.

تفصيل السيّد الإمام قدّس سرّه في المقام

يظهر من السيّد الإمام الراحل التفصيل بين حفظ نفس الغير، و بين حفظ ماله أو عرضه. فحكم في الأوّل بجواز التقية و في الثاني بعدم مشروعيتها؛ بدعوي عدم صدق عنوان التقية حينئذ، و كأنّ مقصوده خروج الثاني عن منصرف التقية في نصوصها، و بأنّ قوله عليه السّلام: «التقية ترس المؤمن و التقية حرز المؤمن» «1» ظاهر في كون مقتضي التقية حفظ المتّقي نفسه عن توجّه الضرر و الخطر إليه، لا حفظ غيره.

قال قدّس سرّه: «و أمّا إذا لم يخف علي نفسه أو ما يتعلّق به و لم يكن مكرها، فهل تجوز أو تجب التقية بارتكاب المحرّمات لو خاف علي عرض بعض المؤمنين،

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 24، من أبواب الأمر و النهي، ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 232

أو ماله، دون نفسه الّتي لا يوازنها شي ء؟

الظاهر عدم جواز التمسّك له بمطلقات أدلّة التقية؛ لأنّ عنوانها غير صادق ظاهرا، إلّا علي الخوف علي ما يتعلّق بالمتّقي من النفس من العرض و المال، سواء كان منه أو ممّن يتعلّق به الّذي بمنزلته، و أمّا الخوف علي سائر الناس فليس مورد التقية، و لا هي صادقة عليه. فقوله: «التقية ترس المؤمن و حرزه» ظاهر في أنّها حافظه عن توجّه الضرر إليه، فلا بدّ في المقام من التماس دليل آخر» «1».

نقد كلام السيّد الإمام قدّس سرّه

و لكن التحقيق يقتضي خلاف ما ذهب إليه من التفصيل.

و ذلك لأنّه إذا كانت التقية لحفظ نفوس ساير المؤمنين، لا إشكال في مشروعيتها، بل تجب عند توقّف حفظ النفس المحترمة عليها كما اعترف به السيّد الماتن و جعله مفروغا عنه بقوله: «دون نفسه الّتي لا يوازنها شي ء». و ذلك لاتّفاق النصّ و الفتوي.

و

قد دلّ علي ذلك خصوصا معتبرة النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: احلف باللّه كاذبا و نجّ أخاك من القتل» «2».

و إنّما عبّرنا عن هذه الرواية بالمعتبرة؛ لما بنينا في محلّه علي اعتبار روايات النوفلي؛ نظرا إلي كثرة رواياته و لما له من كتابين؛

أحدهما: كتاب السنّة و الآخر كتاب التقية و اشتهر، و لم يرد فيه أيّ قدح و لا ذمّ. نعم قال قوم من القميين أنّه غلا في آخر عمره. و لكن أنكره النجاشي. بل وقع في إسناد كامل الزيارات و تفسير القمّي فهو مشمول للتوثيق العامّ من ابن قولويه و عليّ بن إبراهيم. فمجموع هذه القرائن تكشف عن وثاقته. و أمّا

______________________________

(1) المكاسب المحرمة: ج 2، ص 242- 243.

(2) وسائل الشيعة: ج 16 ب 12، من كتاب الايمان، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 233

ساير رجال سندها، فلا إشكال في وثاقتهم.

و أمّا دلالتها علي المطلوب، فواضحة.

و مرسل الصدوق عن الصادق عليه السّلام في حديث: «اليمين علي وجهين- إلي أن قال-:

فأمّا الّذي يوجر عليها الرجل إذا حلف كاذبا و لم تلزمه الكفّارة، فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرئ مسلم» «1».

و أمّا إذا كانت التقية لحفظ مال أخيه المؤمن، فيمكن المناقشة في كلام السيّد الإمام أوّلا: بأنّ قوله عليه السّلام: «التقية ترس المؤمن و حرزه» لا دلالة علي اختصاص التقية. بحفظ شخص المتّقي عن الضرر و الخطر.

و ذلك لأنّ المؤمن كما يقي نفسه عن الضرر و الخطر بالترس و الحرز، فكذلك يقي و يحفظ غيره عن الضرر و الخطر بالترس و الحرز و يدافع عنه بسلاح نفسه.

و

ثانيا: قد دلّت النصوص المعتبرة بالصراحة علي مشروعية التقية لحفظ أموال ساير المؤمنين. نعم لا بدّ في ذلك من ملاحظة الأهميّة بمقتضي قاعدة التزاحم.

فمن هذه النصوص صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في حديث قال: «سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف، قال عليه السّلام: لا جناح عليه، و عن رجل يخاف علي ماله من السلطان فيحلفه لينجو به منه، قال عليه السّلام:

لا جناح عليه. و سألته: هل يحلف الرجل علي مال أخيه كما يحلف علي ماله؟ قال عليه السّلام: نعم» «2».

لا إشكال في سند هذه الرواية، فإنّ رجالها كلّهم موثّقون، كما لا إشكال في دلالتها علي المطلوب، و موضع الدلالة قوله عليه السّلام «نعم» في جواب السائل بقوله:

«و سألته: هل يحلف الرجل علي مال أخيه كما يحلف علي ماله؟».

لا إشكال في سنده؛ نظرا إلي أنّ صاحب وسائل الشيعة نقله عن نوادر

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16 ب 12 من كتاب الايمان، ح 9.

(2) وسائل الشيعة: ج 16 ب 12، من كتاب الأيمان، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 234

أحمد بن محمّد بن عيسي. و كان هذا الكتاب ثابتا عنده بالطريق المعتبر، بل بالشهرة و التواتر، كما قال في بعض فوائد خاتمة وسائل الشيعة، و أمّا ساير رواته فمن الثقات و الأجلّاء.

كما لا إشكال في دلالة ذيله علي جواز التقية لحفظ أموال الإخوان المؤمنين.

و منها: صحيح إسماعيل الجعفي قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: «أمرّ بالعشّار و معي المال، فيستحلفوني، فإن حلفت تركوني، و إن لم أحلف فتّشوني و ظلموني. فقال عليه السّلام:

احلف لهم. قلت: إن حلفوني بالطلاق؟ قال عليه السّلام: فاحلف لهم. قلت:

فإنّ المال لا يكون لي! قال عليه السّلام:

تتّقي مال أخيك». «1»

و منها: ما أرسله الصدوق جازما عن الصادق عليه السّلام بقوله: «اليمين علي وجهين- إلي أن قال-: فأمّا الّذي يوجر عليها الرجل إذا حلف كاذبا و لم تلزمه الكفّارة، فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرئ مسلم أو خلاص ماله من متعدّ يتعدّي عليه من لصّ أو غيره» «2».

إلي غير ذلك من النصوص الدالّة علي المطلوب.

و اتّضح بذلك أنّه فرق بين ما لو كانت التقية بنفسها موجبة لتوجّه الضرر و الحرج إلي الغير الشيعي، فلا تكون مشروعة حينئذ؛ لقصور أدلّتها المبنيّة علي الامتنان علي الشيعة لا علي خصوص المتّقي. و بين ما لو كانت لدفع الضرر و الحرج عن الغير. فالتقية حينئذ مشروعة، إذا احرز أهميّة ما يترتّب علي تركها من توجّه الخطر و الضرر و الحرج إلي ساير المؤمنين.

التنبيه علي نكتتين

و ينبغي التنبيه هاهنا علي نكتتين:

إحداهما: أنّ كلّ ما قلناه في حكم التقية الاضطرارية يأتي في التقية الخوفية و الإكراهية؛ نظرا إلي وحدة الملاك بين الاضطرار و الإكراه

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16 ب 12 من كتاب الايمان، ح 17.

(2) وسائل الشيعة: ج 16 ب 12 من كتاب الأيمان، ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 235

و الخوف علي النفس و العرض و المال.

ثانيتهما: أنّ التقية المداراتية لا يأتي فيها شي ء ممّا قلنا؛ نظرا إلي اختصاصها بباب الصلاة و كلّ معروف ندب إليه الشارع، فورد الأمر بفعلها في حقّهم مداراة و جرّا لمحبّتهم و تحبيبا لقلوبهم كتشييع جنائزهم و عيادة مرضاهم و حسن البشر و الجوار و نحو ذلك ممّا هو مؤثّر في ذلك. و قد سبق ذكر بعض النصوص الدالّة علي ذلك

عند الكلام في التقية المداراتية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 236

حكم ترك التقية تكليفا و وضعا
اشارة

1- تنقيح محلّ الكلام.

2- تحقيق في كلام الشيخ الأنصاري.

3- إشكال السيّد الإمام علي الشيخ الأعظم و الجواب عنه.

4- الاستدلال بمقتضي القاعدة في المقام.

5- تقريب آخر بمقتضي القاعدة في التقية الاضطرارية.

6- هل يجب بذل المال لرفع موجب التقية؟

7- إشكال السيّد الخوئي و بيان مقتضي التحقيق.

تنقيح محلّ النزاع

يقع الكلام تارة: في حكم ترك التقية تكليفا، و اخري: في حكمه وضعا.

أمّا حكمه التكليفي، فلا إشكال في حرمة ترك التقية إذا كانت واجبة، كما يجب تركها إذا كانت محرّمة، و يجوز تركها إذا كانت مباحة. هذا لا إشكال و لا كلام فيه. و قد سبق الكلام في إعطاء الضابطة لتعيين التقية الواجبة و المباحة و المحرّمة و المستحبّة و المكروهة في بيان أقسام التقية.

و إنّما الكلام في حكم ترك التقية الواجبة وضعا فوقع النزاع في أنّ مخالفة التقية الواجبة و تركها، هل توجب بطلان العمل المأتيّ به العبادي المخالف

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 237

للتقية؟ و نقدّم الكلام في حكم ترك التقية في العبادات.

فينبغي تنقيح كلمات الفقهاء الفحول في ذلك أوّلا، ثمّ بيان مقتضي التحقيق.

كلام الشيخ الانصاري قدّس سرّه

إنّ للشيخ الأعظم الأنصاري قدّس سرّه تحقيقا في المقام حاصله:

أنّ ترك التقية في جزء العمل العبادي أو في شرطه أو في مانعه، لا يوجب بنفسه، إلّا استحقاق العقاب علي تركها. و أمّا بطلان المأتيّ به العبادي الواقعي المخالف للتقية، فهو تابع لمقتضي القواعد، و لا دخل لمخالفة التقية في بطلانه.

و مقصوده من القواعد، مثل قاعدة اقتضاء النهي الفساد في العبادات و اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه.

و من هنا حكم في مثل السجود علي التربة الحسينية ببطلان الصلاة إذا خالف به التقية؛ معلّلا بأنّ السجود جزء للصلاة و مع اقتضاء التقية ترك ما أتي به من السجود حال الصلاة يصير فعله منهيّا عنه فتفسد به الصلاة؛ لقاعدة اقتضاء النهي في العبادات للفساد.

و أمّا ما لا يكون جزءا أو شرطا أو وصفا للصلاة، بل كان وجوبه لأجل التقية كالتكفير و التكتّف و «آمّين»، فلا يوجب مخالفة التقية

بتركه بطلان الصلاة؛ لأنّه ليس من العبادة- جزءا أو شرطا أو وصفا لازما- حتّي يقتضي النهي عنه فساد العبادة المركّبة أو المشروطة أو الموصوفة به. و جعل من هذا القبيل غسل الرجلين في الوضوء.

ثمّ أشار إلي توهّم أنّ الواجب بالتقية أيضا وجب بأمر الشارع فلا فرق بين القسمين، و أجاب عن ذلك بما حاصله: أنّ أمر الشارع بمثل التكفير و غسل الرجلين، ليس من جهة اعتباره شرعا في المأمور به العبادي؛ بل من حيث إنّه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 238

فعل خارجي له دخل في التقية. فهو من قبيل النظر إلي الأجنبيّة حال الصلاة.

ثمّ أشكل بأنّه إذا كان إيجاب شي ء لأجل التقية لا يجعل ذلك الشي ء- الواجب للتقية- معتبرا في العبادة حال التقية، لزم صحّة وضوء من ترك المسح علي الخفّين في موضع التقية لفرض عدم اعتباره في صحّة الوضوء حال التقية، مع أنّه لا خلاف في بطلانه حينئذ.

فأجاب عن هذا الإشكال بما حاصله: أنّ المعتبر في الوضوء هو أصل المسح المتحقّق بالأعمّ من المسح علي الخفّين و البشرة. و إنّما حكم الفقهاء ببطلان وضوء من ترك المسح علي الخفّين في موضع التقية لأجل ترك أصل المسح بذلك رأسا، لا لأجل مخالفة التقية بترك المسح علي الخفّين.

ثمّ استشهد لذلك بما دلّ من النصوص علي إلغاء قيد المباشرة، و الأمر بالمسح علي المرارة فيمن جعل علي إصبعه مرارة لجرح و نحوه، كما في صحيحة عبد الأعلي مولي آل سام، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام عثرت فانقطع ظفري فجعلت علي إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه عزّ و جلّ، قال اللّه تعالي: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ

فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، امسح عليه». «1»

حيث إنّ معرفة وجوب المسح علي المرارة الحائلة بين الماسح و الممسوح من آية نفس الحرج لا يستقيم، إلّا بانحلال المسح الواجب في الوضوء إلي أصل المسح و مباشرة الماسح للعضو الممسوح، و لمّا سقط قيد المباشرة لأجل الحرج تعيّن أصل المسح بلا مباشرة.

و كذلك في المسح علي الخفّين عند التقية، فسقط قيد المباشرة لأجل الخوف الناشئ من التقية، و لكن أصل المسح باق علي اعتباره كما كان، و إنما يبطل الوضوء بترك المسح علي الخفّين لأجل استلزامه ترك أصل المسح رأسا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 1 ب 39 من أبواب الوضوء ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 239

هذا حاصل كلام الشيخ و لبّ مراده «1».

______________________________

(1) قال قدّس سرّه: «و التحقيق: أنّ نفس التقية في جزء العمل أو في شرطه أو في مانعه لا يوجب بنفسه إلّا استحقاق العقاب علي تركها، فإن لزم من ذلك ما يوجب- بمقتضي القاعدة- بطلان الفعل بطل، و إلّا فلا.

فمن مواقع البطلان: السجود علي التربة الحسينية مع اقتضاء التقية تركه، فانّ السجود يقع منهيا عنه فيفسد، فيفسد الصلاة.

و من مواضع عدم البطلان: ترك التكفير في الصلاة: فانّه- و إن حرم- لا يوجب البطلان، لأنّ وجوبه من جهة التقية لا يوجب كونه معتبرا في الصلاة لتبطل بتركه.

و توهّم: أنّ الشارع أمر بالعمل علي وجه التقية، مدفوع: بأنّ تعلق الأمر بذلك العمل المقيّد ليس من حيث كونه مقيّدا بذلك الوجه، بل من حيث نفس الفعل الخارجي الّذي هو قيد اعتباري للعمل لا قيد شرعي.

و توضيحه: أنّ المأمور به ليس هو الوضوء المشتمل علي غسل الرجلين، بل نفس غسل الرجلين الواقع في الوضوء، و

تقييد الوضوء باشتماله علي غسل الرجلين ممّا لا يعتبره الشارع في مقام الأمر، فهو نظير تحريم الصلاة المشتملة علي محرّم خارجي لا دخل له في الصلاة.

فإن قلت: إذا كان إيجاب الشي ء للتقيّة لا يجعله معتبرا في العبادة حال التقية، لزم الحكم بصحة وضوء من ترك المسح علي الخفّين؛ لأنّ المفروض أن الأمر بمسح الخفّين للتقية لا يجعله جزءا، فتركه لا يقدح في صحة الوضوء، مع أنّ الظاهر عدم الخلاف في بطلان الوضوء.

قلت: ليس الحكم بالبطلان من جهة ترك ما وجب بالتقية، بل لأنّ المسح علي الخفّين متضمّن لأصل المسح الواجب في الوضوء، مع إلغاء قيد مماسّية الماسح للممسوح- كما في المسح علي الجبيرة الكائنة في موضع الغسل أو المسح، و كما في المسح علي الخفّين لأجل البرد المانع من نزعها-، فالتقية إنّما أوجبت إلغاء قيد المباشرة. و أما صورة المسح و لو من الحائل فواجبه واقعا لا من حيث التقية، فالإخلال بها يوجب بطلان الوضوء بنقص جزء منه.

و ممّا يدلّ علي انحلال المسح إلي ما ذكرنا من الصورة و قيد المباشرة قول الإمام لعبد الأعلي مولي آل سام- لمّا سأله عن كيفية مسح من جعل علي إصبعه مرارة-: إنّ هذا و شبهه يعرف من كتاب اللّه و هو قوله تعالي: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، ثمّ قال: امسح عليه».

فإنّ معرفة وجوب المسح علي المرارة الحائلة بين المساح و الممسوح من آية نفي الحرج، لا يستقيم إلّا بأن يقال: إنّ المسح الواجب في الوضوء ينحلّ إلي صورة المسح و مباشرة الماسح للممسوح، و لما سقط قيد المباشرة لنفي الحرج، تعيّن المسح من دون مباشرة، و هو المسح علي الحائل، و كذلك فيما نحن فيه

سقط قيد المباشرة و لا يسقط صورة المسح عن الوجوب» / رسالة التقية للشيخ الأنصاري: ص 36- 37.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 240

إشكال السيّد الإمام علي الشيخ الأعظم قدّس سرّه

و قد أشكل السيّد الإمام الراحل «1» علي الشيخ الأعظم؛ أوّلا: بعدم اقتضاء الأمر بالتقية النهي عن الأفعال المخالفة لها. سواء وجبت التقية بعنوانها؛ أي بما أنّه تحفّظ عن إفشاء المذهب و كتمان الحقّ؛ بلحاظ كون هذا العنوان ضدّ الأفعال الموجبة للإفشاء و الاذاعة، أو وجبت التقية بعنوان أنّها تحفّظ عن ضرر الغير فوجبت مقدّمة لذلك عقلا أو شرعا.

و قد علّل مدّعاه في الأوّل بعدم اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه، و في الثاني بأنّ وجوب التقية لذلك لا يوجب حرمة ما يقابلها من الأفعال، مضافا إلي عدم اقتضاء الحرمة الغيرية للفساد.

و ثانيا: بأنّ انحلال المسح الواجب إلي أصل الإمرار و إلي قيد مباشرة الماسح للعضو الممسوح، لا يساعده المتفاهم العرفي.

فإنّ المسح علي الخفين أجنبيّ عند العرف عن المسح علي الرأس أو الرجلين، كما يشير إلي ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فلئن أمسح علي ظهر حماري أحبّ إليّ من أن أمسح علي الخفّين». «2»

و أمّا رواية عبد الأعلي، فأشكل السيّد الإمام علي استشهاد الشيخ بها؛ بأنّ المستفاد منها معرفة ارتفاع وجوب أصل المسح علي الرجل من كتاب اللّه، لا خصوص قيد مباشرة الماسح للبشرة، كما استفاده الشيخ، و أنّه ليس وجه بطلان الوضوء بترك المسح علي الخفّين لأجل ما أفاده الشيخ، بل إنّما لأجل ترك الفرد الاضطراري و الاختياري؛ حيث قام الاضطراري مقام الاختياري، فإذا ترك المكلّف البدل و المبدل منه لا وجه للصحّة.

______________________________

(1) الرسائل: ج 2، ص 186- 187.

(2) مستدرك وسائل الشيعة: ج 1،

ص 335، ب 33 من كتاب الطهارة، ح 769/ 13.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 241

هذا حاصل إشكال السيّد الإمام الراحل قدّس سرّه علي الشيخ و لا غبار علي إشكاله الثاني، و كذا إشكاله علي استشهاد الشيخ برواية عبد الأعلي فإنّه متين.

الجواب عن إشكال السيّد الإمام و مقتضي التحقيق

و أمّا إشكاله الأوّل ففيه أوّلا: لا نسلّم عدم اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه العامّ. و مخالفة الواقع التقية بترك ما به قوام التقية أشبه بالضدّ العامّ، فلا إشكال في حرمتها تكليفا.

نعم يرد إشكال الشيخ، و هو أنّ التقية لمّا كانت واجبا مستقلّا أجنبيّا عن الصلاة، لا تستلزم مخالفتها فساد الصلاة.

و ثانيا: علي القول بحرمة الإذاعة كما فسّرت بها السيئة في صحيح هشام ابن سالم و غيره، «1» و ورد النهي عنها بقوله عليه السّلام: «فإيّاكم و الإذاعة»، «2» لا إشكال في حرمة المأتيّ به العبادي الّذي هو محقّق للإذاعة و مصداقها و متّحد الوجود معها.

و عليه فبناء علي امتناع اجتماع الأمر و النهي في الواحد الشخصي تسري الحرمة إلي العبادة و هو المتيقّن من مصبّ قاعدة اقتضاء النهي للفساد في العبادات.

و مقتضي التحقيق في المقام التفصيل بين ما إذا كان مخالفة التقية بإتيان فعل تعلّق به النهي بما أنّه مصداق المخالفة- سواء كان في جزئه أو وصفه اللازم أو شرطه المتّحد الوجود معه، و بين ما إذا كان مخالفة التقية بمجرّد الترك.

الاستدلال بمقتضي القاعدة في المقام

يمكن الاستدلال بمقتضي القاعدة في المقام بتقريبين:

أحدهما: مقتضي قاعدة اقتضاء النهي الفساد في العبادات.

بيان ذلك: أنّ ما يتحقّق به مخالفة التقية إذا كان جزءا أو

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 24، من ابواب الأمر و النهي ح 2.

(2) اصول الكافي: ج 2، ص 371، ح 8، و الوسائل: ج 11 ب 34 من أبواب الأمر و النهي، ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 242

شرطا أو وصفا لازما متّحد الوجود مع المأتيّ به العبادي، تبطل به العبادة بمقتضي قاعدة اقتضاء النهي فساد العبادات.

و أمّا إذا كان بمجرّد الترك،

فلا تفسد العبادة، بل إنّما يحرم مخالفة التقية حينئذ تكليفا، غاية الأمر أتي المكلّف حينئذ بحرام تكليفي في ضمن العبادة، كالنظر إلي الأجنبيّة. و أمّا الصلاة فصحيحة؛ نظرا إلي حصول امتثال أمرها الأوّل الواقعي بإتيان جميع ماله دخل في صحّته من الأجزاء و الشرائط، فلا محالة يجزي عقلا بعد حصول الغرض من أمرها. و السرّ فيه أنّ المتروك كان واجبا تكليفيا بالتقية من دون دخل له في صحّة العبادة كما أشار إليه الشيخ الأعظم. و من هنا لا يوجب تركه إخلالا في الصلاة شطرا أو شرطا أو وصفا، بل إنّما يرتكب المكلّف حراما بترك واجب تكليفي ضمن الصلاة.

كما لو خالف التقية بفعل ما لا دخل له في الصلاة، كالصلاة علي محمّد و آله في أثناء الصلاة لا تبطل الصلاة لأجله.

فالمعيار في هذا التفصيل يدور مدار دخول المورد في مصبّ قاعدة اقتضاء النهي في العبادات للفساد و عدمه، بلا فرق بين كون المخالفة بالفعل و الترك.

ثمّ إن هذا التفصيل الّذي ذكرناه بالتقريب المزبور إنّما يأتي، مع قطع النظر عمّا تقتضيه القاعدة في الأوامر الاضطرارية.

تقريب آخر بمقتضي القاعدة في التقية الاضطرارية

التقريب الثاني: مقتضي القاعدة المحكّمة في الأوامر الاضطرارية.

بيان ذلك: أنّ أدلّة التقية الاضطرارية تدلّ علي كون المأتيّ به تقية حال الاضطرار بدلا اضطراريا. و عليه ففي مثل ترك التكفير و التكتّف، إذا اضطرّ المكلّف إلي فعله؛ بأن خاف علي نفسه بتركه، مقتضي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 243

القاعدة الحكم ببطلان الصلاة و لو كانت واجدة لجميع ما يعتبر فيه بالحكم الأوّلي الاختياري.

و ذلك لبطلان المأتيّ به الاختياري بترك البدل الاضطراري في موارد الاضطرار، مثل من ترك التيمّم و توضّأ في موارد الاضطرار.

إذا عرفت ذلك فنقول:

إنّ للمسألة في المقام صورتين.

الاولي:

ما إذا ترك المكلّف- في مورد التقية- أصل العمل رأسا؛ بأن لم يأت به علي طبق التقية و لا علي طبق الوظيفة الواقعية الأوّليّة، كما إذا اقتضت التقية الوقوف بعرفات اليوم الثامن من ذي الحجّة و كانت الوظيفة الواقعية الأوّلية الوقوف بها اليوم التاسع، فتركهما معا، أو ما إذا اقتضت التقية غسل رجليه فتركه المكلّف و ترك أيضا مسحهما الّذي هو تكليفه الواقعي الأوّلي.

فحينئذ قد يتكلّم علي أساس استناد حكم العمل المأتيّ به إلي السيرة و يحكم ببطلان العمل؛ بتقريب أنّ العمل المخالف للحكم الواقعي الأوّلي محكوم بالبطلان، إلّا إذا قامت السيرة علي صحّته، و هي إنّما قامت علي صحّته إذا كان موافقا للعامّة و المفروض عدم موافقتهم.

و فيه: أنّه لا اعتبار بالسيرة في العبادات؛ لعدم صلاحيتها للاستدلال بها في العبادات المخترعة المتوقّفة مشروعيتها علي دلالة النص الشرعي.

فالعمدة في المقام دلالة النصوص و الأدلّة اللفظية و مقتضي القواعد المصطادة منها.

و علي هذا الأساس فاما أنّ نستفيد من أدلّة التقية انقلاب الوظيفة الأولية إلي ما يوافق مذهب العامّة، أو لا نستفيد منها ذلك.

فعلي الأوّل: لا ريب في بطلان العمل المأتيّ به؛ نظرا إلي تعيّن وظيفته

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 244

حينئذ في العمل الموافق لمذهب العامّة في فرض الانقلاب، و هو لم يأت بالوظيفة، فيبطل عمله لا محالة، لكن لا مطلقا، بل علي تفصيل سبق آنفا.

و علي الثاني: يصحّ عمله؛ نظرا إلي عدم انقلاب وظيفته، بل هي باقية علي حكمها الواقعي الأوّلي. و أمّا أدلّة التقية فغاية مفادها حينئذ وجوب الموافقة مع العامّة تكليفا، لا وضعا. فلا تفيد تقيّد عمله و اشتراطه بما يراه العامّة شرطا أو جزءا للعمل، بل مقتضاها حينئذ سقوط

الجزئية و الشرطية و المانعية؛ لأنه مرجع الجمع بين وجوب موافقة العامّة و حرمة مخالفتهم تكليفا و بين بقاء الوظيفة الواقعية علي حكمها الأوّلي و عدم انقلابه. و مقتضي ذلك صحة العمل المأتي به كما أشار إليه بعض الأعلام. «1»

الصورة الثانية: ما إذا ترك التقية و أتي بوظيفته الواقعية الأولية.

فحينئذ تارة: يقع الكلام في العبادات و اخري: في المعاملات.

أمّا في العبادات فمخالفة التقية يتصوّر علي نحوين:

أحدهما: ما إذا اقتضت التقية فعل شي ء فتركه المكلّف جزءا كان ذلك الشي ء في نظر العامّة، كقولهم «آمّين» عقيب القراءة، أو شرطا كالتكفير بوضع إحدي اليدين علي الاخري. مقتضي القاعدة حينئذ الحكم بصحّة العمل المأتيّ به مطلقا، سواء قلنا بانقلاب الوظيفة إلي ما يوافق العامّة أو قلنا بعدمه.

أمّا علي القول بعدم انقلاب الوظيفة، فالوجه في الصحّة بقاء الوظيفة الواقعية علي حكمها الأوّلي، و خلوّ العمل المأتيّ به عن الزيادة و النقيصة عنها.

فلا وجه لبطلانه بعد حصول الامتثال و سقوط الغرض من الأمر بها؛ حيث إنّه بترك ما هو جزء أو شرط عند العامّة لم تحدث في الواجب المأتيّ به زيادة أو نقيصة حتّي يبطل لأجلها. و لا ينافيه حرمة العمل تكليفا؛ لأنّه ارتكب حراما في

______________________________

(1) و هو السيّد الخوئي في التنقيح: ج 4، ص 322- 323.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 245

ضمن الصلاة بترك واجب أجنبيّ عنها. بل الإجزاء يترتّب لا محالة عقلا. و لكن ذلك فيما إذا لم تكن التقية اضطرارية، و إلّا تبطل الصلاة كما هو مقتضي القاعدة في الإتيان بالفرد الاختياري و ترك البدل الاضطراري عند عروض الاضطرار.

و أمّا علي فرض انقلاب الوظيفة، فقد يشكل القول بالصحّة؛ لفرض حرمة المخالفة و عدم صلاحية كون

ما هو مصداق للمحرّم مقرّبا إلي المولي.

و المفروض كون العمل المأتيّ به المتروك فيه التقية مصداقا للمخالفة، فهو حرام تكليفا. و إذا صار حراما و بناء علي انقلاب الوظيفة الواقعية و عدم بقائها علي حكمها الأولي، لا وجه حينئذ للحكم بصحّة العمل المأتيّ به، و لو كان مطابقا للتكليف الواقعي الأوّلي.

و لكن هذا الإشكال في غير محلّه. و ذلك لفرض عدم توجّه النهي بذلك إلي أصل عنوان الصلاة، بل إنّما تعلّق النهي بمخالفة التقية المتحقّقة بترك فعل أو قول خاصّ لم يكن له أيّ دخل في صحّة الصلاة، بل كان واجبا تكليفيا مستقلّا أجنبيا عن الصلاة واقعا في ضمنها. فلم يرتكب بتركه إلّا حراما تكليفيا.

ثانيهما: ما إذا اقتضت التقية ترك شي ء و خالفها المكلّف بفعل ذلك الشي ء و إدخاله في العمل المأتيّ به العبادي.

فحينئذ لو كان ذلك الشي ء- الّذي اقتضت التقية تركه- داخلا في العبادة؛ بأن كان من أجزاء الواجب العبادي أو شرائها، كما لو اقتضت التقية ترك السجدة علي التربة الحسينية، فسجد علي التربة و اكتفي بها. فمقتضي قاعدة اقتضاء النهي للفساد في العبادات، بطلان العمل المأتيّ به. و ذلك إمّا لأنّ المبغوض المبعّد عن المولي لا يصلح أن يتقرّب به، أو لتقيّد المأمور به بغير ما اتّحد من مصاديقه بالمبغوض من الجزء أو الشرط أو الوصف.

و أمّا إذا لم يكتف بذلك الجزء المخالف للتقية، بل أتي به ثانيا موافقا للتقية،

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 246

فبطلان العبادة منوط بكون ذلك الجزء ممّا تبطل العبادة بزيادته- كما في السجدة الزائدة-، إلّا إذا كانت العبادة ممّا يبطل بمطلق الزيادة- كما في الصلاة- فيبطل العمل المأتيّ به حينئذ بفعل ذلك الجزء مطلقا سواء

كان مبطلا أم لا، أيضا. هذا مضافا إلي اقتضاء النهي عن جزء العبادة فسادها، و إن لم يقتصر علي الجزء المنهيّ عنه و أتي معه بالجزء غير المنهيّ عنه أيضا. و قد بيّنّا وجه ذلك في محلّه. و بناء علي ذلك لا فرق في بطلان العبادة بين بطلانها بزيادة الجزء و عدمه.

و أمّا في المعاملات فترك التقية و مخالفتها لا يوجب بطلان المعاملة؛ نظرا إلي أنّ غاية ما يقتضيه تركها هي الحرمة التكليفية. و لازمه تعلّق النهي بالمعاملة، و لكن لا بعنوانها، كما في: «حرّم الربا»، بل بعنوان مخالفة التقية. و إنّ النهي المتعلّق بالمعاملات بغير عنوانها لا يقتضي فسادها بعد توفر جميع أجزائها و شرائطها، كما هو المفروض.

هل يجب بذل المال لرفع موجب التقية؟

وقع الكلام أوّلا: في وجوب رفع مطلق الضرورة- المانعة من أداء الواجب- ببذل المال فيما توقّف الرفع عليه.

و ثانيا: في ثبوت هذا الوجوب فيما إذا كانت الضرورة تقية. فالكلام واقع في جهتين.

أمّا الجهة الاولي: فقد يقال بوجوب رفع ساير الضرورات- غير التقية- لأداء مطلق الواجبات ببذل المال فيما إذا توقّف الرفع علي بذله، كما يستفاد ذلك من كلام صاحب العروة. «1»

و قد وافقه السيّد الحكيم، و علّل ذلك بأنّ ساير الضرورات من قبيل العذر

______________________________

(1) العروة الوثقي: المسألة 35 من أفعال الوضوء.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 247

العقلي. فمع القدرة علي رفعها ببذل المال، لا بدّ من رفعها؛ نظرا إلي أنّ إطلاق دليل وجوب الوضوء التامّ يقتضي وجوب بذل المال لرفع الضرورة المانعة.

ثمّ استدرك ذلك بأنّ أدلّة نفي الضرر تنفي وجوب تحمّل الضرر لأداء الواجب. فهذه القاعدة تقيّد إطلاق أدلّة الواجبات فيما إذا توقّف رفع المانع من أدائها علي بذل المال.

و لكنّه قدّس سرّه

استثني مثل الوضوء من شمول أدلّة نفي الضرر. و وجّه ذلك أوّلا:

بأنّ مثله يكون من الواجبات و الأحكام الضرورية المهمّة في نظر الشارع بحيث يقطع بأهمّيتها من تحمّل الضرر المالي.

و ثانيا: بأخذ تحمّل الضرر المالي في تشريع مثل هذه الواجبات، كما في الجهاد و الحجّ و الزكاة و الخمس. و الوضوء من هذا القبيل؛ نظرا إلي ما دلّ من النصوص علي وجوب شراء ماء الوضوء بالمال الكثير. «1»

إشكال السيّد الخوئي قدّس سرّه

و أشكل علي ذلك السيّد الخوئي علي ما في تقريرات بحثه بقوله:

«و لا يمكن المساعدة علي ذلك بوجه؛ لأنّ إيجاب الوضوء ليس كإيجاب سائر الواجبات المالية أو البدنية كالخمس و الزكاة و الجهاد و الحجّ إيجابا مبنيّا علي الضرر المالي أو البدني من الابتداء؛ ليقال: إنّ المال فيها لا بدّ من بذله و إن كان موجبا للضرر و لا يتوقّف تحصيله علي بذل المال.

و عليه فإذا استلزم امتثال إيجاب الوضوء ضررا ماليا أو بدنيا علي المكلّف، فمقتضي قاعدة نفي الضرر عدم وجوب الوضوء في حقّه؛ لأنّه أمر ضرري و لا ضرر و لا ضرار في الإسلام. فإذا لم يجب عليه الوضوء وجب عليه التيمّم

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 2 ب 26 من أبواب التيمّم.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 248

لا محالة بمقتضي تلك القاعدة. و قد خرجنا عن عمومها خصوص ما إذا توقّف تحصيل ماء الوضوء علي بذل مال. فإن مقتضي أدلّة نفي الضرر عدم وجوب البذل و عدم وجوب الوضوء عليه». «1» و إشكاله متين جدّا.

و لا نطيل في هذا البحث، لخروجه عن محلّ الكلام.

و أمّا الجهة الثانية: و هي أنّه هل يجب بذل المال لرفع التقية؟ فلا إشكال في عدم وجوب بذل المال

لرفع موضوع التقية فيما إذا توقّف أداء الواجب عليه، كما صرّح بعدم وجوبه في العروة «2» و وافقه المحشّون.

و قد علّله السيّد الحكيم- «3» بأنّ ضرورة التقية- علي ما يستفاد من نصوصها- من قبيل المانع الشرعي. و من هنا يكون عدم عروض ضرورة التقية من قبيل شرط وجوب الواجب. و عليه يرتفع وجوب الواجب بعروض ضرورة التقية. و لذا يجزي المأتيّ به علي تقية مع وجود المندوحة، كما سبق البحث عن ذلك مفصّلا في ردّ القول باعتبار عدم المندوحة في مشروعية التقية.

و حاصل الكلام: أنّ نصوص التقية حاكمة علي أدلّة الأحكام الأوّلية. و تدلّ علي تضيق نطاق الواجبات الأولية بغير موارد التقية بلسان توسعة الواجب إلي المأتيّ به عن تقية؛ حيث تدلّ علي مشروعية المأتيّ به تقية و بدليته عن الواجب الأوّلي عند توفّر شرائط التقية.

مقتضي التحقيق في المقام

هذا، و لكن الّذي يقتضيه التحقيق في المقام دوران الحكم في المقام مدار ما يقتضيه التحقيق في اعتبار عدم المندوحة.

فلو قلنا هناك باعتبار عدم المندوحة مطلقا، يجب بذل المال للإتيان بالوظيفة

______________________________

(1) التنقيح: ج 4، ص 242- 243.

(2) العروة الوثقي: المسألة 35 من أفعال الوضوء.

(3) مستمسك العروة: ج 2، ص 409.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 249

الأولية. و ذلك لعدم تحقّق موضوع التقية مع المندوحة؛ و هي التمكّن من أداء الواجب الواقعي الأوّلي ببذل المال.

و لكن قد سبق منّا هناك التفصيل بين التقية الاضطرارية و المداراتية. ففي المداراتية لا إشكال في عدم اعتبار عدم المندوحة، فهي مشروعة مع المندوحة بلا إشكال، و هي مختصّة بالصلاة مع المخالفين، و لا ينافي ذلك تحقّق موضوع التقية الاضطرارية في الصلاة معهم أيضا عند عروض الاضطرار، كما سيأتي بيان ذلك في

الصلاة خلف المخالفين إن شاء اللّه. فالتقية في الصلاة لا تختصّ بالمداراتية، و إن كانت التقية المداراتية مختصّة بباب الصلاة.

و علي أيّ حال لا اعتبار بعدم المندوحة في التقية المداراتية. و لكن التقية المداراتية ليست واجبة، كما يأتي في الصلاة خلف المخالفين، بل هي مستحبّة.

و لا معني لوجوب بذل المال لرفع الضرورة المانعة عن الفعل المستحبّ؛ حيث لا وجوب لأصل الفعل حتّي يجب مقدّمته، بخلاف التقية الاضطرارية.

و إنّ التقية الاضطرارية و أخواتها- من الخوفية و الإكراهية- فلمّا كان ملاك مشروعيتها، بل موضوعها الاضطرار، لا تكون مشروعة مع المندوحة لا محالة؛ لانتفائها بانتفاء موضوعها.

و لكن فيه أيضا تفصيل سبق منّا في محلّه، و حاصل هذا التفصيل: أنّه إذا ارتفع الاضطرار و الإكراه و الخوف بمجرّد ترك المأمور به الواقعي في بعض الوقت أو في مكان خاصّ، لا يكفي في مشروعية التقية حينئذ عدم المندوحة حين العمل، بل يعتبر في مشروعيتها عدم المندوحة في جميع الوقت.

و أمّا إذا توقّف ارتفاع الاضطرار و الخوف علي الإتيان بالفعل الموافق للعامّة في بعض الوقت أو في مكان خاص، يكفي في مشروعيتها عدم المندوحة حين العمل أو في مكان خاصّ.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 250

و علي أيّ حال فالضابطة في بذل المال لرفع التقية: أنّه كلّما إذا اعتبر عدم المندوحة، يجب بذل المال مقدّمة لأداء الواجب الواقعي لرفع المانع. و لا تصلح أدلّة التقية لنفي وجوب التكليف الأوّلي حينئذ؛ لأنّ المكلّف متمكّن من امتثال الأمر الأوّلي ببذل المال، فهو من قبيل مقدّمة الواجب؛ حيث لم يسقط التكليف الواقعي الأوّلي؛ لفرض عدم شمول أدلّة التقية الاضطرارية لموارد وجود المندوحة، بلا فرق في ذلك بين اعتبار عدم المندوحة حين

العمل و بين اعتباره في مجموع الوقت ففي كلّ بحسبه.

و أمّا إذا لم يعتبر عدم المندوحة كما في التقية المداراتية فلا إشكال في مشروعية التقية مع المندوحة و من هنا لا يجب بذل المال لرفع التقية، إلّا أنّ في إجزاء التقية المداراتية كلام سيأتي إن شاء اللّه.

و في الحقيقة لا موضوع للتقية في مفروض المسألة فيما إذا اعتبر عدم المندوحة في مشروعيتها. فلا يصحّ التعبير ببذل المال لرفع التقية، بل الأنسب التعبير ببذل المال لدفع التقية، بل مجرّد التمكّن من رفع الاضطرار العارض ببذل المال يمنع عن صدق عنوان الاضطرار عرفا، اللّهمّ بلحاظ عروضه البدوي.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 251

الصلاة تقية خلف المخالفين
اشارة

تنقيح آراء الفقهاء القائلين بإجزاء الصلاة خلف العامّة تحرير آراء الفقهاء القائلين بعدم الإجزاء

تحقيق طوائف النصوص الواردة في المقام

مقتضي التحقيق في الجمع بين نصوص المقام

التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 253

تنقيح كلمات الفقهاء القائلين بالإجزاء
اشارة

1- تحقيق كلام الشيخ الطوسي و ابن إدريس و المحقّق الكركي.

2- تحقيق كلام المحقّق النراقي و الفقيه الاصولي الميرزا القمي.

3- تحقيق كلام الشيخ الأنصاري.

4- تحقيق كلام السيّد الإمام الخميني قدّس سرّه.

يظهر من جماعة من فحول الفقهاء صحّة الصلاة خلف المخالفين و إجزاؤها.

كلام الشيخ الطائفة و ابن إدريس و المحقّق الكركي

منهم الشيخ الطوسي؛ حيث قال:

«و إذا صلّي خلف من لا يقتدي به قرأ علي كلّ حال، سمع القراءة أو لم يسمع. فإن كان في حال تقية أجزأه من القراءة مثل حديث النفس». «1»

فإنّ ذيل كلامه ظاهر في إجزاء الصلاة خلف المخالفين عن الإعادة و القضاء عند الإخلال ببعض أجزاء الصلاة و شرائطه لأجل التقية.

و نظيره عن ابن إدريس، بل ظاهره تحقّق الائتمام و الاقتداء؛ حيث قال:

«فأمّا من يؤتمّ به علي سبيل التقية ممّن ليس بأهل للإمامة، فلا خلاف في

______________________________

(1) المبسوط: ج 1، ص 158.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 254

وجوب القراءة خلفه، إلّا أنّه لا بدّ من إسماع أذنيه. و ما ورد أنّه مثل حديث النفس فإنّه علي طريق المبالغة و الاستيعاب؛ لأنّه لا يسمّي قارئا». «1»

و منهم المحقّق الكركي؛ حيث صرّح بإجزاء التقية فيما ورد فيه النصّ بالخصوص. و من المسلّم ورود النصوص الخاصّة في الصلاة مع المخالفين- و سيأتي ذكرها-، فلا إشكال عنده في صحّة الصلاة مع المخالفين و إجزائها.

فإنّه قال: «فما ورد فيه نصّ خاصّ بخصوصه إذا فعل علي الوجه المأذون فيه كان صحيحا مجزيا- إلي أن قال- و علي هذا فلا تجب الإعادة و لو تمكّن منها علي غير وجه التقية قبل خروج الوقت، و لا أعلم في ذلك خلافا بين الأصحاب». «2»

كلام المحقق النراقي

و منهم المحقّق النراقي: فإنّه حكم بصحّة الصلاة مع المخالفين في التقية المداراتية، و لقد أجاد في تحرير محلّ النزاع؛ حيث صوّر الاقتداء بالمخالفين علي وجهين:

أحدهما: أن يصلّي في المنزل لنفسه ثمّ يخرج إلي الصلاة معهم. و استشهد لذلك بروايات. ثمّ قال:

«الثاني: أن يصلّي معهم ابتداء صلاة منفردة يؤذّن و يقيم و يقرا لنفسه مع

الإمكان. و لا شك في الاجتزاء بتلك الصلاة مع الضرورة، و بدونها إذا تمكّن من الإتيان بجميع الواجبات بنفسه، و كذا مع عدم التمكّن إذا لم تكن له مندوحة عن تلك الصلاة و لم يمكنه الصلاة منفردا، كالمصاحب في سفر مع جماعة المخالفين.

و إنّما الإشكال فيما إذا لم يتمكّن من الواجبات بأسرها، و كانت له مندوحة من الصلاة معهم، أو لم تكن و لكن أمكن له الانفراد أيضا قبلها أو بعدها.

______________________________

(1) السرائر: ج 1، ص 285.

(2) رسائل المحقّق الكركي: ج 2، ص 52.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 255

و الظاهر الاجتزاء أيضا؛ لصحيحة أبي بصير «1»، و روايات البزنطي «2»، و أحمد ابن عائذ «3»، و ابن أسباط «4»، و ابن عذافر «5»، و إسحاق بن عمّار «6»، و غيرها». «7»

ثمّ قيّد ذلك برجحان من جهة جرّ مودّتهم و تأليف قلوبهم أو رفع التهمة و نحو ذلك مما يعتبر في التقية المداراتية.

حاصل ما يستفاد من كلام هذا العلم، التفصيل في الصلاة خلف العامّة، و الحكم بإجزائها إذا كانت في التقية الاضطرارية مع عدم المندوحة، و بعدم إجزائها في التقية المداراتية.

و منهم الفقيه الاصولي المحقّق الميرزا القمّي فإنّه- بعد ما ذكر النصوص المختلفة الواردة في القراءة في الصلاة خلف العامّة و جمع بينها بقوله:

«و الأولي الجمع بين الاستماع و الإنصات و القراءة حسب ما أمكن» «8» - قال في ختام البحث:

«و من هذا يظهر لك الحكم باستحباب الجماعة مع المخالفين و جواز الاعتداد بتلك الصلاة، و أنّه متي و أنّي يستحبّ و حيثما يجب» «9».

و ظاهر كلامه هذا إجزاء الصلاة تقية خلف العامّة، مطلقا سواء وجبت في التقية الاضطرارية أو استحبّت في التقية

المداراتية.

تحرير كلام الشيخ الأنصاري

و منهم الشيخ الأعظم الأنصاري؛ حيث حكم بصحّة العبادة المأتيّ بها علي وجه التقية فيما ورد فيه الإذن من الشارع

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 من أبواب صلاة الجماعة: ب 34، ح 1.

(2) المصدر: ب 33، ح 6.

(3) التهذيب: ج 3، ص 131، ح 37.

(4) وسائل الشيعة: ج 5 ب 33 من أبواب صلاة الجماعة، ح 5.

(5) المصدر: ح 3.

(6) المصدر: ب 34، ح 4.

(7) مستند الشيعة: ج 8، ص 53.

(8) غنائم الايام: ج 3، ص 162.

(9) غنائم الأيام: ج 3، ص 164.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 256

عموما أو خصوصا و خالف المحقّق الكركي في اعتبار ورود الإذن الخاصّ.

فالصلاة مع المخالفين ممّا لا إشكال في صحّتها و إجزائها في رأي الشيخ الأعظم. و قد سبق تحرير كلامه آنفا في إجزاء التقية عن الإعادة و القضاء.

هذا مقتضي ما يستفاد من كلامه في رسالته المستقلّة في التقية.

و نظير ذلك ما قال قدّس سرّه في كتاب صلاته، في اشتراط الإيمان في إمام الجماعة:

«إنّه لا إشكال في أنّه إذا أذن الشارع في إيقاع العمل في الوقت الموسّع مخالفا للواقع عند التقية- كما لو اتّفق المكلّف من أوّل الوقت مع جماعة المخالفين فأذن له الشارع في الصلاة علي طبق مذهبهم فصلّي، ثمّ ارتفعت التقية في باقي الوقت-، فنقول لا ينبغي التأمّل هنا في الصحّة؛ إذ الأمر الموسّع متعلّق بهذا الفرد الواقع تقيّة، فهو يقتضي الإجزاء». «1»

و قال في موضع آخر:

«و التحقيق: أنّ الإذن من الشارع في إيقاع الواجب الموسّع في جزء من الوقت يقتضي الصحّة و عدم الإعادة، نعم يمكن أن يأتي بالعمل مع اليأس عن التمكّن من العمل الواقعي ثمّ يحصل التمكّن فتجب الإعادة من

جهة كون الأمر الأوّل مبنيّا علي ظاهر الحال من عدم تمكّنه فيما بعد، لكنّ الكلام في الأمر الواقعي بالفعل في جزء من الزمان لا الأمر المبنيّ علي ظاهر الحال.

و علي أيّ حال، فلا فرق بين المأذون فيه بالخصوص و المأذون فيه بعمومات التقية بعد تحقّق الأمر و تعلّق الوجوب بالعمل في ذلك الجزء من الزمان، نعم يمكن أن يدّعي أنّ عمومات الأمر بالتقية و حفظ النفس لا تقتضي الإذن في العمل علي وجه التقية مطلقا، بل تقتضيه مع كون الجزء و الشرط المفقودين من الأجزاء و الشرائط الاختيارية مع عدم المندوحة مطلقا أو في

______________________________

(1) كتاب الصلاة: ج 7، ص 479.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 257

جزء من الوقت، علي التفصيل و الخلاف في مسألة ذوي الأعذار كما ذكرنا سابقا، لا أنّ الإذن الحاصل منها لا يقتضي الإجزاء». «1»

و هذا الكلام منه صريح في إجزاء التقية الاضطرارية في مطلق العبادات- الصلاة و غيرها- مع عدم المندوحة، بل صرّح في ذيل كلامه بظهور نفس الإذن بالتقية في الإجزاء.

و قد صرّح بوجوب القراءة و سقوط شرائطها، مثل كفاية أقلّ مصداق الإخفات و إجزاء الصلاة خلفهم مع الإخلال ببعض شرائطها. و لكنّه حكم باعتبار عدم المندوحة. و إليك مواضع من نصّ كلامه.

قال قدّس سرّه: «تجب القراءة خلف الإمام الغير المرضيّ؛ لعدم القدوة إلّا صورة؛ لقوله عليه السّلام: «ما هم عندي إلّا بمنزلة الجدر» و قولهما عليهما السّلام: «لا يعتدّ بالصلاة خلف الناصب، و اقرأ لنفسك كأنّك وحدك»، و في رواية دعائم الإسلام: «اجعله سارية من سواري المسجد». و منه يعلم عدم اعتبار شروط الجماعة. فلو تقدّم في الأفعال لم يضرّ كما صرّح به بعض …

و هل

يعتبر أقلّ الإخفات المجزي في الصلاة، أم يكفي دون ذلك؟ و جهان:

من أنّ القراءة لا تتحقّق بدون الصوت، و ممّا دلّ علي أنّه يكفي معهم من القراءة مثل حديث النفس كما في مرسلة ابن أبي عمير. و في صحيحة ابن يقطين: «اقرأ لنفسك. و إن لم تسمع، فلا بأس». و عليها يحمل إطلاق صحيحة عليّ بن جعفر:

«عن الرجل هل يصلح له أن يقرأ في صلاته و يحرّك لسانه بالقراءة في لهواته من غير أن يسمع نفسه؟ قال عليه السّلام: لا بأس أن لا يحرّك لسانه، يتوهّم توهّما». و عن قرب الاسناد بسنده عن عليّ بن جعفر: «عن الرجل يقرأ في صلاته، هل يجزيه أن لا يحرّك لسانه، يتوهّم توهّما؟ قال: لا بأس»، فقد حملهما الشيخ علي القراءة خلف المخالف.

______________________________

(1) كتاب الصلاة: ج 7، ص 484.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 258

و التحقيق أنّ التمثيل بحديث النفس مبالغة؛ إذ لا يصدق القراءة مع حديث النفس، فالتصرّف في التمثيل أولي من التصرّف في لفظ القراءة، نعم إسماع النفس الّذي هو المعتبر في الصلاة الاخفاتيّة غير معتبر، فيكفي تقليب اللسان في مخارج الحروف و إن لم يظهر منه صوت، و كذا في حروف الشفة و الحلق». «1»

قوله: «لعدم القدوة، إلّا صورة»؛ أي صورة اقتداء و لا ينافيه قوله بإجزائها عن الإعادة و القضاء، كما يأتي تصريحه بذلك. و قوله عليه السّلام: «اجعله سارية من سواري المسجد»؛ أي اجعله اسطوانة من أساطينه و هذا التعبير ظاهر في عدم الاعتداد بصلاته، نظير قوله عليه السّلام: «ما هم عندي إلّا بمنزلة الجدر».

ثمّ ذكر موثّقة سماعة «2» و قال في ختام كلامه:

«و من هذه الرواية و غيرها يعلم عدم

وجوب الإعادة لهذه الصلاة و إن أخلّ ببعض واجباتها للتقية. نعم الظاهر اعتبار عدم المندوحة، كما يظهر من غيرها من الأخبار». «3»

و كلامه هذا صريح بإجزاء الصلاة خلف المخالفين مع الإخلال ببعض شرائط الجماعة و واجباتها.

كلام السيّد الإمام الخميني قدّس سرّه

و منهم السيّد الإمام الخميني قدّس سرّه «4»: فإنّه استظهر من النصوص الواردة في المقام صحّة الصلاة معهم و إجزائها عن الإعادة و القضاء، و حمل ما امر فيه بالإتيان بالفريضة قبل الصلاة معهم أو بعدها علي الاستحباب؛ حملا للظاهر في الوجوب علي الاستحباب؛

______________________________

(1) كتاب الصلاة: ج 7، ص 471- 472.

(2) وسائل الشيعة: ج 5 ب 56 من صلاة الجماعة، ح 2.

(3) كتاب الصلاة: ص 475.

(4) الرسائل: ج 2، ص 198.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 259

بقرينة ظهور بعض النصوص المعتبرة في جواز الاكتفاء بالصلاة معهم، كقول أبي عبد اللّه عليه السّلام في صحيحة حمّاد: «من صلّي معهم في الصفّ الأوّل، كان كمن صلّي خلف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في الصفّ الأوّل». «1» و نحوها من النصوص المرغّبة إلي الصلاة معهم.

و أمّا ما دلّ علي عدم جواز الصلاة خلفهم و أنّهم بمنزلة الجدر و سواري المسجد، و ما دلّ منها علي النهي عن الصلاة إلّا خلف من يوثق بدينه، فقد حمله السيّد الإمام قدّس سرّه علي عدم الجواز بحسب الحكم الأوّلي، و لم ير منافاة بينها و بين النصوص المجوّزة للصلاة مع المخالفين في موارد التقية لأنّها بحسب الحكم الثانوي.

ثمّ قال في ختام كلامه:

«و كيف كان فلا ينبغي الشبهة في صحّة الصلاة و ساير العبادات المأتيّ بها علي وجه التقية». «2»

______________________________

(1) الوسائل: ج 5، ص 5، من صلاة الجماعة، ح 1.

(2) الرسائل: ج

2، ص 200.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 260

تنقيح آراء القائلين بعدم الإجزاء
اشارة

1- تنقيح كلام الشيخ الصدوق و الشيخ جعفر كاشف الغطاء.

2- تحقيق كلام صاحب الحدائق في المقام.

3- تحرير كلام صاحب الجواهر.

و يظهر من جماعة من فحول القدماء و المتأخّرين عدم صحّة الاقتداء بالمخالفين تقية و أنّها غير مجزئة عن الإعادة و القضاء.

تحرير كلام الشيخ الصدوق و كاشف الغطاء

منهم الشيخ الصدوق؛ حيث قال في المقنع:

«و اعلم أنّه لا يجوز أن تصلّي خلف أحد إلّا خلف رجلين، أحدهما: من تثق بدينه و ورعه، و آخر: تتّقي سوطه و سيفه، و شناعته علي الدين، فصلّ خلفه علي سبيل التقية و المداراة، و أذّن لنفسك و أقم و اقرأ لها غير مؤتمّ به». «1»

و قال في الهداية: «لا تصلّ خلف أحد إلّا خلف رجلين، أحدهما: من تثق بدينه و ورعه، و آخر: تتّقي سيفه و سوطه و شناعته (علي الدين)، فصلّ خلفه علي سبيل التقية و المداراة، و أذّن لنفسك و أقم و اقرأ لها، غير مؤتمّ به». «2»

______________________________

(1) المقنع: ص 114.

(2) الهداية/ باب التقية: ص 147.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 261

ظاهر قوله: «غير مؤتمّ به» و إيجابه رعاية شرائط صلاة الفرادي، عدم صحّة الاقتداء و أنّ الصلاة خلفهم لا تصحّ، إلّا فرادي بمالها من الشرائط.

و مرجعه إلي عدم إجزاء الاقتداء بهم جماعة. لكنّه قدّس سرّه قال بذلك في التقية المداراتية. و لا نظر له إلي التقية الاضطرارية، و لا سيّما مع عدم المندوحة.

و منهم الشيخ جعفر كاشف الغطاء؛ حيث ذهب إلي عدم إجزاء التقية المداراتية و فساد الصلاة مع المخالفين، و إن كانت مستحبّة و لها فضل عظيم و ثواب جسيم؛ لما دلّ علي ذلك من النصوص و استقرّت عليه سيرة أهل البيت عليهم السّلام.

ثمّ قال: «و لا بدّ من

نية الانفراد معهم و إظهار الدخول في جماعتهم، ثمّ يأتي بما أمكنه مع اللحوق بأئمّتهم من قراءة، و لو كحديث النفس …». «1»

كلام صاحب الحدائق في المقام

و منهم المحدّث البحراني صاحب الحدائق: فإنّ له كلاما جامعا و تحقيقا مفصّلا في نصوص المقام.

و حاصل كلامه أنّ هذه النصوص علي ثلاث طوائف:

الاولي: ما دلّ علي أنّ المتّقي يصلّي في منزله لنفسه ثمّ يخرج إلي الصلاة معهم و ينويها نافلة.

الثانية: ما دلّ علي أن يصلّي معهم ابتداء صلاة منفردة يؤذّن و يقيم و يقرأ لنفسه مع الإمكان.

الثالثة: ما دلّ علي أنّه لا ينوي الصلاة معهم أصلا- لا نافلة و لا فريضة-، بل يجعلها مجرّد أذكار حال القيام و الركوع و السجود و القعود، بل و لا يكبّر فيها تكبيرة الإحرام.

ثمّ جعل مفاد الطائفة الاولي أفضل و أولي؛ نظرا إلي استجماعها لجميع

______________________________

(1) كشف الغطاء: كتاب الصلاة ص 265.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 262

ما يعتبر في الصلاة الصحيحة من الأجزاء و الشرائط. و جعل القسم الثاني من الصلاة معهم ابتداء بنية الفرادي جائزة مشروعة أيضا. و قد نفي اعتبار عدم المندوحة في مشروعيتها بعد نقل كلمات الأصحاب في ذلك. بخلاف القسم الثالث فلا يجزي مطلقا؛ لعدم كون ما أتي به صلاة.

و إليك نصّ مواضع من كلامه. قال قدّس سرّه بعد ذكر عمدة أخبار الباب:

«إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّ الكلام في هذه الأخبار يقع في مواضع:

الأوّل أنّ المستفاد من جملة هذه الأخبار الدالّة علي الحثّ و التأكيد علي الصلاة معهم و ما ذكر فيها من الثواب الجزيل، هو استحباب الصلاة أو وجوبها معهم علي أحد وجهين:

أحدهما: أن يصلّي في منزله لنفسه، ثمّ يخرج إلي الصلاة معهم، كما دلّ عليه جملة

من هذه الأخبار، و الظاهر أنّه الأفضل و الأولي، لما فيه من الإتيان بالصلاة المستجمعة لشرائط الصحّة و الكمال؛ حيث إنّ الغالب مع الصلاة معهم لزوم ترك بعض الواجبات أو المستحبّات، كما صرّح به جملة من الأخبار المذكورة.

و ثانيهما: أن يصلّي معهم ابتداء صلاة منفردة يؤذّن و يقيم و يقرأ لنفسه مع الإمكان». «1»

ثمّ قال بعد نقل كلمات الأصحاب في اعتبار عدم المندوحة:

«و بالجملة فإنّ المستفاد من الأخبار علي وجه لا يقبل الإنكار عند من تأمّل فيها بعين التحقيق و الاعتبار، أنّه يجوز الدخول معهم ابتداء و أن يصلّي معهم صلاة منفردة و يتابع في الركوع و السجود، سواء كان له مندوحة عن الدخول أو لم تكن، و أنّه يغتفر له ما يلزم فواته من الواجبات إذا لم يمكن الإتيان بها». «2»

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 11، ص 78.

(2) المصدر: ص 79.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 263

ثمّ استشهد لذلك إلي نصوص، ثمّ ذكر نصوص الطائفة الثالثة، فقال:

«و بالجملة فإنّ هذه الأخبار ظاهرة في أنّ الصلاة معهم إنّما هي عبارة عن المتابعة في القيام و القعود و الأذكار من غير أن ينويها صلاة، بل ظاهر قوله في الثاني: «و لا تكبّر معهم»؛ أي لا تفتتح الصلاة بالتكبير، فإنّ الّذي يأتي به إنّما هو مجرّد أذكار و ليس بصلاة». «1»

تنقيح كلام صاحب الجواهر

و منهم الفقيه الفحل النحرير صاحب الجواهر «2». فإنّه بعد ما استدلّ لفتوي المحقّق بالاتّفاق و عدم الخلاف و نقله عن المنتهي و السرائر و الحدائق، حكم بأنّ الصلاة فرادي حينئذ و ليست بجماعة، و استدلّ لذلك بما دلّ علي ذلك من النصوص و حمل ما يخالف من النصوص علي محامل.

فإنّه قدّس سرّه- بعد

دعوي الاتّفاق و نقل عدم الخلاف علي وجوب القراءة في الصلاة خلف العامّة تقية- قال قدّس سرّه:

«بل هو منفرد حقيقة، كما يومئ إليه خبر الفضيل «3» عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «لا تعتدّ بالصلاة خلف الناصب و اقرأ لنفسك كأنّك وحدك». و خبر زرارة «4» عن الباقر عليه السّلام: عن الصلاة خلف المخالفين، فقال: «ما هم عندي إلّا بمنزلة الجدر»، و لقول الصادق عليه السّلام في الحسن كالصحيح «5»: «إذا صلّيت خلف إمام لا يقتدي به، فاقرأ خلفه، سمعت قراءته أو لم تسمع»، و قول أبي الحسن عليه السّلام في صحيح ابن يقطين «6»:

«اقرأ لنفسك، و إن لم تسمع نفسك فلا بأس» في جواب سؤاله «عن الرجل يصلّي خلف من

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 11، ص 81.

(2) جواهر الكلام: ج 13، ص 195.

(3) وسائل الشيعة: ج 5، ب 33 من أبواب صلاة الجماعة، ح 7.

(4) وسائل الشيعة: ج 5، ب 33 من أبواب صلاة الجماعة، ح 10.

(5) المصدر: ح 9.

(6) المصدر: ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 264

لا يقتدي بصلاته و الإمام يجهر بالقراءة»، إلي غير ذلك ممّا يستفاد منه الحكم المزبور منطوقا و مفهوما.

فما في خبر زرارة «1» عن الباقر عليه السّلام: «لا بأس بأن تصلّي خلف الناصب، و لا تقرأ خلفه فيما يجهر فيه، فإن قراءته تجزيك إذا سمعتها»، و أخيه بكير «2»: سألت الصادق عليه السّلام عن الناصب يؤمّنا، ما تقول في الصلاة معه؟ فقال عليه السّلام: «أمّا إذا جهر فأنصت للقراءة و اسمع ثمّ اركع و اسجد أنت لنفسك» و غيرهما كخبر أحمد بن عائذ «3» و نحوه، يجب طرحهما بعد إعراض عامّة الأصحاب عنهما، كما اعترف

به في الحدائق، أو حملهما علي فعل صلاة غير هذه الصلاة، لعلم الإمام عليه السّلام بضرر أو مصلحة في خصوص السائلين حتّي في القراءة خفيا، كما يومئ إليه في الجملة صحيح معاوية بن وهب «4»، بل و خبر إسحاق بن عمّار «5» في المقام، بل و غيرهما في غيره، أو علي إرادة القراءة خفيا، بناء علي أنّها لا تنافي الإنصات، أو علي إرادة القراءة بعد الإنصات، كما عساه يومئ إليه في الجملة صحيح ابن وهب «6» أيضا المشتمل علي قصّة ابن الكوّاء مع أمير المؤمنين عليه السّلام أو غير ذلك». «7»

ثمّ استظهر من بعض النصوص الاجتزاء بالحمد خاصّة مع التعذّر، كأن ركع الإمام قبل شروعه في السورة. و نقل عن المدارك و الذخيرة نفي الخلاف فيه، و استشهد لهم ببعض النصوص، بل نقل عن التهذيب و الروضة و غيره عدم وجوب إتمام الفاتحة حينئذ، ثمّ أنكر أن يكون لهم دليل يدلّ علي ذلك بالخصوص، بل استظهر من بعض النصوص خلاف ذلك، ثمّ استنتج في الختام

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5، ب 34 من أبواب صلاة الجماعة، ح 5.

(2) المصدر: ح 3.

(3) المستدرك: ج 6، باب 30 من أبواب صلاة الجماعة، ح 2.

(4) وسائل الشيعة: ج 5، ب 34 من أبواب صلاة الجماعة، ح 2.

(5) المصدر: ح 4.

(6) المصدر: ح 2.

(7) جواهر الكلام: ج 13، ص 195- 197.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 265

عدم إجزاء الصلاة مع المخالفين حال التقية بقوله: «فعدم الاعتداد بالصلاة المزبورة حينئذ و وجوب إعادة غيرها لا يخلو من قوّة؛ وفاقا للتذكرة، و عن نهاية الأحكام، بل قيل إنّه قضيّة ما في المبسوط و النهاية». «1»

ثمّ حكم بعدم وجوب الجهر

بالقراءة الجهرية عند التعذّر؛ مستدلّا باتّفاق الأصحاب و ما دلّ علي ذلك من النصوص؛ حيث قال:

«نعم لا يجب الجهر في القراءة الجهرية إذا لم يتمكّن منه قطعا، كما في المدارك و لا نعرف فيه خلافا كما في المنتهي، و لصحيح ابن يقطين السابق و مرسل ابن أبي حمزة «2» عن الصادق عليه السّلام: «يجزيك إذا كنت معهم من القراءة مثل حديث النفس». «3»

ثمّ قال قدّس سرّه: «لكن من المعلوم إرادته المبالغة في الإخفات كما عن السرائر الاعتراف به؛ ضرورة عدم صدق اسم القراءة إن اريد الحقيقة. و ليس هو إلّا مجرّد تصوّر لا قراءة، كما هو واضح». 4

هذه نبذة من كلمات فحول المحقّقين، من القدماء و المتأخّرين و تحرير آرائهم في المقام.

و قد عرفت أنّ الأصحاب اختلفوا في إجزاء الصلاة مع المخالفين و الاقتداء بهم في صلاة الجماعة.

فمنهم من قال بإجزائها مطلقا كالشيخ الطوسي و ابن إدريس و المحقّق الكركي، و الميرزا القمّي و السيّد الإمام الخميني قدّس سرّه، بل صرّح المحقّق الكركي بعدم وجوب الإعادة حتّي مع المندوحة و التمكّن و ادّعي اتّفاق الأصحاب علي ذلك بقوله: «و علي هذا فلا تجب الإعادة، و لو تمكّن منها علي غير وجه التقية قبل

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 13، ص 198.

(2) وسائل الشيعة: ج 5، ب 33 من أبواب صلاة الجماعة، ح 4.

(3) 3 و 4 جواهر الكلام: ج 13، ص 199.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 266

خروج الوقت، و لا أعلم في ذلك خلافا بين الأصحاب». «1»

و منهم: من قال بعدم إجزائها كالشيخ الصدوق، و صاحب الحدائق، و الشيخ جعفر كاشف الغطاء، و صاحب الجواهر، و السيّد الخوئي قدّس سرّه.

و منهم: من فصّل

بين التقية الاضطرارية الّتي لا مندوحة للمتّقي، فحكم فيها بالإجزاء، و بين التقية المداراتية المتحقّقة فيها المندوحة، فحكم بعدم الإجزاء فيها، كما سبق من المحقّق النراقي، و الشيخ الأنصاري، بل يظهر ذلك من كلام الصدوق و كاشف الغطاء. و سيأتي منّا في ختام البحث أنّ هذا هو مقتضي التحقيق.

______________________________

(1) رسائل المحقّق الكركي: ج 2، ص 52.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 267

تحقيق في طوائف النصوص الواردة في المقام
اشارة

أمّا النصوص الواردة في الصلاة مع المخالفين، فيمكن تقسيمها بلحاظ مالها من المضامين إلي طوائف، نكتفي هاهنا بذكر عمدتها.

الطائفة الاولي: ما دلّ بإطلاقه أو عمومه علي عدم جواز الصلاة خلف المخالفين- الأعم من العامّة و غيرهم- و عدم صحّة الاقتداء بهم.

و هي عدّة روايات:

منها: صحيح زرارة، قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الصلاة خلف المخالفين، فقال عليه السّلام:

ما هم عندي إلّا بمنزلة الجدر». «1»

الجدر جمع الجدار. و المقصود أنّ الصلاة خلفهم كالصلاة خلف الجدر.

فكيف أنّ الصلاة خلف الجدر لا يترتب عليها أيّ أثر من آثار صلاة الجماعة، بل الصحيحة؟ فكذلك الصلاة خلفهم. و لا إشكال في دلالة هذه الرواية علي بطلان الصلاة خلف العامّة، كما لا إشكال في سندها.

و منها: ما رواه الصدوق في العيون باسناده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلي المأمون، قال عليه السّلام: «لا يقتدي، إلّا بأهل الولاية». «2»

و الأقوي اعتبار طريق الصدوق إلي الفضل، كما أثبتنا ذلك في كتابنا «دليل

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5، ب 10، من أبواب صلاة الجماعة، ح 1.

(2) المصدر: ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 268

تحرير الوسيلة في ولاية الفقيه».

و أمّا دلالة فلا إشكال فيها؛ نظرا إلي دلالة النهي في العبادات علي

الفساد.

هذه النصوص بإطلاقها تدلّ علي اشتراط الإيمان في إمام الجماعة و عدم صحّة الاقتداء بالمخالفين و عدم إجزاء الصلاة معهم مطلقا، تقية كان أم لم تكن.

و منها: صحيح أبي عبد اللّه البرقي أنّه قال: «كتبت إلي أبي جعفر الثاني عليه السّلام: أ يجوز الصلاة خلف من وقف علي أبيك و جدّك؟ فأجاب: لا تصلّ وراءه». «1» لا إشكال في سنده و لا دلالته علي عدم مشروعية الصلاة خلف الواقفي.

و مثله صحيح عليّ بن مهزيار- الوارد في النهي عن الصلاة خلف المجسّمة-، قال: «كتبت إلي محمّد بن عليّ الرضا عليه السّلام: اصلّي خلف من يقول بالجسم و من يقول بقول يونس؟ فكتب عليه السّلام: لا تصلّوا خلفهم». «2»

فإنّ هاتين الصحيحتين قد دلّتا علي عدم جواز الاقتداء بالواقفية و الغلاة و المجسّمة. و كذا ورد النهي عن الصلاة خلف المجبّرة «3».

و بدلالة هذه النصوص يثبت عدم جواز الاقتداء بمطلق المخالفين بالمعني الأعمّ؛ أي مطلق المخالف للإمامية الاثني عشرية، سواء كان من العامّة أو ساير فرق الشيعة أو من الزنادقة.

الطائفة الثانية: ما دلّ بعمومه أو إطلاقه علي جواز الصلاة خلف المخالفين، و هي بإطلاقها تدلّ علي إجزاء الصلاة معهم مطلقا، و لو كانت اقتداء بهم.

فمن هذه الطائفة: ما ورد من النصوص في الحثّ و الترغيب علي الصلاة معهم جماعة في مساجدهم، و الوعد بالثواب علي الحضور في صفوف جماعتهم، بل في الصفّ الأوّل من صفوفهم. فإنّها تدلّ بإطلاقها علي صحّة

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5، ب 10 من أبواب صلاة الجماعة، ح 5.

(2) المصدر: ح 10.

(3) المصدر: ح 6- 9 و 12- 15.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 269

الاقتداء بهم و إجزائه.

منها: صحيح حمّاد بن عثمان،

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من صلّي معهم في الصفّ الأوّل، كان كمن صلّي خلف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله في الصفّ الأوّل». «1»

و منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من صلّي معهم في الصفّ الأوّل، كان كمن صلّي خلف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله». «2»

و منها صحيح إسحاق بن عمّار، قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «يا إسحاق أ تصلّي معهم في المسجد؟ قلت: نعم. قال عليه السّلام: صلّ معهم؛ فانّ المصلّي معهم في الصفّ الأوّل، كالشاهر سيفه في سبيل اللّه». «3»

وجه الدلالة: أنّ العبادة لا تكون مستحبّة، إلّا إذا كانت صحيحة. و إنّ الترغيب و الحثّ علي عبادة و الوعد عليها بالثواب لا يلائم بطلانها.

نعم ما ورد في هذه الطائفة من الأمر الاستحبابي بالصلاة معهم، أعمّ من كونها بقصد الاقتداء أو لا، بل باراءة صورة الاقتداء و إن كانت بنيّة الفرادي.

و لكنّها تشمل بإطلاقها ما إذا صلّي معهم جماعة بقصد الاقتداء، بل يشعر به التشبيه في الأجر بالصلاة خلف رسول اللّه جماعة، و إن لا يخلو لفظ «معهم» في التعبير بالصلاة معهم من إشعار بصورة الاقتداء. و علي أيّ حال لا يمكن إنكار الإطلاق لهذه الطائفة في نفسها.

و منها: ما رواه الصدوق مرسلا جازما بقوله: قال الصادق عليه السّلام: «إذا صلّيت معهم غفر لك بعدد من خالفك». «4»

و منها: صحيح عبد اللّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «اوصيكم بتقوي اللّه عزّ و جلّ، و لا تحملوا الناس علي أكتافكم، فتذلّوا. إنّ اللّه تبارك و تعالي يقول في كتابه:

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5، ب 5 من

أبواب صلاة الجماعة، ح 1.

(2) المصدر: ح 4.

(3) المصدر: ح 7.

(4) المصدر: ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 270

و قولوا للناس حسنا. ثمّ قال عليه السّلام: عودوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم، و اشهدوا لهم و عليهم، و صلّوا معهم في مساجدهم». «1»

قوله: «و لا تحملوا الناس علي أكتافكم»، معناه: لا تسلّطوهم علي أنفسكم.

و قول العرب: حمله علي أكتافه؛ أي جعله راكبا علي ظهره و صار مركبا له. و هذا التعبير كناية عن تسليط الغير علي نفسه. و المقصود: لا تفعلوا فعلا و لا تتّخذوا منهجا في المواجهة معهم؛ لكي تجعلوهم بذلك مسلّطين علي أنفسكم بتعييبهم و تعييرهم إيّاكم، فتذلّوا بذلك.

لا إشكال في هذه الرواية سندا و دلالة، فإنّ إطلاق الأمر بالصلاة معهم في مساجدهم يقتضي مشروعية الاقتداء بهم و إجزائه.

و منها: صحيح عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال:

«صلّي حسن و حسين خلف مروان، و نحن نصلّي معهم». «2»

فإنّ مقتضي إطلاق هذه النصوص مشروعية التقية المداراتية معهم بالصلاة خلفهم، و لو كانت جماعة، بل استحباب ذلك.

و لا ينافي ذلك ما وقع في دلالتها علي الإجزاء من الكلام و الاختلاف بين الفقهاء، بلحاظ مدلول ساير النصوص، كما سبق نقل كلمات بعضهم.

و ستتّضح لك حقيقة الحال ببيان مفاد ساير النصوص الواردة في المقام.

و وجه الكلام في دلالتها أنّ الأمر بالصلاة في مساجدهم و استحبابها لا ينافي الحمل علي نيّة الفرادي، أو إتيان الفريضة في المنزل قبلها أو بعدها، كما ورد في ساير النصوص. كما أنّ الوعد بالثواب العظيم لا ينافي الحمل علي أحد هذين المحملين بشهادة ساير النصوص، كما سيأتي في الطائفتين الآتيتين. إلّا أنّ إطلاق هذه

النصوص يشمل الصلاة خلفهم بقصد الاقتداء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5، ب 5 من أبواب صلاة الجماعة، ح 8.

(2) المصدر: ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 271

و أمّا توهّم أنّ التعبير بالصلاة خلفهم لا دلالة و لا ظهور له في الاقتداء، فغير وجيه. و ذلك لأنّ هذا التعبير استعمل كثيرا في النصوص بمعني الاقتداء، كقوله عليه السّلام: «لا تصلّ خلف من لا تثق بدينه و أمانته». و هذا التعبير كثير جدّا في نصوص شرائط إمام الجماعة. نعم ما ورد في بعض هذه النصوص من التعبير بالصلاة معهم لا ظهور له في الاقتداء، بل أعمّ منه و من الصلاة خلفهم بنيّة الفرادي.

و من هذه الطائفة ما يستفاد منها سقوط القراءة في الصلاة خلفهم، فدلّت بإطلاقها علي إجزاء الاقتداء بهم؛ لأنّ سقوط القراءة من أحكام الجماعة. و هي عدّة نصوص فيها صحاح و غيرها.

فمن هذه النصوص صحيح ابن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يصلّي خلف من لا يقتدي بصلاته و الإمام يجهر بالقراءة، قال عليه السّلام: اقرأ لنفسك. و إن لم تسمع نفسك، فلا بأس» «1».

و منها: مرسل محمّد بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يجزيك إذا كنت معهم، من القراءة، مثل حديث النفس». «2»

فإنّ هاتين الروايتين تدلّان بإطلاقهما علي إجزاء الصلاة معهم جماعة و سقوط القراءة؛ لعدم كون حديث النفس- الّذي لا يسمعها المصلّي نفسه- قراءة؛ حيث دلّ الأوّل علي سقوط وجوب إسماع النفس، و الثاني علي كفاية حديث النفس. مع وضوح عدم كون حديث النفس قراءة، بل إنّما هو مجرّد تصوّر القراءة، كما قال في الجواهر «3».

و ممّا دلّ علي سقوط القراءة، بل صرّح

فيه بالإجزاء، صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بأن تصلّي خلف الناصب، و لا تقرأ خلفه فيما يجهر فيه، فإنّ قراءته

______________________________

(1) الوسائل: ج 5 ب 33، من صلاة الجماعة ح 1.

(2) المصدر: ح 4.

(3) جواهر الكلام: ج 13، ص 199.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 272

يجزيك إذا سمعتها». «1» و أمّا وجه إطلاقه- مع صراحته في الإجزاء بدون القراءة- أنّه يحتمل اختصاصه بالتقية الاضطرارية بقرينة فرض الناصب، إلّا أنّه يمكن نفي خصوصية الناصب و تعميمه إلي التقية المداراتية. هذا مع احتمال إرادة الصلاة خلفهم فرادي، و سقوط القراءة فيها تعبّدا كما سبق عن الشيخ الأعظم.

و بذلك يوجّه نفي الصراحة و دلالته علي المطلوب بالإطلاق؛ نظرا إلي شموله لغير هاتين الصورتين بالإطلاق.

و خبر أحمد بن عائذ، قال: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام إنّي أدخل مع هؤلاء في صلاة المغرب، فيعجلوني إليّ ما أن أؤذّن و اقيم، فلا أقرأ شيئا، حتّي إذا ركعوا و أركع معهم. أ فيجزئني ذلك؟ قال عليه السّلام: نعم». «2» فإنّهما يصرّحان أوّلا علي سقوط وجوب القراءة رأسا و أنّه لا يجب حتّي مثل حديث النفس. و ثانيا: علي إجزاء الصلاة خلفهم مع ترك القراءة.

و حاصل الكلام: أنّ هذه الطائفة من النصوص دلّت بإطلاقها علي إجزاء الصلاة خلفهم، سواء كانت عن تقية، أم لا.

الطائفة الثالثة: ما دلّ علي جواز الصلاة خلف المخالفين تقية و علي عدم جوازها في غير حال التقية، كصحيح إسماعيل الجعفي. قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام:

«رجل يحبّ أمير المؤمنين عليه السّلام و لا يتبرأ من عدوّه، و يقول: هو أحبّ إليّ ممن خالفه. فقال عليه السّلام: هذا مخلط و هو عدوّ، فلا

تصلّ خلفه و لا كرامة، إلّا أن تتّقيه». «3»

و صحيح عمر بن اذينة، عن عليّ بن سعد البصري، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

إنّي نازل في قوم بني عدي و مؤذّنهم و إمامهم و جميع أهل المسجد عثمانية، يبرءون منكم و من شيعتكم، و أنا نازل فيهم، فما تري في الصلاة خلف الإمام؟ فقال عليه السّلام: صلّ خلفه و احتسب

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 34 من صلاة الجماعة، ح 5.

(2) مستدرك وسائل الشيعة: ج 6، ص 483، ب 30، من صلاة الجماعة، ح 7316/ 2.

(3) وسائل الشيعة: ج 5 ص 389 ب 10 من أبواب الصلاة الجماعة، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 273

بما تسمع، و لو قدمت البصرة لقد سألك الفضيل بن يسار و أخبرته بما أفتيتك فتأخذ بقول الفضيل و تدع قولي. قال عليّ: فقدمت البصرة فأخبرت فضيلا بما قال. فقال عليه السّلام: هو أعلم بما قال. و لكنّي قد سمعته و سمعت أباه عليهما السّلام يقولان: لا تعتدّ بالصلاة خلف الناصبي و اقرأ لنفسك كأنّك وحدك». «1»

فإنّ قوله عليه السّلام: «صلّ خلفه و احتسب بما تسمع» ظاهر في مشروعية الصلاة خلف المخالفين و إجزائها حال التقية، كما فهم ذلك صاحب وسائل الشيعة و قال في ذيل هذه الرواية «أقول: صدر الحديث ظاهر في التقية». و هو جيّد؛ حيث لا معني للأخذ بقول الفضيل في البصرة- الّذي هو الحكم الواقعي الأوّلي- إلّا ارتفاع موجب التقية.

و صحيح عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «ما منكم أحد يصلّي صلاة فريضة في وقتها ثمّ يصلّي معهم صلاة؛ تقية، و هو متوضّئ، إلّا كتب اللّه له

بها خمسا و عشرين درجة. فارغبوا في ذلك». «2»

و الصلاة في البيت لا تنافي وقوع الصلاة خلفهم جماعة؛ لا مكان كونه من قبيل ما ورد عنهم عليهم السّلام من الأمر بالجماعة بعد الصلاة الفريضة فرادي.

و من هذه الطائفة بعض ما يأتي من النصوص في الطائفة السابعة، كموثّقة عمار الساباطي 3 و صحيح زرارة.

الطائفة الرابعة: ما دلّ علي مشروعية الصلاة خلفهم تقية و إجزائها بنية الفرادي، لا بنية الجماعة و الاقتداء. و هي ما امر فيها المصلّي خلفهم بالقراءة لنفسه و لو بنحو الهمهمة، أو الإنصات لقراءتهم، و لكن يركع و يسجد لنفسه.

فمن هذه الطائفة موثّق ابن بكير عن أبيه، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الناصب يؤمّنا: ما تقول في الصلاة معه؟ فقال عليه السّلام: أمّا إذا جهر فأنصت للقراءة و اسمع، ثمّ اركع و اسجد

______________________________

(1) (1 و 3) وسائل الشيعة: ج 5 ص 389 ب 10 من أبواب الصلاة الجماعة، ح 4.

(2) وسائل الشيعة: ب 6 من صلاة الجماعة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 274

أنت لنفسك». «1» لا إشكال في دلالة ذيله علي المطلوب و أمّا أمره بالإنصات فهو إمّا تجويز لترك القراءة تعبّدا، كما عن الشيخ الأعظم أو لتعذّره بلحاظ شدّة التقية في الصلاة خلف الناصب لشدّة عداوته، كما فهمه صاحب وسائل الشيعة.

و صحيح ابن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يصلّي خلف من لا يقتدي بصلاته، و الإمام يجهر بالقراءة؟ قال عليه السّلام: اقرأ لنفسك، و إن لم تسمع نفسك، فلا بأس». «2»

و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا صلّيت خلف إمام لا تقتدي به، فاقرأ خلفه؛ سمعت

قراءته أو لم تسمع». «3» وجه الدلالة أنّ القراءة لا تلائم الجماعة.

و خبر ابن عائذ «4» وجه الدلالة أنّ القراءة لا تلائم الجماعة.

و خبر ابن عائذ «4» المتقدّم؛ نظرا إلي التصريح فيه بالسؤال عن الصلاة خلف من لا يقتدي به. فإنّ نفي الاقتداء صريح في الفرادي.

بل صرّح بذلك في صحيح حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«يحسب لك إذا دخلت معهم- و إن كنت لا تقتدي بهم-، مثل ما يحسب لك إذا كنت مع من تقتدي به» «5»؛ حيث صرّح في هذه الصحيحة بمشروعية و مأجورية الصلاة خلفهم بقصد الانفراد، من دون اقتداء و جماعة.

و مثله مرسل ابن أسباط، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و أبي جعفر عليهما السّلام: «في الرجل يكون خلف الإمام لا يقتدي به فيسبقه الإمام بالقراءة؟ قال عليه السّلام: إذا كان قد قرأ أمّ الكتاب أجزأه، يقطع و يركع. «6» و تدلّ علي ذلك عدّة نصوص اخري يجدها المتتبّع في مظانّها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 34، من صلاة الجماعة، ح 3.

(2) وسائل الشيعة: ج 5 ب 33، من صلاة الجماعة، ح 1.

(3) وسائل الشيعة: ج 6 ب 33، من صلاة الجماعة، ح 9. الكافي، ج 3، ص 373، ح 4، قوله: «لا تقتدي به» في متن الصحيحة مطابق لضبط الكافي، و هو الصحيح. و أما ما جاء في ضبط وسائل الشيعة «لا يقتدي به» غلط.

(4) مستدرك وسائل الشيعة: ج 6 ب 30، من صلاة الجماعة ح 2.

(5) الوسائل: ج 5 ب 5، من صلاة الجماعة، ح 3.

(6) وسائل الشيعة: ج 5 ب 33 من صلاة الجماعة، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص:

275

و منها: صحيح حمران بن أعين، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام جعلت فداك إنّا نصلّي مع هؤلاء يوم الجمعة و هم يصلّون في الوقت، فكيف نصنع؟ فقال عليه السّلام: صلّوا معهم. فخرج حمران إلي زرارة، فقال له: قد أمرنا أن نصلّي معهم بصلاتهم. فقال زرارة: هذا ما يكون، إلّا بتأويل. فقال له حمران: قم حتّي نسمع منه. قال: فدخلنا عليه، فقال له زرارة: جعلت فداك إنّ حمران أخبرنا عنك أنّك أمرتنا أن نصلّي معهم فأنكرت ذلك! فقال عليه السّلام لنا: كان الحسين بن عليّ عليه السّلام يصلّي معهم الركعتين، فإذا فرغوا قام فأضاف إليها ركعتين». «1»

و في صحيح آخر عن حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «في كتاب عليّ عليه السّلام إذا صلّوا الجمعة في وقت، فصلّوا معهم و لا تقومنّ من مقعدك حتّي تصلّي ركعتين اخريين. قلت:

فأكون قد صلّيت أربعا لنفسي لم أقتد به؟ فقال عليه السّلام: نعم». «2»

وجه دلالتهما علي عدم الإجزاء واضح؛ نظرا إلي النهي الأكيد عن القيام بعد صلاة الجمعة خلفهم قبل إضافة الركعتين الاخريين، و لا سيّما تصديقه عليه السّلام في جواب السؤال عن وقوع الصلاة لنفس المصلّي؛ يعني فرادي بقصد صلاة الظهر. كما أنّ قوله عليه السّلام: «كان الحسين بن عليّ عليه السّلام يصلّي» يدلّ علي استقرار عادة الإمام و أصحابه علي ذلك.

و قد وردا في مورد التقية، بل و قد صرّح في الثاني منهما بنفي الاقتداء و بأنّ المصلّي خلفهم تقية يقصد الفرادي لنفسه.

الطائفة الخامسة: ما دلّ علي عدم مشروعية الصلاة خلفهم حتّي بنية الفرادي.

و هي عدّة من النصوص المعتبرة امر فيها بترك التكبيرة و عدم الدخول في صلاتهم، أو بجعل الأذكار الواجبة في الصلاة

مجرّد ذكر و سبحة مطلقة.

فمن هذه النصوص حسنة القاسم بن عروة أو معتبرته عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت إنّي أدخل المسجد و قد صلّيت، فاصلّي معهم، فلا أحتسب بتلك

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 29، من صلاة الجمعة ح 5.

(2) المصدر: ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 276

الصلاة؟ قال عليه السّلام: لا بأس، فأمّا أنا فاصلّي معهم و اريهم أنّي أسجد، و ما أسجد». «1»

عبّرنا عن هذه الرواية بالحسنة لما نقله ابن داود مدح القاسم بن عروة عن الكشّي. و عبّرنا عنها بالمعتبرة لتوفّر القرائن علي اعتبار روايته، بل وثاقته كتوثيق الشيخ المفيد إيّاه في المسائل الصاغانية، و لنقل الأجلّاء عنه كالفضل ابن شاذان و البزنطي و غيرهما، و لما له من الكتاب و كثرة الرواية و ساير القرائن الموجبة للوثوق بالرجل، مع عدم وصول أيّ قدح فيه، فلو كان في مثله- مع ماله من الاشتهار- قدح لبان و نقل. فمجموع ذلك موجب للوثوق النوعي به و يثبت بذلك اعتبار رواياته. هذا من جهة السند.

و أمّا من جهة الدلالة، فتدلّ هذه الحسنة علي التخيير بين الصلاة خلفهم بنية الفرادي و بين إراءة صورة الصلاة و عدم قصد الصلاة، كما كان يفعله الإمام عليه السّلام. و ذلك بقرينة قوله عليه السّلام: «لا بأس» في جواب السائل. و يحتمل كون قوله:

«فلا أحتسب …» إخبارا. و يتحمل كون المراد نفي البأس عن عدم الاحتساب بتلك الصلاة.

و منها: ما رواه عن ناصح المؤذّن قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي اصلّي في البيت و أخرج إليهم؟ قال عليه السّلام: اجعلها نافلة و لا تكبّر معهم فتدخل معهم

في الصلاة، فإنّ مفتاح الصلاة التكبير». «2» وجه دلالته أنّ النهي عن تكبيرة الافتتاح ظاهر في عدم مشروعية قصد الصلاة خلفهم من أصلها حتّي الفرادي.

و منها: خبر عمر بن ربيع عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام في حديث قال:

«انّه سئل عن الإمام: إن لم أكن أثق به اصلّي خلفه و أقرأ؟ قال عليه السّلام: لا، صلّ قبله أو بعده. قيل له:

أ فاصلّي خلفه و أجعلها تطوّعا؟ قال عليه السّلام: لو قبل التطوّع لقبلت الفريضة، و لكن اجعلها

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 6، من صلاة الجماعة، ح 8.

(2) المصدر: ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 277

سبحة». «1» أي اجعلها مجرّد ذكر.

هذه الرواية و إن كان السؤال فيها عن حكم الصلاة خلف الفاسق، لا العامي المخالف، لكنها ناظرة إلي الصلاة خلف الفاسق تقية، و من هنا ترتبط بالمقام، مع شمول عنوان من لا يوثق به العامي.

و صحيح يعقوب بن يقطين، قال: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: جعلت فداك تحضر صلاة الظهر، فلا نقدر أن ننزل في الوقت، حتّي ينزلوا، فننزل معهم، فنصلّي، ثمّ يقومون فيسرعون، فنقوم و نصلّي العصر، و نريهم كأنّا نركع. ثمّ ينزلون للعصر، فيقدّمونا، فنصلّي بهم؟ فقال عليه السّلام:

صلّ بهم، لا صلّي اللّه عليهم». «2»

و منها: صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا صلّيت و أنت في المسجد و اقيمت الصلاة، فإن شئت فاخرج، فإن شئت فصلّ معهم و اجعلها تسبيحا». «3»

الطائفة السادسة: ما أمر فيه بإتيان الفريضة في البيت قبل الصلاة خلفهم تقية، أو بعدها.

فمن هذه النصوص: صحيح عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّه قال: «ما منكم أحد يصلّي

صلاة فريضة في وقتها ثمّ يصلّي معهم صلاة؛ تقية، و هو متوضّئ، إلّا كتب اللّه له بها خمسا و عشرين درجة. فارغبوا في ذلك». «4»

و صحيح الآخر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «إنّ علي بابي مسجدا يكون فيه قوم مخالفون معاندون و هم يمسون في الصلاة، فأنا أصلّي العصر ثمّ أخرج فاصلّي معهم عليهم السّلام فقال عليه السّلام: أما تحبّ أن تحسب لك بأربع و عشرين صلاة؟!». «5»

و صحيح نشيط بن صالح، عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: «قلت له: الرجل منّا يصلّي صلاته في جوف بيته مغلقا عليه بابه. ثمّ يخرج فيصلّي مع جيرته، تكون صلاته تلك

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 6، من صلاة الجماعة، ح 5.

(2) وسائل الشيعة: ج 5 ب 54، من صلاة الجماعة، ح 6.

(3) المصدر: ب 54، ح 8.

(4) المصدر: ب 6، ح 1.

(5) المصدر: ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 278

وحده في بيته جماعة؟ فقال عليه السّلام: الّذي يصلّي في بيته يضاعف اللّه له ضعفي أجر الجماعة تكون له خمسين درجة، و الّذي يصلّي مع جيرته يكتب له أجر من صلّي خلف رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله …». «1»

و ممّا يدلّ علي ذلك صحيح أبي بكر الحضرمي قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام كيف تصنع يوم الجمعة؟ قال عليه السّلام: كيف تصنع أنت؟ قلت: أصلّي في منزلي ثمّ أخرج فاصلّي معهم.

قال عليه السّلام: كذلك أصنع أنا». «2»

و خبر الأرجاني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من صلّي في منزله ثمّ أتي مسجدا من مساجدهم فصلّي فيه خرج بحسناتهم». «3»

هذه النصوص يمكن حملها علي محملين.

أحدهما: أن يكون الصلاة

معهم في مفروض هذه النصوص، مجرّد صورة صلاة، و أن لا تكون صلاة حقيقة، لا فرادي و لا جماعة.

و ذلك لفرض الإتيان بالفريضة في البيت و سقوط الأمر بها بالامتثال الصحيح. و بناء علي هذا التقريب تدلّ هذه الطائفة من النصوص علي عدم جواز الاقتداء بالمخالفين، فضلا عن إجزائه. و قد دلّ علي ذلك بعض النصوص بالخصوص، كما سبق ذكره آنفا.

ثانيهما: أن يكون من قبيل تبديل الامتثال بالأحسن، كما أشير إليه في عدّة نصوص كقوله: «يختار اللّه أحبّهما إليه». «4»

و هذه النصوص و إن وردت في من صلّي فرادي ثمّ أقيمت الجماعة، فدلّت استحباب إعادة الصلاة جماعة، إلّا أنّها تشمل الحضور في جماعة العامّة تقية.

بل جعل في وسائل الشيعة عنوان الباب بهذا المضمون؛ حيث عقد الباب الرابع و الخمسين من صلاة الجماعة بعنوان: «باب استحباب إعادة المنفرد

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 54، من صلاة الجماعة ح 6.

(2) وسائل الشيعة: ج 5 ب 29، من صلاة الجمعة، ح 3.

(3) المصدر: ح 9.

(4) وسائل الشيعة: ج 5 ب 54، من صلاة الجماعة ح 10.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 279

صلاته إذا وجدها جماعة إماما كان أو مأموما حتّي جماعة العامّة للتقية، و عدم وجوب الإعادة». «1»

و عقد الباب السادس منها بعنوان: «باب استحباب إيقاع الفريضة قبل المخالف أو بعده و حضورها معه». «2»

و سيأتي في بيان مقتضي التحقيق بيان ما يوافق الحقّ و يناسب القاعدة من هذين المحملين، فانتظر.

الطائفة السابعة: ما دلّ علي إجزاء الصلاة خلفهم عند الاضطرار و الخوف علي النفس، دون المداراتية و لا مع وجود المندوحة.

فمن هذه الطائفة صحيح أبي بصير، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: من لا أقتدي

به في الصلاة؟ قال: افرغ قبل أن يفرغ؛ فإنّك في حصار. فإن فرغ قبلك، فاقطع القراءة و اركع معه» «3».

وجه الدلالة أنّ الأمر بالفراغ من القراءة قبل فراغ الإمام العامّي يدلّ علي الإجزاء.

و أمّا وجه الاستشهاد تعليله عليه السّلام بقوله: «لأنّك في حصار»؛ أي في اضطرار.

و صحيح إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنّي أدخل المسجد، فأجد الإمام قد ركع، و قد ركع القوم، فلا يمكنني أن اؤذن و أقيم و أكبّر؟ فقال عليه السّلام لي: فإذا كان ذلك فادخل معهم في الركعة و اعتدّ بها؛ فإنّها من أفضل ركعاتك. قال إسحاق: فلمّا سمعت أذان المغرب- و أنا علي بابي قاعد- قلت للغلام، انظر أقيمت الصلاة؟ فجاءني فقال: نعم. فقمت مبادرا، فدخلت المسجد فوجدت الناس قد ركعوا، فركعت مع أوّل صفّ أدركت و اعتددت بها، ثمّ صلّيت بعد الانصراف أربع ركعات، ثمّ انصرفت. فإذا خمسة أو ستة من جيراني قد قاموا إليّ من المخزوميين و الأمويين، فأقعدوني، ثمّ قالوا: يا أبا هاشم جزاك اللّه عن نفسك خيرا. فقد و اللّه رأيناك خلاف

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 54 من صلاة الجماعة.

(2) المصدر: ب 6.

(3) وسائل الشيعة: ج 5 ب 34، من صلاة الجماعة، ح 1. تهذيب الأحكام: ج 3، ص 275، ح 801/ 121. و في نسخة وسائل الشيعة «لا اقتدي الصلاة» غلط. و الصحيح ما ذكرناه في متن الحديث، و نقلناه عن نسخة التهذيب.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 280

ما ظنّنا بك و ما قيل فيك. فقلت: و أيّ شي ء ذلك؟ قالوا اتبعناك حين قمت إلي الصلاة و نحن نري أنّك لا تقتدي بالصلاة معنا، فقد وجدناك

قد اعتددت بالصلاة معنا و صلّيت بصلاتنا، فرضي اللّه عنك و جزاك خيرا. قال: قلت لهم: سبحان اللّه أ لمثلي يقال هذا؟ قال: فعلمت أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام لم يأمرني، إلّا و هو يخاف علي هذا و شبهه». «1»

فإن قوله: «و هو يخاف علي هذا و شبهه» صريح في مورد الاضطرار و الخوف علي النفس. و كذا يدلّ عليه قول إسحاق: «فلا يمكنني أن اؤذّن و أقيم و أكبّر» في سؤاله.

و يشعر بذلك موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث، قال:

«و اعلموا أنّ من صلّي منكم اليوم صلاة فريضة في جماعة مستترا بها من عدوّه في وقتها فأتمّها، كتب اللّه تعالي له خمسين صلاة فريضة في جماعة، و من صلّي منكم صلاة فريضة وحده مستترا بها من عدوّه في وقتها فأتمّها، كتب اللّه تعالي له بها خمسا و عشرين صلاة فريضة وحدانية … و يضاعف اللّه عز و جل حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله و دان بالتقية علي دينه و إمامه و نفسه و أمسك من لسانه أضعافا مضاعفة، إنّ اللّه عزّ و جلّ كريم». «2»

فإنّ التعبير بقوله: «مستترا من عدوّه» و «دان بالتقية علي دينه و إمامه و نفسه» لا يخلو من إشعار بالتقية الخوفية.

و مثله خبر عليّ بن سعد البصري «3»؛ نظرا إلي فرض كون جميع أهل المسجد و إمامهم ناصبيا و أمر الإمام عليه السّلام بالصلاة خلفهم و احتسابها، مع ما ثبت عنهم عليهم السّلام من عدم الاعتداد بالصلاة خلف الناصبي.

و تؤيّد ذلك موثّقة أخري لعمّار الساباطي قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخاف أن أقنت و خلفي مخالفون، فقال عليه السّلام: رفعك يديك

يجزي يعني رفعهما كأنّك تركع». «4»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 34، من صلاة الجماعة، ح 4.

(2) وسائل الشيعة: ج 5 ب 6، من صلاة الجماعة ح 4.

(3) المصدر: ب 10، ح 4.

(4) وسائل الشيعة: ج 5 ب 12، من أبواب القنوت ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 281

و خبر عليّ بن محمّد بن سليمان قال: «كتب إلي الفقيه عليه السّلام أسأله عن القنوت.

فكتب عليه السّلام: إذا كانت ضرورة شديدة فلا ترفع اليدين و قل ثلاث مرّات بسم اللّه الرحمن الرحيم». «1» و هاتان الروايتان لا إشكال في دلالتهما علي المطلوب، لكن في القنوت.

هذا، مع أنّ مشروعية الصلاة حسب الإمكان و لو بحذف بعض الشرائط و الأجزاء، بل الأركان، ثابت بالكتاب و السنّة و إجماع الأصحاب في حقّ من خاف علي نفسه من سبع أو لصّ أو عدوّ، «2» فمن الكتاب فقد دلّ عليه قوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجٰالًا أَوْ رُكْبٰاناً». «3»

و من السنّة ما ورد من النصوص في من خاف علي نفسه من عدوّ أو لصّ أو سبع 4 فدلّت هذه النصوص علي جواز الإتيان بالفريضة علي الراحلة أو بأيّ نحو مأمون من الضرر.

و ممّا دلّ علي ذلك قوله عليه السّلام: «إذا خفت فصلّ علي الراحلة المكتوبة و غيرها». «5» و هذه الطائفة تشمل المقام بعمومها، إذا خيف علي النفس من ترك التقية.

و ممّا يدلّ علي ذلك صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بأن تصلّي خلف الناصب، و لا تقرأ خلفه فيما يجهر فيه، فانّ قراءته تجزيك إذا سمعتها» «6».

و قد حمل الشيخ الطوسي قدّس سرّه هذه الصحيحة علي حالة التقية، و مراده التقية الاضطرارية و عدم

المندوحة ظاهرا. و قد قلنا آنفا أنّه يشهد لذلك فرض الصلاة خلف الناصب في هذه الصحيحة. فإنّ الناصب ممّن يخاف منه علي النفس و العرض و المال؛ لشدّة عداوته.

و يعلم من مجموع هذه النصوص العامّة و الخاصّة مشروعية الاقتداء

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 4 ب 12، من أبواب القنوت ح 3.

(2) (2 و 4) وسائل الشيعة: ج 5 ب 3 من صلاة الخوف.

(3) البقرة: 239.

(5) وسائل الشيعة: ج 4 ب 4، من أبواب القراءة ح 1.

(6) وسائل الشيعة: ج 5 ب 34 من صلاة الجماعة ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 282

بالعامّة و إجزاء الصلاة خلفهم جماعة عند الاضطرار و الخوف علي النفس. كما لو اضطرّ إلي ترك القراءة رأسا و لو بنحو الهمهمة، أو إلي قول آمين و التكتّف و التطبيق، و إن يمكن ذلك إتيانها بنية الفرادي غاية الأمر يسقط ما فيه الخوف.

هذا إذا أمكن فرض موارد الخوف علي ترك الجماعة فيما يفهم المخالفون و يطّلعون علي حال الرجل. و لكنّه مشكل؛ إذ قصد الجماعة أمر باطني و غير قابل لاطّلاع الغير و عثوره عليه.

مقتضي التحقيق في الجمع بين نصوص المقام

مقتضي التحقيق في الجمع بين نصوص المقام حمل نصوص الطائفة الاولي- و هي مطلقات عدم جواز الصلاة خلف المخالفين و بطلانها- علي غير حال التقية، و علي كونها ناظرة إلي اشتراط الإيمان بإمامة الأئمّة و ولايتهم في إمام الجماعة، كما عقد في الوسائل بذلك عنوان الباب العاشر من صلاة الجماعة و جمع تحته هذه الطائفة من النصوص.

و أمّا الطائفة الثانية فتحمل علي أصل المشروعية و استحباب الصلاة خلفهم حال التقية. و ذلك بقرينة الطائفة الثالثة. و نتيجة هذا الجمع جواز الصلاة خلف المخالفين بل استحبابها

عند التقية، و عدم مشروعيتها في غير حال التقية.

و لكن هذا المفاد أعمّ من كون الصلاة خلفهم حال التقية بقصد الجماعة أو بنية الفرادي، أو بإتيان صورة صلاة باراءة ركعاتها و سجداتها و قيامها و قعودها و التلفّظ بأذكارها، مع الإتيان بالصلاة الواجبة في الخلوة قبل الصلاة معهم أو بعدها، كما تشهد لذلك كلّه نصوص الطائفة الرابعة و الخامسة و السادسة. و لا ينافي ذلك كون ما يؤتي به من الركعات و السجدات و الأذكار بقصد القربة و نيل الثواب الموعود في هذه من النصوص.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 283

و أمّا ما دلّ منها علي جواز ترك القراءة، كقوله عليه السّلام: «و لا تقرأ خلفه فيما يجهر فيه، فإنّ قراءته يجزيك إذا سمعتها» في صحيح زرارة «1»، و ما أمر فيه بالإنصات، كقوله عليه السّلام:

«إذا جهر فأنصت للقراءة و اسمع ثمّ أركع و اسجد أنت لنفسك» «2» في موثّق ابن بكير.

فإمّا يحمل علي سقوط القراءة في صلاة الفرادي خلفهم، كما سبق من الشيخ الأعظم في أوائل هذا المبحث.

و إمّا يحمل علي حالة الخوف و الاضطرار، كما يشهد لذلك قوله عليه السّلام: «لا بأس أن تصلّي خلف الناصب و لا تقرأ خلفه …» في صحيح زرارة المتقدّم؛ نظرا إلي كون الناصب ممّن يخاف منه.

و من هنا لا يثبت باستحباب الصلاة خلف المخالفين و لا بسقوط القراءة فيه تعبّدا، جواز الاقتداء بهم و إجزاؤه جماعة؛ لأنّ استحباب الصلاة خلفهم أعمّ من أن تكون جماعة أو فرادي، و لو بسقوط بعض أجزائها، و من كونها إراءة صورة الصلاة بقصد مطلق الذكر؛ تعبّدا بما دلّ علي ذلك من النصوص المزبورة.

و لا يخفي أنّ غاية مدلول

الطائفة الثالثة، جواز الصلاة خلف المخالفين تقية، فلا تزيد عن مدلول الطائفة الثانية، إلّا من جهة اختصاص مدلولها بحال التقية.

و هذه النصوص و إن دلّت بظاهرها علي إجزاء الصلاة خلف العامّة حال التقية؛ لما قلنا من وجود الملازمة العرفية بين مشروعية العبادة و بين إجزائها، إلّا أنّه لا مناص من رفع اليد عن مدلولها بما دلّ علي عدم إجزاء الصلاة خلف العامّة تقية، بقرينة ما ورد في تلك النصوص، من أمر الإمام عليه السّلام بإضافة ركعتين بعد الفراغ عن صلاة الجمعة خلفهم تقية و عدم قصد الاقتداء، بل بقصد المتّقي الفرادي لنفسه.

كما في صحيح حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان الحسين بن

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 34، من صلاة الجماعة، ح 5.

(2) المصدر: ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 284

عليّ عليه السّلام يصلّي معهم الركعتين، فإذا فرغوا قام فأضاف إليها ركعتين». «1»

و في صحيحه الآخر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «في كتاب عليّ عليه السّلام إذا صلّوا الجمعة في وقت، فصلّوا معهم و لا تقومنّ من مقعدك حتّي تصلّي ركعتين أخريين. قلت: فأكون قد صلّيت أربعا لنفسي لم أقتد به؟ فقال عليه السّلام: نعم». «2»

و قد سبق ذكر هذين الصحيحين في الطائفة الرابعة.

و ممّا يشهد لعدم كون الصلاة المأمور بها خلف العامّة جماعة و اقتداء بهم، ما ورد في نصوص الطائفة الرابعة من أمر المصلّي خلفهم بالقراءة لنفسه و كذا بالركوع و السجود لنفسه. و ما ورد في نصوص الطائفة الخامسة من جعل الصلاة خلفهم مجرّد ذكر، و ما ورد في نصوص الطائفة السادسة من الأمر بإتيان الفريضة قبلها أو بعدها.

و مقتضي الجمع بين

هذه الطائفة و بين الطوائف الرابعة و السادسة، التخيير بين جعل الصلاة خلفهم مجرّد ذكر و بين إتيانها بقصد الفرادي. و لكن القراءة تسقط في الصورة الثانية تعبّدا بما دلّ علي ذلك من النصوص المذكورة آنفا.

حاصل الكلام: أنّ الصلاة خلف العامّة عن تقية مداراتية مع وجود المندوحة، لا دليل علي إجزائها عن الإعادة و القضاء، بل دلّ كثير من نصوص المقام علي عدم إجزائها؛ إمّا عموما كالطائفة الأولي، أو خصوصا كالآمرة منها بإتيان الفريضة قبل الصلاة معهم أو بعدها. فإنّ فرض الإتيان بالفريضة قبل الصلاة خلفهم أو بعدها في كلام السائل أو الإمام عليه السّلام، و لا سيّما أمره عليه السّلام بذلك أدلّ دليل علي عدم الاضطرار و علي وجود المندوحة، و لا أقلّ من دلالتها علي عدم استيعاب الاضطرار لتمام الوقت.

______________________________

(1) الوسائل: ج 5 ب 29، من صلاة الجمعة، ح 5.

(2) المصدر: ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 285

و مثلها ما صرّح فيه بعدم الاقتداء بهم و النهي عنه- من النصوص المرغّبة إلي الصلاة خلفهم- كصحيح حفص «1»، و صحيح ابن يقطين «2»، و صحيح أبي بصير «3»، و مرسل ابن أسباط «4» المتقدّم ذكرها جميعا.

مقتضي التحقيق التفصيل بين التقية الاضطرارية و المداراتية

و مقتضي التحقيق في المقام: التفصيل بين التقية الاضطرارية و بين التقية المداراتية؛ بأن يحكم بعدم الصحّة و الإجزاء في الصلاة خلف المخالفين عند التقية المداراتية، و بالصحّة و الإجزاء في التقية الاضطرارية.

و إنّما تصحّ الصلاة خلفهم و تنعقد جماعة و تجزي عن الإعادة و القضاء، إذا كانت في حال الاضطرار و الخوف منهم بمقتضي القاعدة و ما ورد من النصوص العامّة و الخاصّة في التقية.

و ذلك أوّلا: لعمومات جواز العمل المأتيّ به الاضطراري

و صحّته عند الاضطرار و الخوف مطلقا، بلا فرق بين موارد التقية الاضطرارية و ساير أنحاء الاضطرارات. و قد سبق تقريب دلالتها علي الإجزاء في العبادات عند استيعاب العذر و عدم وجود المندوحة في تمام الوقت. و قد استدللنا علي ذلك بقاعدة الامتنان و قاعدة بدلية الفرد الاضطراري عن الاختياري.

و ثانيا: لعمومات مشروعية الصلاة حسب الإمكان و لو بحذف الشرائط و الأجزاء، بل الأركان عند الخوف علي النفس من عدوّ أو لصّ أو سبع. و قد سبق ذكر هذه العمومات في ذيل الطائفة السابعة. و هذه النصوص تشمل موارد

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 5 من صلاة الجماعة، ح 3.

(2) وسائل الشيعة: ج 5 ب 33، من صلاة الجماعة، ح 1.

(3) المصدر: ب 34، ح 1.

(4) المصدر: ب 33، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 286

التقية الاضطرارية بتنقيح الملاك القطعي.

و ثالثا: لما دلّ من نصوص التقية عموما ممّا سبق ذكره في البحث عن حكم التقية الاضطرارية، و ما دلّ منها بالخصوص علي إجزاء الصلاة المأتيّ بها عن تقية إذا كان في حالة الخوف من الضرر، كصحيحي إسحاق و أبي بصير و موثّقتي عمّار، و غيرها ممّا سبق ذكره في الطائفة السابعة.

و قد سبق في تحرير آراء الفقهاء ذهاب جماعة منهم إلي هذا التفصيل.

و ممّن وافقنا في هذا التفصيل الشيخ الأعظم. و قد استشهد لذلك بنصوص لا إشكال في دلالة بعضها علي المطلوب «1». و قد سبق نصّ كلامه في أوائل هذا

______________________________

(1) حيث قال: «نعم في بعض الأخبار ما يدلّ علي اعتبار عدم المندوحة في ذلك الجزء من الوقت، و عدم التمكّن من دفع موضوع التقية، مثل:

رواية أحمد بن محمد بن أبي

نصر، عن إبراهيم بن شيبة قال: «كتبت إلي أبي جعفر الثاني عليه السّلام أسأله عن الصلاة خلف من يتولّي أمير المؤمنين و هو يري المسح علي الخفّين، أو خلف من يحرّم المسح علي الخفّين و هو يمسح، فكتب عليه السّلام: إن جامعك و إيّاهم موضع لا تجد بدّا من الصلاة معهم، فأذّن لنفسك و أقم، فإن سبقك إلي القراءة فسبّح.

فإنّ ظاهرها اعتبار تعذّر ترك الصلاة معهم.

و نحوها ما عن الفقه الرضوي من المرسل، عن العالم عليه السّلام قال: و لا تصلّ خلف أحد إلّا خلف رجلين: أحدهما من تثق به و بدينه و ورعه، و آخر من تتقي سيفه و سوطه و شرّه و بوائقه و شيعته، فصل خلفه علي سبيل التقية و المداراة، و أذّن لنفسك و أقم و اقرأ فيها، فإنه غير مؤتمن به … الخ.

و في رواية معمّر بن يحيي- الواردة في تخليص الأموال من أيدي العشّار-: إنّه كلّما خاف المؤمن علي نفسه فيه ضرورة فله فيه التقية.

و عن دعائم الإسلام، عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام: لا تصلّوا خلف ناصب و لا كرامة، إلّا أن تخافوا علي أنفسكم أن تشهروا و يشار إليكم، فصلّوا في بيوتكم ثم صلّوا معهم، و اجعلوا صلاتكم معهم تطوّعا.

و يؤيّده العمومات الدالّة علي أنّ التقية في كلّ شي ء يضطرّ إليه ابن آدم، فإن ظاهرها حصر التقية في حال الاضطرار، و لا يصدق الاضطرار مع التمكّن من تبديل موضوع التقية بالذهاب إلي موضع الأمن، مع التمكّن و عدم الحرج.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 287

المبحث، فراجع. إلّا أنّه اكتفي بوجود الخوف حال الصلاة خلفهم في إجزائها.

و لكن الأقوي اعتبار استيعاب العذر من الاضطرار و

الخوف كما سبق منّا ذلك مفصّلا في اعتبار عدم المندوحة، مع تفصيل سبق هناك، فراجع.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ النصوص الدالّة علي مشروعية الصلاة خلف المخالفين في حال التقية المداراتية محمولة إمّا علي إراءة صورة الصلاة و قصد مجرّد ذكر و تسبيح، لا الصلاة نافلة أو فريضة.

و إمّا علي الصلاة خلفهم بنية الفرادي. و حينئذ تسقط القراءة. تعبّدا بمدلول النصوص الدالّة علي ذلك.

و أمّا في حال التقية الاضطرارية، فمقتضي عمومات التقية الاضطرارية و مدلول النصوص الخاصّة- الواردة في الصلاة خلفهم في حالة الخوف- جواز الاقتداء بهم و إجزاء الصلاة خلفهم جماعة.

و من الواضح أنّ ذلك فيما لو لم يمكن للمصلّي إراءة صورة الصلاة و لا الإتيان بشرائط الفرادي و لو بحذف القراءة، و مع استيعاب العذر و عدم المندوحة، و إن كان مورد ذلك قليلا نادرا.

و ذلك فيما إذا لم يتمكّن من رعاية شرائط الفرادي و أجزائها؛ بأن يفهم المخالفون و يطّلعون علي حاله، فالمصلّي لقوّة احتماله ذلك يخاف علي نفسه.

و ذلك من غير جهة النية؛ نظرا إلي عدم إمكان الاطّلاع علي النية.

______________________________

نعم، لو لزم من التزام حرج أو ضيق من تفقّد المخالفين، و ظهور حالة في مخالفتهم سرّا، فهذا- أيضا- داخل في الاضطرار.

و بالجملة: فمراعاة عدم المندوحة في الجزء من الزمان الّذي يوقع فيه الفعل أقوي، مع أنّه أحوط.

نعم، تأخير الفعل عن أوّل وقته لتحقيق الأمن و ارتفاع الخوف ممّا لا دليل عليه، بل الأخبار بين ظاهر و صريح في خلافه، كما تقدّم» رسالة التقية: ص 26- 27.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 288

و أمّا سقوط القراءة في الصلاة بنية الفرادي خلفهم؛ لما سبق من النصوص الدالّة علي ذلك.

فالأقوي في

المقام حمل نصوص الصلاة خلف المخالفين في حالة التقية المداراتية علي أحد المحملين المزبورين و الحكم بسقوط القراءة عند تعذّرها، و لو لم يصل إلي حدّ الخوف علي النفس.

ثمّ إنّه لا إشكال في كون النسبة بين الطائفتين الأوليين هي التباين. و لكن بالجمع بينهما بشهادة الطائفة الثالثة تنقلب النسبة إلي العموم المطلق.

و أمّا ساير الخصوصات، فالنسبة بين بعضها و بين العامّ المخصّص- و مضمونه جواز الصلاة خلف المخالفين عند التقية- هي العموم المطلق، فيخصّص بجميعها؛ لما سبق أنّه إذا ورد عامّ و خصوصات بينهما عموم مطلق مقتضي القاعدة تخصيص العامّ بهذه الخصوصات جميعا.

هذا، و لكن في المقام طائفتين من نصوص المقام بينهما نسبة التباين، و هي ما دلّ علي صحّة الصلاة خلفهم بنية الفرادي في التقية المداراتية مع سقوط القراءة عند التعذّر، و ما ورد فيه النهي عن الصلاة خلفهم حتّي بنية الفرادي و أنّ التكليف إراءة صورة الصلاة. فيتعارضان بدوا بظاهرهما.

و لكن يمكن حمل النصوص الناهية منها علي كراهة الصلاة خلفهم حتّي بنية الفرادي و ترجيح قصد مجرّد الذكر و إراءة صورة الصلاة، من دون نية الفرادي، كما تشهد لذلك حسنة القاسم بن عروة السابق ذكرها «1».

و عليه فمقتضي الصناعة في التقية المداراتية التخيير بين قصد صلاة الفرادي مع كراهية، و بين قصد مطلق الذكر و إراءة مجرّد صورة الصلاة.

و الإتيان بالفريضة قبلا أو بعدا. علي أيّ حال؛ لعدم صحّة الصلاة خلفهم حال

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 5 ب 6، من صلاة الجماعة، ح 8.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 289

المداراة مطلقا، فلا تجزي حينئذ علي أيّ حال.

أمّا في التقية الاضطرارية، فمقتضي القاعدة و مطلقات نصوص التقية و بعض النصوص الخاصّة الصحّة

و الإجزاء، لكن بقصد الفرادي إن ارتفع به الاضطرار، و إلّا جماعة لو توقّف رفع الاضطرار عليها، مع استيعاب العذر، و إن كان تصوير هذا التوقّف مشكل؛ لرجوع قصد الجماعة و الفرادي إلي أمر قلبي، فإذا أمكن قصد الفرادي و رفع الاضطرار بذلك، لا ملزم لقصد الجماعة، و لا سيّما بعد ما ورد في النصوص من الأمر بالفرادي.

التطبيقات الفقهية

قد استدلّ الفقهاء الفحول بقاعدة التقية في فروع عديدة ممّا لا يحصي من العبادات، بل في المعاملات. و قد عرفت في خلال المباحث السالفة كلمات الفقهاء و اختلاف أقوالهم في التمسّك بهذه القاعدة لإثبات فتاواهم. و لا نري حاجة إلي ذكر ما يترتّب عليها من الفروع الفقهية؛ لما ذكرناه من الفروع العديدة في مطاوي البحث و نظرا إلي كثرتها و خروجها عن حدّ الإحصاء..

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 291

قاعدة الجبّ

اشارة

منصّة القاعدة و أهميتها

مفاد القاعدة و ماهيتها (هل هي أمارة أو حكم؟)

مدرك القاعدة و حالها مع معارضة ساير الأدلّة

مجاري القاعدة و أحكامها

التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 293

منصّة القاعدة و أهميّتها

اشارة

1- الإسلام دين الرأفة و اليسر.

2- وجه أهميّة هذه القاعدة.

3- الغرض الأساسي من تشريعها.

4- منصّتها الخطيرة في النصوص و كلمات الفقهاء.

الإسلام دين الرأفة و اليسر

من كان له أقلّ معرفة بشريعة الإسلام لا يرتاب في أنّها دين الرشد و الكمال و الرحمة و اليسر. و ذلك لأنّ مشرّعها و مقنّن أحكامها هو خالق الناس و ربّهم الحكيم الرءوف. و مقتضي ربوبيته و حكمته و رأفته تعالي أن يكون ما جعله و شرّعه من القوانين و الأحكام الشرعية في جهة رشد الإنسان و كماله و علي أساس الرحمة و الرأفة. فإنّه تعالي يريد أن يعيش الإنسان بسلامة و نشاط و راحة و رغدة مبتعدا عن الآثام و السيئات و القبائح؛ لكي يكون له في ضوء هذه القيم الخلقية المتعالية حياة طيّبة، كما قال تعالي: مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثيٰ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيٰاةً طَيِّبَةً. «1»

و لأجل تحقّق هذا المهمّ رفع اللّه الضيق و الحرج و العسر. و لم يجعل أحكاما محرجة شاقّة، لكي يكون الإنسان مختارا في أفعاله و أن يكون فعله و تركه

______________________________

(1) النحل: 97.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 294

بمشيئة نفسه و عن حرية تكوينية. و ليتمّ الشارع لطفه و رأفته في حقّ العباد.

و كيف يقرّر علي عباده ما يوجب الضيق و الحرج و هو أرحم الراحمين، بل أرأف بالإنسان من والديه؟! كما قال تعالي: يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «1».

و مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2».

و فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ «3».

و مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ. «4»

و من هنا سمّي الدين الاسلامي بالشريعة

السمحة السهلة، رغم ما يدّعيه المخالفون و يفترونه علي الإسلام بأنّه دين التضييق و التعصّب و الخشونة.

منصّتها الخطيرة في النصوص و كلمات الفقهاء

إنّ لهذه القاعدة جذرا عميقا في النصوص الصادرة عن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و أهل بيته المعصومين عليهم السّلام و يكشف ذلك عن منصّتها الوثيقة الخطيرة.

و كفي في قدم سابقتها احتجاج أمّ سلمة (رحمها اللّه) بحديث الجبّ علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله حينما امتنع عن قبول إسلام عبد اللّه بن أبي أميّة أخي أمّ سلمة، و قبول النبيّ صلّي اللّه عليه و آله منه ذلك. و إن كان امتناعه صلّي اللّه عليه و آله من قبول إسلامه بداية لحكمة و مصلحة، مع انتباهه صلّي اللّه عليه و آله بهذا الحديث.

و ما ورد بطريق العامّة من احتجاج النبيّ صلّي اللّه عليه و آله بهذا الحديث في قضيّة استحياء ابن أبي سرح بذكر ما جري بينه و بين النبيّ صلّي اللّه عليه و آله بعد إسلامه بشفاعة أخيه عثمان، و قضيّة خوف هبار بن أسود ممّا فعله في الجاهلية.

و أمّا الفقهاء فأوّل من رأيته تمسّك بمضمون هذه القاعدة هو الشيخ الطوسي في مسألة سقوط الجزية عن الكافر الذمّي بإسلامه. فإنّه استدلّ لذلك

______________________________

(1) البقرة: 185.

(2) الحج: 78.

(3) البقرة: 173.

(4) المائدة: 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 295

- بعد استدلاله بآية من القرآن- بحديث الجبّ؛ حيث قال: «و أمّا الدليل علي أنّها تسقط بالإسلام، قوله تعالي: حَتّٰي يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ. فشرط إعطاءها الصغار، و هذا لا يمكن مع الإسلام. و أيضا قوله عليه السّلام: الإسلام يجبّ ما قبله، يفيد سقوطها؛ لأنّ عمومه يقتضي ذلك». «1»

و تبعه في هذا الاستدلال ابن زهرة

في الغنية حيث قال: «و إذا أسلم الذمّي و قد وجبت عليه الجزية بحلول الحول، سقطت عنه بالإسلام- ثمّ قال قدّس سرّه- و يعارض المخالف بقوله: الإسلام يجبّ ما قبله». «2»

و أوّل من عبّر عن هذه القاعدة بقاعدة الجبّ هو السيد مير عبد الفتاح المراغي، «3» فإنّه عبّر عنها بقاعدة الجبّ و ألّف رسالة في هذه القاعدة في كتابه المسمّي بالعناوين. «4»

وجه أهميّة هذه القاعدة

و هذه القاعدة تثبت لنا أنّ للرفق و اللين و السهولة و الراحة، منصّة مستحكمة في متن الشريعة الإسلامية و أنّه لا موقف للضيق و الصعوبة فيها. فهذه القاعدة ذات أهمّية خطيرة من هذا المنظر.

و ذلك لأنّها تنادي بأعلي صوتها أنّ الإسلام يسقط عن غير المسلمين ما ارتكبوه من المعاصي و الخطايا حال كفرهم بعد تشرّفهم بالإسلام امتنانا لهم. و أنّ الكافر لا يكلّف بعد إسلامه بإتيان ما تركه من الوظائف و الواجبات الدينية حال كفره، و لا يؤاخذ بما ارتكبه من الخطايا و المحرّمات؛ لكي يسهل عليهم اختيار طريق الحقّ و اتّخاذ سبيل الرشد و الكمال، و لا يصعب عليهم

______________________________

(1) الخلاف: ج 5، ص 548.

(2) غنية النزوع: ص 202.

(3) و هو معاصر صاحب الجواهر و المتوفّي بسنة 1250 هق ستّة عشر سنة قبل فوت صاحب الجواهر.

(4) العناوين: ج 2، ص 494.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 296

الفرار من الباطل إلي الحقّ، و الانطلاق من قيود الضلالة، و النجاة من ورطة الهلاكة، و الهداية إلي الرشاد و الفلاح.

الغرض الأساسي من تشريعها

و في الحقيقة تكون هذه القاعدة بصدد ترغيب غير المسلمين في قبول الإسلام و انتحاله، و أن لا يخافوا من الأقوال و الأفعال الّتي صدرت عنهم في حال كفرهم، كما يشهد لذلك ما ورد من النصوص الدالّة علي مضمونها؛ مثل قضيّة شفاعة أمّ سلمة لأخيها عبد اللّه بن أبي أميّة، و ما نقل في خوف هبار بن أسود و مغيرة بن شعبة ممّا فعلاه في حال الكفر، و قضية شفاعة عثمان لأخيه ابن أبي سرح.

ففي تفسير عليّ بن إبراهيم القمي، في قوله تعالي: وَ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰي تَفْجُرَ لَنٰا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً

إلي آخره، قال: «فإنّها نزلت في عبد اللّه بن أبي أميّة أخي أمّ سلمة- رحمة اللّه عليها- و ذلك أنّه قال هذا لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بمكّة قبل الهجرة، فلمّا خرج رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إلي فتح مكّة استقبله عبد اللّه بن أبي أميّة، فسلّم علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، فلم يردّ عليه السلام، فأعرض عنه و لم يجبه بشي ء. و كانت أخته أمّ سلمة مع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله فدخل إليها و قال: يا أختي إنّ رسول اللّه قبل إسلام الناس كلّهم و ردّ عليّ إسلامي و ليس يقبلني كما قبل غيري، فلمّا دخل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله علي أمّ سلمة، قالت: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه سعد بك جميع الناس إلّا أخي من بين قريش و العرب رددت إسلامه و قبلت الناس كلّهم؟

فقال صلّي اللّه عليه و آله: يا أمّ سلمة، إنّ أخاك كذّبني تكذيبا لم يكذّبني أحد من الناس، هو الّذي قال لي: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰي تَفْجُرَ لَنٰا مِنَ الْأَرْضِ- إلي آخر الآيات- قالت أمّ سلمة: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أ لم تقل: إنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله؟ قال صلّي اللّه عليه و آله: نعم، فقبل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله إسلامه». «1»

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2، ص 26.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 297

و في المحكيّ عن أبي الفرج الأصبهاني، و أيضا في المحكيّ عن سيرة ابن هشام- في حكاية إسلام مغيرة بن شعبة-: «أنّه و فد مع جماعة

من بني مالك علي مقوقس ملك مصر، فلمّا رجعوا قتلهم المغيرة في الطريق و فرّ إلي المدينة مسلما، و عرض خمس أموالهم علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله فلم يقبله، و قال صلّي اللّه عليه و آله: لا خير في غدر. فخاف المغيرة علي نفسه، و صار يحتمل ما قرب و ما بعد. فقال صلّي اللّه عليه و آله:

الإسلام يجبّ ما قبله». «1»

و في السيرة الحلبية: «إنّ عثمان لمّا شفّع في أخيه ابن أبي سرح قال صلّي اللّه عليه و آله:

«أما بايعته و آمنته؟ قال: بلي، و لكن يذكر ما جري منه معك من القبيح و يستحيي، قال صلّي اللّه عليه و آله: الإسلام يجبّ ما قبله». «2»

و أيضا ذكر قضية خوف هبار بن أسود ممّا فعله في الجاهلية و إزالة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله خوفه بعد إسلامه بقوله صلّي اللّه عليه و آله: «الإسلام يجبّ ما قبله». «3»

فيفهم من هذه الروايات و نظائرها أنّ الغرض الأصلي من تشريع هذه القاعدة إعطاء الأمن لمريد التشرّف بالإسلام و إزالة الخوف عنه لأجل ما صدر منه- من الخطايا و القبائح- قبل تشرّفه بالإسلام. فهذه القاعدة من جانب تنادي أنّ الإسلام دين العفو و الرحمة و السهولة، و من جانب آخر ترغّب غير المسلمين إلي قبوله الإسلام و توجد فيهم الرغبة و الميل إلي الحقّ و الفلاح.

و لو لا هذه القاعدة لتنفّر الطباع عن قبول الإسلام؛ لوضوح أنه لو كان كلّ إنسان إذا أسلم أخذ منه زكاة أمواله و خمس أرباحه الحاصلة في طول عمره و ألزم بقضاء جميع صلواته و صيامه الفائتة و أخذ بالحدود و الديات و القصاص، لاستولي عليه خوف و وحشة

شديدة مانعة عن الرغبة إلي الإسلام و موجبة لفراره عن هذا الدين.

______________________________

(1) الأغاني: ج 16، ص 82/ السيرة النبويّة: ج 3، ص 328.

(2) السيرة الحلبية: ج 3، ص 105.

(3) السيرة الحلبية: ج 3، ص 106.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 298

مفاد القاعدة و ماهيتها

اشارة

1- المقصود من الإسلام و الجبّ.

2- ما هو المرفوع بهذه القاعدة؟

3- عويصة مزاحمة حقوق الآخرين.

4- لا ترتفع بهذه القاعدة ما ثبت بغير الإسلام.

5- هل تجري هذه القاعدة في نكاح غير المسلم.

المقصود من الإسلام و الجبّ

لا ريب أنّ لفظ «الإسلام» جاء في عنوان القاعدة بمعناه المعروف المبيّن في النصوص، و هو الإقرار بالشهادتين، و ليس بمعني الإيمان مطلقا، لا بمعناه المصطلح في القرآن و الأحاديث و هو عقد القلب و الخضوع الباطني، كما ورد في الحديث «الإيمان ما وقر في القلوب» «1»، و لا بمعناه المصطلح في الفقه و هو الاعتقاد بالعدل و الولاية.

و عليه فبمجرّد الإقرار بالشهادتين تجري قاعدة الجبّ، و لكنّه إذا لم يعلم أنّه لأجل الحيلة و الخدعة و غيرها من الدواعي المنافية لقصد الجدّ في الإقرار.

أمّا لفظ «الجبّ» بفتح الجيم، فهو في اللغة بمعني القطع، جببته أي قطعته، كما قال في المقاييس و المصباح و مجمع البحرين، و غير ذلك من معاجم اللغة.

______________________________

(1) أصول الكافي: ج 2، ص 26.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 299

فكأنّ الإسلام يقطع و يقلع و يرفع ما كان أحاط بالكافر و لصق به من الأوزار و الآثار الوضعية و التكليفية.

ما هو المرفوع بهذه القاعدة؟

و لا يخفي أنّ المرفوع بهذه القاعدة إنما هو الأحكام و الآثار الظاهرية من الإعادة و القضاء و الديات و القصاص و الحدود و ساير الجرائم و المؤاخذات الدنيوية، لا رفع العقاب و العذاب الاخروي.

و ذلك لأنّ الملاك في رفع العقاب و العذاب الأخروي هو الإيمان و التوبة، و هما أمران قلبيان باطنيان، كما قال تعالي: قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا. «1» و ما ورد في الحديث: الإيمان ما وقر في القلوب و صدّقته الأعمال. «2»

و يشهد لذلك ما ورد من التقابل بين الإسلام و التوبة في بعض الطرق المرويّ من حديث الجبّ، مثل ما رواه الشيخ الطوسي مرسلا عن النبيّ صلّي اللّه

عليه و آله بقوله: «و في بعضها: التوبة تجبّ ما قبلها». «3» و في مجمع البحرين: «الإسلام يجبّ ما قبله التوبة تجبّ ما قبلها من الكفر و المعاصي و الذنوب». «4» فالرافع للذنوب و المعاصي هو التوبة و الإيمان الحقيقي.

و عليه فبمجرّد الإقرار بالشهادتين لسانا تجري هذه القاعدة و تترتّب أحكامها، و لو لم يكن الإقرار عن إيمان قلبي و توبة عمّا سلف.

و أمّا قوله تعالي: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ. «5» فإنّ الانتهاء ظاهر في التوبة، لا مجرّد الإقرار بالشهادتين و الإسلام ظاهرا.

و أمّا ما دلّ بظاهره علي غفران ما سلف في الجاهلية بالإسلام، فلا بدّ من حمله علي إرادة الإسلام الباطني الملازم للإيمان و التوبة. و إلّا فلا إشكال في أنّ

______________________________

(1) الحجرات: 14.

(2) بحار الأنوار: ج 50، ص 208.

(3) الخلاف: ج 5، ص 469.

(4) مجمع البحرين: ج 2، ص 21.

(5) الانفال: 38.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 300

الّذي يرفع بالإسلام بما أنّه إسلام- أي الإقرار باللسان، كما فسّر في النصوص المتظافرة بهذا المعني و جعل قبال الإيمان- هو الآثار الوضعية الظاهرية كما قلنا، بلا فرق في ذلك بين حقوق اللّه و بين حقوق الناس. فالمرفوع المقطوع منهما بحديث الجبّ إنّما هو الآثار و الأحكام الظاهرية الوضعيّة و التكليفية كما سبقت الإشارة إليها آنفا.

نعم إذا كان مقرونا بالإيمان و التوبة عمّا سلف، يترتّب عليه آثار التوبة و الإيمان، من رفع العذاب الأخروي، و إلّا فإنّما يرفع الآثار الظاهرية فقط.

و عليه فهذه القاعدة- كما أشير إليه آنفا- تفيد إسقاط الآثار الظاهرية الشرعية المترتّبة علي ما ارتكبه غير المسلم من الخطايا و المعاصي قبل تشرّفه بالإسلام امتنانا لهم.

فكلّ واجب ديني تركه غير المسلم أو أيّ محرّم من المعاصي و الآثام ارتكبه حال كفره يرتفع و يسقط ما تترتّب عليه من الآثار الوضعية و التكليفية العبادية، كقضاء الصيام و الصلوات و غيرهما من العبادات الفائتة، و الحقوقية كالضمانات و الديون، و الجزائية كالحدود و الديات و القصاص.

و كلّ أثر وضعي أو تكليفي في ثبوته كلفة و ثقل علي المنتحل بالإسلام.

و اتّضح من ضوء هذا البيان أنّ هذه القاعدة لمّا كانت في مقام الامتنان علي منتحلي الإسلام، لا تفيد سقوط ما كان ارتفاعه خلاف الامتنان، فلا يكون بقاء ما أنشأه غير المسلم قبل إسلامه من المعاملات علي صحّتها بعد الإسلام منافيا لمفاد هذه القاعدة؛ لأنّ ارتفاع صحّتها و محو آثارها خلاف الامتنان في حقّهم.

عويصة مزاحمة حقوق الآخرين

و لا يخفي أنّه ينبغي ملاحظة نكتة في مفاد هذه القاعدة. و هي أنّها لمّا كانت في مقام الامتنان في حقّ المنتحلين و المتشرّفين بالإسلام و ترغيب الناس إلي التشرّف بالإسلام، فلو كان جريانها

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 301

في حقّ المتشرّف بالاسلام موجبا لارتفاع ما عليه من حقوق الناس و الضمانات، يوجب ذلك تضييع حقوق ساير الناس. و يستتبع تنفّر طباعهم عن الإسلام. كأن غصب كافر أموالا كثيرة من ساير الكفّار ثمّ أسلم، فلو ارتفع عنه ضمانها يلزم هذا المحذور، و ذلك ينافي روح هذه القاعدة و يضادّ الغرض من تشريعها. فلا يمكن القول بإفادة هذه القاعدة رفع مطلق الضمانات و حقوق الناس، إلّا ما لا يستتبع هذا المحذور أو ثبت بدليل قطعي آخر غير هذه القاعدة.

هذا مضافا إلي أنّ ردّ المال المغصوب و أداء الحقوق المتجاوزة من الأحكام العقلائية و لم يجئ به الإسلام حتّي

يجبّه.

لا ترتفع بهذه القاعدة ما ثبت بغير الإسلام

و لا ريب في أنّ هذه القاعدة تفيد رفع ما هو ثابت في شريعة الإسلام من الفعل و القول و الاعتقاد؛ بحيث يكون الضرر و الضيق و الكلفة و الحرج من آثار الأحكام التكليفية و الوضعية الثابتة في شريعة الإسلام، فالإسلام يقطع و يرفع هذه الآثار الموجبة للضيق و الضرر و الكلفة. و أمّا ما كان ثابتا بمقتضي غير الإسلام من الأديان و المذاهب، فلا حاجة إلي إزالتها و إسقاطها بالتشرّف و انتحال الإسلام؛ نظرا إلي بطلانها و عدم اعتبارها في نظر الشارع حتّي تترتّب آثارها في نظره بعد قبول الإسلام.

كما لا ترفع الأحكام الثابتة ببناء العقلاء كضمان المغصوب من الحقوق و الأموال؛ حيث لم يجئ بها الإسلام حتّي يجبّه.

و حاصل الكلام: أنّ هذه القاعدة تفيد أنّ قبول الإسلام و انتحاله يقطع و يرفع أثر كلّ ما صدر من غير المسلم حال كفره- من التروك و الأفعال و الأقوال و الاعتقاد- ممّا هو ثابت في شريعة الإسلام و يكون له أثر وضعي أو

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 302

تكليفي موجب لأيّ ضرر و ثقل علي المنتحل بالإسلام، و أيّ ضيق أو مشقّة أو حرج و عسر عليه. و من هنا تشمل هذه القاعدة العباديات الصرفة و غير الصرفة و الديون و الضمانات و الجزائيات و حقوق اللّه و حقوق الناس و كلّ حكم تكليفي أو وضعي موجب لضرر أو ضيق أو مجازاة دنيوي من الحدود و القصاص و الديات، ممّا يكون في رفعه امتنان علي المرفوع عنه، بلا فرق بين أنحاء الحكم و المقرّرات المجعولة في الشريعة المقدّسة الإسلامية.

هل تجري هذه القاعدة في نكاح غير المسلم!

و أمّا زواج غير المسلم فيرفع هذه القاعدة جميع آثاره إذا كان مع

المحارم؛ لعدم مشروعيته في الإسلام بأيّ وجه؛ بمعني أنّ المتولّد من نكاحهم لا يحكم بأنّه ولد الحرام، بل ترتفع حرمة هذا النكاح حال الكفر في حقّ المنتحل بالإسلام و المتولّد منه بهذا النكاح يحكم بأنّه ولد الحلال. و أمّا زواجه مع غير المحارم، فلا إشكال في ارتفاع آثاره الوضعية- و هي آثار بطلان النكاح بالإسلام- فيحكم بصحّتها بدليل هذه القاعدة. هذا مضافا إلي ما دلّ من النصوص علي صحّة نكاح كلّ قوم من غير المسلمين، مثل ما ورد في النصوص من أنّ «لكلّ قوم نكاح» «1» نعم يحتاج إلي تجديد صيغة النكاح بعد الإسلام؛ نظرا إلي عدم صلاحية ما تلفّظ به قبل الإسلام لسببية الشرعية بعد إسلامه. و ستعرف تفصيل الكلام في ذلك في بيان مجاري هذه القاعدة.

ثمّ إنّ هاهنا يخطر بالبال إشكال من مفاد هذه القاعدة، و هو أنّ مضمونها لا يلائم عدالة الباري تعالي في بعض موارد جريانها. و ذلك لأنّا لو فرضنا أنّ كافرا ارتكب في طول عمره أنواع المعاصي و الفواحش و الظلم و لا سيّما الشرك

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 14، باب 83 من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 303

و الكفر الّذي هو أكبر المعاصي و أعظم الذنوب و الظلم. ثمّ أسلم في أواخر عمره. و قايسناه مع مسلم ارتكب معاصي و ذنوبا أقلّ و أصغر من المعاصي الصادرة من ذلك الكافر، فمات علي هذا الحال لا بدّ من الالتزام بعذابه في الآخرة لأجل ما صدر منه من المعاصي. و لكن نلتزم بعدم عذاب الكافر شيئا بمقتضي هذه القاعدة، بل بدخولها في الجنّة من غير أيّ عذاب. مع أنّه لم يشرك

في عمره طرفة عين و لم يرتكب كثيرا من المعاصي الكبيرة الصادرة عن ذلك الكافر.

أ ليس ذلك منافيا لعدالة الباري سبحانه؟!

و الجواب: أنّ ما يرفع بالإسلام هو الآثار الوضعية الظاهرية- كما قلنا-، لا العذاب و العقاب الاخروي. فهذا الإشكال في غير محلّه؛ لابتنائه علي رفع العذاب و العقاب الاخروي بهذه القاعدة.

و أمّا إذا كان إسلامه مقرونا بالإيمان و التوبة عمّا ارتكبه حال الكفر، فيمكن الجواب بأنّ إسلام الكافر إذا كان عن توبة، فهو بإسلامه تاب عن الكفر و عن جميع المعاصي الصادرة منه حال الكفر. و المسلم الفاسق أيضا لو تاب عن جميع ذنوبه- و لو في آخر عمره- يغفر له جميع ذنوبه، فيموت و هو كمن لا ذنب له. فما دلّ من الكتاب و السنّة علي غفران جميع الذنوب بالتوبة يشمل الكافر و المسلم علي السواء.

فما ورد من أنّ «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» «1» يشملهما علي حدّ سواء.

نعم لو مات المسلم الفاسق بعد ارتكاب الكبائر من غير توبة يستحقّ العقوبة. و الفرق بينه و بين الكافر الّذي أسلم في آخر عمره واضح؛ لأنّه تاب و المسلم لم يتب.

هذا مع أنّ المسلم الفاسق تناله الشفاعة و يغفر بها لو كان مستحقّا لها.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11 ب 86 من أبواب جهاد النفس، ح 8.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 304

و نظير هذه الشبهة يأتي في الأحكام الوضعية الثابتة في حقّ المسلم و عدم ارتفاعها بالتوبة و لكنّها ترتفع عن الكافر المنتحل إلي الإسلام بقاعدة الجبّ، مع أنّ المسلم أولي بالإرفاق و الترحّم و التسهيل.

و الجواب: أنّ بناء العقلاء و سيرتهم قد جرت علي أخذ أهل كلّ دين بأحكامه، بل

أخذ أهل كلّ دولة و مملكة و حكومة بقوانين تلك الحكومة و المملكة، بل هذه السيرة قد جرت في حقّ الموظّفين في المؤسّسات و الدوائر النظامية و الثقافية و الطبّية و غيرها، و إلّا لاختلّ نظام الحكومات و الممالك و الدول و الدوائر و المؤسّسات. فإنّ لهم قوانين جزائية لمن تخلّف عن آداب الشعوب و القبائل و عن قوانين الحكومات و الدول. و ليس هذه السيرة ثابتة لهم في حقّ من هو خارج عن شعبهم و طائفتهم و ملّيتهم و حكومتهم.

و عليه فأخذ المسلمين بقوانين الإسلام أمر عقلائي حسن معقول جرت عليه سيرة العقلاء. و السير فيه أنّه لو لا القوانين الجزائية لاختلّ نظام الحكومات و الدول و اندرست الرسوم و المذاهب و الأديان.

و العقل لا يقبّح ذلك بعد ما كان قبول الدين و الدخول في الملّية و العيش في ظلّ الحكومة باختيار الشخص نفسه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 305

هل هي أمارة أو حكم أو غيرهما؟

يقع الكلام تارة في نصّ هذه القاعدة و متنها. و اخري: في مفادها و مضمونها.

أمّا نصّها فهو من قبيل الأمارات. و ذلك لأنّ نصّها متن الخبر المأثور الحاكي عن السنّة. و الخبر إذا ثبت اعتباره- و لو لا انجبار ضعف سنده بعمل المشهور- يندرج في الأمارات المعتبرة.

و أمّا مضمونها: فقد تقدّم آنفا أنّ هذه القاعدة تفيد رفع الأحكام و الآثار التكليفية و الوضعية. فهي علي وزان حديث الرفع من هذه الجهة و تدلّ علي رفع الحكم، لا وضعه و تشريعه.

و لا ريب أنّ هذه القاعدة ليست بصدد جعل أمارة أو أصل، كما هو واضح.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 306

مدرك القاعدة

اشارة

1- تحقيق دعوي الإجماع علي القاعدة.

2- تقريب الاستدلال بالآيات.

3- الاستدلال بالنبوي المشهور و بنصوص أخري.

لا إجماع كاشف في المقام

هذه القاعدة لمّا كانت تعبّدية و لا مدخل لحكم العقل فيها، لا بدّ لإثباتها من دليل تعبّدي من إجماع أو كتاب أو سنّة.

أمّا الإجماع: و إن لم ينقل بلفظه و لم يستدلّ أحد به لهذه القاعدة. و لعلّه لأنّ الأصل فيها هو النبوي المعروف، كما قال في العناوين «1»، إلّا أنّ تحصيل إجماع الفقهاء علي ذلك بمكان من الإمكان؛ لاتّفاق الأصحاب علي مفاد هذه القاعدة و عدم مخالف في البين من فقهائنا، بل من العامّة.

و لكنّه ليس إجماعا تعبّديا كاشفا عن رأي المعصوم عليه السّلام؛ نظرا إلي استناد الكلّ إلي هذا الخبر و ما شابهه من الأخبار و الآيات الواردة في بعض الفروع الفقهية.

و علي أيّ حال يمكن دعوي اتّفاق الأصحاب علي العمل بهذه القاعدة في الجملة. و هذا الاتّفاق رصيد و ثيق في إثبات حجّية هذه القاعدة.

______________________________

(1) العناوين: ج 2، ص 494.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 307

تقريب الاستدلال بالآيات

و أمّا الكتاب: فيمكن الاستدلال ببعض الآيات الدالّة علي العفو عمّا سلف من الكفّار.

فمن هذه الآيات قوله تعالي: وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ، إِلّٰا مٰا قَدْ سَلَفَ «1» أي ما مضي منكم في عهد الجاهلية و زمان الكفر من نكاح منكوحة الأب لا تؤاخذون به بعد الإسلام. و المقصود رفع المؤاخذة الظاهرية؛ أي الآثار الوضعية الجزائية الثابتة في شريعة الإسلام لهذا العمل الشنيع الحرام من الرجم و الجلد ترفع عنكم بعد الإسلام و لا تقام عليكم حدّ الزاني بعد ما أسلمتم لأجل ما ارتكبتم من الزنا بمنكوحة الأب في حال الكفر.

و مثله قوله تعالي: وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّٰا مٰا قَدْ سَلَفَ. «2»

و تقريب الاستدلال به نفس التقريب المزبور

في الآية السابقة.

و هي كسابقتها دلّت بقوله: إِلّٰا مٰا قَدْ سَلَفَ علي رفع الآثار الظاهرية من حدّ الزنا و الحكم بكون المتولّد منهما ولد الزنا. و أمّا نفس عقد النكاح فلا إشكال في بطلانه بضرورة الدين.

و منها قوله: فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهيٰ فَلَهُ مٰا سَلَفَ. «3»

فسّر مجي ء الموعظة بقبول الإسلام. و هذه الآية نازلة في من أكل الربا في عهد الجاهلية ثمّ أسلم. و قد دلّت علي نفي ضمان ما أخذه من الربا في حال الكفر بعد إسلامه.

هذه الآيات تفيد مضمون هذه القاعدة، و إن لا تتضمّن لفظها. فيمكن الاستدلال بها لإثبات حجّية هذه القاعدة. بعد إلقاء الخصوصية عن مواردها كما هو ظاهر أو بالفحوي القطعي لورودها في أشنع الأعمال و أعظم الذنوب و لكن في إلقاء الخصوصية و الفحوي إشكال.

______________________________

(1) النساء: 22.

(2) النساء: 23.

(3) البقرة: 275.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 308

الاستدلال بالنبوي المشهور

أمّا السنّة:

فيمكن تقسيمها إلي ما يتضمّن لفظ هذه القاعدة و إلي ما يفيد مفادها.

أمّا الأوّل: فالنبوي المشهور المرويّ بطرق الفريقين و هو «الإسلام يجبّ ما قبله».

و قد رواه الخاصة في مصادرهم الروائية و كتبهم الفقهية كالشيخ الطوسي في الخلاف «1» و ابن زهرة في الغنية. «2»

و قد رواه السيّد الرضي في المجازات النبوية مرسلا بقوله: «و من ذلك قوله عليه الصلاة و السلام: الإسلام يجبّ ما قبله». «3»

و رواه في المستدرك عن عوالي اللئالي. «4»

و رواه في تفسير القمي «5» و قد سبق نقلها في بيان منصّة هذه القاعدة.

و أيضا رواه في موضع آخر. «6»

و رواه أيضا مرسلا في مجمع البحرين «7» و عوالي اللئالي. «8»

و قد سبق البحث في مفاد هذه الرواية و تنقيح معناه المراد

في بيان مفاد القاعدة آنفا.

نصوص اخري دالّة علي القاعدة

و أمّا القسم الثاني: فمن النصوص الدالّة علي مفاد هذه القاعدة علي نحو الكبري الكلّية ما رواه في البحار- في ذكر

______________________________

(1) الخلاف: ج 5، ص 469 و 548.

(2) غنية النزوع: ص 202.

(3) المجازات النبوية: ص 54، ح 32.

(4) مستدرك وسائل الشيعة: ج 7، ص 447، ح 8625/ 2.

(5) تفسير القمي: ج 2، ص 27.

(6) تفسير القمي: ج 1، ص 148.

(7) مجمع البحرين: ج 2، ص 21.

(8) عوالي اللئالي: ج 2، ص 54، ح 145.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 309

قضايا أمير المؤمنين عليه السّلام-: أنّه جاء رجل إلي عمر بن الخطاب فقال: إنّي طلّقت امرأتي في الشرك تطليقة و في الإسلام تطليقتين، فما تري؟ فسكت عمر، فقال له الرجل: ما تقول؟ قال: كما أنت حتّي يجي ء عليّ بن أبي طالب عليه السّلام! فجاء عليّ عليه السّلام فقال: قصّ عليه قصّتك، فقصّ عليه القصّة، فقال عليّ عليه السّلام: هدم الإسلام ما كان قبله، هي عندك علي واحدة». «1»

و منها: ما رواه في مجمع البيان مرسلا عن الباقر عليه السّلام: «من أدرك الإسلام و تاب ممّا كان عمله في الجاهلية وضع اللّه عنه ما سلف». «2»

و إن كان كلامه عليه السّلام ناظرا إلي التوبة و الإسلام أعمّ منها. فمدلول هذا الخبر أخصّ من المدّعي، اللّهمّ إلّا أن يحمل علي التوبة الظاهرية و رفع اليد عن الشرك بمجرّد الإقرار بالشهادتين.

و علي أيّ حال هذه الروايات و إن كانت بآحادها ضعافا سندا، إلّا أنّ عمل مشهور الفقهاء من القدماء و المتأخّرين جابر لضعف سندها، مع مالها من الشهرة الروائية؛ نظرا إلي نقلها بطرق عديدة في الجوامع الروائية و الكتب الفقهية للقدماء.

هذا مع اتّفاق الأصحاب علي مضمون هذه القاعدة في مختلف الفروع الفقهية من مجاريها.

هذا مع أنّه يمكن إحراز سيرة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين في مدّة حكومتهما؛ حيث لم يسمع أن يأخذا أحدا بعد تشرّفه إلي الإسلام بجناياته و معاصيه الصادرة منه حال كفره.

و لو كان كذلك لوصل إلينا قطعا و لو بطريق رواية ضعيفة، مع عدم دلالة رواية علي ذلك، بل وردت نصوص دلّت علي خلاف ذلك بدلالتها علي مفاد قاعدة الجبّ. و هذه النصوص تؤيّد جريان سيرة النبيّ صلّي اللّه عليه و آله علي مفاد هذه القاعدة.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 40، ص 230، ذيل ح 9.

(2) مجمع البيان: ج 1- 2، ص 390.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 310

حالها مع معارضة ساير القواعد

اشارة

1- معارضتها مع قاعدة التكليف الكفّار بالفروع.

2- معارضتها مع قاعدة الإتلاف و اليد.

3- معارضتها مع قاعدة اختلال النظام.

4- معارضتها مع قاعدة حرمة إهانة محترمات الدين.

5- معارضتها مع قاعدة العدل و الإنصاف.

6- معارضتها مع قاعدة نفي السبيل.

7- معارضتها مع قاعدتي لا ضرر و لا حرج.

لا ريب في أنّ هذه القاعدة- كأيّة قاعدة اخري- تعارض بعض قواعد و أدلّة اخري في موارد. و ذلك لأنّ بينهما و بين تلك القواعد نسبة العموم و الخصوص من وجه؛ فتقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع.

و ينبغي لتنقيح ذلك أن يعلم أنّ ما صدر من الكافر في حال كفره من المعاصي تارة: يكون من قبيل حقوق اللّه، و اخري: من قبيل حقوق الناس. و لكلّ واحد منهما أقسام. و لا بدّ من ملاحظة هذه القاعدة مع القاعدة الجارية في كلّ هذه الأبواب. فنقول:

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 311

معارضتها مع قاعدة تكليف الكفار بالفروع

يخطر بالبال بدوا تعارض قاعدة تكليف الكفّار بالفروع، مع هذه القاعدة، بناء علي رأي المشهور من أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع؛ لأنّ مقتضي ذلك أخذهم بما صدر عنهم من المعاصي و ترتيب آثارها التكليفية و الوضعية، من وجوب الإعادة و قضاء العبادات و أداء الضمانات و إجراء الحدود و الأحكام الجزائية المالية و غيرها.

و لكن قاعدة الجبّ تصرّح برفع ذلك كلّه.

و مقتضي الصناعة تقديم قاعدة الجبّ؛ و ذلك لظهورها في رفع الأحكام و الآثار التكليفية و الوضعية، و إنّ الرفع فرع الثبوت. ففي الحقيقة لا تعارض بينها و بين قاعدة تكليف الكفّار بالفروع.

و أمّا بناء علي المختار من عدم تكليفهم بالفروع لا ملزم لنا لحمل مورد هذه القاعدة علي حقوق الناس و الحدود و الجزائيات الثابتة في مذهب الكافر؛ لزعم

أنّه بعد البناء علي عدم كونهم مكلّفين بأحكام الإسلام حال الكفر، لا معني لجبّ الآثار الناشئة من عصيان التكليف بالفروع. و ذلك لأنّه بناء علي هذا الأساس أيضا يمكن أخذهم بالفروع الثابتة في الإسلام؛ لأجل كفرهم و عدم قبول الإسلام عنادا، لا لأجل تكليفهم بالفروع مع قطع النظر عن تكليفهم بأصل الإسلام ثمّ بالفروع بتبعه. و بناء علي هذا الأساس نقول: إنّ تشرّفهم بالإسلام يرفع عنهم ما كان عليهم من التكاليف الفرعية المبتنية علي الإسلام.

بمعني أنّهم لا يؤاخذون بها بعد الإسلام لأجل عدم قبولهم الإسلام حال الكفر ليكلّفوا بالفروع. و عليه فلا تنافي بين هذه القاعدة و بين المبني المختار.

هذا كلّه بلحاظ العذاب و العقاب الأخروي. و لكن لمّا لا نظر لقاعدة الجبّ إلي ذلك فهو خارج عن مصبّ هذه القاعدة.

و إنّما يرتبط بهذه القاعدة خصوص الآثار الظاهرية من الإعادة و القضاء و الحدود و التعزيرات و الديات.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 312

و الجواب الأساسي عن هذا التعارض بأنّ قاعدة تكليف الكفّار ناظرة إلي العذاب الأخروي بمعني أنّه بناء علي رأي المشهور يعاقب الكفّار علي ترك الفروع و يعذّبون بذلك في الآخرة كما يعاقبون في الآخرة علي الأصول. و أمّا بناء علي المبني المختار أنّهم يعاقبون بعقاب واحد و هو علي الكفر إنكار التوحيد و الرسالة. و لو كان لهم عقاب علي الفروع فإنّما هو لأجل كفرهم المانع عن الالتزام بالفروع.

هذا مضافا إلي إمكان رجوع الجبّ إلي معني الدفع بمعني كشفه عن عدم تكليف الكافر المنتحل إلي الإسلام حال كفره بالفروع، و عليه فانتفاء آثارها الظاهرية لإمحاء الإسلام ما كتب له في دفتر التشريع حال كفره أو عدم تكليفه بما كان

له شأنية التكليف به حال كفره.

معارضتها مع قاعدة ضمان الإتلاف و ضمان اليد

تعارض هذه القاعدة أدلّة الضمانات، كقاعدة الإتلاف و ضمان اليد و أدلّة حرمة التصرّف في مال المسلم، مع أنّ جريان هذه القاعدة مخالف للامتنان علي الامّة الإسلامية المرحومة. و لكنّه فيما إذا كان المغصوب منه مسلما، بخلاف الكافر.

و ذلك لأنّ هذه القاعدة تنفي الضمان بإطلاقها و تلك القواعد تثبته. و الظاهر أنّ هذا التعارض بدوي لا استقرار له في الحقيقة، فلا تعارض في البين.

و ذلك لما قلنا في بيان مفاد هذه القاعدة من ظهورها في رفع الأحكام المختصّة بالإسلام الّتي للشريعة الإسلامية دخل في ثبوتها. و لمّا كان ضمان الأموال المغصوبة ثابتا في ساير الشرائع و لا دخل للإسلام في ثبوتها، تنصرف هذه القاعدة عن الضمانات. فلا تخالف بين القاعدتين أصلا.

و أمّا الاشكال بأنّ مال المسلم لمّا كان محترما في الإسلام فيكون للإسلام

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 313

دخل في ضمانه بخلاف مال الكافر، و عليه فالمرتفع بهذه القاعدة ضمان مال المسلم؛ لا الكافر.

فيمكن الجواب بأنّ احترام مال المسلم في شريعة الإسلام لا ينافي ثبوت ضمان ماله في ساير الأديان أيضا. هذا، مع أنّ الّذي لا احترام لماله هو الكافر الحربي، لا الذمّي و لا المشركين من أهل الكتاب.

معارضتها مع قاعدة اختلال النظام

هذه القاعدة تعارض قاعدة اختلال النظام في كلّ فعل موجب لاختلال النظام بلا فرق بين أنحاء النظامات الأمنية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية. كما في السرقات و الدسائس الكبيرة المخطّطة لصالح الدول الأجنبية، و نحو ذلك ممّا يوجب الاختلال في معاش الناس و حياتهم و يورث الهرج و المرج و وهن أركان النظام الإسلامي المقدّس. و من هذا القبل ما لو قتل الكافر رئيس القوم أو قائدا دينيا حال كفره و كان

رفع الحدّ عنه موجبا للاختلاف الشديد و العداوة و البغضاء بين الناس و انجرّ ذلك إلي القتال و سلب الأمنية و اختلال نظام حياتهم.

ففي هذه الموارد إنّما يقع التعارض بين القاعدتين فيما إذا كان جريان قاعدة الجبّ و رفع الأحكام و الآثار الوضعية من الضمانات و الحدود و التعزيرات، موجبا لمحذور الفتنة و الاختلال، و إلّا لا تعارض بمجرّد صدور ما يوجب اختلال النظام من الكافر حال كفره ما دام لم يكن الجبّ موجبا لتشديده أو استمراره.

و لا ريب في تقديم قاعدة الاختلال؛ نظرا إلي استقلال العقل بقبحه الإخلال في نظام حياة نوع الناس و إلي أهميّة حفظ النظام الإسلامي الحاكم في نظر الشارع؛ بحيث أمر ببذل الأموال و النفوس لحفظ بيضة الإسلام و نواميس المسلمين.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 314

معارضتها مع قاعدة حرمة إهانة محترمات الدين

لا ريب في أهميّة شعائر اللّه و المقدّسات الدينية و محترمات الشريعة و المذهب- الّتي بها قوام الشريعة و دوام المذهب- في نظر الشارع؛ بحيث لا يرضي بهتكها و إهانتها بأيّ وجه من الوجوه. و قد سبق البحث عن هذه القاعدة تفصيلا في الجزء الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال».

و يتّضح من ضوء هذا البيان تقدّم قاعدة حرمة إهانة المحترمات علي قاعدة الجبّ، فيما إذا كان رفع الأحكام و الآثار الوضعية موجبا لإهانة محترمات الشريعة و مقدّسات المذهب و هتك شعائر اللّه تعالي. و إن كان تصوير صغري هذا التعارض مشكل بعد ما كان رفع التعزير و العقاب عنه ببركة الإسلام.

معارضتها مع قاعدة العدل و الإنصاف

قد تقدّم البحث مفصّلا عن مفاد قاعدة العدل و الإنصاف في الجزء الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال» فراجع هناك.

و إجمال الكلام هاهنا أنّه لو وقعت المعارضة بين هاتين القاعدتين لا ريب في تقديم قاعدة العدل و الإنصاف لاستقلال العقل بها، مضافا إلي أنّ مصبّ جريانها حقوق الناس و قد تقدّم آنفا وجه انصراف قاعدة الجبّ عنها.

و تصوير التعارض بأن اشتبه مال بين كافر ذمّي و مسلم و تردّد بينهما.

فمقتضي قاعدة العدل و الإنصاف تنصيف ذلك المال بينهما.

و لكن لا تعارض بين القاعدتين. و ذلك لأنّ مفاد قاعدة العدل و الإنصاف ثابت بدليل بناء العقلاء و سيرتهم القطعية في مواردها. و ما ورد من النصوص الدالّة علي مفادها- كالواردة منها في الدرهم الودعي- إرشاد إلي السيرة العقلائية كما بيّنّا ذلك مفصّلا في المجلّد الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 315

و عليه فلا تعارض في البين؛ لما سبق آنفا من عدم ارتفاع الأحكام الثابتة في سيرة العقلاء-

من الضمانات و الديون و الحقوق المالية- بهذه القاعدة. و إنّما يرتفع بهذه القاعدة خصوص الأحكام الثابتة بالإسلام الّتي لا دخل لغير الإسلام في ثبوتها.

معارضتها مع قاعدة نفي السبيل

إذا كان جريان قاعدة الجبّ في مورد موجبا لسلطة الكافر علي المسلم أو الدولة الكافرة علي الدولة الإسلامية لا ريب في تقديم قاعدة نفي السبيل؛ لأنّها حاكم علي جميع أدلّة الأحكام الأوّلية.

و قد بحثنا عن مفاد قاعدة نفي السبيل مفصّلا و تصوير التعارض بأن كان رفع حكم أو أثر وضعي من الضمانات و التعزيرات و الحدود و الحبس و نحوه من الجزائيات، موجبا لتفوّق الكافر علي المسلم، كما لو تجاوز بامرأة مسلمة أو غصب أموال المسلمين أو أقدم علي دسيسة أو تجسّس استخباري ثمّ أسلم، فلو كان جريان قاعدة الجبّ و تخلية سبيله و رفع الأحكام و الآثار الوضعية عنه موجبا لسلطة الكفّار علي المسلمين أو تفوّق الدول الكافرة علي الدولة الإسلامية لا ريب في تقديم قاعدة نفي السبيل.

معارضتها مع قاعدتي لا ضرر و لا حرج

لا ريب في حكومة قاعدتي لا ضرر و لا حرج علي جميع الأدلّة الأوّلية. و أمّا تصوير المعارضة بين هاتين القاعدتين و بين قاعدة الجبّ، فتارة يقع الكلام في معارضتها مع قاعدة لا ضرر، فهو واضح و ذلك مثل أن غصب الكافر أموال مسلم أو مالك محترم غير المسلم، فحينئذ جريان قاعدة الجبّ يوجب الضرر علي الغير. و من هذا القبيل كلّ فعل ارتكبه الكافر حال كفره و كان فعله موجبا لضرر مالي أو غيره.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 316

و أمّا معارضة هذه القاعدة مع قاعدة لا حرج فيمكن تصويرها فيما صدر من الكافر في حال كفره، من تعلية البناء الموجبة لوقوع الجار في المشقّة و الحرج، أو إحداث معمل أو اصطبل للحيوانات أو مزارب الدجاج و حقل الدواجن في المحلّ المسكوني، فصار موجبا لوقوع الجوار و سكنة المحلّ في الحرج؛ إمّا

لشدّة ارتفاع صوت، أو غلظة الدخان المتصاعد منه أو الرائحة الكريمة الموذية. و لكن لا تعارض بين قاعدة نفي الحرج و قاعدة الجبّ. و ذلك لأنّ الحرج لا يخلو إمّا كان متحقّقا سابقا بسبب ما أحدثه حال كفره، أو يكون مستمرّا بعد إسلامه. فعلي الأوّل ارتفع الحرج و انقطع و لم يبق منه أثر وضعي حتّي ترفعه القاعدة إلّا عقوبة إيذاء المؤمنين المنوط ارتفاعها بالتوبة. و علي الثاني لا ترتفع حرمتها بقاعدة الجبّ؛ لأنّه بعد الإسلام لا قبله.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 317

مجاري القاعدة و أحكامها

اشارة

1- مدلول هذه القاعدة في حقوق اللّه.

2- مدلول هذه القاعدة في حقوق الناس.

3- إعطاء الضابطة الكلّية في المقام.

4- خروج مجاري السيرة العقلائية عن مصبّ هذه القاعدة.

5- لا فرق في جريان هذه القاعدة بين أقسام الكافر، و خروج المرتدّ بالدليل.

6- هل تجري هذه القاعدة في المستبصر.

7- لما ذا تشمل هذه القاعدة للكافر دون المسلم؟

يمكن تقسيم مجاري هذه القاعدة إلي قسمين رئيسيين، أحدهما: حقوق اللّه، ثانيهما: حقوق الناس. و كلّ واحد منهما ينقسم إلي ثلاثة أقسام.

و قد استظهر السيّد المراغي من كلمات الأصحاب عدم سقوطها عن الكافر بإسلامه مطلقا، بلا فرق بين أنحائه. و أمّا الحقوق الإلهية فاستظهر من كلماتهم سقوطها مطلقا، سواء كان لها تعلّق بالمخلوقين أم لا. و أنّهم لم يفصّلوا في المقامين بينما كان في دينهم موجبا للضمان أم لا. قال قدّس سرّه: «ظاهر الأصحاب: أنّ الحقوق المختصّة بالمخلوقين سواء كانت بضمان يد أو إتلاف أو جناية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 318

- و نحو ذلك من الطرق- لا تسقط عن الكافر بإسلامه، و أمّا الحقوق الإلهيّة و إن كان لها تعلّق بالمخلوقين أيضا،

فتسقط عنه بالإسلام. و لم نجد في كلامهم التفصيل بين ما كان في دينهم موجبا للضمان أم لا في المقامين». «1»

و لتحقيق ذلك نقول:

أمّا حقوق اللّه فتنقسم إلي:

1- العبادات المحضة، كالصوم و الصلاة.

2- العبادات المالية كالخمس و الزكاة و الوقف، بل الحجّ و كثير من الكفّارات.

3- الجزائيات، من الحدود و التعزيرات.

مدلول هذه القاعدة في حقوق اللّه

أمّا حقوق اللّه المحضة- كالصلاة و الصوم و نحوهما- إذا كانت من العبادات المخترعة في الإسلام، فلا ريب في سقوطها عن الكافر بإسلامه.

و أمّا غير مخترعات الإسلام و غير المحضة من حقوق اللّه، فلو كانت من معتقدات الكافر في مسلكه فلا ريب في سقوطها أيضا؛ نظرا إلي بطلان معتقداتهم الدينية أساسا بعد مجي ء الإسلام، بل ليست قابلة للسقوط؛ لعدم ثبوتها عند اللّه واقعا عليهم حتّي تسقط بعد الإسلام؛ لأنّ الشرائع السابقة منسوخة بالإسلام.

و أمّا ما قلنا سابقا من إشعار وصف الإسلام في الحديث بأنّه إنّما يجبّ و يسقط ما كان من مختصّاته، و أنّ القاعدة لا تتكفّل لإسقاط ما لم يكن ثبوته بالإسلام، فلا ينافي ذلك؛ لأنّ هذا الكلام إنما يأتي فيما كان له جذور عقلائية،

______________________________

(1) العناوين: ج 2، ص 495.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 319

ممّا له ثبوت و استقرار و استمرار مع قطع النظر عن الإسلام، مثل الديون و الضمانات غير الناشئة من الأديان السالفة. و هذا بخلاف ما ثبت بالشرائع السالفة فإنّها بعد نسخها بمجي ء الإسلام، لا ثبوت و لا دوام لمطلق أحكامها (عباديات أو ماليات) حتّي تكون قابلة للإسقاط بمسقط، بل هي ساقطة من أصلها بنسخ الشرائع السابقة.

و لا فرق في ذلك بين الحدود و القصاص و غيرها من الأحكام الجزائية و بين العبادات. و الملاك في

ذلك ثبوتها بتشريع الشرائع السابقة، من دون ثبوتها بحكم العقل أو السيرة العقلائية.

مدلول هذه القاعدة في حقوق الناس

أمّا حقوق الناس، فتنقسم إلي: 1- الضمانات و الديون.

2- المعاملات من العقود و الإيقاعات الشاملة للنكاح و الطلاق.

كمن تزوّج امرأة أو طلّق زوجته بغير الشرائط المعتبرة في شريعة الإسلام حال كفره، ثمّ أسلم. فإسلامه يوجب سقوط تلك الشرائط في حقّه ما دام كافرا. و لكن بعد إسلامه يجب عليه تجديد العقد بشرائطه المعتبرة في الإسلام.

فأصل النكاح لا يبطل بمقتضي قاعدة الجبّ، بل هي تقتضي صحّتها حال الكفر. و إنّما تدلّ بمفهوم الوصف أو الغاية علي وجوب تجديده بشرائطه المعتبرة بعد الإسلام.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ إطلاق حديث الجبّ يقتضي إلغاء الشرائط و سقوط اعتبارها في النكاح الواقع حال الكفر بإسلام الكافر مطلقا، حتّي بعد إسلامه؛ لأنّه مقتضي إطلاق إزالة اعتبار الشرائط المعتبرة في المعاملة الواقعة حال الكفر، فإن إطلاق جبّ أحكامها الوضعية الشرعية يقتضي إلغاء القيود

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 320

و الشرائط الشرعية المعتبرة في المعاملة الواقعة حال الكفر. و مقتضي إلغائها صحّتها مطلقا، حتّي بعد الإسلام، فإنّ صحّتها بعد الإسلام من آثار إلغاء شرائطها الشرعية حال الكفر. و لكنّ الاحتياط بتجديده بعد الإسلام بشرائطه المعتبرة لا ينبغي تركه، بل لا يبعد القول بوجوب الاحتياط في ذلك؛ نظرا إلي قوّة احتمال التعبّد بإلغاء الشرائط قبل الإسلام، لا بعده.

3- الجنايات و ما يترتّب عليها من الاروش و القصاص و الديات.

و كلّ ذلك إمّا من مختصّات الإسلام، أو ممّا هو ثابت في غير الإسلام أيضا، من ساير الأديان فيأتي فيها ما سبق آنفا من البحث.

إعطاء الضابطة في المقام

يمكن تأسيس الضابطة في المقام علي ضوء ما بيّنّاه؛ و هي أنّ كلّ ما كان من الأحكام و الحقوق ثابتة بحكم العقل أو بالسيرة العقلائية مع قطع

النظر عن أيّة شريعة، فلا يسقط بالإسلام، بل هي باقية علي حالها بعد إسلام الكافر، إلّا أن يمنعه الإسلام بتخطئة العقل أو ردع السيرة العقلائية.

و كلّ ما كان ثابتا بتعبّد من الشرائع السابقة من الأحكام و الحقوق- من دون حكم للعقل به أو جريان سيرة العقلاء عليه- فهو ساقط بنفس مجي ء الإسلام و نسخ الشرائع السابقة، فلا اعتبار له عند اللّه تعالي، سواء أسلم الكافر أم لم يسلم، و إسقاط الساقط تحصيل الحاصل.

و عليه فالضابطة المستفادة من قاعدة الجبّ ارتفاع كلّ حكم تكليفي أو وضعي كان علي عاتق الكافر حين كفره من الأحكام و الحقوق ثابتا بالإسلام، بحيث لو لم يكن الإسلام لم يثبت و لم يكن الكافر مكلّفا به، و إنّما كان مكلّفا به حين كفره من ناحية الإسلام، بناء علي رأي المشهور من تكليف الكفّار بالفروع.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 321

و لا فرق في ذلك بين الضمانات و غيرها، و لا بين العبادات المحضة و غيرها، و لا بين حقوق اللّه و بين حقوق الناس، و لا بين الجزائيات- من الحدود و القصاص- و غيرها، و لا بين الديات و غيرها من الحقوق المالية في شريعة الإسلام كأثر الكفّارات، بل حتّي الربا المأخوذ قبل الإسلام كما فسّر الشيخ الطوسي قوله تعالي: فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهيٰ فَلَهُ مٰا سَلَفَ. «1»

و قوّاه في الجواهر؛ حيث قال: «لا يخفي قوّة كون المراد بالآية العفو عمّا سلف في حال الجاهلية، نحو قوله تعالي: وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ إِلّٰا مٰا قَدْ سَلَفَ، و غيره مما هو وارد مورده». «2» و بما بيّنّاه اتّضح ضعف تفصيل السيّد المراغي في

المقام. فإنّ المناط في التفصيل ما ذكرناه من غير فرق بين حقوق اللّه و حقوق الناس.

تنبيهات في أحكام هذه القاعدة

الأوّل: خروج مجاري السيرة العقلائية عن مصبّ هذه القاعدة.

إنّ موارد جريان السيرة العقلائية من الأحكام الحقوقية و المعاملية و الجزائية خارجة عن مصبّ هذه القاعدة. و ذلك لعدم كونها ناشئة من الشريعة الإسلامية، و ليست ممّا جاء به الإسلام. و قد قلنا في تحرير مفاد هذه القاعدة أنّها ناظرة إلي سقوط ما كان ثابتا في حقّ الكافر حال كفره بالإسلام، دون ما كان ثابتا في حقّه مع قطع النظر عن الإسلام.

و لا يخفي أنّه لا فرق في التفصيل الّذي ذكرناه بين الأحكام التكليفية و بين الأحكام الوضعية. فما كان بتعبّد من الشرائع السالفة خارج عن مجري القاعدة تخصّصا. و ما هو ثابت بالعقل أو سيرة العقلاء لا يسقط بهذه القاعدة. و ما هو

______________________________

(1) البقرة: 275.

(2) جواهر الكلام: ج 23، ص 403.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 322

ثابت بالإسلام تدلّ هذه القاعدة علي سقوطها.

الثاني: لا إشكال في جريان هذه القاعدة في حقّ الكافر مطلقا

، سواء كان حربيا أو ذمّيّا، كما ستعرف ذلك من كلمات الفقهاء؛ حيث طبّقوا هذه القاعدة علي الذمّي أيضا في حكم الجزية و غيره في التطبيقات الفقهية. و السرّ في ذلك إطلاق عنوان الكافر عليهما علي السواء؛ حيث يتبادر إلي الذهن من عنوان الكافر مطلق الكافر الشامل للحربي و الذمّي. مع أنّ المأخوذ في موضوع قاعدة الجبّ بقرينة قوله صلّي اللّه عليه و آله: «ما قبله» عنوان غير المسلم، و هو شامل لمطلق الكفّار بلا إشكال.

و من هنا تشمل هذه القاعدة المرتدّ قطعا؛ لأنّه داخل في عنوان الكافر. و لكن خرج المرتدّ عن هذه القاعدة بالنصّ و الإجماع «1»؛ فقيّدا إطلاق حديث الجبّ بالنصّ و الإجماع في مورد المرتدّ.

[الثالث: الاستبصار] هل تجري القاعدة في المستبصر؟

الثالث: الاستبصار (إسلام المخالف).

اختلف الأصحاب في سقوط ما كان علي المخالف العامي- من أحكام المذهب- بعد تشيّعه و إيمانه بالاستبصار.

فمنهم من قال في باب الصلاة بالسقوط لو أتي المخالف بالتكاليف علي ما هي عليه في مذهبه من غير تقصير في اعتقاده، كما نسب ذلك إلي المشهور بين الأصحاب المحقّق الأردبيلي «2» و اختاره الشهيد الأوّل في الذكري «3» و الشهيد الثاني في الروض. «4»

و منهم: من قال بالسقوط في باب الحجّ لو أتي المخالف به موافقا لمذهبنا

______________________________

(1) راجع الخلاف: ج 5، ص 352.

(2) مجمع الفائدة: ج 3، ص 211.

(3) الذكري: ص 135.

(4) روض الجنان: ص 356.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 323

سواء وافق مذهبه أم لم يوافق، كالمحقّق في المعتبر «1»، و العلّامة في المنتهي «2»، و الشهيد في الدروس. «3»

و منهم: من قال بالسقوط لو وافق المذهبين، كما قيل في باب الزكاة إذا أعطاها مع شرائطها للمؤمن الشيعي الفقير، و بعبارة اخري

وضعها في موضعها، و إلّا فلا يسقط.

و منهم: من قال: إنّ المخالف في حكم الكافر كصاحب الحدائق «4» و علي مثله أن يلتزم بشمول قاعدة الجبّ للمخالف و القول بالسقوط مطلقا.

و مقتضي التحقيق: السقوط، لو وافق ما أتي به الشرائط المعتبرة في مذهبنا، بلا فرق بين الزكاة و غيره. و ذلك لعدم تمامية ما استدلّ به علي اعتبار الإيمان في صحّة العبادة. نعم إنّما يبطل ما أتي به؛ لعدم كونه مطابقا لما اعتبر في صحّة العبادة من الشرائط في مذهبنا.

و عليه فحديث الجبّ لا يرفع و لا يدلّ علي سقوط ما أتي به العامي قبل تشيّعه؛ لما قلنا من اختصاصه بالكافر. و ذلك بقرينة قوله: «ما قبله»؛ لأنّ قبل الإسلام و بعده إنّما يتصوّر في حقّ الكافر عند ما أسلم. و أمّا المخالف فلا يتصوّر في حقّه قبل الإسلام، بل إنّما يتصوّر في حقّه قبل الاستبصار و بعده عند ما استبصر و تشيّع. و لنا تحقيق مفصّل في كتاب الصوم في مسألة اشتراط الإيمان في صحّة العبادة.

______________________________

(1) المعتبر: ج 2، ص 765.

(2) منتهي المطلب: ج 2، ص 860.

(3) الدروس: ج 1، ص 351.

(4) الحدائق الناضرة: ج 14، ص 163- 165. قال: «التحقيق المستفاد من أخبار أهل البيت عليهم السّلام- كما اوضحناه بما لا مزيد عليه في كتاب الشهاب الثاقب- ان جميع المخالفين العارفين بالامامة و المنكرين القول بها كلهم نصاب و كفار و مشركون ليس لهم في الإسلام و لا في احكامه حظ و لا نصيب، و إنما المسلم منهم هو الغير العارف بالامامة، و هم في الصدر الأوّل من زمان الأئمة عليهم السّلام اكثر كثير، و يعبر عنهم في الاخبار بأهل الضلال و غير

العارف و المستضعف».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 324

و عليه فالزكاة أيضا لو أدّاها المخالف علي النحو المعتبر في مذهبنا؛ بأن راعي الشرائط المعتبرة و صرفها في موردها و أعطاها الفقراء من أهل الولاية، يسقط عنه التكليف و يصحّ بلا حاجة لإسقاطها إلي قاعدة الجبّ، و إلّا فلا يسقط بلا دخل لهذه القاعدة.

هذا مقتضي القاعدة، و لكن الّذي يستفاد من النصّ نفي وجوب القضاء عن المستبصر في غير الزكاة و وجوب إعادتها عليه بعد الاستبصار.

كما دلّ علي ذلك صحيحة بريد بن معاوية العجلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث- قال: «كلّ عمل عمله و هو في حال نصبه و ضلالته، ثمّ منّ اللّه عليه و عرّفه الولاية، فإنّه يوجر عليه، إلّا الزكاة فإنّه يعيدها؛ لأنّه وضعها في غير موضعها، لأنّها لأهل الولاية. و أمّا الصلاة و الحجّ و الصيام، فليس عليه قضاء». «1» بل تدلّ علي صحّة الزكاة أيضا لو كان وضعها في موضعها.

و يستفاد من هذه الصحيحة بطلان جميع عبادات الناصب، بل مطلق أهل الضلالة- الشامل لجميع المخالفين- لو لا الاستبصار. و إنّما يسقط عنهم قضاؤها ببركة الاستبصار و بتفضّل من اللّه و منّه. لكن لا مطلقا، بل في غير الزكاة. و لعلّ وجه الفرق أنّ غير الزكاة من قبيل حقوق اللّه فيسقط بتفضّل اللّه، بخلاف الزكاة فإنّها من حقوق الناس و هم خصوص أهل الولاية. فيجب علي العامي بعد استبصاره إيصال الحقّ إلي مستحقّه.

و لا ينافي ذلك ما قلناه من عدم اشتراط الإيمان و صحّة عباداتهم لو كانت مطابقة لما اعتبر فيها من القيود و الشرائط في مذهبنا.

وجه عدم المنافاة أنّ الغالب عدم المطابقة لندور تحقّق عبادة منهم

كانت مطابقة لمذهبنا. فالصحيحة المزبورة تحمل علي الأغلب. و يشهد لما قلنا ذيل

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 1 ب 31 من مقدّمات العبادات: ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 325

هذه الصحيحة لدلالتها علي صحّة الزكاة المؤدّاة قبل الاستبصار لو وضعها في موضعها بإعطائها إلي أهل الولاية.

و قد تردّد المحقّق الأردبيلي في سقوط العبادات عن النواصب بعد الاستبصار؛ حيث قال: «و أمّا الناصب بمعني المبغض و العدوّ لأهل البيت، فهو كافر لأنّ بغضهم (نعوذ باللّه) كفر، لأنّه إنكار للضروري، و المجمع عليه، و للأخبار. فالظاهر عدم صحّة عباداتهم بوجه، فيحتمل القضاء كالمرتدّ؛ لعموم أدلّته، و عدمه كالكفر الأصلي؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله». «1»

و لكن الأقوي ما قلناه، من عدم جريان قاعدة الجبّ في حقّه؛ لأنّه مسلم في الظاهر بالإقرار بالشهادتين و باليوم الآخر كما دلّ علي ذلك نصوص متواترة.

و أفتي بذلك فقهاؤنا في مختلف أبواب الفقه. فيجري عليه أحكام الإسلام. و إنّما يسقط عنه غير الزكاة بالاستبصار بدلالة النصّ الصحيح المزبور.

و يلحق بالمخالف الغلاة و النواصب و الصوفية و الواقفة و ساير الفرق الضالّة. فلو استبصروا و انتحلوا إلي المذهب الحقّ يجري في حقّهم حكم المخالف، لا الكافر؛ لأنّهم مسلمون. و إنّ الإسلام الّذي يجبّ ما قبله هو الإقرار بالشهادتين و بسببه يجري أحكام الإسلام.

و أمّا ما ورد من النصوص الدالّة علي نجاسة النواصب و أنّ الناصب لأهل البيت أنجس من الكلب، فلا يفيد كونه كافرا و لا يدلّ علي عدم إسلامه.

[الرابع:] لما ذا تشمل هذه القاعدة للكافر دون المسلم؟

الرابع: لمّا كانت دلالة هذه القاعدة علي رفع الأحكام التكليفية و الوضعية عن الكافر المنتحل إلي الإسلام من باب الامتنان، تخطر بالبال شبهة، و هي: أنّه كيف

______________________________

(1) مجمع الفائدة و

البرهان: ج 6، ص 101- 102.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 326

يمكن ثبوت الامتنان في حقّ الكافر، و لكن لا يشمل المخالف المسلم الّذي آمن باللّه تعالي و النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و المعاد؟

و هل هذا التبعيض في الامتنان من جانب الشارع يلائم عدالة ذاته المقدّسة المنزّهة من أيّ نقص؟

و الّذي يمكن أن يقال في الجواب عن هذا الإشكال، أنّ المسلم لمّا دخل في الإسلام باختياره و اعتقد اصوله و فروعه و التزم بأحكامه، صارت قوانين الإسلام و أحكامه التكليفية و الوضعية في حقّه منجّزا قطعيا، فهو ملزم علي إجرائها و معاقب علي تركها.

و هذا بخلاف الكافر الّذي لم ينتحل إلي الإسلام بعد و لم يختره، حتّي تتنجّز عليه أحكامه و يلزم بإجرائها. فمن هنا لا يلزم الكافر الذمّي علي إجراء أحكام الإسلام، حتّي بناء علي تكليف الكفّار بالفروع.

و السرّ في ذلك أنّ من التزم و تعهّد بقانون أو نظام سياسي أو ثقافي أو عسكري باختياره، يكون ملزما برعاية ذلك القانون و النظام الّذي التزم بإجرائه و رعايته. و ذلك مثل اللاجئ السياسي إلي مملكة، فإنّه بنفس اللجوء لمّا صار ملتزما برعاية قانون تلك المملكة، يكون في سيرة العقلاء ملزما برعاية قوانينها و يعاقب علي نقضها و التخلّف عنها. و كذا من دخل في مؤسسة ثقافية أو دائرة عسكرية و صار عضوا لها. و هذا بخلاف غيره ممّن لم يلتزم بذلك.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 327

التطبيقات الفقهية

اشارة

1- سقوط الزكاة عن الكافر بعد إسلامه.

2- سقوط الجزية عن الكافر الذمّي.

3- سقوط الغسل و قضاء الصلاة و الحجّ عنه.

4- هل يسقط ضمان ما أتلفه الكافر علي المسلم.

5- سقوط الحدود

عنه.

و قد تمسّك الفقهاء الفحول و استدلّ و أعاظم الأصحاب- من القدماء و المتأخّرين- بهذه القاعدة في مختلف الفروع الفقهية، و إنّهم أرسلوا هذه القاعدة- في الجملة- إرسال المسلّمات.

و موارد استشهادهم بها أكثر من أن تحصي. و نكتفي هاهنا بذكر نماذج منها؛ حذرا عن الإطناب في الفروع الفقهية.

سقوط الزكاة عن الكافر بعد إسلامه

فمن هذه الفروع مسألة سقوط وجوب الزكاة عن الكافر بعد إسلامه، كما أفتي به فقهاؤنا. و استدلّوا بهذه القاعدة.

قال في المعتبر: «تجب الزكاة علي الكافر … و لا قضاء عليه لو أسلم؛ لقوله عليه السّلام: الإسلام يجبّ ما قبله». «1»

______________________________

(1) المعتبر: ج 2، ص 49.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 328

و قد نقل العلّامة في المختلف القول بسقوط الزكاة عن الكافر بعد إسلامه عن الشيخ «1» و ابن الجنيد و المفيد «2» و ابن البراج «3» و ابن إدريس «4» و نقل عن بعض الأصحاب القول بعدم السقوط.

و اختار العلّامة سقوطها بالإسلام مطلقا- حتّي لو أسلم بعد الحول- و استدلّ لذلك بقوله: «لنا الإسلام يجبّ ما قبله». «5» و قال في المنتهي: «تجب الزكاة علي الكافر …؛ عملا بعموم الأوامر … نعم لا يصحّ منه أداؤها؛ لأنّها مشروطة بنيّة القربة و هي لا تصحّ منه. فإذا أسلم فلا قضاء عليه، بل سقطت عنه لقوله عليه السّلام: الإسلام يجبّ ما قبله». «6»

و قال في موضع آخر منه: «الكافر الأصلي تجب عليه الزكاة بعموم الخطاب و يسقط عنه بالإسلام؛ لقوله عليه السّلام: الإسلام يجبّ ما قبله». «7» بل نسب ذلك إلي اتّفاق الأصحاب مستدلّا بحديث الجبّ. «8»

و قال الشهيد الثاني: «إسلام الكافر يوجب سقوط الزكاة الّتي كانت قد وجبت عليه حال كفره؛ لأنّ إسلام يجبّ ما

قبله، سواء أ كانت عين النصاب موجودة أم لا. و إن مات علي كفره عوقب علي تركها؛ لأنّه مخاطب بفروع الإسلام عندنا». «9»

و قد استدلّ بهذه القاعدة لذلك فحول الفقهاء و المحقّقين من القدماء و المتأخّرين، لا حاجة إلي الإطناب في نقل عباراتهم هاهنا.

سقوط الجزية عن الذمّي بعد إسلامه

و منها: ما لو أسلم الكافر الذمّي، فأفتوا بأنّه تسقط عنه الجزية، كما أفتي به في كشف الرموز و حكي عن

______________________________

(1) المبسوط: ج 2، ص 42.

(2) المقنعة: ص 279.

(3) المهذب: ج 1، ص 184.

(4) السرائر: ج 1، ص 473.

(5) مختلف الشيعة: ج 4، ص 440.

(6) منتهي المطلب: ج 1، ص 473.

(7) منتهي المطلب: ج 1، ص 476.

(8) المصدر: ص 532.

(9) مسالك الافهام: ج 1، ص 362.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 329

الشيخين في النهاية و المقنعة مستدلّا بهذه القاعدة.

قال في كشف الرموز- بعد نقل القولين في ذلك-: «أشبههما السقوط، القول بالسقوط للشيخين في النهاية و المقنعة. و يدلّ عليه قوله عليه السّلام: «الإسلام يجبّ ما قبله». «1»

و ممّن حكم بسقوط الجزية عن الكافر الذمّي إذا أسلم قبل الأداء- سواء كان قبل الحول أم بعده هو صاحب الشرائع. و علّله في المسالك بقوله: «و وجه السقوط حينئذ أنّ الجزية لا تؤخذ من المسلم: و أنّ الإسلام يجبّ ما قبله». «2»

هل يسقط الغسل عن الكافر بعد إسلامه؟

و منها: سقوط الغسل عن الكافر بالإسلام؛ يعني سقوط وجوب ما عليه من غسل الجنابة بالإسلام. و إنّما يجب عليه في الجنابة اللاحقة عن إسلامه. هذا مقتضي ظاهر إطلاق القاعدة. و لكن يظهر من الشرائع و صاحب الجواهر وجوب الغسل عليه عن الجنابة السابقة عن إسلامه بعد ما أسلم، و علّل ذلك في الجواهر بقوله: «إذ الظاهر أنّ المراد بكونه يجبّ ما قبله إنّما هو بالنسبة إلي الخطابات التكليفية البحتة، لا فيما كان الخطاب فيها وضعيا، كما فيما نحن فيه، فإن كونه جنبا يحصل بأسبابه، فيلحقه الوصف و إن أسلم». «3»

ثمّ عمّم صاحب الجواهر في حقّ المستبصر، و إن قوّي السقوط في حقّه

إذا كان ما أتي به من الغسل علي مقتضي مذهبه موافقا لمذهبنا. «4»

أمّا وجوب الغسل علي الكافر بعد إسلامه للجنابة السابقة، فقد استدلّ له العلّامة في المنتهي «5» أوّلا: بشمول عمومات وجوب الغسل له. و فيه: أنّ

______________________________

(1) كشف الرموز: ج 1، ص 421.

(2) مسالك الافهام: ج 3، ص 73.

(3) جواهر الكلام: ج 3، ص 40.

(4) المصدر.

(5) منتهي المطلب: ج 1، ص 82.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 330

شمولها له حال الكفر لا ينافي كون إسلامه كاشفا عن سقوط كلّ ما كان عليه من التكاليف وضعية كانت أو تكليفية. و تخصيص إطلاقه بالتكليفية البحتة المحضة، كما قال في الجواهر محلّ تأمّل.

و ثانيا: بأنّه بعد إسلامه مأمور بالصلاة المشروطة بالطهارة، فيجب عليه تحصيل شرط صحّتها.

و قد يشكل بأنّ الإسلام كيف طهّره عن الشرك الّذي هو أعظم القذارات المعنوية و طهّره عن جميع نجاساته الظاهرية الناشئة عن كفره، فكذلك قذراته المعنوية الثابتة له بالجنابة.

و يمكن ردّ هذا الإشكال بأنّ قذارة الشرك- معنوية كانت أو ظاهرية بنجاسة عرق بدنه- إنّما هي ناشئة من الشرك و لا يقاس ذلك بالقذارة الناشئة من الجنابة، فهي كالنجاسة الناشئة من البول و الغائط، فكيف لا ترتفع نجاستهما بإسلامه؟ فكذلك القذارة الناشئة من جنابته.

فالحقّ في المقام مع العلّامة و صاحب الجواهر.

فالأقوي وجوب الغسل علي الكافر عن جنابته السابقة عن كفره بعد ما أسلم؛ تحصيلا لشرط صحّة الصلاة من الطهارة عن حدث تلك الجنابة الباقية.

سقوط قضاء الصلاة عن الكافر بعد إسلامه

منها: سقوط القضاء عن الكافر المنتحل إلي الإسلام؛ حيث اشترطوا في وجوب القضاء شرائط، منها الإسلام. و قال المحقّق الكركي في شرح متن الألفية للشهيد: «لأنّ الكافر الأصلي لا قضاء عليه؛ إذ الإسلام يجبّ ما قبله، إلّا

إذا أسلم آخر الوقت بحيث يدرك قدر الطهارة و ركعة». «1»

______________________________

(1) رسائل المحقّق الكركي: ج 3، ص 348.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 331

و قال المحقّق الأردبيلي: «لا خلاف عندهم علي الظاهر في سقوط القضاء و ساير الأحكام عن الكافر الأصلي؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله». «1»

و كذا علّل بهذه القاعدة سقوط قضاء الصوم، ثمّ قال: «و لعلّ المراد أنّ الإسلام عن الكفر الأصلي مسقط للقضاء، لا أنّه لا يجب علي الكافر حال كفره، فإن الظاهر أنّه مكلّف بالفروع كلّها، إلّا أنّ الإسلام يسقطها». «2»

و قد جاء التعليل بهذه القاعدة لذلك في كلمات أكثر الفقهاء الفحول لا حاجة إلي نقلها.

سقوط قضاء الحجّ عن الكافر بعد إسلامه

و منها: سقوط قضاء الحجّ عن الكافر بعد إسلامه إذا لم يستمر استطاعته الثابتة له حال كفره. كما قال في الجواهر: «نعم لو أسلم وجب عليه الإتيان به إذا استمرّت الاستطاعة، و إلّا لم يجب أيضا، و إن فرض مضيّ أعوام عليه مستطيعا في الكفر؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله. لكن في المدارك يجب عليه ذلك في أظهر الوجهين. ثمّ قال: و اعتبر العلّامة في التذكرة في وجوب الحجّ استمرار الاستطاعة إلي زمان الإسلام، و هو غير واضح. قلت: بل الوجوب غير واضح، ضرورة كونه كالقضاء الّذي يثبت عليه بفوات الفريضة، فإنّه بالإسلام أيضا يسقط عنه، فكذلك وجوب الحجّ، و مرجعه إلي الخطاب به حال كفره علي وجه يتحقّق به العقاب لو مات عليه، أمّا لو أسلم سقط عنه، لما عرفته من جبّ الإسلام ما قبله، فإنّه قد كان في حال أعظم من ذلك، فإذا غفر اللّه له غفر له ما دونه، و من ذلك يعلم أنّه لو فقد الاستطاعة قبل الإسلام

أو بعده قبل وقته و مات قبل عودها لم يقض عنه». «3»

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: ج 3، ص 203.

(2) المصدر: ج 5، ص 253.

(3) جواهر الكلام: ج 17، ص 301.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 332

هل يسقط ضمان ما أتلفه الكافر علي المسلم قبل إسلامه؟

و منها: سقوط ضمان ما أتلفه الكافر علي المسلم، فإنّ شيخ الطائفة أطلق سقوط الضمان عنه بعد انتحاله إلي الإسلام؛ حيث قال: «لا خلاف أنّ الحربي إذا أتلف شيئا من أموال المسلمين و نفوسهم فأسلم، فإنّه لا يضمن و لا يقاد به، و الكلام في المرتدّين». «1» و قد علّله في المسالك بهذه القاعدة.

و نظيره ما عن العلّامة؛ حيث قال: «أمّا الحربي فان أتلف في دار الإسلام ضمن، و الأقرب في دار الحرب الضمان أيضا». «2»

و فصّل ولده في ذلك بين ما إذا أتلفه الكافر علي المسلم حال الحرب، فحكم بسقوط الضمان عنه إذا لم تكن العين موجودة، و بين إتلافه في غير حال الحرب فحكم بضمانه مطلقا، في دار الحرب أو دار الإسلام، نفسا كان المتلف أو مالا؛ حيث قال في شرح كلام والده العلّامة: «أقول: المراد بالضمان بعد الإسلام.

فقال الشيخ: الحربي لا يضمن مطلقا؛ لقوله عليه السّلام: الإسلام يجبّ ما قبله. و قال المصنّف بوجوب الضمان، سواء تلف في دار الحرب أو في دار الإسلام؛ لأنه أتلف مالا معصوما ظلما فيضمن؛ لأنّ الكفّار مخاطبون باتّباع الشرائع. و الأقوي عندي أنّ الإتلاف في حال الحرب يسقط بالإسلام، سواء كان نفسا أو مالا، إذا لم تكن العين موجودة. و إن كان في غير حال الحرب، ضمن النفس و المال سواء كان في دار الحرب أو في دار الإسلام و اللّه تعالي أعلم بالصواب. «3»

و مقتضي

التحقيق سقوط الضمان عن الكافر بعد إسلامه مطلقا، سواء كان بإتلاف مال أو نفس، في دار الحرب أو غيره، في حال الحرب و غيره، كما عليه شيخ الطائفة و العلّامة و صاحب الشرائع و قوّاه في المسالك. «4» و أمّا التفصيل

______________________________

(1) المبسوط: ج 7، ص 267.

(2) قواعد الأحكام: ج 2، ص 277.

(3) إيضاح الفوائد: ج 4، ص 555.

(4) مسالك الأفهام: ج 15، ص 34.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 333

فلا يخلو من تحكّم، كما قال في المسالك «1»؛ حيث لا دليل عليه.

و أمّا شبهة كونه خلاف الامتنان بالنسبة إلي المسلم المتلف ماله و إلي أولياء دمه المسلمين، فيمكن الجواب بأنّ دين الإسلام أكثر أهمّية من أموال المسلمين و نفوسهم. و إنّ في سقوط الضمان عن الكافر بالإسلام ترغيب للكفّار و دعوة لهم إلي الإسلام و تبليغ للدين و الشريعة. و علي المسلمين الإغماض عن أموالهم و أنفسهم في سبيل ذلك، كما امروا بالجهاد في سبيل اللّه بأموالهم و أنفسهم. و هذا هو الحكمة و المصلحة في سقوط الضمان عن الكافر بعد إسلامه في مفروض الكلام.

نعم لو كانت عين المال المغصوب من المسلم موجودة بعد إسلام الكافر فلا إشكال في وجوب ردّ مال الغير إليه؛ لأنّه مكلّف بعد الإسلام بأحكامه، و منها وجوب ردّ المال المغصوب إلي صاحبه، كما ورد «الغصب كلّه مردود».

و منها: ما لو دخل رجل ذمّيّ بالمرأة و كان المهر خمرا فأقبضه إيّاها، ثمّ أسلما. فاستدلّوا بهذه القاعدة علي سقوط المهر عنه، كما قال في الجواهر:

«و لو دخل الذمّي مثلا و أسلم و كان المهر خمرا مثلا و قد أقبضه تماما إيّاها حال الكفر، لم يكن لها شي ء بلا خلاف

و لا إشكال؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله». «2»

سقوط الحدود عن الكافر بعد إسلامه

و منها: سقوط حدّ الزنا عن الكافر إذا فجر بامرأة مسلمة حال كفره فأسلم عن طوع و اختيار، دون ما إذا كان إسلامه عن كره و لأجل التخلّص عن إجراء الحدّ عند إحراز إقامة الحدّ عليه؛ لما دلّ عليه إطلاق موثّق حنان بن سدير و خبر جعفر بالخصوص. «3»

______________________________

(1) مسالك الأفهام: ج 15 ص 34.

(2) الجواهر: ج 30، ص 78.

(3) وسائل الشيعة: ج 5 ب 36، من حد الزناء، ح 1 و 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 2، ص: 334

قال في الجواهر بعد نقل الخبر المزبور: «قلت قد يقال: إنّ ظاهر الخبر المزبور عدم سقوط القتل عنه بالإسلام عند إرادة إقامة الحدّ عليه، كما هو مقتضي الاستدل ال بالآية الكريمة، بل لعلّه ظاهر في خصوص إرادة التخلّص، و إطلاق الموثّق السابق ظاهر أو منزّل علي غير الفرض.

أمّا إذا لم يكن كذلك؛ بأن أسلم بعد أن كان ممتنعا عن ذلك علي وجه يظهر كونه حقيقة، فقد يقال بسقوط الحدّ عنه، كما احتمله في كشف اللثام؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله». «1»

و منها: ما إذا سبّ الكافر النبيّ حال كفره ثمّ أسلم فتوقّف صاحب الجواهر في جواز قتله مستدلّا بهذه القاعدة؛ حيث قال: «نعم قد يتوقّف في قتل الكافر السابّ إذا أسلم؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله». «2»

هذه نماذج من كلمات الأصحاب في الاستشهاد بنصّ هذه القاعدة في مختلف الفروع. و موارد استدلالهم بهذه القاعدة في شتّي الفروع الفقهية أكثر من أن تحصي. و نكتفي بذكر هذا المقدار؛ إذ ليس المقام محلّ البسط و التفصيل في الفروع الفقهية.

و قد تمّ بفضل اللّه تعالي في غرّة شهر جمادي

الاولي بسنة 1426 ه ق.

العبد الخجلان من ساحة ربّه الغفّار علي أكبر السيفي المازندراني، راجيا منه تعالي رحمته و رضوانه، و من العلماء الكرام العفو عن الزلّات.

______________________________

(1) الجواهر: ج 41، ص 314.

(2) المصدر: ص 439.

الجزء الثالث

اشارة

مباني

الفقه الفعّال

في القواعد الفقهية الأساسية

التي يدور مدارها رحي الاجتهاد

القسم الثالث من القواعد العامة

الجزءُ الثالث للشيخ علي أكبر السيفي المازندراني

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 2

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

تقديم:

اشارة

الحمد لِلّهِ ربّ العالمين. أَحمَدُه استتماماً لنعمته، و استسلاماً لعزّته، و استعصاماً من معصيته. و أَستعينه فاقةً إلي كفايته.

و الصَّلٰاة عليٰ محمّدٍ عبده و رسوله المصطفيٰ، أرسله بالهديٰ و دين الحق، و جعله بلاغاً لرسالته، و كرامةً لأُمَّته، و أنزل عليه القرآن نوراً لا تطفَأُ مصابيحهُ، و بحراً لا يُدرَك قعره، و منهاجاً لا يضلّ نهجه، و فرقاناً لا يخمد برهانه.

و السَّلام عليٰ آله المعصومين المكرَّمين الذين هم معادن الايمان و بحبوحاتُه، و ينابيع العلم، و أساس الدين، و عماد اليقين.

و نسألُ اللّٰهَ سبحانه أن يُوَفّقنا لمعرفتهم و طاعتهم، و نشر علومهم و معارفهم، و يرزقنا شفاعتهم يوم نأتيه فرداً.

أما بعد فينبغي قبل الورود في البحث عن القواعد العامة- المبحوث عنها في هذا الجزءِ من «مباني الفقه الفعّال» - تمهيد مقدّمة، و هي تحقيق في تبيين ماهية الحكم الوضعي و أقسامه و الفرق بينه و بين الحكم التكليفي و إعطاء الضابطة في ذلك؛ نظراً إلي شدّة مساس كثير من المسائل الآتية و ارتباطها بذلك.

و إنّا و إن بحثنا عن ذلك في الجزء الأوّل من كتابنا «بدائع البحوث»، و لكن مع ذلك لا يزال زوايا من هذا المبحث بحاجة إلي تحقيق و توضيح أكثر مما بيّناه هناك. و من هنا رأينا الأنسب أن نبحث عن ذلك في طليعة هذا الكتاب بعنوان المقدمة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 3

تحقيق في الحكم الوضعي و أقسامه

اشارة

1- إعطاء الضابطة في تعريف العناوين المصطلحة.

2- تحرير كلام المحقق الخراساني.

3- تعريف الشهيد الأوّل و نقده.

4- كلام المحقق النائيني في تعريف الحكم الوضعي و نقده.

5- تعريف الشهيد الصدر و نقده.

6- كلام السيد الامام قدس سره نقده.

7- مقتضي التحقيق في تعريف الحكم الوضعي.

إعطاء الضابطة في تعريف العناوين المصطلحة

ينبغي قبل الورود في تحقيق المقام التنبيه علي أمرٍ، و هو أنّ تعريف أيّ عنوان مصطلح اصولي أو فقهي يبتني علي ما جري عليه اصطلاح القوم و ما هو المتداول بينهم في إطلاق ذلك العنوان علي موارده. فينبغي ملاحظة خصوصيات مجموع موارد إطلاق ذلك العنوان في اصطلاح الاصول و الفقه، ثمّ أخذ الجامع المشترك بين تلك الموارد، ثمّ تعريف ذلك العنوان مع ملاحظة ذلك الجامع المشترك.

و عليه ففي تعريف الحكم الوضعي لا بدّ من ملاحظة الخصوصية الجامعة المشتركة بين موارد إطلاق الحكم الوضعي في تعابير الفقهاء و الاصوليون؛

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 4

ليكون جامعاً شاملًا لأنحاء الحكم الوضعي، و لئلّا يدخل في التعريف ما لم يعدّه القوم من الحكم- فضلًا عن الحكم الوضعي- و أن لا يدخل فيه الحكم التكليفي.

و يمكن استفادة هذه الضابطة في خصوص المقام من كلام المحقق الخراساني؛ حيث إنّه جعل المعيار في تعريف الحكم الوضعي و صدقه، إطلاق لفظ الحكم عليه في تعابير الفقهاء و الاصوليين.

فانه بعد نفي النزاع في صحة تقسيم الحكم إلي الوضعي و التكليفي، استشهد لذلك باطلاق الحكم علي الوضعي في كلمات القوم؛ حيث قال: «و يشهد به كثرةُ إطلاق الحكم عليه في كلماتهم. و الالتزام بالتجوّز فيه كما تري» «1». و لأجل ذلك لم ير وقعاً للنزاع في كون الحكم الوضعي محصوراً أو غير محصور و لا وجهاً للاختلاف في تعداد

الحكم الوضعي. و لا يخفي أنّه لا يستفاد من كلامه تعريف جامع للحكم الوضعي.

تحرير كلام المحقق الخراساني

و ينبغي لتحقيق مرام المحقق الخراساني و بيان لبّ مراده و حاصل مقصوده، تلخيص كلامه «2» في عدّة نكات.

1- لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم إلي التكليفي و الوضعي؛ نظراً إلي صحة إطلاق الحكم علي الوضعي بملاحظة بعض معاني الحكم، و لكثرة إطلاق لفظ الحكم عليه في كلمات الأصحاب.

و من هنا لا وقع للنزاع في تعداده و أنّه محصور أو غير محصور، بعد تبيُّن الملاك في صدقه.

______________________________

(1) كفاية الاصول: ج 2، ص 302.

(2) المصدر: ص 308- 301.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 5

و إنّما ينبغي النزاع في كون الحكم الوضعي مجعولًا تشريعياً مستقلًا باستفادته من الخطاب الشرعي؟ أو لا، بل مجعول تبعيّ بانتزاعه من الحكم التكليفي.

2- ينقسم الحكم الوضعي إلي ثلاثة أقسام:

أحدها: ما ليس مجعولًا بالجعل التشريعي أصلًا- لا تبعاً و لا مستقلًا-، بل مجعول بالجعل التكويني عَرَضاً بايجاد معروضه، كالسببية و الشرطية و المانعية الثابتة لذوات السبب و الشرط و المانع قبل التكليف بها.

ثانيها: ما كان مجعولًا شرعياً بتبع التكليف بمناشئ انتزاعه، كالجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية للمأمور به بعد تعلق التكليف بمناشئ انتزاعه.

ثالثها: ما كان مجعولًا مستقلًا باستفادته من الخطاب الشرعي المتضمّن لانشائه و جعله، و يكون التكليف من آثاره و أحكامه، كالحجية و القضاوة و الولاية و النيابة و الحرية و الرقية و الزوجية و الملكية و غير ذلك؛ حيث لا يتوقف اعتبارها علي ملاحظة التكليف المستفاد من الخطاب، و إن أمكن انتزاعها من التكليف.

3- وهم و دفعٌ:

أما الوهم، فحاصله: أنّ الملكية ليس بحذائها شي ء في الخارج، بل هي من مقولة الجدة

التي هي الحالة الطارئة علي الانسان كالتعمّم و التقمّص و التنعُّل، و ليس حصولها بسبب إنشاء عقد، فكيف يمكن جعلها و اعتبارها مستقلًا بمجرد إنشائه؟

أما الدفع، فتحريره: أنّ لفظ الملك مشترك بين المعني المذكور و بين اختصاص شي ءٍ بشي ءٍ؛ إما لاستناد وجوده إلي الشي ءِ المتخصّص كالعالم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 6

للباري تعالي، و إما لاختصاص استعماله و تصرّفه فيه كالفرس و الثوب لزيد مثلًا، و إمّا لانشاء اختصاصه به بعقد من العقود. و هذا المعني الأخير يكون مجعولًا شرعياً مستقلًا بانشائه في الخطاب، و لا إشكال في وجود ما بحذاءٍ للملكية بهذا المعني في الخارج.

و أنت تري أنّ صاحب الكفاية لم يَنفِ مطلقاً كون الشرطية و المانعية و نحوها مجعولًا شرعياً، بل إنّما نفي ذلك عن ذات الشرط و المانع و القاطع قبل جعل التكليف، و أما بعد التكليف، فقد صرّح بكونها مجعولات شرعية بتبع التكليف بمناشئ انتزاعها.

و من هنا لا يرد عليه بعض ما اورد عليه من الاشكالات. و سيتضح ذلك في خلال المطالب الآتية.

و يمكن أن يستفاد من الفقرة الاولي من كلامه أنّ ما صحّ إطلاق الحكم عليه و لم يكن حكماً تكليفياً، فهو حكم وضعي. و هذا التحديد للحكم الوضعي إنّما يستفاد من هذه الفقرة من كلامه تلويحاً، و إلّا ليست جملة في خلال كلامه في المقام تدل علي تعريف الحكم الوضعي بالمطابقة، كما سيأتي من بعض الأعلام.

إذا عرفت ذلك فنقول:

قد عُرِّف الحكم الوضعي بتعاريف، أهمّها أربعة:

تعريف الشهيد الأوّل و نقده

أحدها: تعريف الشهيد الأوّل بقوله: «و الوضع هو الحكم علي الشي ءِ بكونه سبباً أو شرطاً أو مانعاً» «1».

______________________________

(1) القواعد و الفوائد: ج 1، ص 39.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية،

ج 3، ص: 7

و فيه: أنّ هذا التعريف غير جامع؛ ضرورة عدم شموله لكثير من الوضعيات التي عدّها القوم من الأحكام الوضعية، كالزوجية و الملكية و الطهارة و النجاسة و الصحة و البطلان و … فانّهم أطلقوا لفظ الحكم علي هذه العناوين و نحوها كثيراً.

كلام المحقق النائيني في تعريف الحكم الوضعي و نقده

ثانيها: ما عرّفه المحقق النائيني بقوله:

«و أما الأحكام الوضعية: فهي من المجعولات الشرعية التي لا تتضمّن البعث و الزجر و لا تتعلّق بالأفعال ابتداءً أوّلًا و بالذات، و إن كان لها نحو تعلّق به و لو باعتبار ما يستتبعها من الأحكام التكليفية، سواء تعلّق الجعل الشرعي بها ابتداءً تأسيساً أو إمضاءً، أو تعلّق الجعل الشرعي بمنشإ انتزاعها» «1».

و هذا التعريف يفيد أخذ عدّة عناصر في تعريف الحكم الوضعي و تعيين ماهيته.

1- كونه من المجعولات الشرعية، سواءٌ تعلّق الجعل به تأسيساً أو إمضاءً، و سواءٌ تعلق الجعل به مستقلًاّ أو بجعل منشأ انتزاعه.

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 4، ص 384.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 8

2- عدم كونه متضمّناً للبعث و الزّجر.

3- عدم تعلّقه بأفعال المكلّفين ابتداءً و أوّلًا و بالذات.

4- تعلّقه بالأفعال ثانياً و بالعرض، باعتبار ما يستتبعها من الأحكام التكليفية.

و لكن يرد عليه: أنّ الحكم الوضعي لا يختص بالمجعولات الشرعية؛ لارتكازه و اعتباره بين العقلاء أيضاً؛ فانّ الشرطية و الملكية و الزوجية و السببية مما يعتبره العقلاءُ فيما بينهم و يرتبون عليها آثارها المترقبة مع قطع النظر عن الشرع.

تعريف الشهيد الصدر و نقده

ثالثها: ما عرّفه الشهيد الصدر بأنّه: «كل حكم يشرّع وضعاً معيّناً يكون له تأثير غير مباشر علي سلوك الانسان …» «1».

و يرد عليه: أنّ هذا التعريف إنّما ينطبق علي مثل الزوجية و الملكية و السببية و الشرطية في المعاملات و الجزائيات مما له ارتباط بسلوك الانسان في المجتمع. و لا ينطبق علي الشرطية و المانعية و نحوها ممّا لا تأثير ملموس له في سلوك الانسان، إلّا بضرب من التأويل، كالجزئية و الشرطية و المانعية في أجزاء و شرائط و موانع العبادات التوقيفية، كالتطهير

من الحدث، و الصوم، و الصلاة و نحو ذلك مما لا مساس له بسلوك الانسان و تعامله مع المجتمع. و عليه فالتعريف المزبور ليس بجامع لجميع أقسام الحكم الوضعي و أفراده.

هذا مضافاً إلي أنّه لا ريب في تأثير بعض الأحكام الستر و النظر و حجاب المرأة و أحكام التقية و لا سيما المداراتية منها.

و من هنا تري عدّةً من الدُّوَل الكافرة قد منعوا الحجاب و أخرجوا النساء المسلمات من الدوائر الحكومية و مراكزهم الثقافية و السياسية و ضيّقوا عليهنّ، و ليس ذلك إلّا لأجل تأثير أحكام الحجاب التكليفية في سلوكهن مع المجتمع الذي يَعِشْنَ فيه. كما تشاهدون أنّ العمل بالأحكام التكليفية المشروعة

______________________________

(1) المجموعة الكاملة: ج 3، ص 105- 106.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 9

في التقية، أيّ تأثير عظيم في إطفاءِ نار الفتنة و الاختلاف بين المسلمين.

و عليه فليس التعريف المزبور مانعاً.

مضافاً إلي عدم كون هذا التعريف مانعاً عن الحكم التكليفي المتضمّن للبعث و الزجر، المتعلّق بالأفعال، إلّا بقوله: «وضعاً معيناً». و هذا أشبه بمصادرة المطلوب؛ حيث اخذ لفظ المعرَّف في التعريف.

هذا كله إذا كان مقصوده سلوك المكلّف مع الآخرين، من ساير أفراد المجتمع.

و إلّا فلو كان مراده السلوك بالمعني العام الشامل للسلوك الفردي و الأعمّ من التأثير المادّي و المعنوي، لا فرق بين الحكم الوضعي و التكليفي كما تري. و تقييد التأثير في كلامه بغير مباشر لا ينفع في الفرق.

كلام السيد الامام قدس سره

رابعها: ما جاءَ في كلام السيد الامام الراحل «1». و ينبغي تنقيح كلامه؛ لما فيه من نكات نافعة في بيان ماهية الحكم الوضعي و أقسامه و سعة نطاق الوضعيات. و ستعرف أنّ صدر كلامه يوهم إدخال مطلق الوضعيات في الحكم الوضعي،

رغماً لما جاء في ذيل كلامه.

و حاصله: يتلخّص في امورٍ:

1- إنّه يشترك الحكم التكليفي و الوضعي بالاشتراك المعنوي؛ نظراً إلي وجود الجامع بينهما، و هو أصل الحكم و ماهيته.

و عرّف الحكم بكلّ مقرَّر و قانون عرفي أو شرعي نافذ في المجتمع ممّن له

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 114- 121.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 10

أهلية التقنين، تكليفاً كان أو وضعاً؛ حيث قال: «كلّ مقرَّر و قانون من مقنِّن نافذٍ في المجتمع يطلق عليه الحكم- إلي أن قال- و بالجملة: كلُّ مقرر و قانون عرفي أو شرعي ممن له أهلية التقرير و التقنين حكم؛ تكليفاً كان أو وضعاً، و لا يخرج المقررات الشرعية أو العرفية من واحد منهما و لا ثالث لهما» «1».

2- تعريف الحكم صادق علي الرسالة و الخلافة و الامامة و الحكومة و الامارة و القضاوة؛ نظراً إلي تعلّق الوضع و الجعل بهذه العناوين، كما دلّ عليه قوله تعالي: «وَ كُلًّا جَعَلْنٰا نَبِيًّا» «2» و «إِنِّي جٰاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «3» و «إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً» «4» و قوله تعالي: «وَ جَعَلْنٰا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ» «5» و قوله عليه السلام:

فانّي قد جعلته عليكم حاكماً» «6».

3- يصدق تعريف الحكم علي الماهيات المخترعة بعد ما تعلّق الجعل بها، فلا وجه لاستيحاش المحقق النائيني عن صدق الحكم عليها مع اعترافه بكون العناوين المخترعة انتزاعية. و ذلك لصدق أنّها من المقرّرات الشرعية.

ثمّ قال السيد الامام في ختام هذه الفقرة من كلامه ما لفظه:

«و كذا لا مانع من جعل الماهيات الاختراعية من الأحكام الوضعية؛ أي من المقررات الشرعية و الوضعيات الالهية. نعم إطلاق الحكم عليها- كإطلاقه علي كثير من الوضعيات- يحتاج إلي التأويل.

______________________________

(1) الرسائل: ج 1،

ص 114.

(2) مريم: 49.

(3) سورة البقرة: الآية 28.

(4) البقرة: الآية 118.

(5) الحديد: 26 و العنكبوت: 27.

(6) وسائل الشيعة: ب 11، من أبواب صفات القاضي، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 11

نعم نفس الصلاة و الصوم، كنفس الفاتحة و الركوع و السجود، مع قطع النظر عن تعلّق الأمر بهما و صيرورتهما من المقررات الشرعية، لا تُعدّان من الأحكام الوضعية و لا من الماهيات المخترعة.

فالتحقيق: أنّ جميع المقررات الشرعية تنقسم إلي الوضع و التكليف و لا ثالث لهما، نعم صدق الحكم علي بعضها أوضح من صدقه علي الآخر، بل في بعضها غير صادق، لكن كلامنا ليس في صدق الحكم و عدمه، بل في مطلق الوضعيات، صدق عليها أولًا» «1».

4- الامور الانتزاعية كالجزئية و الشرطية و المانعية و السببية قابلة للجعل مستقلًا، من دون تبعية لجعل مناشئ انتزاعها بالايجاد التكويني، كما يظهر من المحقق النائيني. و ذلك لشهادة الوجدان بامكان ذلك في الاعتباريات، فلا يقاس بالتكوينيات، كما التبس الأمر علي هذا العَلَم.

5- تعريف الحكم الوضعي بكل مقرّر شرعي ما عدا الحكم التكليفي، حتي أنّ الاباحة لو كان لها جعلُ، تكون من الوضعيات.

6- تقسيم الحكم الوضعي إلي:

الف- ما كان منتزعاً من نفس التكليف، كالجزئية و الشرطية و المانعية المنتزعة من التكليف بالصلاة التامة.

«ب» - ما كان مجعولًا شرعياً بتبع اشتراط التكليف به، كالاستطاعة المشروط بها وجوب الحج.

«ج» - ما كان مجعولًا ابتداءً، بلا واسطة تكوينية أو تشريعية، كالنبوّة و الخلافة و الامامة و السببية و الشرطية و المانعية و القاطعية.

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 115.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 12

«د» - ما كان مجعولًا عقيب شي ءٍ اعتباري أو تكويني، كضمان اليد

و الاتلاف المترتب علي الاستيلاءِ العدواني علي مال الغير و إتلافه و حق السبق و التحجير المترتب علي نفس فعل السبق و التحجير. و الملكية المترتبة علي الاحياء و الحيازة و الحدود الشرعية و أحكام القصاص و الديات.

و لا يخفي أنّ هذه الأمثلة كلّها من قبيل الحكم الوضعي المجعول عقيب الأمر التكويني.

و أما المجعول منه عقيب الأمر الاعتباري، فيمكن التمثيل له بصحة البيع المجعولة عقيب ملكية المبيع للمالك، كما يستفاد من قوله: «لا بيع إلّا في الملك»، أو صحة تصرّفات الصبي عقيب بلوغه الشرعي.

«ه» - ما كان مجعولًا عقيب أمر تشريعي من الأسباب الشرعية المعاملية، كالضمان و شغل الذمة عقيب عقد الضمان، و من ذلك الضمان المعاملي الحادث عقيب العقود و الايقاعات.

7- ما لا يقبل الجعل خارج عن الأحكام الوضعية.

فانّه قدس سره قال في ردّ المحقق الخراساني:

«فانه مع تسليم عدم تطرق الجعل التشريعي مطلقاً إلي شي ءٍ لا وجه لعده من الأحكام الوضعية، فان الاحكام الوضعية أي الأحكام الجعلية و المقررات الشرعية، فلا معني لعدّ ما لا يتطرّق إليه الجعل منها» «1».

8- عدم كون الحجية و الطريقية و الكاشفية من الوضعيات، فليست من الأحكام الوضعية؛ حيث قال قدس سره:

«كما أنّ عدّ بعضهم الكاشفية و الطريقة و الحجية و أمثال ذلك من

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 120.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 13

الوضعيات في غير محلّه، فان الحجية سواء كانت بمعني منجزية التكليف أو بمعني قاطعية العذر ليست من المجعولات، كما أنّ الطريقية و الكاشفية للكاشف و الطريق ليستا بمجعولتين، كما مر ذكره في محلّه» «1».

نقد كلام

السيد الامام قدس سره

و لكن يرد علي السيد الامام قدس سره:

أولًا: أنّ مثل النبوة و الخلافة و الامامة

و الإمارة ليس من قبيل الحكم، بل من قبيل المنصب. و الشاهد لذلك انسباق معني المنصب إلي الذهن من إطلاق هذه العناوين، دون الحكم. نعم القضاوة بمعناها المصدري بنفسها حكم إنشائي، لكن لا ربط له بالمقام.

إن قلت: هذا بحسب العرف العام، لا بحسب العرف الخاص، الذي يدور مداره تعيين المعني الاصطلاحي، فالمعيار جريان اصطلاح الفقهاء عليه.

قلت: إطلاق لفظ الحكم علي مثل هذه العناوين لم يُعهد من الفقهاء أيضاً. و مجرد تعلق الجعل لا يدل علي كون المجعول من الأحكام، فان المناصب كلها مجعولات، و لكنها لم تُعرف بأحكام في اصطلاح الفقهاء. بل إنّما يتفرّع الحكم علي المنصب، كما دلّ عليه قوله تعالي: «يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ» «2»؛ حيث يستفاد من هذه الآية تفريع جواز الحكم بين الناس و نفوذه علي جعل منصب الخلافة.

هذا مع أنّ الحكم الوضعي يعتبر فيه كونه خصوصية انتزاعية مأخوذة في متعلّق حكم تكليفي أو موضوعه، أو يُعتبر سبباً و منشأً لترتب الآثار و

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 121.

(2) ص: 26.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 14

الأحكام عليه. و ليست العناوين المزبورة من هذا القبيل، بل إنّما هي عناوين مستقلّة لنفس المنصب، من دون أن تؤخذ في موضوع أو متعلّق حكم تكليفي أو سبباً له.

اللهم إلّا أن يقال: إنّها أيضاً اخذت موضوعاً أو منشأ لوجوب الطاعة و ترتّب آثار الحكم الانشائي و الفتوائي، و عليه فالفقاهة أيضاً تكون من الأحكام الوضعية؛ لأخذها موضوعاً لوجوب التقليد، كما دلّ عليه قوله: «و أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه … فللعوام أن يقلّدوه …» «1».

و لكن مع ذلك كله كون هذه العناوين

من قبيل الأحكام بعيد عن الارتكاز الفقهي و غير معهود بين الفقهاء، بل هي من قبيل المناصب، و لم يُطلق عليها الحكم إلّا بضرب من التأويل، كما بيّناه.

و ثانياً: إنّ العبادات المخترعة بذواتها لم يُعهد في اصطلاح الفقهاء كونها أحكاماً، بل هي عناوين لنفس العبادات و ذوات متعلّقات الأحكام التكليفية. و سيأتي بيان وجه عدم كونها من قبيل الأحكام الوضعية.

و ثالثاً: يوجد تهافت بين صدر كلام السيد الامام و ذيله؛ حيث عقد البحث لتعميم الحكم إلي كل مقرّر و مجعول، و حاول إدخال الماهيات المخترعة في الحكم الوضعي بلحاظ كونها من المقررات الشرعية. و لكن اعترف في ذيل كلامه- في الفقرة الثالثة حَسب ترتيبنا- بعدم صدق الحكم علي الماهيات المخترعة، بل علي غيرها من بعض الوضعيات في الجملة، بل صرّح بنفي كون كلّ مجعول و مقرّر حكماً.

فهل هذا إلّا الاعتراف بعدم كون كلّ مقرّر عرفي أو شرعي من قبيل

______________________________

(1) الاحتجاج: ج 2، ص 511.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 15

الحكم؟!.

فكيف صرّح في صدر كلامه بأنّ كلَّ مقرَّر و مجعول حكمٌ؟!.

و حاصل كلامه: أنّ كلّ حكم مجعولٌ، و ليس كل مجعول حكماً. و من هنا صرّح في كلامه بأنّ ما ليس بمجعول لا يصح إطلاق الحكم عليه، كما عرفت من خلال كلامه.

و لعلّ من هذا القبيل، الأجر؛ حيث إنّ الأجر كما ليس من قبيل الحكم قطعاً؛ لعدم معهودية كونه حكماً في اصطلاح الفقهاء، كذلك ليس بمجعول؛ لوضوح أنّ الأجر مما يؤتيٰ و يُعطي، لا مما يُجعل و يوضع، كما يشهد لذلك قوله: «يُؤْتِكُمُ اللّٰهُ أَجْراً حَسَناً» و قوله: «فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» «1». فلا تري في آية من القرآن استعمال لفظ الجعل في مورد

الأجر. و هذا شاهد علي عدم تعلق الجعل بالأجر.

و السرّ فيه أنّ الأجر من الواقعيات الخارجية، لا من الاعتباريات. نعم مقدار الأجر الموعود علي كثير من الفرائض و المندوبات مجعول، لكنه خارج عن حدّ الحكم و تعريفه، كما هو واضحٌ.

و رابعاً: إنّ تعريفه الحكم الوضعي بكل مقرّر شرعي ما عدا الحكم التكليفي ليس مانعاً؛ نظراً إلي نقضه بموارد عديدة كالمناصب الشرعية و الماهيات المخترعة و الاجور المقدّرة بما لها من المقادير الموعودة علي الفرائض و المندوبات، و غيرها، فانّها من المجعولات الشرعية لكن لم يُعهد في اصطلاح الفقهاء كونها من قبيل الأحكام.

و خامساً: إنّ الاباحة و إن ليست من قبيل التكليف، لكنها لمّا تتعلّق- علي أيّ حال- بفعل المكلّف، و لو علي نحو الترخيص في الفعل و الترك، الحقت

______________________________

(1) الفتح: 10 و 16.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 16

بالأحكام التكليفية؛ نظراً إلي اشتراكها مع ساير الأحكام التكليفية في تعلّقها بالفعل ابتداءً و أولًا و بالذات. و لأنّه لا يفيد الحكم الوضعي بعثاً أو زجراً و لا رخصةً في الفعل و الترك.

و سادساً: إنّه قدس سره جَمعَ بين كون الشرطية و المانعية مجعولًا تبعياً انتزاعياً و بين جعلهما مستقلًا، بل ابتداءً بلا واسطة تكوينية و لا تشريعية و هذا تهافت. «1» اللّهم إلّا أن يكون مقصوده أنّ المجعول التبعي هو الشرطية و المانعية للمأمور به و لكن المجعول الاستقلالي هو اعتبار هذه العناوين لذات الشرط و المانع قبل التكليف لكنه قدس سره لم يبين مراده منه.

و سابعاً: إنّ الحدود- علي فرض كونها من قبيل الأحكام الوضعية- إنّما هي منتزعة من الوجوب المستفاد من الأمر بمناشئ انتزاعها. فان قوله:

«السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما» كما

يفيد وجوب قطع اليد بدلالة الأمر المتعلّق به، كذلك يفيد منه كون قطع اليد- بما له من الخصوصيات و القيود- عقاباً و جزاءً خاصاً معيناً محدوداً بحدٍّ و خصوصية، فانتُزِع من هذا الجزاءِ المعين المحدود عنوان الحد.

و عليه فالحد عقوبة و مجازاة معيّنة محدودة منتزعة من الأمر التكليفي باتيان منشأ انتزاعه بسبب معصية و جناية خاصّة. و لا يخفي أنّ سببية الجناية لوجوب الحد أيضاً حكمٌ وضعي آخر غير نفس الحد.

و حاصل الكلام: أنّ فعل القطع و الجلد و الرجم بنفسه ليس من الحدود، بل الذي اعتبر حدّاً إنّما هو عقوبة مخصوصة معيّنة منتزعة من متعلق الأمر، الذي هو نفس الفعل الخارجي و منشأ انتزاعه.

______________________________

(1) راجع إلي حرف «الف» و «ب» من الرقم السادس من فقرات مخلّص كلامه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 17

و ثامناً: إنّ الحجية الثابتة للأمارات لا ريب في أنّها معتبرة باعتبار الشارع.

فان الظنون بما لها من الكشف الناقض عن الواقع وجداناً، ما دام لم يعتبرها الشارع حجة و لم يجعلها دليلًا علي الحكم الواقعي، لا تكون منجّزةً و لا معذّرةً، كما هو واضحٌ. و كذا طريقيّتها التامة تكون مجعولة بهذا المنوال. و هذا هو المراد من تتميم الكشف؛ بمعني أنّ الشارع قد حكم بكونها طريقاً تامّاً تعبّداً بعد ما كانت لها طريقية ناقصة وجداناً. فلا يصح ما جاءَ في الفقرة الأخيرة من كلام السيد الامام الراحل من عدم كون الحجية و الطريقية و الكاشفية من المجعولات.

نعم، الحجية للقطع ليست بمجعولة؛ لأنّها ذاتية للقطع، كما أنّ كاشفيته و طريقيته إلي الواقع أيضاً من ذاتياته و لا تنالهما يد الجعل، كما أنّ الكاشفية و الطريقية الناقصة لذات الظن الثابتة له

وجداناً غير قابلة للجعل، و لكن تتميم كاشفيته بجعله منزلة الكاشف التام- و هو القطع- تعبّداً و جعله حجّة، بمكان من الامكان. و من هنا قلنا إنّ الحجية للظنون من المجعولات. و من أجل ذلك اشتهر التعبير عن الأمارات بالظنون المعتبرة؛ أي التي اعتبر الشارع لها الحجية و قرَّرها أدلّة علي الأحكام. نعم لا ريب أنّها ليست من قبيل الأحكام، إلّا أنّها من المجعولات الشرعية.

مقتضي التحقيق في تعريف الحكم الوضعي

و الذي يقتضيه التأمل و التحقيق فيما جري عليه اصطلاح القوم أنّ الحكم الوضعي كلُّ قانون مقرَّرٍ عرفي أو شرعي منتزع من قيد مأخوذ في متعلّق حكم تكليفي أو موضوعه، أو في الأسباب الشرعية للنقل من عناوين المعاملات باعتبار سببٍ أو شرطٍ أو مانع، و نحو ذلك مما له دخلٌ في ثبوت الحكم و ترتيب الآثار الشرعية عليه،

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 18

تأسيساً أو إمضاءً. و لا يفيد بنفسه بعثاً أو زجراً و لا رخصةً في الفعل أو الترك.

و لا يتعلّق بأفعال المكلّفين أوّلًا و بالذات، و إن يفيد ذلك ثانياً و بالعرض بواسطة ما يستتبعه من الأحكام التكليفية. كالشرطية و المانعية و الضمانات و الصحة و الفساد و الملكية و الزوجية و الطهارة و النجاسة و نحوها.

و يتفرّع علي هذا التعريف:

أوّلًا: أنّ الوضعيات المجعولة التي لم تُعتبر قانوناً و لا تُعدّ من المقررات خارجةٌ عن تعريف الحكم، فضلًا عن كونها من الأحكام الوضعية، كالنبوّة و الخلافة و الامامة و القضاوة و الحكومة و الفقاهة، فانّ مثل هذه العناوين لم يعتبرها الفقهاء، بل العرف من القوانين و المقرّرات، بل إنّما اعتُبرت من المناصب، بخلاف مثل الملكية و الزوجية و الشرطية و المانعية، بل الجزئية و السببية

الاعتبارية. نعم الشرطية و المانعية و الجزئية و السببية التكوينية ليست من القوانين و المقرّرات الشرعية و العقلائية، و إن تكون من القوانين التكوينية، لكنها خارجة عن محل الكلام.

فالفرق بين المناصب و بين مثل الملكية و الزوجية، أنّ الملكيّة و الزوجية تُعتبر من القوانين و المقرّرات، بخلاف المناصب؛ فانّها لا تُعتبر من القوانين المقرّرة للعمل، و إن يمكن أن يقال بأخذها موضوعاً للحكم التكليفي، و هو وجوب الطاعة؛ حيث يجب طاعة النبي صلي الله عليه و آله و الامام عليه السلام. فالنبوة و الامامة مأخوذتان في موضوع وجوب الطاعة.

و من المظنون قويّاً أنّ هذا الفارق الأساسي هو السرّ في عدم إطلاق الحكم علي المناصب في تعابير الفقهاء.

بيان ذلك: أنّ الحكم إنّما وصف بالوضعي بلحاظ تضمّنه وضعاً معيّناً

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 19

لمتعلّق الحكم التكليفي أو موضوعه أو وضع الامتثال أو الأسباب الشرعية المعاملية.

و ذلك إمّا بوقوعه وصفاً لمتعلّق التكليف أو للاسباب الشرعية المعاملية بلحاظ آثارها، كالصحة و البطلان، لأنّهما وصفان للمأمور به- من الوضوء و الغسل و الصلاة،- بلحاظ الآثار، و كذا صحة البيع و الاجارة و نحو ذلك من الأسباب الناقلة الشرعية المعاملية.

و إمّا بوقوعه وصفاً لموضوع الحكم التكليفي كالطهارة و النجاسة، فانّهما وصفان و حالتان للماء الذي هو من متعلّقات متعلّق الحكم؛ حيث يُتوضّأ و يُغتسل بالماء. و كالملكية التي هي وضعٌ معينٌ بين المالك و ماله منتزعةً من كيفية تعامله و تصرفه في ذلك المال.

و إمّا بوقوعه وصفاً للأمارات و الحجج الشرعية، كالحجية و الطريقية و الكاشفية، فانّ هذه الاوصاف المذكورة أحكام وضعية تقع أوصافاً للحجج و الأمارات الشرعية.

و إمّا بوقوعه قيداً لمتعلّق التكليف أو للأسباب الناقلة الشرعية،

كالشرطية و السببية و المانعية و الجزئية التي هي تعيّن وضعاً معيّناً للصلاة و غيرها من المأمور به المركّب الشرعي. و كذا القيود المأخوذة في الأسباب الشرعية الناقلة.

و هذا بخلاف الحكم التكليفي، فانّه إنّما يتضمّن التكليف، من البعث و الزجر الالزاميين و غيرهما.

هذا هو وجه التقسيم بالوضعي و التكليفي، إلّا أنّ خصوصية الوضعية لا تثبت كون المتصف بها حكماً؛ لأنّ للحكم ملاكاً آخر غير ما هو معيار الوضع.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 20

و هو كون المجعول من القوانين و المقرّرات المدوّنة للعمل أو المتضمّنة لما يعتبر في التكليف أو في موضوعه أو متعلّقه.

و المناصب و إن كانت من الوضعيات المجعولة- عرفاً أو شرعاً-؛ حيث إنّ النبوة تحدّد وضع موضوع وجوب الطاعة- و هو النبي صلي الله عليه و آله-، و كذا الامامة في الامام، إلّا أنّها ليست من القوانين و المقرّرات، و من هنا لا تكون من قبيل الأحكام.

و ثانياً: ما لا تأثير و لا دخل له في ترتب الأحكام التكليفية و الآثار المتوقّعة من الخصوصيات و العناوين الانتزاعية أو الاعتبارية، خارجة عن التعريف المزبور.

و ثالثاً: العناوين الذاتية المنطبقة علي الذوات الخارجية، و كذا العناوين الطبيعية المنطبقة علي أفعال المكلّفين- مما ليس من قبيل الخصوصية أو الحالة أو الصفة المنتزعة من الفعل- لا تدخل في الحكم الوضعي في اصطلاح الفقهاء، و إن كانت مجعولة، كما في الماهيات و العناوين المخترعة، كالصلاة و الصوم و الحج، بل إنّها من قبيل موضوعات الأحكام و متعلقاتها. و لا بأس بكون متعلقات الأحكام من قبيل الماهيات المخترعة.

و من هذا القبيل الأجر الموعود علي كثير من المندوبات و الفرائض و ما عُيِّن في النصوص؛ لعدم كون

أصل الأجر من المجعولات، بل من المعطيات، و علي فرض كونه من المجعولات بلحاظ مقداره المقرّر لم يؤخذ في متعلّق أو موضوع حكم تكليفي، و لا سبباً أو شرطاً أو مانعاً.

و رابعاً: ما يفيد الرخصة في الفعل و الترك كالاباحة لا يكون من الأحكام الوضعية، و إن كانت الاباحة مجعولةً غير مفيدةٍ للتكليف بالدعوة أو المنع و

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 21

الزجر.

و عليه فالحكم الوضعي إنّما يصدق علي ما كان من القوانين و المقرّرات، و من قبيل عناوين مأخوذة في موضوع الحكم أو متعلّقه، لا علي عناوين الأفعال و ذواتها، و لو كانت مجعولة، كما في الماهيات المخترعة. و من هنا لم يعدّ أحدٌ من الفقهاء الصلاة و الصوم و الحج بنفسها و ذواتها من قبيل الحكم الوضعي، إلّا بضرب من التأويل. و ذلك بلحاظ اشتمالها علي الجزئية و الشرطية و المانعية، كما أشار إليه المحقق النائيني بقوله:

«بل قيل: إنّ الماهيات المخترعة الشرعية كلّها من الأحكام الوضعية، كالصوم و الصلاة و الحج و نحو ذلك.

و قد شُنّع علي القائل بذلك بأنّ الصوم و الصلاة و الحج ليست من مقولة الحكم، فكيف تكون من الأحكام الوضعية؟. و لكن يمكن توجيهه بأنّ عدّ الماهيات المخترعة الشرعية من الأحكام الوضعية إنّما هو باعتبار كونها مركّبة من الأجزاء و الشرائط و الموانع، و حيث كانت الجزئية و الشرطية و المانعية من الأحكام الوضعية فيصحّ عدّ جملة المركّب من الأحكام الوضعية؛ و ليس مراد القائل بأنّ الماهيّات المخترعة من الأحكام الوضعية كون الصلاة مثلًا بما هي هي حكماً وضعياً، فانّ ذلك واضح الفساد، لا يرضيٰ المنصف أن ينسبه إلي من كان من أهل العلم» «1».

و لعلّ

هذا مقصود السيد الامام من تقييد كون عناوين العبادات المخترعة من قبيل الأحكام الوضعية بما بعد الوضع و الجعل، لا قبله. و لكن للمناقشة في كلامه هذا مجالًا واسعاً؛ حيث إنّ ظاهره كون العبادات المخترعة- بعد جعلها-

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 4، ص 385.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 22

بذواتها من قبيل الحكم الوضعي، من غير التأويل المذكور في كلام المحقق النائيني.

و السر في ما قلناه: أنّ فعل المكلّف حدث تكويني خارجي صادر من المكلّف و معلول إرادته تكويناً، و له وجود جزئي؛ لأنّ الوجود الخارجي مساوق الجزئية. و أما طبيعيه الكلي، فانّما ينطبق علي مصاديقه الجزئية و أفراده الخارجية بما أنّها أفعال. و من هنا لا يكون قابلًا للاعتبار بعنوان الحكم الوضعي، إلّا أن ينتزع منه خصوصية أو حالة، فتنسلخ من منشأ انتزاعها، ثمّ تُلاحظ بصورة قانون كلي فيعبّر عنه بالحكم الوضعي، كالخصوصية المنتزعة من فعل الرجم أو الجلد أو القطع؛ حيث تعتبر- بعد انسلاخها عن منشأ انتزاعها- بعنوان عقوبة معينة و مجازاة خاصة لجرم و جناية مخصوصة فتقرّر بصورة قانون كلي. فيعبّر عنه بالحكم الوضعي.

و قد اتضح بهذا البيان أنّ طبيعي فعل الرجم أو الجلد ليس حكماً وضعياً، بل إنّما الحكم الوضعي هو العنوان الانتزاعي الذي اعتُبر عقوبة خاصّة و محدوداً بالخصوصية المعيّنة، و هذا هو المقصود من الحدّ.

و لا يخفي أنّ التفكيك بين هاتين الجهتين و إن كان مشكلًا، و لكن ليس المراد قطعاً من كون الحدّ حكماً وضعياً، كون طبيعي فعل الرجم و الجلد و القتل و نحوه بنفسه حكماً وضعياً كما هو واضح؛ لعدم كونه مجعول الشارع، بل منتزعاً من فعل المكلّف.

و قد تبيّن ممّا بيّناه أيضاً أنّ

كل ما تعلق به الجعل من غير التكليفيات ليس من قبيل الحكم الوضعي، كالأجر المقدّر و الثواب المعيّن الموعود علي المندوبات و الفرائض؛ لعدم أخذه في موضوع أو متعلق حكم تكليفي، و لا سبباً أو شرطاً أو مانعاً.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 23

و مما لا ينبغي أن يُغفل عنه في المقام، أنّ السببية الشرعية مجعولة بالجعل التشريعي؛ بأن يعتبر الشارع شيئاً علامة و معرّفاً علي حكم؛ لأنّ علل الشرع معرّفات. و ليس المقصود هنا السببية التكوينية المؤثرة في وجود المسبّب و المعلول واقعاً.

فتبيّن بذلك دفع مناقشة المحقق النائيني في ذلك «1» فالسببية من الأحكام الوضعية بالمعني المزبور.

و ينبغي في الختام التنبيه علي نكتة و بيان وجه تقسيم الحكم الوضعي بالتأسيسي و الامضائي. و ضرورة التنبيه علي ذلك شبهة: أنّ الحكم الوضعي يكون دائماً منتزعاً من مناشئ انتزاعه فلا يتعلق به الجعل مستقلّاً، فان مثل الصحة و الفساد و الشرطية و الجزئية و المانعية و نحوها عناوين منتزعة من اعتبار مناشئ انتزاعها، من الصحيح و الفاسد و الشرط و الجزء و المانع، فلا جعل من الشارع لنفس هذه العناوين- المعبّر عنها بالأحكام الوضعية-، و مع ذلك فكيف تكون هذه الأحكام تأسيسية؟!.

و الجواب: أنّ الحكم الوضعي إنّما يعبّر عنه بالوضعي التأسيسي فيما إذا كان مناشئ انتزاعها من الماهيات المخترعة، كالاستقبال في الصلاة و التذكية و الطهارة و البلوغ الشرعي و نحو ذلك من القيود المعتبرة التوقيفية في العبادات و المعاملات.

هذا تمام الكلام و مقتضي التحقيق في تعريف الحكم الوضعي و بيان ماهيته و أقسامه.

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 4، ص 394.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 24

«قاعدة» «الاشتراك»

اشارة

منصّة القاعدة و أهميتها

مفاد

القاعدة

مدرك القاعدة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 25

يظهر من بعض المحققين إدراج اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل تحت قاعدة الاشتراك المبحوث عنها في المقام. و لكن الأدلّة المستدلّ بها لهذه القاعدة لا ترتبط باشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل. و من هنا ينبغي البحث عن اشترك الأحكام بين العالم و الجاهل علي حدة، كما عقدوا عنواناً مستقلّاً للبحث عن اشتراك الأحكام بين المسلمين و الكفار.

فيقع الكلام هاهنا في ثلاث قواعد.

اشارة

القاعدة الاولي: قاعدة الاشتراك علي الاطلاق كما ستعرف مفادها.

الثانية: قاعدة اشتراك الكفار مع المسلمين.

الثالثة: قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

1- ضرورة البحث عن هذه القاعدة.

2- منصّة القاعدة و أهميتها.

3- هذه القاعدة اصولية لا فقهية و لا كلامية.

[القاعدة الاولي: قاعدة الاشتراك علي الاطلاق]
ضرورة البحث عن هذه القاعدة

اليوم يُلقي بعض المتنوّرين شبهة التبعيض الطبقاتي و الصنفي و الجنسي و التفرقة العنصرية ضدّ الشريعة الاسلامية في محاضراتهم و خطاباتهم، و يعترضون علي الاسلام في مقالاتهم بأنّ أحكامه ليست بمتساوية بين طبقات الناس و أصنافهم و القبائل و أنّ فيها تبعيضاً بين الرجال و النساء.

و من جانب آخر يدافع بعض المتنوّرين عن نظرية الهرمنيوطيقا و يستشكلون علي خلود الاسلام و دوام أحكامه و شمولها لجميع الأعصار،

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 26

بالقاءِ شبهات واهية. و ذلك مثل دعوي مثل أنّ أحكام الاسلام و قوانينه إنّما شُرِّعت بتناسب اقتضاء الأوضاع الثقافية و الاجتماعية المختصة بمجتمع عصر نزول الوحي، و أنّ النبي صلي الله عليه و آله إنّما تلقّي الوحي و فسّره علي أساس ارتكاز ذهنه المناسب لمقتضيات أهل عصره. و أنّ في العالم العصري بعد مضي أربعة عشر قرناً من ذلك الزمان ليست تلك القوانين و الأحكام- المجعولة علي أساس ذلك الارتكاز- متناسبة لمقتضيات المجتمع العصري.

و هذه القاعدة تتكفّل للاجابة عن مثل هذه الشبهات بتأسيس أصل اشتراك أحكام الاسلام بين جميع المكلّفين من بداية حدوث الشريعة إلي يوم القيامة. و تعني لاثبات عدم اختصاص الأحكام بالمشافهين و المعاصرين للنّبي و الأئمة المعصومين عليهم السلام، و لا بجنس أو صنف أو طبقة خاصة من الناس، بل هي عامة مشتركة بين الجميع.

منصّة القاعدة و أهميّتها

قاعدة الاشتراك تعني إثبات التكليف لعموم المكلّفين رجالًا كانوا أو نساءً، عرباً أو عجماً، بدوياً أو مدنياً في جميع الأعصار إلي يوم القيامة. بل تتكفّل لاثبات عموم الأحكام الوضعية في حق الجميع.

و من هنا تعرف منصّة هذه القاعدة بعدم اختصاصها ببعض الأبواب الفقهية، و جريانها في جميع أبواب الفقه و مختلف فروعها

و مسائلها و بعمومها للأحكام الوضعية و عدم اختصاصها بالأحكام التكليفية.

كما تتبيّن بذلك أهمية هذه القاعدة؛ حيث إنّها بعموميتها و سعة نطاقها تنفي التبعيض بين الرجال و النساء و الحُرّ و العبد و الأقوام و الشعوب و

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 27

القبائل المختلفة في جعل القوانين الالهية و تشريع الأحكام الشرعية.

و مما يؤكّد أهمية هذه القاعدة و عظم خطرها أنّ كثيراً من الخطابات الشرعية إنّما وردت في قضايا شخصية و وقائع خاصّة دعت الحاجة الرواة و ساير المكلّفين إلي السؤال عن أحكام تلك الوقائع الشخصية التي كانوا يبتلون بها في امورهم.

و علي ضوءِ هذه القاعدة يتمكّن الفقيه من تعميم الحكم- الذي بيّنه الامام عليه السلام في جواب السائلين عن تلك الوقائع الشخصية- إلي ساير المكلّفين.

فإنّ الفقيه بعد القطع بعدم الخصوصية لشخص السائل و الواقعة، يعمّم الحكم و يحكم بثبوته لسائر المكلّفين بدليل هذه القاعدة. كما أنّ الرواة السائلين كانوا من جنس الرجال المعاصرين لزمن الأئمة، و لكن الفقيه بدليل هذه القاعدة يحكم بثبوت ذلك الحكم المسئول عنه لجميع المكلّفين من الرجال و النساء من جميع الطوائف و الأقوام في جميع الأعصار إلي يوم القيامة.

و قد أشار إلي هذه النكتة الفقيه المحقق السيد الحسيني المراغي، و ناقش في كفاية عموم الخطابات الشرعية الواردة علي سبيل القضايا الحقيقية لتعميم جميع الأحكام الشرعية؛ حيث قال: «إذ معظم الأدلّة لم يرد بعنوان قضيّة كليّة حتي تشمل الأحوال و الأزمان و الأشخاص، بل وردت في وقائع خاصّة دعت الحاجة المكلّفين إلي السؤال عنها، فلا عموم فيها. و لا ينفع في ذلك القول بعموم الخطابات الشفاهيّة- كما ذهب إليه جملة من المحدّثين-؛ لأنّه أخصّ من المدّعي؛ إذ

في الخطابات ما ورد مختصّاً بالنبي صلي الله عليه و آله، و ما ورد مختصّاً بأهل البيت عليهم السلام، و ما ورد مختصاً بالمؤمنين أو بالمسلمين أو بالرجال دون الاناث، و ما ورد مختصّاً بشخصٍ واحد في ظاهر اللفظ، كلفظ «افعل و افعلي» ممّا يختصّ بواحدٍ كما لا يخفي علي المتتبّع في الروايات. بل الخطابات العامة- التي يُدّعي شمولها

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 28

للكلّ- أقلّ قليلٍ في الباب بالنسبة إلي غيرها. مع أنّ الحق عدم العموم في الخطابات الشفاهيّة، علي ما قرّر في الاصول. بل القائل بالعموم خارج عن محل النزاع، كما يظهر للمتأمّل» «1».

ظاهر كلامه اختصاص الخطابات الشفاهية الصادرة عن النبي و الأئمة المعصومين عليهم السلام بالمشافهين، لكنّه خلاف مقتضي التحقيق.

و قد بيّنا في علم الاصول «2» أنّ الخطابات الشرعية كلَّها علي سبيل القضايا الحقيقية؛ إمّا بظاهرها من غير تأويل، و إمّا مؤوَّلةً، و هي ما ورد منها بصورة القضية الشخصية لكنّها من باب «إيّاك أعني و اسمعي يا جاره»، و كلّها مؤوّلة إلي القضايا الكلية الحقيقية.

و ذلك لاستقرار دأب الشارع علي السيرة العقلائية التقنينية في تشريع الأحكام. و جريان سيرة العقلاء في تقنيناتهم علي وضع القوانين بنحو الكبري الكلية و علي سبيل القضايا الحقيقة. و الشارع أيضاً كذلك؛ لأنّه في مقام التشريع و التقنين، و هذا المقام قرينة حالية مقامية مكتنفة بها الخطابات الشرعية دائماً و تعطيها ظهوراً في الشمول بجميع المكلّفين و توجب انقلاب الخطابات الشفاهية الشخصية إلي القضايا الحقيقية.

و سيأتي تفصيل هذا البيان في تقريب السيرة العقلائية.

______________________________

(1) العناوين: ج 1، ص 20- 21.

(2) راجع كتابنا «بدائع البحوث: ج 1، ص 231- 235».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية

الأساسية، ج 3، ص: 29

هذه القاعدة أصولية لا فقهية و لا كلامية

ثمّ إنّ هذه القاعدة اصولية، لا فقهية؛ نظراً إلي وقوع نتيجتها في تحصيل الحجة علي الحكم الشرعي الكلّي. و ليست هي حكم شرعي كلّي منطبق علي أحكام فرعية تحته.

و ذلك لأنّ نتيجة البحث عن هذه القاعدة، اشتراك التكاليف الشرعية العملية بين المكلّفين؛ بمعني عموميتها لهم. و ليست العمومية و الاشتراك من قبيل الأحكام، و إن كان موضوعها- و هي التكاليف من قبيل الأحكام التكليفية العملية، فلا تدخل في القواعد الفقهية. و من هنا تخرج هذه القاعدة عن مسائل علم الكلام؛ لعدم كون موضوع علم الكلام الأحكام التكليفية العملية.

بل إنّما تكون نتيجة هذه القاعدة من قبيل الحجة علي الحكم الكلي الشرعي.

و ذلك أنّه إذا قام عند الفقيه خبر دلّ علي تعيين التكليف لشخصٍ من الرواة السائلين عن حكمه و تكليفه، يمكن للفقيه أن يُعمّم ذلك الحكم و يُفتي بثبوته لسائر المكلّفين؛ مستدلًا بقاعدة الاشتراك أو بأدلّة هذه القاعدة، كما يُتراءي في كلمات الفقهاء، و ستأتي مواردها في تطبيقات هذه القاعدة.

و لكن إنّما بحثنا عن هذه القاعدة، تبعاً للقوم، حيث بحث عنه جماعة من المحققين في ضمن القواعد الفقهية، و لعدم تنقيحها في علم الاصول مستقلًا بعنوان قاعدة مستقلّة، بل و لم يستوفوا البحث عنها في ضمن ساير القواعد الاصولية، نعم تعرّض لها بعضهم في علم الاصول لتوجيه اشتراك الحكم بين العالم و الجاهل باشارة و تلقّاه بعنوان الاصول الموضوعة المسلّمة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 30

مفاد القاعدة
1- ضابطة جريان القاعدة.

المقصود من الاشتراك في نصّ هذه القاعدة، اشتراك المسلمين في الأحكام الشرعية التكليفية و الوضعية و لا نظر لها إلي الاشتراك في العقائد الدينية. بيان ذلك: أنّ الاشتراك يكون أيضاً في العقائد الدينية غير الفقهية مثل ما

يرجع إلي التوحيد و النبوة و المعاد و البرزخ و الصراط و الميزان و الجنة و النار و نحو ذلك من الامور الاعتقادية المشتركة بين المسلمين، و كذا الامور الاعتقادية المشتركة بين الامامية الاثني عشرية.

و لكن لا ينبغي الغفلة عن خروج الاشتراك بهذا المعني عن مصبّ القاعدة المبحوث عنها في المقام؛ لأنّ الاشتراك بهذا المعني يكون من المسائل الكلامية، و قاعدة الاشتراك المبحوث عنها في المقام من القواعد الاصولية، فلا ينبغي الخلط بينهما. من دون اختصاص بصنف أو جماعة أو قبيلة خاصّة. فانّها تفيد اشتراك جميع المكلّفين من المسلمين في أصل التكليف و تعمّ الحاضرين و الغائبين و الرجال و النساء و جميع القبائل و الطوائف منهم إلي يوم القيامة.

توضيح ذلك: أنّ في كثير من الخطابات الشرعية و النصوص الواردة عن النبي صلي الله عليه و آله و الأئمة المعصومين عليهم السلام توجّه الخطاب إلي شخص الراوي. و هذا النوع من الخطابات بمدلولها اللفظي الوضعي المطابقي لا يشمل غير ذلك الشخص. و لكنّنا- مع ذلك- نري الفقهاء متسالمين علي تعميم الحكم إلي جميع المكلّفين، و لا يفتي أحدٌ منهم باختصاص الحكم بذلك الشخص السائل المبتلي بالواقعة التي سأل عن حكمها.

و من هنا نقطع أنّ هذا التعميم لا بدّ أن يكون لأجل قاعدة مسلّمة أو عموم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 31

من الكتاب و السنة؛ لكي يكون دليلًا صالحاً للاعتماد عليه في هذا التعميم و التسرية.

و ذلك الدليل المعمّم قد عُبّر عنه بقاعدة الاشتراك. و هذه القاعدة مصطادة من عدّة عمومات و إطلاقات و أدلّة شرعية، كما سيأتي بيانها في تحقيق مدرك القاعدة.

و لاثبات ذلك و توضيحه نمثّل بأمثلة:

«الف»: إنّ حمّاد بن عثمان

وقع له الشك في إتيانه بالركوع حين السجدة و سأل الامام عليه السلام عن تكليف نفسه و أمره الامام بالمُضي، كما روي شيخ الطائفة باسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن حمّاد بن عثمان، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أشكُ و أنا ساجد، فلا أدري، ركعت أم لا؟ قال عليه السلام: امض» «1».

فإنّ مورد السؤال كان واقعة شخصية ابتلي بها حمّاد. و ظاهر قوله عليه السلام:

«امض» توجُّه الأمر إلي حماد بشخصه.

و لكن الفقهاء استنبطوا من أمر الامام وجوب مضي الصلاة علي كلّ من شك في الركوع حين السجدة علي نحو القضية الكلية الحقيقة. و استدلّوا بهذه الصحيحة و مثلها لحجية قاعدة التجاوز، و حكموا بثبوت حكم وجوب المضيّ- في مفروض السؤال- في حق جميع المكلّفين. و إنّ ممّا اعتمد عليه الفقهاءُ في تعميم هذا الحكم إلي جميع المكلّفين، قاعدة الاشتراك.

«ب»: إنّ إسحاق ابن عمّار كان حينما يأكل السحر في ليلة رمضان، يعرض له الشك في طلوع الفجر، فلم يكن يدر أ يجوز له استمرار الأكل أم لا؟ فسأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن تكليف نفسه، فأجابه الامام عليه السلام ببيان تكليفه في تلك الواقعة.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ب 13، من أبواب الركوع، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 32

كما ورد في موثقة إسحاق، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام آكل في شهر رمضان بالليل حتي أشكُ؟ قال عليه السلام: كُل حتي لا تشك» «1».

«ج» مرض الوليد بن صبيح بالمدينة في شهر رمضان- و هو صائم-، فهيّأ له أبو عبد اللّٰه عليه السلام الغذاءَ و أمره بالأكل، كما ورد في الصحيح عن الوليد بن صبيح، قال: «حممت بالمدينة

يوماً من شهر رمضان، فبعث إليَّ أبو عبد اللّه عليه السلام بقصعة فيها خلّ و زيت، و قال أفطر و صلِّ و أنت قاعد» «2».

فإنّ في هذه النصوص لم يبيّن الامام حكماً كلياً، و لم تدل بالدلالة اللفظية علي كبري كلية، بل إنّما دلّت علي حكم جزئي متعلّق بشخص السائل في الواقعة التي ابتلي بها. و لكن مع ذلك قد أفتي الفقهاء بثبوت ذلك الحكم في حق جميع المكلّفين.

بل في أكثر النصوص الواردة في مختلف الأبواب الفقهية يكون مورد السؤال رجلًا مفروضاً في كلام السائل بمثل قوله: «سألته عن رجل». و ذلك الرجل المسئول عنه شخص واحد يدور حوله سؤال السائل و جواب الامام و يتعلّق الحكم- الذي بيّنه الامام عليه السلام في الجواب- بشخص ذلك الرجل المسئول عنه حسب القواعد اللفظية. فما هو الوجه في تعميم الحكم إلي غيره من ساير المكلّفين في جميع الأعصار؟ نقول: ذلك الوجه هو قاعدة الاشتراك.

نعم في كثير من النصوص يكون موضوع السؤال و الجواب طبيعي الرجل و المرأة، أو طبيعي فعل أو شي ءٍ، ففي مثل هذه النصوص قد يقال: إنّه لا

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ب 49، من أبواب ما يمسك عنه الصائم: ح 1.

(2) الوسائل: ب 18، من أبواب من يصح منه الصوم، ح 2. قوله: «بقصعة» إناءٌ وسيع غير عميق مصنوعٌ من الخشب (سيني چوبي بزرگ).

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 33

حاجة لتعميم الحكم إلي قاعدة الاشتراك. و لكن تصلح هذه النصوص بسياقها و كيفية إلقائها للدليلية علي هذه القاعدة، كما سيأتي تقريب ذلك.

و علي أيّ حال لا إشكال في ابتناء تعميم الحكم المستفاد من كثير من النصوص الشرعية بل أكثرها علي قاعدة الاشتراك.

ضابطة جريان

القاعدة

و

لا يخفي أنّ الضابطة في جريان هذه القاعدة تبتني علي تعيين المعني المقصود من الاشتراك. و المراد من الاشتراك في نصّ القاعدة أنّ الحكم الثابت لشخص بما له من الجنسية و الخصوصيات الدخيلة في ثبوت الحكم له، ثابت في حق ساير المكلّفين المجانسين له الواجدين لتلك الخصوصيات الدخيلة في الحكم.

و ليس المراد منه أنّ كل حكم ثبت لشخص ثابتٌ لسائر المكلّفين و لو لم يكونوا متّصفين بخصوصيات و أوصاف دخيلة في موضوع الحكم. و ذلك لوضوح اختلاف الأحكام باختلاف جنس المكلّفين و حالاتهم و خصوصياتهم الدخيلة في موضوع الحكم؛ حيث لا ريب في دخل كثير من القيود و الخصوصيات الراجعة إلي أشخاص المكلّفين في ثبوت التكليف.

مثل الذكورة و الانوثة، و العسر و اليسر و السفر و الحضر و المريض و السالم و الضرر و الحرج و الاضطرار و الاكراه و عدمها و الجنابة و الحيض و الاستحاضة.

فلا محالة تختلف التكاليف باختلاف المكلّفين في الأوصاف و الخصوصيات و الحالات الدخيلة في التكليف. و إلّا يلزم اتحاد جميع المكلّفين في التكليف في جميع الحالات. و هذا خلاف الضرورة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 34

و عليه فالمعيار في الاشتراك- المأخوذ في نصّ القاعدة- اتحاد العنوان المأخوذ في موضوع الحكم حسب ما يستفاد من النصوص و ساير أدلّة ذلك الحكم. فما اخذ في ذلك العنوان- من الجنسية و الحالات و الأوصاف و الخصوصيات الدخيلة في الحكم حسب دلالة الدليل و الضرورة الفقهية- هو الميزان في اشتراك ذلك الحكم بين جميع من اتصف بذلك العنوان.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 35

مدرك القاعدة
اشارة

1- الضرورة و الانفاق.

2- الاستدلال بالكتاب و السنة.

3- السيرة العقلائية التقنينية.

4- الاحتجاج بالاستصحاب.

5-

المناقشة في بعض الوجوه الاخري.

و قد استدل لهذه القاعدة بوجوه عديدة لا يخلو بعضها من المناقشة. و نكتفي بذكر بعض هذه الوجوه؛ نظراً إلي تماميتها و كفايتها عن ساير الوجوه.

الضرورة و الاتفاق

من أهمّ الوجوه المستدلّ بها لاعتبار هذه القاعدة، ضرورة الشرع و تسالم الفقهاء، بل اتفاق المسلمين عليها؛ فالاجماع عليه حاصل، بلا حاجة إلي تحصيل. و لكن الاجماع في المقام لا يكون دليلًا مستقلًا؛ لعدم كونه كاشفاً تعبّدياً عن رأي المعصوم، بعد وجود الأدلّة الصالحة للاستدلال و احتمال استناد الأصحاب. إليها، بل المظنون، بل المقطوع كما ستعرف. مع أنّه لا حاجة إلي الاجماع، بعد كون مفاد هذه القاعدة من الاصول المسلّمة الضرورية المتّفق عليها بين المسلمين.

بل إنّ اشتراك التكاليف بين المسلمين قاطبةً بالمعني الذي بيّناه آنفاً من ضروريات الدين و مما اتّفق عليه المسلمون؛ حيث لم يقل أحد منهم باختصاص الأحكام بزمان الشارع أو بشخص خاص إلّا بعض أحكام معدودة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 36

مجعولة لشخص النبي صلي الله عليه و آله.

و الوجه في كونها من ضروريات الدين أنّ ملاك ضروري الدين؛ إما نص الكتاب المجيد و صراحته بالحكم، أو صراحة السنة القطعية المتواترة بين الفريقين، أو إجماع الفريقين و اتفاق جميع المسلمين عليه. و اشتراك الأحكام بين جميع المكلّفين في جميع الأعصار- بالمعني الذي بيّناه- مما اتّفق عليه الفريقان و جميع المسلمين.

و عليه فمنكر الاشتراك مع المعرفة و الالتفات إلي لازمه مرتدٌّ بلا إشكال، كيف و لو أنكر مسلم بقاءَ حكم من الأحكام الشرعية- كحرمة الخمر مثلًا-؛ بأنّ أنكر ثبوت حرمة الخمر- مثلًا في زماننا و ادّعي اختصاصها بزمان الشارع يصير مرتدّاً مع المعرفة و الالتفات بلازمه، فضلًا عن دعوي ذلك

في جميع أحكام الشريعة، فكما أنّ أصل ثبوت الأحكام الشرعية المهمة الأساسية من ضروريات الدين، فكذلك دوامها و بقائها إلي يوم القيامة مما اتفق عليه قاطبة المسلمين.

و من هنا لم تر أحداً من الفقهاء يُفتي باختصاص الحكم- الذي أجاب به الامام عليه السلام سؤال السائل عن تكليف شخصه في الواقعة التي ابتلي بها- المستفاد من الخطابات الشخصية بشخص السائل. و جعلوا مثل هذه الخطابات من قبيل «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة» و أوّلوها إلي القضايا الحقيقة المبنيّة عليها الخطابات الشرعية. و من هنا تري الفقهاءَ لا يزالون يستدلّون بالخطابات الشخصية الصادرة عن أهل البيت عليهم السلام لفتاواهم، كما ذكرنا آنفاً بعض هذه الخطابات في الأمثلة المذكورة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 37

و قد بيّنا في محلّه من علم الاصول «1» أنّ الخطابات الشرعية كلّها مؤوّلة إلي قضايا حقيقية. و هذا مما لا خلاف فيه بين الفقهاء.

و عليه فهذه القاعدة من المسلّمات الثابتة بضرورة الشرع.

فلا تحتاج في إثباتها إلي الاستدلال بوجوه اخري، و لكن مع ذلك نذكر أهمّ هذه الوجوه؛ تقويةً لدليل هذه القاعدة و تشييداً لأركانها.

الاستدلال بالكتاب و السنّة
أما الكتاب:

فيمكن الاستدلال لهذه القاعدة بما دلّ من الآيات القرآنية علي تعلق التكليف بعموم المؤمنين في كثيرٍ من أبواب الفقه. و هذا الدليل من قبيل الاستقراء التام في آيات الأحكام القرآنية.

ففي أبواب العبادات مثل قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ …»، «2» و قوله: «إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً» «3». و قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» «4». و:

______________________________

(1) راجع إلي كتابنا بدائع البحوث في علم الاصول: ج 1، ص

231- 235.

(2) المائدة: 6.

(3) النساء 103.

(4) البقرة: 183.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 38

«يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ» «1».

و في أبواب المعاملات: كقوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «2» و قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ» «3» و قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعٰافاً مُضٰاعَفَةً» «4».

و في الجزائيات: كقوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصٰاصُ فِي الْقَتْليٰ» «5».

إلي غير ذلك من الآيات الدالة بعمومها علي اشتراك التكاليف و الأحكام الشرعية التكليفية و الوضعية بين جميع المؤمنين في جميع الأعصار؛ لأنّه مقتضي العموم اللفظي المستفاد من صيغة الجمع، بعد البناء علي عدم اختصاصها بالمشافهين، كما هو مقتضي التحقيق، و عليه قاطبة العلماء المحققين. و لا خلاف في شمول مثل هذه الخطابات للنساء و أنّ الخطاب للذين آمنوا بالتذكير إنّما هو لتغليب جانب الذكور.

هذا مع تعلق الحكم في كثير من الآيات بطبيعي الموضوع الشامل للافراد و المصاديق المندرجة تحته إلي يوم القيامة، و ليست نزول هذه الآيات علي نحو المخاطبة كالطائفة الاولي حتي تأتي شبهة الاختصاص بالمشافهين، كالمستطيع في قوله: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» «6».

و الزّانية و الزاني في قوله: «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ» «7».

و قوله: «و الزّٰانِي لٰا يَنْكِحُ إِلّٰا زٰانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزّٰانِيَةُ لٰا يَنْكِحُهٰا إِلّٰا زٰانٍ أَوْ

______________________________

(1) المائدة: 95.

(2) المائدة: 1.

(3) النساء: 29.

(4) آل عمران: 130.

(5) البقرة: 178.

(6) آل عمران: 97.

(7) النور: 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 39

مُشْرِكٌ» «1».

و السارق و

السارقة في قوله: «وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا» «2».

فانّ الحكم في هذه الطائفة من الآيات قد تعلّق بطبيعي الموضوع المقدّر وجود مصاديقه في الخارج علي نحو القضية الحقيقية. فكلّ ما إذا تحقق موضوعه في الخارج- طيّ القرون و تمادي الأعصار إلي يوم القيامة- يشمله الخطاب الشرعي و يصير الحكم فعلياً.

و من الآيات الدالّة علي مفاد هذه القاعدة بوضوح قوله تعالي: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا كَافَّةً لِلنّٰاسِ» «3»؛ فإنّ هذه الآية تدل علي عدم اختصاص ما جاءَ به النبي صلي الله عليه و آله من الأحكام و التكاليف بشخص أو قوم خاصٍّ. و مثله قوله تعالي: «وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ» «4».

و كذا إطلاقات كثير من آيات الأحكام و خطاباتها تدلّ علي اشتراك الأحكام بين المكلّفين. و بذلك نستطيع أن نقول مقتضي إطلاقات الكتاب و عموماته اشتراك التكليف بين المكلّفين، و التخصيص و التقييد بحاجة إلي المخصّص و المقيّد.

و أما السنة:

فمنها ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن بكر بن صالح عن القاسم بن بريد عن أبي عمر و الزبيدي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل قال: «فمن كان قد تمّت فيه شرائط اللّٰه (عزّ و جلّ)- التي وُصِف بها أهلُها من أصحاب النبي صلي الله عليه و آله- و هو مظلوم، فقد أُذِن له في الجهاد، كما اذن لهم؛ لأنّ حكم اللّٰه

______________________________

(1) النور: 3.

(2) المائدة: 38.

(3) سبأ: 28.

(4) الأنعام: 19.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 40

(عزّ و جلّ) في الأوّلين و الآخرين و فرائضه عليهم سواءٌ، إلّا من علّةٍ أو حادث يكون. و الأوّلون و الآخرون أيضاً في منع الحوادث شركاءٌ.

و الفرائض عليهم واحدة، يُسأل الآخرون عن أداء الفرائض عما يُسأل عنه الأوّلون و يُحاسبون عمّا به يحاسبون». «1»

و دلّ علي عدم تغيير الأحكام إلي يوم القيامة صحيح زرارة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحلال و الحرام. فقال عليه السلام: حلال محمد حلال إلي يوم القيامة و حرامه حرام إلي يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجي ءُ غيره». «2»

و ما رواه جعفر بن محمد الفزاري معنعناً عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال عليه السلام: «و كيف لا يكون لرسول اللّٰه صلي الله عليه و آله من الأمر شي ءٌ و قد فوّض إليه؟! فما أحلّ كان حلالًا إلي يوم القيامة، و ما حرَّم كان حراماً إلي يوم القيامة». «3»

و موثقة سماعة بن مهران قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. فقال عليه السلام: نوح و ابراهيم و موسي و عيسي عليهم السلام و محمد صلي الله عليه و آله. إلي أن قال: فكلُّ نبيٍّ جاءَ بعد المسيح أخذ بشريعته و منهاجه حتي جاءَ محمد صلي الله عليه و آله بالقرآن و بشريعته و منهاجه، فحلاله حلال إلي يوم القيامة و حرامه حرام إلي يوم القيامة …». «4»

قال العلامة المجلسي: «و الاجماع علي عدم اختصاص الأحكام بزمانه … مع أنّ الأخبار المتواترة تدل علي عدم اختصاص أحكام القرآن و السنّة بزمان دون زمان، و أنّ حلال محمد صلي الله عليه و آله حلال إلي يوم القيامة، و حرامه حرام إلي يوم القيامة». «5»

و قد روي الصدوق في العيون عن الرضا عن أبيه عليهما السلام: «أنّ رجلًا سأل أبا

______________________________

(1) فروع الكافي: ج 5،

ص 18، ح 1 و وسائل الشيعة: ب 9، من أبواب الجهاد العدوّ، ح 1.

(2) اصول الكافي: ج 1، ص 58، ح 19.

(3) بحار الأنوار: ج 36، ص 132، ح 85.

(4) اصول الكافي: ج 2، ص 17، ح 2.

(5) بحار الأنوار: ج 82، ص 149.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 41

عبد اللّه عليه السلام، ما بال القرآن لا يزداد علي النشر و الدرس إلّا غضاضة؟ فقال عليه السلام: لأن اللّٰه (تبارك و تعالي) لم يجعله لزمان دون زمان و لا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد و عند كل قوم غضّ إلي يوم القيامة». «1»

قوله: غضٌّ: أي طريٌّ، نَضِرٌ. و الغضاضة: هي النضارة و الطراوة.

و روي الكليني باسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام في حديث قال: «لو كانت إذا نزلت آيةٌ علي رجل ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية، مات الكتاب و السنة و لكنّه يجري فيمن بقي كما جري فيمن مضيٰ». «2»

و في صحيحة فضيل بن يسار: «قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية، ما من القرآن آية إلّا و لها ظهرٌ و بطنٌ فقال عليه السلام: ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما قد مضي و منه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس و القمر، كلما جاء تأويل شي ءٍ منه يكون علي الأموات كما يكون علي الأحياء …». «3»

فانّ هذه النصوص صريحة في اشتراك التكاليف و الأحكام بين جميع المكلّفين إلي يوم القيامة.

و نظيرها ما رواه العياشي في تفسيره عن الفضيل بن يسار، إلّا أنّ في ذيله: «… منه ما مضي و منه ما لم يكن بَعْدُ. يجري كما تجري الشمس و القمر.

كلّ ما جاءَ منه شي ءٌ وقع …». «4»

و روي في غيبة النعماني باسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه-

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17، ص 213، ح 18 و ج 85: ص 15، ح 8 و ج 2: ص 280، ح 44.

(2) بحار الأنوار: ج 2، ص 279، ح 43.

(3) بصائر الدرجات، ص 196/ بحار الأنوار: ج 89، ص 98، ح 64. و رواها بسند صحيح آخر في بصائر الدرجات ص 55، نقله في البحار ج 23، ص 197.

(4) بحار الأنوار: ج 89، ص 94، ح 47.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 42

في حديث-: «للقرآن تأويل يجري كما يجري الليل و النهار و كما تجري الشمس و القمر. فاذا جاءَ تأويل شي ءٍ منه، وقع، فمنه ما قد جاءَ و منه ما لم يجي ءُ». «1»

فإنّ هذه النصوص و إن ورد في القرآن، إلّا أنّ الضرورة قاضية بعدم الفرق بين القرآن و السنة و الكتاب و العترة من جهة اشتراك الأحكام المستفاد منهما بين جميع المكلّفين و عدم اختصاصها بقوم دون قوم.

و منها ما روي عن النبي صلي الله عليه و آله: «حكمي علي الواحد حكمي علي الجماعة» «2».

هذا مضافاً إلي اطلاقات النصوص المتعلّق فيها الحكم بطبيعي الموضوع مثل: من صام في شهر رمضان، و من يصلي و يحجّ، أو يجنب، أو يغتسل، أو يبيع، أو ما لاقي نجساً، أو ما ذكر اسم اللّٰه عليه، أو ما اكل لحمه من الحيوان، أو ما اشتُري من اللحم في سوق المسلمين، و نحو ذلك مما لا يُحصي من العناوين المتعلّقة بطبائعها للحكم التكليفي أو الوضعي. و نحو ذلك خطاباتٌ عُبِّر فيها عن الموضوع بالموصول الشامل

للرجال و النساء و جميع المكلّفين علي نحو القضية الحقيقية. و غير ذلك من أنحاء الخطابات الكلية المتضمّنة للكبريات الكلية الملقاة علي نحو القضايا الحقيقية.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23، ص 79، ح 13.

(2) بحار الانوار: ج 2، ص 272.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 43

السيرة العقلائية التقنينية

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بالسيرة العقلائية؛ نظراً إلي أنّ الخطابات الشرعية إنّما صدرت من الشارع في مقام التشريع و التقنين. و قد علمنا أنّ دأب الشارع و منهجه في تشريع الأحكام إنّما استقرّ علي ما استقرّت عليه سيرة العقلاء في تقنين القوانين من حيث وضعها علي سبيل القضايا الحقيقية، و إن كان هناك فرقٌ بين سيرة العقلاء و بين دأب الشارع في وضع القوانين؛ نظراً إلي أنّ القانون العقلائي ربما يكون محدوداً بمنطقة و قبيلة و طائفة و مملكة خاصة، بخلاف الأحكام الشرعية. و لكن ضرب القانون في سيرة العقلاء دائماً يكون علي النحو الكلي و علي سبيل القضية الحقيقية، لا علي نحو القضية الجزئية الشخصية، و إلّا لا يكون من قبيل التقنين. كذلك الشارع قد استقرّ دأبه في تشريع الأحكام علي سبيل القضايا الحقيقية؛ لأنّه في مقام التقنين. فانّ لمنهجه جذراً في السيرة العقلائية في باب التقنين.

فكما أنّ كلية القانون في سيرة العقلاء لا تنافي اختصاصه بصنف خاص أو مكان أو زمان خاص، كما يضعون لرئيس القوم قوانين كلية من كيفية ملبسه و نظافته و ضيافته، بل و ساعات خروجه من البيت و دخوله و ساير شئونه الشخصية بما أنّه رئيس، و يضعون قوانين خاصة للعبور من مفترق الطرق و مقاطعها، و لبعض الأيام، بل لبعض ساعات الليل و النهار باقتضاء بعض المناسبات قوانين خاصة.

كذلك وضع

الأحكام الشرعية علي سبيل القضايا الحقيقية، لا ينافي أخذ الشارع بعض القيود و الخصوصيات في المكلّف الواقع موضوعاً للحكم، بل أيضاً قد يُتراءي من الشارع وضع بعض أحكام شخصية، كوضعه بعض

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 44

أحكام خاصة للنبي صلي الله عليه و آله. و ذلك مثل وجوب صلاة الليل و جواز نكاح أكثر من أربع نساء و حرمة النكاح معهنّ للمؤمنين بعد وفاته صلي الله عليه و آله، و اختصاص الصفايا و قطائع الملوك و سهم النبي صلي الله عليه و آله و الامام عليه السلام بهما، و نحو ذلك من الأحكام المختصّة بالنبي صلي الله عليه و آله و الامام عليهم السلام، إلّا أنّ هذه الأحكام في موارد خاصة معلومة بالاجماع و الضرورة في مواردها و لا ترتبط بسائر المكلّفين. و موضوع هذه القاعدة ما وضعه الشارع من الأحكام علي المكلّفين. فانّ هذه الأحكام إنّما يضعها الشارع علي نحو القضايا الحقيقية.

و قد اتضح علي ضوءِ هذا البيان أنّه لا فرق بين منهج الشارع في تشريع الأحكام و بين سيرة العقلاء، من هذه الجهة؛ أي جعل القوانين علي نحو القضايا الحقيقية.

و أما تلك الموارد الشخصية فانّما يجعلها العقلاء في سيرتهم التقنينية من قبيل التبصرة، فكذلك يمكن ملاحظة نظير ذلك- من الأحكام الشرعية المختصّة بالنبي و الامام عليهم السلام- بعنوان التبصرة.

نكتة

دقيقة مهمّة

و لكن هاهنا نكتةٌ دقيقة لا ينبغي الغفلة عنها؛ لأنّها توجب سقوط السيرة العقلائية عن حيّز الاستدلال بها لاثبات اشتراك الأحكام بين السابقين و اللاحقين إلي يوم القيامة.

و هي أنّ العقلاء في تقنيناتهم لا يلاحظون الأعصار المتأخّرة و الأجيال اللاحقة الحادثة بعد مضيّ قرون متمادية؛ لعلمهم بتغيُّر مقتضيات كل عصر و

تطلُّب قوانين جديدة مناسبة لذلك العصر. و إنّما يضعون القوانين لأهل عصرهم و الأجيال المتقاربة لعصرهم.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 45

و عليه فلم تستقرّ سيرة العقلاء علي وضع القوانين لجميع الأعصار اللاحقة عن عصرهم. فلا تصلح للدليلية علي اشتراك الأحكام بين السابقين المعاصرين لزمان الشارع و بين اللاحقين عنهم إلي يوم القيامة.

نعم تصلح لاثبات الاشتراك بين المكلّفين المعاصرين لزمان الشارع و من قاربهم علي النحو الذي بيّناه.

و بعبارة اخري تصلح لاثبات اشتراك الأحكام بين المكلّفين عرضاً، لا طولًا في عمود الزمان و خلال الأعصار و طيّ القرون إلي يوم القيامة.

الاحتجاج بالاستصحاب

و من الوجوه التي استدلّ بها لهذه القاعدة، استصحاب الحكم- الثابت للجميع في عهد المعصومين عليهم السلام يقيناً- إلي زماننا هذا. و يؤيّد عدم القول بالفصل بين المكلّفين في عصر الشارع و بين المكلّفين في زماننا.

و لا يخفي أنّ الاستصحاب و إن لا تصل النوبة إليه مع حصول اتفاق المسلمين و توفّر نصوص الكتاب و السنة و تمامية دلالتها علي المطلوب؛ لعدم وجود شك في اشتراك الأحكام بعد وجود الأدلّة القطعية حتي يجري الاستصحاب.

إلّا أنّ أهمية الاستصحاب بلحاظ أنّه- بناءً علي ابتناءِ حجيته علي بناءِ العقلاء و عدم توقف إثبات اعتباره علي الروايات- يمكن التعويل عليه في الاحتجاج به علي الملحدين و المتنوّرين- غير المنتحلين إلي الاسلام- لاثبات اشتراك الأحكام بين المعاصرين لزمان الشارع و بين اللاحقين إلي زماننا هذا.

فانّه يصح للاستدلال به علي المطلوب، مع قطع النظر عن الأدلّة الشرعية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 46

و لكن الذي يقتضيه الارتكاز العقلائي و يساعده الاعتبار المحكَّم عند أهل المحاورة، أن يُستند في مثل المقام إلي أدلّة و أمارات

واصلة من جانب الشارع؛ لانّه كما يؤخذ منه أصل الشريعة و أحكامها، كذلك لا بدّ أن يؤخذ منه أمد أحكام دينه و استمرار القوانين الشرعية التي جعلها؛ نظراً إلي ارتباط ذلك بكيفية الجعل و التشريع.

و لكن الاشكال في اختلال أركان الاستصحاب؛ نظراً إلي عدم وحدة القضية المتيقّنة و المشكوكة؛ حيث إنّ موضوع القضية المتيقنة هو المؤمنون المعاصرون و موضوع القضية المشكوكة هم الغائبون في عصر الشارع الموجودون بعده.

و اجيب: بأنّ الأحكام كانت ثابتةً لجميع المكلّفين علي النحو الكلي و سبيل القضية الحقيقية. فهي كانت ثابتة للجميع في عصر الشارع يقيناً، و إنّما الشك في بقائها إلي عصرنا. و دعوي تغيُّر الموضوع و تبدّله مما لا أساس لها، بعد وضع الأحكام علي الذين آمنوا في عصر الشارع بما أنّهم مؤمنون، و من هنا لو كان اللاحقون المعدومون موجودين في عصر الشارع لشملهم الخطاب. و إنّما الشك لقصور الأدلّة عن شمولها للّاحقين الغائبين عند من يري أو يحتمل اختصاصها بالمشافهين المخاطبين للشارع. و ليس موضوع الأحكام في لسان الأدلّة مقيداً بالحضور في عصر الشارع حتي يتبدّل الموضوع بموتهم و انقراضهم. فانّ قصور الأدلّة لشمول الغائبين غير كون موضوعها مقيداً بالحضور.

و يظهر هذا الجواب في دفع الاشكال المزبور من كلام الشيخ الأعظم؛ حيث قال: «إنّه لا فرق في المستصحَب بين أن يكون حكماً ثابتاً في هذه الشريعة أم حكماً من أحكام الشريعة السابقة؛ إذ المقتضي موجود- و هو جريان دليل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 47

الاستصحاب- و عدم ما يصلح مانعاً، عدا امور:

و فيه: إنّ وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة شرط في جريان الاستصحاب و هي لم تُحرز، و إلّا لشملته العمومات و اطلاقات الأدلّة

الاولية من غير حاجة إلي الاستصحاب.

نعم لو كان تعدد القضيتين من قبيل المانع- من غير اشتراط وحدتهما- لتمّ ما ذكره؛ إذ المفروض قصور الخطابات القرآنية عن شمولها لغير المشافهين؛ لاحتمال كون عنوان «يا ايّها الذين آمنوا» و نحو عنواناً مشيراً إلي الأفراد الخارجية، من غير احراز تقيّد موضوع الخطابات بالمشافهين.

فحينئذٍ لو كان تعددهما مانعاً فحيث لم يثبت المانع- لعدم احراز تقيد موضوع الخطابات بالمشافهين، بل المفروض احتماله-، يمكن القول بجريان الاستصحاب و لكن الوحدة شرط لجريانه، لا كون التعدد مانعاً.

منها: ما ذكره بعض المعاصرين، من أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعةٍ لا يمكن استصحابه في حقّ آخرين؛ لتغاير الموضوع … و حلّه: أنّ المستصحَب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة علي وجهٍ لا مدخل لأشخاصهم فيه؛ إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمّهم الحكمُ قطعاً» «1».

المناقشة في بعض الوجوه الاخري

و قد ذكرت هناك وجوه اخري: كارتكاز عامة المسلمين علي اشتراك الأحكام الشرعية بين الجميع، و تنقيح الملاك القطعي؛ للقطع بعدم دخل الخصوصية الشخصية في ثبوت الحكم، إلي غير ذلك من الوجوه المذكورة في المقام.

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 3، ص 225، 226.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 48

و لكن لا حاجة إلي ذكرها بعد وضوح اعتبار القاعدة و ثبوت حجيتها بضرورة الدين و اتفاق المسلمين، و ساير الأدلّة القطعية.

و أما ما قيل- من أنّ اللّٰه عالم في الأزل بوجود المصلحة في الفعل الفلاني الصادر من شخص متصف بكذا. و هذا العلم علة لجعل الحكم المتعلّق بذلك الحكم. فالحكم مجعول في الأزل علي آحاد أشخاص المكلّفين، و مع ذلك لا حاجة إلي قاعدة الاشتراك. بل الأحكام ثابتة لآحاد المكلّفين من الأزل-، فهو مما لا أساس له.

و ذلك

أوّلًا: لأنّ علمه تعالي ليس علّة للتشريع، و لا لصدور ساير الامور من اللّٰه، بل تابع لإرادته، كما قال: «و أمره إذا أراد شيئاً يقول له: كن فيكون». و من هنا نعتقد أنّ دين الاسلام إنّما شُرّع بعد ساير الأديان السالفة فهو حادث، مع كون علم اللّٰه أزلياً.

و ثانياً: أنّه قد قرّرنا في محلّه أنّ الاحكام تتعلّق بالطبائع، لا بالأشخاص و المصاديق، كما يلوح ذلك من كلام هذا العَلَم.

و ثالثاً: أنّ المصالح الشخصية تتبع الخصوصيات المختصّة بالأشخاص و دائماً تكون في معرض التغيير. و من هنا لا تُلاحظ في مقام ضرب القانون، بل إنّما تلاحظ المصالح النوعية الغالبية.

و أما تطبيقات هذه القاعدة

فغنيّة عن الاحصاء و البيان. و ذلك لأنّك تستطيع أن تستخرجها من أوّل الطهارة إلي آخر الديات بعد ما سردناه لك من المعيار و الضابطة. و هي كل فرع سأل فيه الراوي الامام عن تكليف شخصه، و الامام أجابه كذلك ببيان تكليفه بأمره أو نهيه أو بيان تكليفه بمخاطبة شخصه.

و موارد ذلك كثيرة خارجة عن حد الإحصاء، و ذكرنا نماذج منها في مفاد القاعدة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 49

[القاعدة الثانية] «قاعدة اشتراك الكفار» «مع المسلمين في التكليف»
اشارة

أهمية هذه القاعدة

مفاد القاعدة و ماهيتها

مدرك القاعدة

التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 50

1- أهمية هذه القاعدة.

2- هذه القاعدة اصولية، لا فقهية.

3- كيفية وقوعها في قياس الاستنباط.

4- مفاد القاعدة و ماهيتها.

5- ليس الكفار غافلين عن أصل التكليف.

6- المناقشة في تعليل عدم تكليف الكفار بغفلتهم.

7- ردّ التعليل باشتراط الاسلام في صحة الفروع.

أهمية هذه القاعدة
اشارة

إنّ لهذه القاعدة أهمية وافرة من الجهتين.

إحداهما: بلحاظ ما يترتب عليها من الآثار- بناءً علي القول باشتراك الكفار مع المسلمين في التكليف-؛ حيث لا بد حينئذٍ من جريان جميع آثار التكليف بالفروع في حقهم، من وجوب تعلّم الأحكام، و وجوب إجراء الحدود و التعزيرات عليهم، بل القضاءُ و الكفارات، إلّا ما ارتفع منه بعد إسلامهم بقاعدة الجبّ.

و هذا اللازم يشكل الالتزام به علي النحو المطلق، و قد وقع الكلام و النقض و الابرام في ترتب الآثار المزبورة، و سوف نتعرّض إلي البحث عن ذلك في خلال مباحث هذه القاعدة، إن شاء اللّٰه.

ثانيتهما: عويصة شبهة الاجبار في الاسلام و الاكراه علي قبول الدين و العمل بأحكامه، حتي الكفار و المشركين الذين لم يعتقدوا أصل الاسلام و لم ينقادوا أحكامه. و كيف يمكن إجبار من لم يعتقد ديناً و لم يلتزم بأحكامه علي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 51

العمل بأحكامه و العقوبة علي ترك العمل بقوانينه؟! و لم يُعهد ذلك بين العقلاء في طول تاريخ تمدُّن البشر. و هذه العويصة و الشبهة الاعتقادية إنّما تنشأ من القول بحجية هذه القاعدة و لا بدّ من حلّها و الاجابة عنها ببيان منطقي برهاني.

و نحن في راحة من هذه العويصة؛ لما اخترناه و سلكناه من عدم حجية هذه القاعدة، رغماً لما يستفاد من

ذهاب المشهور إلي أنّ الكفار معاقبون علي الفروع كما هم يعاقبون علي الاصول.

و التحقيق في الجواب: عدم دليل علي ثبوت التكليف الفعلي في حقّ الكفار، بحيث تنفذ في حقّهم الأحكام الجزائية و ساير آثار الأحكام التكليفية؛ لعدم دليل علي القاعدة المبحوث عنها بهذا المعني. بل إنّما نلتزم بها بالمعني الذي سنفسّره و نبيّنه.

هذه القاعدة

اصولية، لا فقهية

قد سبق منّا في المجلّد الأوّل من كتابنا «بدائع البحوث» في تعريف القاعدة الاصولية و الفرق بينها و بين القاعدة الفقهية، أنّ القاعدة الاصولية كبري واقعة في الحدّ الأوسط من قياس الاستنباط، و نتيجتها تحصيل الحجّة علي الحكم الفرعي الكلي.

و ليس بنفسها حكماً كلياً، بل من قبيل القضايا الكلية الحقيقية المتضمّنة لجعل الحجج و الأمارات الصالحة للاحتجاج بها علي الأحكام الفرعية الكلية الشرعية.

و هذا بخلاف القاعدة الفقهية؛ حيث إنّها و إن كانت أيضاً كبري كلّية صالحة للاحتجاج بها علي الحكم الفرعي الشرعي الكلّي، إلّا أنّها بنفسها أحكامٌ كلية شاملة لمصاديقها و أفرادها التي هي أيضاً أحكام كلية نطاقها أصغر من

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 52

القاعدة. و إنّما يُستدلّ بالقاعدة الفقهية علي الأحكام الفرعية من باب الاحتجاج بالكلي علي مصاديقه و أفراده. و من هنا يكون الحكم المستدلّ له دائماً من أفراده و مصاديق القاعدة الفقهية، بخلاف الاصولية.

إذا عرفت ذلك تستطيع أن تعرف أنّ القاعدة المبحوث عنها في المقام من قبيل القواعد الاصولية؛ نظراً إلي عدم كون الاشتراك في الأحكام نفسه حكماً شرعياً، بل كبري كلية علي سبيل القضية الحقيقة صالحة للاحتجاج بها علي ثبوت الحكم الفرعي الشرعي فيحق الكفار بالتقريب السابق آنفاً.

و لا فرق في ذلك بين الاشتراك في الاعتقادات و بين الاشتراك في الأحكام؛ إذ

متعلق الاشتراك في كليهما الوجوب الشرعي؛ نظراً إلي إفادتها الاشتراك في وجوب تحصيل اليقين، و هو حكم شرعي، و لو لاستقلال العقل، و لا منافاة؛ لأنّ العقل من مدارك الأحكام الشرعية.

نعم قد يقال بكون هذه القاعدة كلامية بلحاظ اشتراك الكفار و المسلمين في التكليف بتحصيل العلم في المسائل الاعتقادية، كما سبق في قاعدة الاشتراك المطلق. و عليه فهذه القاعدة تندرج في المسائل الكلامية؛ بلحاظ جريانها في المسائل الاعتقادية، و وجوب الالتزام و الايمان باصول الاعتقادات، و تدخل في القواعد الاصولية بلحاظ جريانها في الأحكام الكلية الفرعية.

و لا بأس باندراج قاعدةٍ في مسائل علمين؛ نظراً إلي مالها من الدخل في غرض تدوين كل واحدٍ منهما، كما أشار إلي ذلك في الكفاية في تعريف مسائل العلم، بقوله: «و المسائل عبارةٌ عن جملة من قضايا متشتّة جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دوِّن هذا العلم فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل مما كان له دخل في مهمّين لأجل كلّ منها دون علم علي حدة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 53

فيصير من مسائل العلمين» «1».

هذا مع عدم دخول الاشتراك في الاعتقادات في القاعدة المبحوث عنها في المقام؛ إذ الكلام في الاشتراك في الأحكام الشرعية التكليفية و الوضعية، دون الاعتقادات.

و لكن مقتضي التحقيق- كما عرفت- أنّها قاعدة اصولية؛ لما بيّناه من ضابطة الفرق بين القاعدة الاصولية و بين القاعدة الفقهية و انطباق معيار القاعدة الاصولية علي القاعدة المبحوث عنها في المقام.

كيفية وقوعها في قياس الاستنباط

أما كيفية وقوع هذه القاعدة في قياس استنباط الأحكام الكلية الفرعية، فبيانها:

أنّ الفقيه يستدلّ بهذه القاعدة علي تكليف الكفار- حال كفرهم- بآحاد الواجبات و المحرّمات. و يترتّب عليه جميع الحدود و التعزيرات،

إلّا ما خرج بالدليل. فيؤلّف قياس الاستنباط و يستدل بقوله: «المسلمون مكلّفون بالفروع في جميع الأقطار و الأعصار» و «كل حكم ثبت تكليف المسلمين به يشترك معهم الكفار فيه» فيستنتج من هاتين المقدمتين أنّ الكفار مكلّفون بالفروع. و هكذا في آحاد الفروع. فيقول- مثلًا-: الكافر مكلّف بالخمس و الزكاة و الصلاة و الصوم و … لقاعدة اشتراكهم مع المسلمين في الفروع. و يحرم عليهم شرب الخمر و الزنا و اللواط و السرقة بدليل قاعدة اشتراكهم مع المسلمين في الفروع. فيستحقون بذلك الحدود و التعزيرات و يجب عليهم الكفارات و ساير آثار التكليف بالفروع.

______________________________

(1) كفاية الاصول: ج 1، ص 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 54

مفاد القاعدة و ماهيتها
اشارة

مفاد هذه القاعدة اشتراك الكفار مع المسلمين في التكليف بالوظائف العملية المقرّرة في شريعة الاسلام، فلا تشمل الأحكام الوضعية، إلّا بلحاظ ما تستتبعه من الأحكام التكليفية.

و لا يخفي أنّه بعد الالتزام بتوجه التكليف بالفروع إلي الكفار، لا مناص من الالتزام بأنّهم معاقبون عليها كما أنّهم معاقبون علي الاصول، كما اشتهر بين فقهائنا: أنّ الكفار معاقبون علي الفروع، كما أنّهم معاقبون علي الاصول. و عليه فتنقيح المعني المقصود من هذه الكبري المعروفة دخيلٌ في فهم مفاد القاعدة المبحوث عنها في المقام.

و التأمّل يقضي أنّه ينبغي أن يكون المعني المقصود: أنّهم معاقبون علي تركهم العمل بالفروع بسبب عدم اعتقادهم و إيمانهم بالاصول، فيعاقبون يوم القيامة. بأنّهم هلا آمنوا بالاصول حتي يعملوا بالفروع. كما أنّهم يعاقبون علي عدم إيمانهم بالاصول- بطريق السؤال عن أهل العلم و التعقّل و التفكر-، لأجل عنادهم و لجاجهم، أو لما يرون الايمان مزاحماً و مانعاً عن التلذّذ بشهواتهم.

فيعاقبون بعذاب شديد أليم، لجهتين: إحداهما: عدم إيمانهم

بالاصول. ثانيتهما:

عدم علمهم بالفروع.

فالسبب الأصلي لابتلائهم بالعذاب الخالد و العقاب الأليم الشديد، كفرهم و عدم ايمانهم بالاصول؛ لأنه المانع عن عملهم بالفروع. و لا يلزم من ذلك فعلية التكاليف الشرعية و تنجّزها في حقّهم، كما قد يلوح من الكبري المزبورة.

و بذلك يمكن الالتيام بين المشهور و بين ما اخترناه من التفصيل. و إلّا فلو قلنا بأنّ المقصود عقاب الكفار علي ترك العمل بالفروع علي حدة- مضافاً إلي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 55

عقابهم علي عدم إيمانهم بالاصول- لا يمكن التلاؤم المزبور.

و علي ضوءِ هذا البيان تستطيع أن تعرف نقطة التلاؤم بين ما اخترناه في المقام و بين مسلك المشهور. و سيأتي توضيح ذلك.

ليس الكفار غافلين عن أصل التكليف

و الحاصل أنّ تكليف الكفار بالفروع إنّما هو في طول التكليف بالاصول. فانّهم مكلّفون بالفروع بهذا المعني الطولي، لا علي حدة في عرض التكليف بالاصول، كما قد تُوهِمه الكبري المزبورة؛ حيث شُبِّه بالتكليف بالاصول و جُعل علي وزانة بلفظ «كما» في نصّ الكبري. فكيف أنّ التكليف بالاصول فعلي في حق الكفار، كذلك التكليف بالفروع.

و السرّ في عدم كون هذا المعني مرادهم من القاعدة المبحوث عنها في المقام، عدم إمكان انبعاث من لا يعتقد بالاسلام؛ حيث لا يري أوامره و نواهيه من أمر اللّٰه و نهيه؛ لانه فرع اعتقاده بحقانية الاسلام و نبوّة نبيّنا صلي الله عليه و آله و كون القرآن من الكتب السماوية النازلة من جانب اللّٰه تعالي، بل إنّما يمكن انبعاثه و بعثه بالامر و النهي الشرعي الاسلامي في صورة اعتقاده بذلك. و من الواضح أنّ الأمر و النهي و البعث و الزجر في حق من لا يمكن انبعاثه و انزجاره لغوٌ قبيح لا يصدر من الحكيم،

إلّا في طول الايمان بالاصول؛ نظراً إلي امكان انبعاثه بهذا المنوال.

و بناءً علي طولية التكليف بالفروع لا يتصور الغفلة عن أصل التكليف؛ لما له جذرٌ في حكم العقل المستقل.

بيان ذلك: أنّ المنتحل بأيّ دين إلهي- لم يُنبئ نبيُّه بالخاتمية كنبينا-؛ لمّا

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 56

يحتمل- بعد مجي ءِ دين جديد- حقّانية الدين اللاحق و نسخ الدين السابق به-؛ نظراً إلي تشريعهما من مشرّع واحد، و هو اللّٰه تعالي. و مع فرض كون كل منهما عالميّاً، من دون اختصاص بقوم أو قبيلة خاصة-، يجب عليه بحكم العقل الفحص عن الدين اللاحق؛ لعدم دافع لاحتمال تشريع الدين اللاحق و نسخه الشريعة السابقة، إلّا بالتثبيت و الفحص.

المناقشة في تعليل عدم تكليف الكفار بغفلتهم

و عليه فلا يُصغي إلي مقالة من «1» علّل عدم كون الكفار معاقبين علي الفروع بتوقف تنجّز تكليف الكفار علي العلم و الالتفات و عدم الغفلة، و بأنّ هذا الشرط غير حاصل فيهم؛ لاعتقادهم بدينهم و علمهم ببطلان الاسلام و عدم احتمالهم التكليف بغير ما شُرّع في دينهم.

و الوجه في ذلك: أنّه بعد كون مشرّع الدين السابق و اللاحق واحداً- و هو اللّٰه تعالي- و كون كلِّ واحد منهما ديناً عالمياً من غير اختصاص بقوم أو قبيلة، لا محالة يكون الدين السابق منسوخاً في مواضع اختلافه مع الدين اللاحق، و هذا أمرٌ مسلّم يقتضيه حكم العقل باستحالة التناقض و التضاد في أحكام المقنّن الحكيم.

فيجب بحكم العقل علي كل ذي دين إذا قرع سمعه مجي ءُ دين جديد من جانب اللّٰه تعالي، أن يفحص عن إثباته بطلب البرهان و الحجة عليه، حتي يزيل الشك الطاري علي بقاءِ الدين السابق بسماعه خبر مجي ء الدين اللاحق؛ لاستقلال الفعل بالاستيقان بطاعة اللّٰه

و تحصيل المؤمن.

______________________________

(1) راجع القواعد الفقهية/ للشيخ المحقق محمد الفاضل اللنكراني: ج 1، ص 325.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 57

نعم من لم يقرع سمعَه تشريع دين جديد بحيث لا يحتمل ذلك، فهو معذور.

و كبري «توقف التكليف علي الالتفات و عدم الغفلة» إنّما تصدق علي هذه الصورة، لا صورة سماع خبر مجي ء دين جديد، كما أنّهم بعد انتحالهم إلي الاسلام سواءٌ مع المسلمين في جريان القاعدة. فلا ينبغي الخلط في ذلك، كما صدر من المحقق المزبور.

هذا مع أنّ العلم و الالتفات شرط تنجّز التكليف، لا أصل ثبوته، و لا سيّما في طول الايمان بالاصول. فالغفلة علي فرض قبول تحققها في الكفار إنّما تمنع عن تنجّز التكليف كما في المسلمين الغافلين، لا عن أصل ثبوت التكليف. نعم يصلح هذا الوجه دليلًا لردّ القول بثبوت التكليف الفعلي في حق الكفار علي حدة في عرض التكليف بالاصول. و إلّا فلو كان صالحاً للمنع عن ثبوت أصل التكليف في حقّهم، لكان يصلح للمنع عن ثبوت التكليف بالاصول أيضاً، و ليس كذلك، بل لا غفلة هناك عن الاصول؛ لما له من الجذر في الفطرة و العقل، إلّا في المستضعفين القاصرين.

و ليس الكلام في تنجيز التكليف علي الكفار؛ لوضوح كونه فرع العلم و الالتفات، كما أنّ الأمر كذلك في حق المسلمين. و إنّما الكلام في ثبوت أصل التكليف بالعمل بفروع الدين في الجملة.

ردّ التعليل باشتراط الاسلام في صحة الفروع

و أما اشتراط الاسلام في صحة الواجبات التكليفية و الوضعية، فلا يمنع من تكليف الكفار بالفروع بزعم بطلان جميع طاعاتهم و واجباتهم- المشترط فيها الاسلام-، فلا أثر لتكليفهم بالفروع. و ذلك لعدم المنافاة، غاية الأمر يجب عليهم أوّلًا الاسلام؛ تحصيلًا لشرط الواجب. و لا ينافي

ذلك كون الاسلام و الايمان بالاصول واجباً

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 58

مستقلّاً، مع ماله من المقدّمية للعمل بالفروع.

و أمّا بناءً علي القول بعدم كون الكفار معاقبين علي الفروع- كما هو رأي المخالفين للمشهور و نحن قوّيناه في محلّه «1» - لا مناص من القول بعدم اشتراك الكفار مع المؤمنين في التكاليف و الأحكام العملية الفرعية، كما هو المختار.

______________________________

(1) راجع كتاب الخمس من دليل تحرير الوسيلة: ص 96.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 59

مدرك القاعدة
اشارة

1- تأسيس الأصل في المقام.

2- ساير أدلّة هذه القاعدة.

3- الاستدلال لعدم تكليف الكفار بالفروع.

4- إقامة الحدود علي الكفار ليس لتكليفهم بالفروع.

5- النصوص الدالة وجوب إقامة مطلق الحدود علي الكفار.

6- النصوص الدالة علي إقامة الحدّ علي الكافر المتجاهر بشرب الخمر.

7- النصوص الدالة علي وجوب اقامة حد الزنا علي الكفار.

8- نظرة إلي كلام صاحب الجواهر.

9- الاستدلال باطلاق الفتاوي و ردُّه.

تأسيس الأصل في المقام

قبل الورود في تحرير أدلّة هذه القاعدة، ينبغي تنقيح مقتضي الأصل في المقام.

هل الأصل عدم تكليف الكفار بالفروع أو يقتضي العكس؟

و هل الأصل في المقام عقلي أو شرعي؟

مقتضي التحقيق أنّه لا أصل عقلي و شرعي في المقام يقتضي تكليف الكفار علي الفروع، لو لم يكن علي خلافه، إلّا بالمعني الذي فسرناه و حملنا رأي المشهور عليه. بمعني التكليف بالايمان بأصل الدين ثمّ العمل بأحكامه.

أما الأصل العقلي: فلأنّه يبتني علي حكم العقل. و لا حكم للعقل بتكليف

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 60

الكفار علي الفروع. و ذلك لابتناء حكمه بذلك علي استقلال العقل بلزوم طاعة اللّٰه تعالي؛ شكراً لنعمائه أو تحصيلًا للمؤمن من العقاب الأليم الخالد و دفعاً للضرر العظيم الاخري. و هذا الحكم منه إنّما يستقل به العقل علي فرض إحراز موضوعه من جانب المولي و هو ثبوت الأمر و النهي الالزاميين منه. و لا يُحرِز العقل ذلك، إلّا بعد اعتقاده باصول الدين و إيمانه بنبوّة نبيّنا محمد صلي الله عليه و آله و كون القرآن وحياً نازلًا من جانب اللّٰه تعالي.

فلا أصل عقلي لهذه القاعدة، بل الأصل العقلي علي خلافها، كما عرفت آنفاً و ستعرف توضيحه.

و أما الأصل الشرعي، فقد يقال: إنّ مقتضي عمومات الآيات- المتوجه فيها التكليف بالعبادات و الواجبات و الاجتناب

عن المحرّمات إلي النّاس- تكليف الكفار بالفروع؛ لأنّهم من الناس.

كقوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» «1»؛ حيث إنّ العبادة هي العمل بالأحكام و طاعة الأوامر و الاتيان بالواجبات و ترك المحرّمات. و لفظ الناس يشمل المؤمنين و الكافرين علي حدٍّ سواءٍ و بهذا التقريب تدل هذه الآية علي تكليف الكفار بالفروع.

و قوله: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ …» * «2»؛ حيث إنّ اتقاءَ الرب إنّما هو بالاجتناب عن موجبات غضبه و عذابه. و يتوقف ذلك علي طاعة أوامره و نواهيه و الاجتناب عن معصيته.

______________________________

(1) البقرة: 21.

(2) الحج: 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 61

و قوله تعالي: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا كَافَّةً لِلنّٰاسِ» «1»؛ حيث إنّ إرسال النبي كان لتشريع الدين و التكاليف. و لفظ «الناس» شاملٌ للكفار. و عليه فارسال النبي لكافّة الناس يقتضي 000 توجّه التكليف بالاسلام إلي جميع الناس، بلا فرق بين المسلمين و الكفار. فيثبت بذلك اشتراكهم في التكاليف الفرعية، كما في تكليفهم بأصل الاسلام.

و من ذلك ما كان من الأحكام موضوعه طبيعي العنوان، كقوله: «إذا التقي الختانان، فقد وجب الغسل»؛ حيث يشمل المؤمن و الكافر. و قوله: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» «2»، و: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «3» و قوله: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا» «4»، و قوله: «لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمّٰا تَرَكَ الْوٰالِدٰانِ وَ الْأَقْرَبُونَ» «5» و قوله: «يُوصِيكُمُ اللّٰهُ فِي أَوْلٰادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» «6».

و يرد علي الاستدلال بهذه الآيات و مثلها: أنّ القرينة العقلية تشهد بقبح تكليف الكفار بالفروع قبل التزامهم و اعتقادهم بالاصول؛ لعدم امكان انبعاثهم و انزجارهم و انقيادهم، بالأوامر و النواهي،

فلا تكون الأحكام الفرعية فعلية

______________________________

(1) سبأ: 28.

(2) المطفّفين: 1.

(3) لُمزة: 1.

(4) النساء: 93.

(5) النساء: 7.

(6) النساء: 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 62

منجّزة في حقّهم ما داموا كافرين غير معتقدين و لا مؤمنين باصول الدين، و إن كانوا عالمين بالأحكام الفرعية لأغراض علمية دنيوية.

و لا يخفي أنّه لا ينافي ذلك عقابهم علي الفروع لأجل تركهم تحصيل مقدماتها الاختيارية و هي العلم و الاعتقاد بالاصول بطريق التعقّل و التفكّر، كما قال تعالي: «أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ، أَ فَلٰا تَعْقِلُونَ» «1»، كما دلّ عليه صحيح زرارة و غيرها، و سيأتي ذكر هذه النصوص.

و أما قوله تعالي: «ما أرسلناك إلّا كافّةً للناس»؛ فمعناه هداية جميع الناس و فلاحهم و سعادتهم و نجاتهم من النار و إنقاذهم من ورطة الهلاكة و الطغيان و الفساد و حيرة الضلالة. و ذلك لا يلازم تكليف الكفار بالفروع قبل أن يؤمنوا بالاصول؛ لامكان تكليفهم بالفروع بطريق التكليف بالاصول في الرتبة السابقة.

و أما قوله: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اعْبُدُوا …» «2»، فهو إرشادٌ إلي حكم العقل بوجوب طاعة الربّ و عبادته؛ قضاءً لحق العبودية و المولوية و شكراً لنعمائه، كما يشعر بذلك ذيله «ربّكم الذي خلقكم …»، فانه في قوّة التعليل الذي يستند إليه العقل في حكمه بوجوب طاعة اللّٰه و عبادته بملاك الربوبية و الخالقية.

و أما قوله: «يا أيها الناس اتقوا ربّكم»، فهو تحذير من الكفر باللّٰه الموجب للخلود في النار الحريق؛ أيّ اتقوا من عذاب ربّكم و الخلود في نار جهنّم بالايمان باللّٰه و الاجتناب عن الكفر الموجب للخلود في النار. و هذا أيضاً إرشادٌ إلي حكم العقل بلزوم دفع العقاب الاليم الخاسر الاخروي و تحصيل

المؤمّن من خوف الضرر العظيم و الخطر الكبير.

فلا نظر لهذه الآيات إلي التكليف بالفروع.

إن قلت: إطلاق هاتين الآيتين و ما شابههما من الآيات يقتضي وجوب

______________________________

(1) الاسراء: 23.

(2) البقرة: 21.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 63

العبادة و الطاعة و الاجتناب عن المعصية مطلقاً، باتيان جميع الواجبات و ترك جميع المعاصي، بلا فرق بين الاصول و الفروع.

و بهذا التقريب تتمّ دلالة هذه الآيات علي اشتراك الكفار مع المسلمين في التكاليف.

قلت: الأمر بعبادة اللّٰه و اتقاءِ عذابه و إن يقتضي باطلاقه ثبوت التكليف بذلك علي الكافرين و المسلمين جميعاً؛ لدخولهم في عنوان الناس، إلّا أنّ توجّه التكليف بهذا الأمر القرآني فرع الايمان باللّٰه و برسالة خاتم النبييّن صلي الله عليه و آله، و بنزول القرآن من جانب اللّٰه و كون الأمر المزبور حكم اللّٰه.

فما داموا لم يؤمنوا باللّٰه و نبيّه و كتابه، لا يعقل تكليفهم بأوامر القرآن و نواهيه. و هذا الاشكال مشترك الورود علي الاستدلال بجميع الآيات القرآنية لاثبات القاعدة المبحوث عنها في المقام.

هذا، مضافاً إلي ما يرد من الاشكال خصوصاً علي ساير الآيات المستدل بها في المقام.

أما تحذير المطفّفين و الهمّازين و اللمّازين، فليس من مختصّات الاسلام.

و موضوع هذه القاعدة إنّما هو اشتراك الكفار و المسلمين في تشريعات الاسلام. و كذلك عقاب قاتل النفس المحترمة من غير حق؛ لأنّه من أظهر مصاديق الظلم و الجناية في نظر العقل و جميع الملل و النحل.

و أما قوله: «للرجال نصيب …» و «للذكر مثل حظّ الانثيين» منصرف عن الكفار، بل النظر فيهما إلي جهة الرجولية و الانوثية، بقرينة ما فيهما من المقابلة، فلا نظر لهما إلي جهة الكفر و الايمان.

و أما قوله: «إذا التقي الختانان …»

فهو منصرف عن الكافر؛ لأنّ له نجاسة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 64

ذاتية؛ نظراً إلي كون الكفر من أعظم النجاسات، فليس قابلًا للتطهير بالغسل حتي يشمله إيجاب الغُسل.

هذا مع احتفاف جميع هذه الخطابات و نظائرها بالقرينة العقلية الصارفة لها إلي المسلمين، كما أشرن إليه آنفاً.

و عليه يشكل تأسيس الأصل المقتضي لتكليف الكفار بالفروع تكليفاً فعلياً منجّزاً، و إن علموا الاحكام الفرعية الشرعية بالتعلّم لأغراض دنيوية. بل الأصل العقلي يقتضي عدم تكليف الكفّار بالفروع؛ نظراً إلي القرينة العقلية، السابق توضيحها، مضافاً إلي ما سيأتي من بعض الوجوه الآخر.

و أما الأصل العملي، فلا يجري بعد حكم العقل بقبح تكليف من لم يؤمن بالاصول، بل الأصل العقلي يقتضي نفي تكليف الكفار بالفروع حال كفرهم و قبل إيمانهم بالاصول؛ لعدم إمكان انبعاثهم.

ساير أدلّة هذه القاعدة
اشارة

ثمّ إنّه قد استُدل لهذه القاعدة بوجوه:

1- الشهرة الفتوائية بين فقهائنا

، بل استُظهِر من كلمات كثيرٍ من الأصحاب إجماعهم علي ذلك، بل ادُّعي كون ذلك من ضروريات المذهب، كما صرّح بذلك السيد المراغي؛ حيث إنّه- بعد عنوان القاعدة- قال:

«وفاقاً للمشهور من أصحابنا المتقدّمين و المتأخّرين، بل الظاهر من عبارة كثير من الأصحاب الاجماع علي ذلك، بل كونه من ضروريات مذهب الامامية، فانّهم يعبّرون عنه بلفظ عندنا أو عند علمائنا و نحو ذلك. نعم، ربّما يستفاد من بعض المحدّثين من المتأخّرين- كالقاساني و الأمين الأسترابادي و صاحب

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 65

الحدائق علي ما حكي- خلاف ذلك، وفاقاً لمن سبقهم علي ذلك». «1»

و لكن هذا الوجه غير وجيه؛ إذ الشهرة الفتوائية لا حجية له، كما حُقّق في محلّها من علم الاصول.

2- الاجماع و الضرورة.

و دعوي الضرورة كما تري؛ لأنّ الاجماع غير حاصل؛ نظراً إلي مخالفة جماعة من الأصحاب لذلك، كما أشار السيد المراغي إلي بعضهم.

و ممن قال بعد تكليف الكفار بالفروع، صاحب الحدائق، و قد توقف فيه الشهيد. و قد مال إليه في الرياض؛ حيث إنّه قال: «ظاهر شيخنا الشهيد في المسالك و الروضة التوقف في المسألة و لا يخلو عن وجه، مع أنّه أحوط في الفتوي، بلا شبهة» «2».

فلا اجماع علي هذه القاعدة بين الأصحاب. هذا، مع أنّ دعوي الاشتراك معلّلة في كلمات الأصحاب بوجوه، فلا بدّ من ملاحظة تلك الوجوه.

3- تمكن الكفار من تحصيل العلم.

و قد علّل الشيخ هذه القاعدة بتمكّن الكفار من تحصيل العلم بالشرائع و الأحكام؛ حيث إنّه- بعد بيان اشتراط العلم بالتكليف في تنجّزه و الثواب و العقاب عليه- قال: «و لذلك قلنا إنّ الكفار مكلّفون للشرائع؛ لتمكّنهم من العلم بها بالنظر في معجزات الأنبياء» «3».

______________________________

(1) العناوين الفقهية: ج 2، ص 714.

(2) الرياض: ج 2، ص 297/ طبع قديم.

(3) الاقتصاد/ للشيخ الطوسي: ص 68.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 66

و لا يخفي أنّ تعليله بتمكنهم من تحصيل العلم بالنظر في معجزات الأنبياء مشعر بأنّ التكليف بالفروع في عرض الايمان بالاصول، و لكن الايمان بالاصول في عين حال التكليف به مستقلًا مقدمة اختيارية للتكليف بالفروع.

و لكن بناءً علي هذا التوجيه ينبغي أنّ يكون مراده من الشرائع أصلها، كما يشهد له النظر في معجزات الأنبياء؛ إذ لا دخل لذلك في تعلّم الأحكام الفرعية.

و علي أيّ حال فان كان مراده من الشرائع الأحكام الفرعية و تعليل التكليف بها بالعلم بها، فيرد علي هذا التعليل أنّ مجرّد العلم بالشرائع و الأحكام لا ينفع في تنجّز التكليف و العقاب

عليه، ما دام لم يكن فعلياً بتحصيل الاعتقاد بأصل الشريعة، بل إنّ الكافر موظّف- بحكم العقل- أوّلًا بالفحص عن حقانية أصل الشريعة و الاعتقاد باصولها، ثمّ يتوجه إليه خطاب وجوب تحصيل العلم بالأحكام.

و لو كان مراد الشيخ حقانية أصل الشرائع، ففيه أنّ مجرد العلم بذلك لا يوجب تنجيز آحاد الأحكام و الفروع ما دام لم يحصل العلم بها.

و لكن الأظهر أنّ مراده من الشرائع و اصول الأديان و مقصوده من العلم، الاعتقاد بها بطريق النظر في المعجزات.

و هذه النكتة المهمة- أعني بها توقف التكليف بالفروع علي الاعتقاد و الاقرار باصول الدين- قد عُلّل به لنفي التكليف عن الكفار بالفروع في النصوص المعتبرة.

و قد اتَّكل علي هذه النكتة في الحدائق لنفي تكليف الكفار بالفروع و جعله الوجه الثاني من وجوه ذلك؛ حيث قال: «الثاني الأخبار الدالة علي توقف التكليف علي الاقرار و التصديق بالشهادتين … فانه متي لم تجب معرفة الامام قبل الايمان باللّٰه و رسوله فبطريق الأولي معرفة سائر الفروع التي هي متلقاة من

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 67

الامام عليه السلام. و الحديث صحيح السند باصطلاحهم صريح الدلالة، فلا وجه لرده و طرحه و العمل بخلافه إلّا مع الغفلة عن الوقوف عليه … و يظهر ذلك أيضاً من المحدث الامين الاسترآبادي عطّر اللّٰه مرقده في كتاب الفوائد المدنية، حيث صرح فيه بأنّ حكمة اللّٰه تعالي اقتضت أن يكون تعلق التكاليف بالناس علي التدريج، بأنّ يُكلَّفوا أوّلًا بالاقرار بالشهادتين، ثمّ- بعد صدور الاقرار عنهم- يكلفون بسائر ما جاءَ به النبي صلي الله عليه و آله» «1». و سيأتي البحث عن ذلك في تقرير وجوه مخالفة المشهور في المقام.

4- الاستدلال بالكتاب:

فقد استدلّ- مضافاً إلي

ما سبق من الآيات في تأسيس الأصل- بما دلّ من الآيات بظاهرها علي كون الكفّار مكلّفين بالفروع، كقوله تعالي: «وَ لِلّٰهِ عَلَي النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» «2»، و قوله تعالي- حكايةً عن الكفار حالكونهم في جهنّم-: «قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَ كُنّٰا نَخُوضُ مَعَ الْخٰائِضِينَ وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ» «3»، و قوله: «فَلٰا صَدَّقَ وَ لٰا صَلّٰي» «4»، و قوله تعالي: «وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لٰا يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ». و يؤيّده ما رواه في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية.

وجه الدلالة أنّ الكفار لو لم يكونوا مكلّفين بالصلاة و الزكاة، لم يكن وجهاً لكون تركهما سبباً لدخولهم في النار.

و لكن يمكن الجواب- مضافاً إلي ما سبق آنفاً- عن الآية الاولي و الثانية

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 3، ص 39- 40.

(2) آل عمران: 98.

(3) المدثّر: 43- 46.

(4) القيامة: 31.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 68

بامكان إرادة المؤمنين من الناس فكأنّ الكفار و المشركين لم يحسبهم اللّٰه من الناس في هاتين الآيتين. هذا مع أنّ الاولي في خصوص الحج، فهي أخص من المدّعي. و قد حمل في الحدائق هذه الآية علي المؤمنين مستدلًا بقاعدة حمل المطلق علي المقيد و العام علي الخاص؛ حيث قال: «و ورود يا أيها الناس، في بعض و هو الأقل، يُحمل علي المؤمنين حمل المطلق علي المقيد و العام علي الخاص، كما هو القاعدة المسلّمة بينهم» «1». و لكن ما سبق منّا آنفاً في توجيه هذه الآيات أشبه بمقتضي الصناعة.

و أما باقي الآيات، فيمكن كون اللوم و العتاب و استحقاق العقاب و السلوك في سقر بسبب

كفرهم و عنادهم و لجاجهم المانع من العمل بالأحكام، فأوجدوا سبب حرمانهم من بركات فعل الصلاة و الزكاة بكفرهم، فلم يصلّوا و لم يزكّوا لأجل كفرهم و امتناعهم من قبول عدم الاسلام، كما يشهد لذلك احتفاف ترك الصلاة بتكذيب القيامة و ترك تصديق ما جاءَ به النبي صلي الله عليه و آله كما في قوله تعالي:

«وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ»، و قوله تعالي: «فَلٰا صَدَّقَ وَ لٰا صَلّٰي، وَ لٰكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّٰي» «2».

و معناه أنّ الكافر لو كان يصدّق باللّٰه و لم يكذّب يوم الدين و النبي صلي الله عليه و آله لصلّي، فكان عدم صلاته لأجل كفره باللّٰه و تكذيبه لما جاءَ به النبي صلي الله عليه و آله. و عليه فاستحقاقه العقاب إنّما هو بسبب كفره. و إنّما عوتب و ليمَ علي ترك الصلاة و الزكاة ظاهراً في لفظ الخطاب.

5- قاعدة الجبّ

المستفادة من قوله صلي الله عليه و آله: «الاسلام يجبّ ما قبله» «3»، و غيره من النصوص. و هي من أهمّ الوجوه المستدلّ بها للقاعدة المبحوث عنها في

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 3، ص 43.

(2) القيامة: 31.

(3) عوالي اللئالي: ج 2، ص 54.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 69

المقام.

بتقريب: أنّ مفاده هذه القاعدة ارتفاع ما علي الكافر من التكاليف و الحدود الشرعية حال كفره، بسبب الاسلام بعد ما أسلم.

و لازم ذلك كون الكافر حال كفره مكلّفاً بالتكاليف و الحدود و الأحكام المقرّرة في الاسلام، و إلّا لا معني لارتفاع آثارها، من القضاء و الكفارة و الحدود. فيثبت بهذه القاعدة كون الكفار مكلّفين بالفروع- حال كفرهم- كالمسلمين.

و لكن يمكن الجواب: بأنّه يمكن أن يراد من الجبِّ دفع الآثار و الأحكام المترتبة

علي كفرهم و عدم إسلامهم؛ حيث كانوا أوّلًا مكلّفين بالاصول ثمّ بالفروع.

بيان ذلك: أنّه يمكن أخذ الكفار بترك الفروع- حال كفرهم- لأجل كفرهم و عدم قبول الاسلام عناداً، لا لأجل تكليفهم بالفروع مستقلًا مع قطع النظر عن تكليفهم بالاصول و بناءً علي هذا الأساس يكون مفاد قاعدة الجبّ أن تشرّفهم بالاسلام يرفع عنهم آثار ما كان عليهم من التكاليف الفرعية المترتبة علي الايمان بالاصول؛ بمعني أنّهم لا يؤاخذون بها- بعد إسلامهم- لأجل كفرهم المانع- قبل الانتحال- من إيمانهم بالاصول و بالمآل من عملهم بالفروع.

و لا سيما أنّ جملة من نصوص هذه القاعدة ناظرة إلي ما صدر منهم قبل مجي ء الاسلام في عصر الجاهلية، و لم يكن أحدٌ في ذلك الزمان مكلّفاً باصول الاسلام، فضلًا عن فروعه.

و حاصل الكلام: أنّ قاعدة الجب بصدد بيان قطع التكاليف الفرعية المتوقّعة من الكفار بسبب تكليفهم بالاسلام في مقابل التائب المسلم؛ حيث إنّه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 70

بعد التوبة يجب عليه تدارك ما فاته من العبادات، من القضاء و الكفارة؛ نظراً إلي ثبوت التكاليف عليه قبل التوبة بسبب قبوله الاسلام. فإنّ الكافر و إن لم يكن مكلّفاً بالفروع مستقلًا في قبال تكليفه بالاصول- بناءً علي المبني المختار المقابل للمشهور- إلّا أنّه كان مكلّفاً بها بتبع تكليفه بالاصول. و من هنا فقد فوَّت الكفار علي أنفسهم الواجبات و التكاليف الدينية بكفرهم. فمقتضي القاعدة الأوّلية أن يتداركوا بعد الاسلام ما فوّتوه من الفرائض بسوءِ اختيارهم. و قاعدة الجب إنّما تفيد قطع هذا الثبوت التبعي الممتنع بالاختيار؛ لأنّه لا ينافي الاختيار؛ لأنّ الايمان بالاصول كان اختيارياً له.

إن قلت: وجوب القضاء فرع الفوت، و الفوت فرع ثبوت التكليف بالفائت.

قلت: نعم

وجوب القضاء علي المسلم فرع فوت الواجب، و ذلك فرع ثبوت التكليف و فعليته. و لكن لا ينافي ذلك صحة إيجاب القضاء علي الكافر أيضاً بعد اسلامه بلحاظ ما فوّته علي نفسه من الواجبات و الفرائض و ما أتلفه و استولي عليه من الحقوق و الأموال الواجب عليه دفعها و ردّها إلي أربابها بحكم الاسلام. فكان قابلًا للتكليف بتداركها؛ نظراً إلي كون تفويتها بلجاجه و عناده و إنكاره و كفره الاختياري له.

و نقول: إنّ حديث الجبّ- علي فرض صحة سنده- بنفسه دليل ثبوت التكليف الطولي بالفروع علي الكفار و صحة إيجاب تدارك ما فات عنهم من التكاليف الفرعية بسبب سوءِ اختيارهم. و لكن حديث الجبّ دلّ علي إغماض الشارع عن تكليفهم بتدارك ذلك رأفةً بهم لإسلامهم و امتناناً عليهم لانتحالهم إلي الاسلام و ترغيباً لهم إلي الرجوع عن الكفر إلي الاسلام و تشويقاً لهم إلي الدخول في الشريعة السمحاء السهلة.

فاتّضح علي ضوء ما بيّناه عدم صلاحية حديث الجبّ للاستدلال به علي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 71

تكليف الكفار بالفروع تكليفاً فعلياً في عرض الايمان بالاصول، بل غاية ما يستفاد منه بالملازمة، إنّما هي ثبوت التكليف الشأني بالفروع في طول التكليف بالاصول. و القرينة العقلية شاهدةٌ لنفي المعني الأوّل و إثبات المعني الثاني من تكليف الكفار بالفروع، كما أنّه نقطة التلاؤم بين المشهور و بين مخالفيهم من الفقهاء و المحدّثين و الاصوليين.

6- بعض الروايات المستدلّ بها علي اشتراك الكفار مع المؤمنين في التكاليف الفرعية،

كرواية سليمان بن خالد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أخبرني عن الفرائض التي افترض اللّٰه علي العباد ما هي؟ فقال عليه السلام: شهادة أن لا إله إلّا اللّٰه و أنّ محمداً رسول اللّٰه، و إقام الصلاة الخمس و إيتاءُ

الزكاة و حِجُّ البيت و صيام شهر رمضان و الولاية. فمن أقامهن و سدّد و قارب و اجتنب كلّ مسكر دخل الجنة» «1».

قوله: «قارب» لعلّ المقصود قاربهنّ أيّ جمعهنّ من دون أن يترك بعضهنّ.

قوله: «سدّد»؛ أي أحسن فعلهنّ بالاخلاص و نية القربة. و لعل المراد من «قارب» قصد التقرّب بهنّ إلي اللّٰه.

وجه الدلالة كون مورد السؤال ما افترض اللّٰه علي عموم العباد الشامل للكفار و المسلمين، و أنّ ابتناء جواب الامام عليه يقتضي اشتراك التكليف بين الكفّار و المؤمنين.

و يمكن الجواب عن الاستدلال بهذه الرواية بما أجبنا آنفاً عن عموم بعض الآيات من إرادة خصوص المؤمنين و عدم حساب الكفار من الناس، فضلًا عن كونهم عباداً. هذا، مع أنّ التعبير بالعباد إنّما جاءَ في كلام السائل، دون الامام.

و لكن الأصح في الجواب: أنّ التعبير المزبور، و إن جاءَ في النصوص

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من مقدّمة العبادات من كتاب الطهارة، ح 17.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 72

المتواترة «1»، إلّا أنّه إمّا بلحاظ ما قلناه من كون جميع الناس مكلّفين بالفروع في طول تكليفهم بالاصول، أو بلحاظ ما قال بعض المحققين من عدم عدّ الكفّار من العباد فانّ اولئك كالأنعام، بل هم أضلّ.

و قد يُستدلّ بحديث: «بُنِيَ الاسلام علي الخَمس» «2» بلحاظ كون الكفار مكلّفين بالاسلام، فيكلَّفون بالخَمس المذكور المبني عليه الاسلام بالتبع. لكنّه كما تري؛ حيث لا ريب في كون دين الاسلام مجموع التكاليف و الأحكام الفرعية، و لكن الكلام في كون الكفّار مكلّفين بالتكاليف الفرعية مستقلًا عن الاصول، لا بتبعها، كما بيّناه.

و أما الاستشهاد بحديث قبالة الأرض «3» لمن يري له ذلك الامام و الوالي، فلا يرتبط بالمقام؛ لأنّ الكلام في

التكليف الأوّلي، لا الثانوي الحكومي الثابت بحكم الامام أو الحاكم و الوالي. و قد بيّنا الفرق بينهما في كتابنا «بدائع البحوث في علم الاصول» «4».

7- لا ريب في كون الكفار مكلّفين بالايمان،

و قد ورد في الأخبار أنّ الايمان عمل بالأركان التي هي التكاليف الفرعية. فلا محالة يكون الكفّار مكلّفين بالتكاليف و الأحكام الفرعية.

و فيه: أنّ الايمان فعل الجوانح و إتيان التكاليف الفرعية فعل الجوارح، و

______________________________

(1) كقوله: فرض اللّٰه علي العباد، الكافي: ج 1، ص 290، و ج 2، ص 22، و ج 3، ص 273، و ج 6، ص 190، ح 1، و ج 7، ص 170، ح 1، كامل الزيارات: ص 449. و قوله: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ فرض فرائض موجبات علي العباد المروي في الكافي: ج 2، ص 383، ح 1.

(2) الوسائل: ب 1، من كتاب الطهارة، ح 1.

(3) الوسائل: ب 72، من جهاد العدوّ، ح 2.

(4) بدائع البحوث في علم الاصول: ج 1، ص 255.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 73

إنّهما متغايران في ماهيتهما؛ و ذلك لأنّ الايمان خضوع باطني و خشوع قلبي لما اعتقده الانسان من العقائد الدينية، نعم يمكن أن يقال: إنّ العمل بالتكاليف الفرعية علامة علي إيمان العامل بها، كما ورد في النصوص أنّ: «الايمان ما وقر في القلوب و صدّقته الاعمال» «1» و ورد في أكثر الطرق: «الايمان ما وقر في القلب و صدّقه العمل» «2». و يشهد لذلك قوله تعالي: «الذين آمنوا و عملوا الصالحات» في كثير من الآيات القرآنية؛ لظهور العطف في مغايرتهما. فاطلاق الايمان علي العمل ادعائيٌ، و المقصود كاشفية عدم العمل بالاركان عن عدم الايمان.

فتحصّل أنّه لا ملازمة بين التكليف بالايمان بالاصول و بين التكليف بالعمل

بالفروع.

8- و قد يستدلّ لتكليف الكفار بالفروع بأنّهم لو لم يكونوا مكلّفين بالفروع، لَيلزم تساوي الكفار الذين ارتكبوا معاصي و ذنوب كثيرة شنيعة، مع الكفار الذين لم يرتكبوها في العقاب.

مع أنّا نعلم بالضرورة كونهم متساوين في العقاب.

و هذا الاستدلال لا أساس له؛ لوضوح عدم كون أكثر ما يرتكبون من الجنايات و القبائح و الفواجر من مختصّات الاسلام، بل ممنوعة بحكم العقل و جميع الأديان فلا يبعد تفاوت درجات عقابهم باختلاف معاصيهم و جناياتهم؛ كثرةً و قلّةً، و من حيث عِظَمها و صغرها. مع أنّهم متساوون في ارتكاب أعظم الذنوب و هو الشرك باللّٰه العظيم.

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 50، ص 208.

(2) الكافي: ج 2، ص 26، ح 3/ عوالي اللئالي: ج 1، ص 248/ بحار الانوار: ج 46، ص 176.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 74

و قد تشبَّث بعض المحققين «1» للمشهور بوجوه اخري ضعفها واضح، فلا حاجة إلي إطناب الكلام بذكرها.

الاستدلال لعدم تكليف الكفار بالفروع
اشارة

و يمكن الاستدلال لعدم تكليف الكفار بالفروع بوجوه ثلاثة:

1- إنّ إثبات تكليف الكفار بالفروع و اشتراكهم مع المؤمنين في التكاليف الفرعية- مضافاً إلي تكليفهم بالاصول- يحتاج إلي دليل شرعي،

و هو غير ثابت؛ إذ الخطاب في جُلّ الآيات القرآنية و جميع الروايات في تشريع الأحكام و التكاليف الفرعية بالمؤمنين، إلّا في بعضها؛ حيث خوطب فيه الناس و العباد، و قد عرفت توجيهه. و أما الاجماع فهو غير حاصل؛ لمخالفة جماعة من الأصحاب. و كذا ساير ما استُدلّ به من الوجوه؛ حيث قد عرفت ضعفها بأجمعها و عدم صلاحيتها لاثبات رأي المشهور. فلا دليل علي تكليفهم بالفروع علي حدة. و هو يكفي لاثبات المطلوب.

و قد يتوهم أنّ كبري: «عدم الدليل دليل علي العدم» لا صغري لها في المقام؛ نظراً إلي حكم العقل العملي بوجوب شكر المنعم بطاعة أوامره. و عليه فوجوب طاعة حكم اللّٰه و اتّباع دينه ثابت بحكم العقل. و هذا أدلّ دليل علي تكليف

______________________________

(1) العناوين الفقهية/ للسيد المراغي: ج 2، ص 714- 721/ القواعد الفقهية للشيخ محمد الفاضل: ج 1، ص 315.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 75

الكفار بالفروع؛ إذ الفروع ليست إلّا أحكام اللّٰه.

و لكنه لا أساس له. و ذلك لأنّ العقل بعد حكمه المزبور، يحكم أيضاً بلزوم تعلّم أوامر اللّٰه من أنبيائه، و لا سبيل و لا حكم للعقل في تعيين أحكام اللّٰه و شرائعه؛ لأنّها توقيفية لا تثبت إلّا بالنقل و السمع.

و حينئذٍ نقول: لا بد لاثبات أحكام اللّٰه و شرائعه من دليل. و ما دام لم تثبت بحجّة لا حكم للعقل بطاعته؛ إذ موضوع حكمه بطاعة اللّٰه، صدور أمره و حكمه.

و عليه فعدم دليل و حجّة شرعية علي إثبات حكم اللّٰه و أمره، دليل علي عدم صدور الأمر و الحكم منه تعالي. و هذا مقصودنا من احتياج

تكليف الكفار بالفروع إلي الدليل. و قد فرغنا عن عدم صلاحية الوجوه المزبورة للدليلية علي ذلك؛ نظراً إلي القرينة العقلية المانعة من توجّه التكليف إليهم حال كفرهم قبل إيمانهم بالاصول.

2- حكم العقل

بأنّ من لم يؤمن بالاصول لا يمكن تكليفه بالفروع؛ ضرورة كون التكليف بالأحكام الفرعية فرع الالتزام بأصل الشريعة و أصولها. اللّهم إلّا أن يكلّف بالفروع تبعاً لتكليفه بالاصول- كما بيّناه- لا مستقلًا، كما هو محل الكلام.

و ليس وجه الاستحالة جهل الكفار بالفروع و غفلتهم عن التكاليف الفرعية لكفرهم، كما زعم الشيخ الأعظم؛ حيث قال: - في الجواب عن نصوص المقام- «إنّا لا نقول بكون الكفار مخاطبين بالفروع تفصيلًا، كيف؟ و هم جاهلون بها غافلون عنها؟!» «1».

بل الوجه في استحالة تكليفهم بالأحكام الفرعية، إنكارهم للرسالة و عدم اعتقادهم بالاسلام؛ فإنّ تكليفهم بالفروع قبيح لأجل ذلك، لا لأجل جهلهم بالأحكام و عدم التفاتهم بها، و إلّا لسري الإشكال في كثير من المؤمنين الجاهلين بالأحكام الفرعية الغافلين عنها، مع أنّ الفقهاء تسالموا علي اشتراك

______________________________

(1) كتاب الطهارة: ج 2، ص 569.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 76

الأحكام بين العالم و الجاهل، بل عُدّ ذلك من الضروريات التي لم يخالف فيه أحدٌ.

و قد اعترف الشيخ الأعظم بذلك؛ حيث قال: «و علي تقدير الالتفات، فيستهجن، بل يقبح خطاب من أنكر الرسول بالايمان بخليفته و المعرفة بحقه و أخذ الأحكام منه» «1».

3- ما دلّ من النصوص علي عدم تكليف الكفار بالفروع مستقلًاّ عن الاصول.

و قد استدل المحدث البحراني بهذه النصوص و خالف بها المشهور.

فمن هذه النصوص: صحيح زرارة قال: «قلت لابي جعفر عليه السلام: أخبرني عن معرفة الامام منكم واجبة علي جميع الخلق؟ فقال عليه السلام: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ بعث محمداً صلي الله عليه و آله إلي الناس أجمعين رسولًا و حجة للّٰه علي جميع خلقه في أرضه، فمن آمن باللّٰه و بمحمد رسول اللّٰه و اتّبعه و صدّقه، فانّ معرفة الامام منّا واجبة عليه؛ و من لم

يؤمن باللّٰه و رسوله و لم يتّبعه و لم يصدّقه و يعرف حقّهما، فكيف يجب عليه معرفة الامام و هو لا يؤمن باللّٰه و رسوله و يعرف حقّهما؟!» «2».

قال في الحدائق- بعد ذكر هذه الصحيحة-: «و هو كما تري صريح الدلالة علي خلاف ما ذكروه، فانه متي لم تجب معرفة الامام قبل الايمان باللّٰه و رسوله، فبطريق الأولي معرفة سائر الفروع التي هي متلقاة من الامام. و الحديث صحيح السند باصطلاحهم، صريح الدلالة، فلا وجه لردّه و طرحه و العمل بخلافه إلّا مع الغفلة عن الوقوف عليه.

و إلي العمل بالخبر المذكور ذهب المحدث الكاشاني؛ حيث قال في كتاب

______________________________

(1) كتاب الطهارة: ج 2، ص 569.

(2) الكافي: ج 1، ص 180، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 77

الوافي بعد نقله ما صورته: و في هذا الحديث دلالة علي أنّ الكفار ليسوا مكلّفين بشرائع الاسلام كما هو الحق؛ خلافاً لما اشتهر بين متأخّري أصحابنا، انتهي.

و يظهر ذلك أيضاً من المحدث الأمين الاسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية؛ حيث صرح فيه بأنّ حكمة اللّٰه تعالي اقتضت أن يكون تعلق التكاليف بالناس علي التدريج؛ بأنّ يكلفوا أوّلًا بالاقرار بالشهادتين، ثمّ بعد صدور الاقرار عنهم يكلفون بسائر ما جاء به النبي صلي الله عليه و آله. قال: و من الأحاديث الدالة علي ذلك صحيحة زرارة المذكورة في الكافي، ثمّ ساق الرواية بتمامها» «1».

منها: ما رواه في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام: في حديث الزنديق الذي جاءَ إليه بأنّ: «أوّل ما قيّدهم به: الاقرار بالوحدانية و الربوبية و الشهادة بأن لا اله إلّا اللّٰه. فلما أقرّوا بذلك، تلاه بالاقرار لنبيه صلي الله عليه و آله بالنبوة و الشهادة

له بالرسالة.

فلما انقادوا لذلك، فرض عليهم الصلاة، ثمّ الصوم، ثمّ الصلاة، ثمّ الحجّ …» «2».

و منها ما رواه علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالي: «وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لٰا يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ» «3» عن الصادق عليه السلام، قال: «أ تري أنّ اللّٰه عزّ و جلّ طلب من المشركين زكاة أموالهم و هم يشركون به؟!، حيث يقول: و ويل للمشركين … و إنّما دعي اللّٰه العباد للايمان به، فاذا آمنوا باللّٰه و رسوله افترض عليهم الفرائض» «4».

و منها: ما ورد في صحيح بريد بن معاوية عن الباقر عليه السلام في تفسير قوله

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 3، ص 39- 40.

(2) الاحتجاج: ج 1، ص 379.

(3) فُصّلت: 5 و 6.

(4) تفسير القمي: ج 2، ص 262.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 78

تعالي: «و أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «1» قال عليه السلام: «كيف يأمر بطاعتهم و يرخّص في منازعتهم؟ إنّما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ*» «2».

و إنّ دلالة هذه النصوص علي المطلوب واضحة غنية عن البيان و التوضيح و ما اورد عليها من المناقشات غير وارد.

و أما الاشكال باعراض المشهور عن هذه النصوص؛ نظراً إلي افتائهم بكون الكفّار مكلّفين بالفروع، فلا أساس له.

و ذلك أوّلًا: لأنّ كبري «وهن سند الخبر باعراض المشهور» لا نسلّمها. و قد فصّلنا البحث عن هذه الكبري في كتابنا «مقياس الرواية» و ناقشنا فيها.

فراجع «3».

و ثانياً: لأنّ هذه القاعدة مشهورة بين متأخري أصحابنا، كما نقله في الحدائق عن المحدّث الكاشاني أنّه- بعد الاستشهاد بصحيح زرارة- قال: «و في هذا الحديث دلالة علي أنّ الكفّار ليسوا مكلّفين

بشرائع الاسلام، كما هو الحق؛ خلافاً لما اشتهر بين متأخّري أصحابنا» «4»

و ثالثاً: لأنّ اعراض المشهور إنّما يوهن سند الخبر إذا دلّ علي حكم توقيفي تعبّدي، دون ما إذا كان إرشاداً إلي حكم العقل، كما في المقام؛ نظراً إلي

______________________________

(1) النساء: 62.

(2) الكافي: ج 8، ص 184- 185، ح 212.

(3) مقياس الرواية في علم الدراية، ص 149- 163.

(4) الحدائق الناضرة: ج 3، ص 39- 40.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 79

حكم العقل بقبح خطاب الكافر و تكليفه بالفروع ما دام لم يعتقد و لم يؤمن بالاصول، كما هو مفاد النصوص المزبورة.

و علي أيّ حال يمكن الجمع بين ما ذهب إليه المشهور و بين من خالفهم بما بيّناه، من القول بالتكليف التبعي بالفروع، لا مستقلًا، لكنه لا يلائم استدلال الفقهاء بهذه القاعدة لوجوب الزكاة و قضاء العبادات.

إلّا أنّ الذي يسهّل الخطب أنّ في غالب الموارد التي تمسك الفقهاء بهذه القاعدة يوجد دليل علي المسألة بخصوصها؛ إمّا إجماع أو دليل لفظي، فلم يُرز استنادهم إلي هذه القاعدة وحدها في الموارد المشار إليها، كما سيتضح ذلك في التطبيقات الفقهية.

و في هذا المقدار من البحث في مدرك القاعدة كفايةٌ.

و فتحصّل أنّ الأقوي عدم تكليف الكفار بالفروع مستقلّاً عن الاصول، بل إنّهم مكلّفون بها تبعاً للايمان بالاصول بالمعني الذي بيّناه و هو محل التلاؤم مع المشهور.

إقامة الحدود علي الكفار
اشارة

ليس لتكليفهم بالفروع

لا إشكال في وجوب إقامة الحدود علي الكفار في الجملة. و قد يستدل بذلك لتكليف الكفّار بالفروع، لزعم منافاة ذلك مع عدم تكليفهم بالفروع. و علي أيّ حال يمكن الاستناد لاقامة الحدود علي الكفار بوجوه:

1- إطلاق الآيات:

يستفاد من إطلاق آيات الحدود و الديات و القصاص عدم اختصاصها بالمسلمين و تعلقها بمطلق من ارتكب الجنايات و المحرّمات الموجبة لها، حتي المشركين و المنافقين. و ذلك لتعلّق الحكم في هذه الآيات بطبيعي المتلبّس بالجناية و مرتكب بعض المعاصي. و ذلك مثل قوله تعالي: «السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 80

فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا» «1»، و قوله: «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ» «2»، و قوله: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً» «3»، فيشمل الكافر إذا قذف مؤمنةً محصنةً. و كذلك آيات الديات و القصاص.

و فيه: أنّ هذه الآيات لا تثبت التكليف علي كلّ من جني بهذه الجنايات؛ إذ ليست بصدد ذلك.

نعم هي بصد تكليف المؤمنين باقامة الحدود علي كل سارق و سارقة، و زان و زانية، و كلّ من جني؛ لأنّ المؤمنين هم الخاطبون بقوله: «فاقطعوا» و «فاجلدوا»، و ليست بصدد تكليف الجاني.

و لا ملازمة بين تشريع المجازات في حق الجاني و بين ثبوت التكليف عليه. و ذلك لما في تشريع الحدود و الديات و القصاص علي الكفّار من الحِكَم و المصالح التأديبية و السياسية و الاجتماعية، كقلع مادّة الفساد و منع شيوع الفحشاء بين المؤمنين و القيام بالقسط و العدل باحقاق حق المجني عليه المظلوم، و نحو ذلك من موجبات التأديبات و السياسات المقرّرة في شريعة الاسلام. كما يشهد لذلك ما ورد من

النصوص الخاصّة، كما سيأتي ذكرها.

2- الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام:

و إنّ النصوص قد وردت طائفة منها في مطلق الحدود. و وردت طائفةٌ اخري في حدّ شرب الخمر و النبيذ المسكر. و وردت طائفة ثالثة في حد الزنا.

______________________________

(1) المائدة: 38.

(2) النور: 2.

(3) النور: 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 81

النصوص الدالّة وجوب إقامة مطلق الحدود علي الكفار

أما الطائفة الاولي: و هي ما دلّ من النصوص علي وجوب إقامة مطلق الحدود علي الكفار.

فمن هذه النصوص: خبر الكناسي؛ حيث إنّه دلّ علي اشتراط التكليف في تعلّق الحد التام و وجوبه. و لمّا ثبت وجوب إقامة الحدّ علي الكفار، فيثبت كونهم مكلّفين بالفروع.

و هو ما رواه محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيي عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب عن أبي أيّوب الخزاز، عن يزيد الكناسي، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليتم و زُوّجت و اقيمت عليه الحدود التامّة لها و عليها. قال: قلت: الغلام إذا زوّجه أبوه و دخل بأهله و هو غير مدرك، أ تقام عليه الحدود علي تلك الحال؟ قال عليه السلام: أما الحدود الكاملة التي يؤخذ بها الرجال فلا، و لكن يجلد في الحدود كلّها علي مبلغ سنّه، و لا تبطل حدود اللّٰه في خلقه، و لا تبطل حقوق المسلمين بينهم» «1».

و أوّل ما يرد علي هذا الوجه، أنّ هذه الرواية ضعيفة لأجل يزيد الكناسي؛ إذ هو يزيد أبو خالد الكناسي، و لم يرد بعنوانه توثيق، إلّا بناءً علي اتحاده مع يزيد أبي خالد القماط، كما هو المحتمل؛ نظراً إلي عدم ذكر الشيخ في رجاله أبا خالد القماط و اكتفائه بذكر أبي خالد الكناسي. و لكن مع ذلك يحتمل التعدّد؛ نظراً إلي ذكر البرقي كليهما بعنوانهما علي حدةٍ في

رجاله. و احتمال التعدد يكفي في ضعف الرواية في فرض كون أحدهما ضعيفة.

أما دلالةً، فقد دلّ الخبر المزبور علي اعتبار البلوغ في تعلّق الحد الكامل و

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من مقدمات الحدود، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 82

وجوبه. و يستفاد منه اشتراط التكليف في تعلّق الحد و وجوب إقامته.

و قوله: «و لا تبطل حدود اللّٰه في خلقه، و لا تبطل حقوق المسلمين بينهم» لا يخلو من إشعار بعدم اشتراط الاسلام و الايمان في تعلق الحدود و وجوب اقامتها. و ذلك لما جاءَ فيه من تعلّق الحدود و وجوب إقامتها بين الخلق كلّهم- مسلمين و غيرهم- ما دام لم يوجب إبطال حق المسلمين. فيدل باطلاقه علي وجوب إقامة الحد بين خلقه مطلقاً حتي الكفار و المشركين.

و يمكن أن يستفاد من هذين المدلولين أنّ اقامة الحدود علي المشركين ليس لتكليفهم بالفروع. و لكن يشهد سياقها علي أنّ المراد عدم مشروعية إبطال حقوق بعض المسلمين بسبب فعل بعض آخر منهم فيما بينهم. إلّا أنّه لا يمنع من إطلاق قوله: «لا تبطل حدود اللّٰه في خلقه»، فانّ كلّ فقرة مستقلّة في اتباع ظهورها، و هذا مرادهم من تبعُّض فقرات حديث واحد في الحجية.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ هذه الفقرة بمنزلة التعليل، فهي ناظرة إلي توجيه لزوم إقامة الحدّ في حق الصبي، و لو ناقصةً و يشترط في انعقاد الاطلاق كون الكلام ناظراً إلي الجهة التي يراد الاطلاق من تلك الجهة.

و قد تبيّن لك مما بيناه أنّه لا نظر للفقرة المزبورة إلي الكفار، بل إنّما نظرها إلي بيان وجه إقامته الحدّ الناقص في حق صبيان المسلمين بأنّ حقّ المجني عليه المسلم لا تضيع ببطلان حدّ

الصبي الجاني، بل لا بد من إحقاقه باقامة الحد، كما يشعر إلي هذه الجهة قوله: «و لا تبطل حقوق المسلمين …» أو بأنّ حدود اللّٰه لا يجوز إبطالها و تعطيلها بين المسلمين، و لو باقامتها ناقصةً. فلا نظر لها إلي الكفّار.

و دعوي دلالة الفقرة المزبورة علي عدم بطلان حدود اللّٰه بين الكفار بطريق

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 83

الفحوي و الأولوية؛ نظراً إلي أولوية الكفار بالعقاب لكفرهم و بُعدهم عن رحمة اللّٰه، و لا سيما البالغين منهم بعد دلالتها علي اقامة الحدود بين صبيان المسلمين، و لو ناقصةً.

مدفوعة: بأنّ صبيان المسلمين لما وُلدوا في بيوت المسلمين و يكون نموّهم و حشرهم و رشدهم بين مجتمع المسلمين يكون للمسلمين حقوق عليهم بمقتضي ذلك، مع أنّهم تابعون لآبائهم في مختلف شئون العيش، و مقتضي ذلك نفوذ قوانين الاسلام و حدوده الجزائية في حقهم بحسب مبلغ سنّهم، و هذا بخلاف الكفار الحربيين الذين لا علقة لهم مع المسلمين و لا حقوق بينهم، بعد فرض عدم تكليفهم بالفروع. و من أجل ما قلناه لا مدفع من احتمال وجود الخصوصية في صبيان المسلمين.

و علي أيّ حال يشكل الاستدلال بهذه الرواية؛ لضعفها سنداً و دلالة؛ لوجود القرينة الحالية السياقية الصارفة إلي المسلمين. و لا أقل من احتماله. و مع احتمال الخلاف ينهدم أساس الاستدلال.

ثمّ إنّه يستفاد من الأخبار المعتبرة تعلّق الحدود بالكفار و المشركين و وجوب إقامتها عليهم إذا ارتكبوا الجناية و المحرّمات في بلاد المسلمين، أو ارتكبوها في غير بلاد المسلمين و لكن رفعوا النزاع إلي حُكّام المسلمين، دون ما إذا ارتكبوها في بلادهم و لم يرفعوا النزاع إلي حكّام المسلمين مطلقاً، سواءٌ رفعوا النزاع إلي حكّام

غير المسلمين أو لم يرفعوا النزاع إلي حاكم أصلًا.

من هذه النصوص: صحيح أبي بصير، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن دية اليهود و النّصاري و المجوس، قال: هم سواء ثمانمائة درهم، قلت: إن اخذوا في بلاد المسلمين و هم يعملون الفاحشة أ يقام عليهم الحدّ؟ قال عليه السلام: نعم يحكم فيهم بأحكام

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 84

المسلمين» «1».

و منها: رواية أبي بصير عن أبي جعفر، قال: «إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و أهل الانجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه، إن شاء حكم بينهم، و إن شاء تركهم» «2». و يقتضيه قوله تعالي: «فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» «3». و ظاهر الرواية الحكم بينهم بأحكام المسلمين، كما هو الظاهر الآية الشريفة و صريح صحيح أبي بصير.

النصوص الدالة علي إقامة الحدِّ علي الكافر المتجاهر بشرب الخمر

أما الطائفة الثانية: فهي نصوص دلّت علي وجوب إقامة الحد علي الكافر الذمي المتجاهر بشرب الخمر، بل أيّ مسكر، بل يدل بعض نصوص هذه الطائفة باطلاقه علي إقامته الحدّ علي مطلق الكافر المتجاهر بشرب الخمر، سواءٌ كان ذمّياً أو حربياً.

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من أبواب ديات النفس، ح 8.

(2) الوسائل: ب 27، من أبواب كيفية الحكم، ح 1.

(3) المائدة: 42.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 85

و قد دلّت علي ذلك نصوص صحيحة.

منها: صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللّه، قال: «كان عليٌّ عليه السلام يجلد الحرَّ و العبد و اليهوديَّ و النصرانيَّ في الخمر ثمانين» «1».

و منها: مضمر أبي بصير قال: «قال حدّ اليهودي و النصراني و المملوك في الخمر و الفرية سواء؛ و إنّما صولح أهل الذمة علي أن يشربوها في بيوتهم» «2». و مضمرة في حكم

الصحيح. و قوله: «الفِرية»؛ أي الافتراء، و المقصود حدّ القذف.

و في موثقه الآخر قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد الحرّ و العبد و اليهودي و النصراني في الخمر و النبيذ ثمانين، قلت: ما بال اليهودي و النصراني؟ فقال: إذا أظهروا ذلك في مصر من الأمصار، لأنّهم ليس لهم أن يظهروا شربها» «3».

و لا يخفي أنّ سؤال الراوي؛ استعجاباً، بقوله: «و ما بال اليهودي»، كاشف عن عدم تكليف الكفّار بالفروع في اعتقاده و ارتكازه، و من أجل ذلك سأل الامام عن وجه إقامة الحدّ عليه. و الامام لم يعلّل في الجواب بكون الكفار مكلّفين بالفروع، بل إنّما وجّه ذلك بمنعهم عن إظهار المعصية حسب عهد الذمة، أو في نفسه سدّاً عن شيوع الفساد و الفحشاءِ و حفظاً لحرمة الاسلام و المسلمين، بل لكلتا الجهتين؛ فانّ كلّاً منهما يصلح لأنّ يكون حكمه تشريع الحدّ علي المتجاهر منهم، و من هنا يشمل الملاك المعلّل به في هذه النصوص للكافر الذمي و الحربي كليهما.

و منها: حسنة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قضي أمير المؤمنين عليه السلام أن يُجلد اليهودي و النصراني في الخمر و النبيذ المسكر ثمانين جلدة إذا أظهروا شربه في مصر من أمصار المسلمين، و كذلك المجوس، و لم يعرِّض لهم إذا شربوها في منازلهم و كنائسهم حتّي يصير بين المسلمين» «4». قوله: «قضي أن يُجلد» أي قرَّر و حكم كلّياً، لا في واقعة، و إلّا لكان الأنسب التعبير بقوله: «قضي بذلك».

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من أبواب حدّ المسكر، ح 4.

(2) المصدر: ح 5.

(3) المصدر: ح 2.

(4) المصدر: ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 86

و مما دلّ علي

ذلك ما رواه عبد اللّه بن جعفر الحميري في قرب الاسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسي بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن يهودي، أو نصراني، أو مجوسي اخذ زانياً، أو شارب خمر، ما عليه؟ قال عليه السلام: يقام عليه حدود المسلمين، إذا فعلوا ذلك في مصرٍ من أمصار المسلمين أو في غير أمصار المسلمين إذا رفعوا إلي حكّام المسلمين» «1».

و لكن هذه الرواية ضعيفة بعبد اللّٰه بن الحسن؛ إذ لم يوثّقه أحدٌ من مشايخ الرجال، بل هو مجهول لم يتعرّض أحدٌ لحاله. و لم يرو الشيخ الحرّ هذه الرواية عن كتاب علي بن جعفر حتي يُصحّح بهذا الطريق. فتحصّل أنّ هذه الرواية ضعيفة سنداً. و لكن الأمر سهل بعد دلالة النصوص المعتبرة علي مضمونها. و أما إذا رفعوا الأمر إلي الحاكم، فقد دلّ علي اقامة حدود الاسلام و أحكام المسلمين عليهم- مضافاً إلي هذه الرواية- رواية أبي بصير و الآية الشريفة السابق ذكرهما آنفاً.

و يُفهم من هذه النصوص أنّ الكفار إنّما يستحقون الحدّ لجهرهم بالمعاصي و تجاهرهم بارتكاب المحرّمات و نقض أحكام الشريعة. و هذا في الحقيقة لأجل نقضهم عهد الذمة؛ لأنّ عدم نقض أحكام الشريعة جهاراً و عدم تجاهرهم بالمعصية كان من موارد عهدهم مع والي المسلمين. فلا دلالة لهذه النصوص علي كونهم مكلّفين بالفروع، بل لها إشعارٌ بعدم تكليفهم بالفروع؛ إذ لو كانوا مكلّفين بالفروع كالمسلمين، لعوقبوا باجهار المعاصي، بل مطلقاً حتي خفاءً، من غير حاجة إلي عهد الذمة و نقضه.

و ذلك أوّلًا: لتعلق النهي في هذه النصوص باظهار المعصية، لا بارتكابها في بيوتهم و كنائسهم بمجرد قيام البيّنة العادلة. فلو كانوا مكلّفين بالفروع،

______________________________

(1) الوسائل:

ب 29، من مقدمات الحدود، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 87

لاستحقوا الحد بمجرّد ذلك، كما هو الثابت بالنص و الفتوي و الاجماع في حق المسلمين.

و ثانياً: لدلالة هذه النصوص علي عدم منع والي المسلمين إيّاهم عن ارتكاب المعصية في بيوتهم و كنائسهم، بل إنّما صالحهم علي ارتكابهم ذلك في بيوتهم و كنائسهم. فلو كانوا مكلّفين بتركها لم يكن يصالحهم علي ذلك. و ليس ذلك لسقوط الحدّ عنهم بالمصالحة بعد ثبوته لكونهم مكلّفين بالفروع، كما يظهر من صاحب الجواهر، «1» بل إنّما كان لما قلناه. و ذلك لعدم مشروعية المصالحة علي دين اللّٰه و حدوده لأحد من خلقه. و قد كان الأنبياء مكلّفين علي إجراء حدود اللّٰه، لا المصالحة مع الناس عليها. هذا كله في حدّ شرب المسكر.

النصوص الدالّة علي وجوب إقامة حد الزنا علي الكفار

و أمّا حدّ الزنا فقد دلّت طائفة من النصوص علي وجوب إقامته علي الكفار. و ظاهرها عدم اختصاص وجوب إقامته عليهم بصورة التجاهر و لا لأجل نقض عهد الذمة، كما يظهر من النص و الفتوي، بل لأجل هتك حرمة الاسلام و المسلمين و الافساد بينهم. و علي أيّ حال لا دلالة لهذه النصوص كون إقامة الحد عليهم لأجل تكليفهم بالفروع لو لم تدلّ علي عدمه.

و قد صرّح في الجواهر بعد دخل عهد الذمة و نقضه في ذلك؛ حيث قال:

«سواءٌ كان بشرائط الذمة أو لا، فان حدّه القتل بلا خلاف أجده، بل الاجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض» «2».

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 41، ص 460.

(2) جواهر الكلام: ج 41، ص 313.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 88

فمن هذه النصوص ما دلّ علي إجراء حد الزنا علي الكافر إذا زني بالمسلمة

في بلاد المسلمين، كما دلّ عليه صحيح أبو بصير، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن دية اليهود و النّصاري و المجوس، قال: هم سواء ثمانمائة درهم، قلت: إن اخذوا في بلاد المسلمين و هم يعملون الفاحشة أ يقام عليهم الحدّ؟ قال عليه السلام: نعم، يحكم فيهم بأحكام المسلمين» «1».

و منها: ما ورد في الكافرة الزانية فدلّ علي تسليمها إلي أهل ملّتها، كما يستفاد ذلك من معتبرة السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام: «أنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلي علي عليه السلام في الرّجل زني بالمرأة اليهودية و النصرانية، فكتب عليه السلام إليه:

إن كان محصناً فارجمه، و إن كان بكراً فاجلده مائة جلدة ثمّ انْفِه، و أما اليهودية، فابعث بها إلي أهل ملّتها، فليقضوا فيها ما أحبّوا» «2». قوله: انفه؛ أي احكم بنفيه و تبعيده عن بلده.

و في ذيلها دلالة علي عدم كون ما يستفاد من نصوص المقام- من إقامة الحدّ علي الكفّار- لأجل تكليفهم بالفروع، و إلّا لم يجز للحاكم تسليم اليهودية إلي أهل ملّتها، من غير إقامة الحدّ عليها.

و أمّا لو زني الكافر بالمسلمة، فالظاهر من النصوص جريان الحدّ و وجوب إقامته علي الكافر الزاني مطلقاً، كما دلّ عليه موثق حَنان بن سَدير «3» عن الصادق عليه السلام: «أنّه سئل عن يهودي فجر بمسلمة. قال عليه السلام: يقتل» «4». و قد دلّ

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من أبواب ديات النفس، ح 8.

(2) الوسائل: ب 8، من أبواب حد الزنا، ح 5.

(3) حَنان بفتح الحاء و تخفيف النون. سدير بفتح السين و كسر الدال، قاله العلامة.

(4) الوسائل: ب 36، من أبواب حدّ الزنا، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية

الأساسية، ج 3، ص: 89

باطلاقه علي وجوب إقامة حدِّ الزنا علي الكافر مطلقاً، بلا فرق بين الذمي و غيره.

و أما وجوب الاقامة، فلكون قوله: «يقتل» اريد به الأمر.

و خبر جعفر بن رزق اللّٰه: «أنّه قدم إلي المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة و أراد أن يقيم عليه الحدّ، فأسلم. فقال يحيي بن أكثم: قد هدم إيمانُه شركَه و فعلَه. و قال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، و قال بعضهم يفعل به كذا و كذا. فأمر المتوكّل بالكتاب إلي أبي الحسن الثالث عليه السلام و سؤاله عن ذلك. فلما قدم الكتاب، كتب أبو الحسن عليه السلام: يضرب حتي يموت. فأنكر يحيي بن أكثم و أنكر فقهاء العسكر ذلك. و قالوا:

يا أمير المؤمنين سله عن هذا؛ فانّه شي ء؛ لم ينطق به كتاب و لم تجي ء به السنة. فكتب:

إنّ فقهاء المسلمين قد أنكروا هذا و قالوا: لم تجي ء به سنّة و لم ينطق به كتاب. فبيّن لنا بما أوجبت عليه الضرب حتي يموت؟ فكتب عليه السلام: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنا باللّٰه وحده و كفرنا بما كنّا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا، سنّة اللّٰه التي قد خلت في عباده و خسر هناك الكافرون. قال: فأمر به المتوكّل، فضُرب حتي مات». «1».

هذه الرواية ضعيفةٌ؛ لعدم ثبوت وثاقة جعفر بن رزق اللّٰه، و لعلّ استشهاد صاحب الجواهر بها في المقام- من دون تعرّض إلي ضعف سندها- تدوينها في كتب الأصحاب، كما نقلها في الوسائل عن عدّة مصادر روائية.

و يستفاد من هذا، الخبر- و لا سيما الآية التي استدلّ بها الامام عليه السلام- عدم سقوط الحد عن الكافر باسلامه عند إرادة إقامة الحد عليه، كما

أشار إليه في الجواهر بقوله: «قد يقال: إنّ ظاهر الخبر المزبور عدم سقوط القتل عنه بالاسلام عند إرادة إقامة الحد عليه، كما هو مقتضي الاستدلال بالآية الكريمة، بل لعلّه ظاهر في خصوص إرادة التخلص. و إطلاق الموثق السابق ظاهر أو

______________________________

(1) الوسائل: ب 36، من أبواب حدّ الزنا، ح 2 و 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 90

منزل علي غير الفرض» «1». و لا يخفي أنّ مقصوده من الموثّق السابق، موثّق حَنان بن سَدير.

و أما لو احرز إسلامه حقيقة- لا خوفاً عن الحدّ-، فمقتضي قاعدة الجب سقوط الحد عنه. و الخبر المزبور منصرف عن هذه الصورة؛ لكونه في فرض إسلام النصراني عند إرادة الحد. بل استشهاد الامام عليه السلام بالآية دلّ بمفهومه علي مفاد قاعدة الجبّ. و قد سبق منّا البحث عن مفاد قاعدة الجبّ و مفادها في المجلّد الثاني من كتابنا «مباني الفقه الفعّال».

و قد يقال باختصاص الحكم المزبور بالذمّي؛ نظراً إلي اختصاص مورد الخبرين المزبورين به. و لكن لا شاهد فيهما علي اختصاص موردهما بالذمي. و علي فرض ذلك لا يصلح موردهما لتخصيص الحكم الكلي المستفاد منها، و لا سيّما موثّق حنّان. بل في الرياض أنّ معقد الاجماع أعمّ منه. و يؤيّد التعميم أنّ الكفر ملة واحدة و أولوية غير الذمّي منه في إقامة الحد عليه. كما أشار إلي ذلك كله في الجواهر؛ حيث قال: «و علي كل حال فقد يتوهم من اختصاص الخبرين بالذمي- كبعض الفتاوي-، قصر الحكم عليه دون غيره من أقسام الكفار، إلّا أنّ ظاهر الرياض المفروغية من المساواة، بل جعله معقد ما حكاه من الاجماع و غيره، و لعلّه لكون الكفر ملّة واحدة و أولوية غير الذمي

منه بالحكم» «2».

و أما إذا تحاكم الكفار إلي حُكّام المسلمين، يتخير الحاكم بين إجراء حدود الاسلام عليهم و بين ترك الحكم و الاعراض عنهم. و قد دلّ علي ذلك قوله: «فانّ جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم» «3» و تؤيّده رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 41، ص 314.

(2) جواهر الكلام: ج 41، ص 315.

(3) المائدة: 42.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 91

قال: «إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و أهل الانجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه، إن شاء حكم بينهم، و إن شاء تركهم» «1». و مثلها خبر عبد اللّه بن الحسن المزبور «2».

و أما قاعدة الالزام فقد دلّت علي أخذ الكفار بدينهم و علي طبق ما يقتضيه شريعتهم في موارد تعاملهم مع المسلمين من معاملة أو نكاح أو إرث أو طلاق و نحو ذلك. و لا ربط لهذه القاعدة بتكليف الكفار بفروع شريعة الاسلام.

فتحصل ممّا حقّقنا: أنّ ظاهر النصوص كون جريان الحدود و إقامتها علي الكفار؛

إمّا لنقضهم عهد الذمة بتجاهرهم بالفواحش و المعاصي، كما سبق دلالة النصوص الواردة في حدّ المسكر؛ حيث دلّت علي وجوب إقامة الحد عليهم لو تجاهروا بشرب المسكر بين المسلمين، و علي عدمه لو شربوه في بيوتهم و كنائسهم.

و إمّا لهتكهم بحرمة الاسلام و المسلمين و الافساد بينهم. كما هو ظاهر النصوص الواردة في إقامة حدّ الزنا عليهم مطلقاً، سواء ارتكبوه جهاراً أو خفاءً. فلا تصلح هذه النصوص للدلالة علي تكليف الكفار بالفروع.

نظرةٌ إلي كلام صاحب الجواهر قدس سره

و يشهد لذلك تعليل صاحب الجواهر إجراءَ حدّ الزنا

______________________________

(1) الوسائل: ب 27، من أبواب كيفية الحكم، ح 1.

(2) الوسائل: ب 29، من مقدمات الحدود، ح 1.

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 92

علي الكافر الزاني بأنّه هتك حرمة الاسلام و خرج عن الذمة؛ حيث قال- بعد حكمه بدفع الذمّي- الزاني بذمّية- إلي أهل نحلته ليقيموا الحدّ عليه حسب معتقدهم-: «نعم هو مختصٌّ بما إذا كان زناؤه بغير المسلمة- أما بها فعلي الامام قتله، و لا يجوز الاعراض، لأنّه هتك حرمة الاسلام و خرج عن الذمّة» «1».

فانّ في تعليله بذلك إشعاراً بأنّ جريان الحدود و إقامتها علي الكفار ليس لأجل أنّهم مكلّفون بالفروع.

و مما يشهد لذلك عدم جواز إقامة الحد علي الكافر الذمي لو ارتكب الجناية و المعصية في الخلوة مستتراً من غير تجاهر. بل ادّعي في الجواهر نفي الخلاف في ذلك؛ حيث قال- عقيب فتوي صاحب الشرائع بأنّ الكافر إن تظاهر به حُدّ، و إن استتر لم يُحدّ-: «بلا خلاف أجده فيه نصّاً و فتوي» «2».

و أحسن ما يشهد لذلك ما نقله في الجواهر عن القواعد و شرحها للأصفهاني بقوله: «و لا حدّ علي الحربي و إن تظاهر بشربها؛ لأنّ الكفر أعظم منه. نعم إن أفسد بذلك، ادِّب بما يراه الحاكم» «3».

هذا، و لكن أشكل في الجواهر علي ذلك بقوله: «و فيه: أنّ الأدلّة هنا عامة فضلًا عما دل علي تكليفهم بالفروع، و عدم إقامتها علي الذمي المتستر باعتبار اقتضاء عقد الذمة ذلك، لا لعدم الحد عليه، فتأمل جيداً» «4».

و يستفاد من إشكاله هذا أولًا: أنّ المستفاد من نصوص إقامة حدّ المسكر علي اليهودي و النصراني عموم شاملٌ للكافر الحربي.

و فيه: أنّ نصوص المقام صريحة في اختصاص ذلك بالذمي كقوله عليه السلام:

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 41، ص 336.

(2) جواهر الكلام: ج 41، ص 460.

(3) جواهر الكلام: ج 41، ص 460.

(4) جواهر

الكلام: ج 41، ص 460.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 93

«إنّما صولح أهل الذمّة علي أن يشربوها في بيوتهم» في معتبرة أبي بصير «1».

و قد اعترف صاحب الجواهر بعدم جريان الحد علي الحربي، كما عرفت آنفاً.

و ثانياً: كون إقامة الحدّ علي الكفار عند تجاهرهم بالجنايات و المعاصي لأجل تكليفهم بالفروع.

و فيه: أولًا: أنّه لو كان إقامة الحدّ علي الكفار لأجل تكليفهم بالفروع، لا معني لتعليل الامام عليه السلام لاقامة الحدّ عليهم بنقضهم عهد الذمة، كما عرفت آنفاً في معتبرة أبي بصير.

و ثانياً: لو كان لأجل ذلك لم يختص بصورة التجاهر، بل لكان اقيم الحد عليهم عند ما ارتكبوا الجناية في الخلوة أيضاً إذا ثبت بالبيّنة، كما هو الأمر المعمول في المسلمين.

و عقد الذمة و المصالحة غير جائز علي دين اللّٰه و أحكامه الثابتة بحكم اللّٰه، بل إنّما يصلح لاجراء الحد عليهم؛ عقوبةً و تأديباً من باب الحكومة و الحكم الولائي.

الاستدلال باطلاق الفتاوي و ردُّه

ثمّ إنّه قد يستفاد من إطلاق فتاوي الفقهاء بتعلّق الحدود و وجوب إقامتها في حق غير المسلمين اشتراكهم مع المسلمين في التكليف؛ حيث إنّهم مقام بيان شرائط الحدود، لم يشترطوا إسلام مرتكب الجناية في تعلّق الحدود و وجوب إقامتها.

و لكن الاستظهار المزبور مورد للمناقشة؛ حيث إنّ الفقهاء لم يكونوا بصدد ذلك. و لعلّه للمفروغية عن كون جريان الحدود و إقامتها علي الكفار من

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من أبواب حدّ المسكر، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 94

باب السياسة و التأديب و مقتضي عهد الذمّة. فمن هنا لم يشترطوا الاسلام في جريان الحدود، من دون أن يبتني ذلك علي تكليفهم بالفروع. و يشهد لذلك أنّهم اتفقوا علي جريان الحدود

و إقامتها علي الكفار في الجملة و لو عند التجاهر، و لكن اختلفوا في تكليفهم بالفروع، مع ما سبق من كون اختصاص إقامة الحد عليهم بصورة التجاهر مخالفاً لمقتضي تكليفهم بالفروع، كما قلنا.

هذا، و لكن الاشكال للأساس الوارد علي الاستظهار المزبور، أنّ غاية ما يلزم من إطلاق كلامهم عدم اشتراط الاسلام في وجوب إقامة الحدّ علي الكافر.

و أما كونه مكلّفاً بالفروع و اشتراكه مع المسلمين في التكليف لا يلزم من ذلك؛ لما بيّنا من كون وجوب اقامة الحد عليهم حكماً مستقلًا. و السرّ في تشريعه ما بيّنّاه من سدِّهم عن هتك الحرمة المسلمين و عن إشاعة الفحشاء و الافساد بينهم و عن إهانة المحترمات في الدين و عن وهن الاسلام و نحو ذلك من الحِكَم المستفادة من النصوص و كلمات الفقهاء.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 95

التطبيقات الفقهية
اشارة

1- قضاءُ العبادات علي المرتد.

2- اشتراط الاسلام في الصلاة و مسألة زكاة المرتد.

3- انعقاد يمين الكافر و ضمانة بالاتلاف.

4- ترتّب الحرمة الأبدية في موارده، بعد إسلامه.

5- إقامة الحدود علي الكفّار.

و عمدة ثمرة هذه القاعدة تظهر في جواز إجبار الحاكم الكافرَ علي بعض الفروع بحسب ما يراه من المصلحة كإجباره علي دفع الخمس و الزكاة و ترتُّب الحدود الشرعية المبيّنة لكثير من المعاصي و الجنايات في الشريعة الاسلامية.

و قد يُتراءي ترتب هذه الثمرة علي تكليف الكفار بالفروع، كما عرفت من كلام صاحب الجواهر و ستعرف أيضاً في كلام غيره. فقد علّلوا ذلك بدليل كونه مكلّفاً عليها كالمؤمن. و أيضاً تظهر الثمرة في انعقاد النذور و الأيمان و العهود؛ مستنداً إلي هذه القاعدة، و في ترتب آثار ساير التكاليف الفرعية في باب النكاح و نحوه.

و قد تعرّض

الفقهاء لهذه القاعدة و تمسكوا بها- بناءً علي رأي المشهور- لفتاواهم في فروع عديدة من مختلف أبواب الفقه.

و لكن التمسك بها إنّما يصح و يتمّ بناءً علي رأي المشهور، لا علي المبنا المختار المخالف لرأي المشهور.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 96

قضاءُ العبادات علي المرتد

فمن هذه الفروع قضاءُ ما علي المرتد من العبادات. فقد حكم الفقهاء عليه بالقضاء بعد رجوعه إلي الاسلام بالاستتابة و استدل شيخ الطائفة لذلك بوجهين ثانيهما هذه القاعدة؛ حيث قال:

«المرتد الذي يُستتاب يجب عليه قضاءُ ما فاته في حال الردّة من العبادات- إلي أن قال بعد نقل أقوال العامة- دليلنا: اجماع الفرقة المحقة و أيضاً عندنا أنّ الكفار مخاطبون بالعبادات، و من جملة العبادات قضاء ما يفوت من وجب عليه، و إذا فاتهم وجب عليهم قضاؤه، و لا يلزمنا ذلك في الكافر الأصلي، لأنّا لو خلّينا و الظواهر لأوجبناه. و لكن تركنا ذلك لدليل الاجماع علي أنّه لا قضاء عليهم» «1» و قد صرّح بذلك أيضاً ابن زهرة في الغنية «2».

اشتراط الاسلام في الصلاة و مسألة زكاة المرتد

و منها: مسألة اشتراط الاسلام في وجوب الصلاة فقد أنكره أكثر الفقهاء و استدل العلّامة لذلك بهذه القاعدة؛ حيث قال: «و ليس الاسلام شرطاً في الوجوب عندنا و عند أكثر أهل العلم …؛ حيث بيَّنّا أنّ الكفار مخاطبون بالفروع» «3».

و منها: مسألة زكاة المرتد فقد أفتي الفقهاء بوجوبها في ماله بعد استتابته و عدم توبته و قتله. و قد أفتي العلّامة بذلك؛ مستدلًاّ بهذه القاعدة و ردّ بعض

______________________________

(1) الخلاف: ج 1، ص 443.

(2) غنية النزوع: ص 99.

(3) منتهي المطلب، ط ج: ج 4، ص 12.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 97

العامّة بقوله: «و قال أحمد إذا ارتدّ قبل الحول و حال الحول مرتدّاً فلا زكاة عليه؛ لأنّ الاسلام شرط في الوجوب، و هو غلط لما بيّنّا من أنّ الكفار مخاطبون بالفروع» «1».

انعقاد يمين الكافر و ضمانة بالاتلاف

و منها: مسألة انعقاد يمين الكافر و ترتيب آثاره.

فقد أفتي به أكثر الفقهاء، و ممّا استدلوا به لذلك هذه القاعدة، كما قال في المسالك:

«إذا حلف الكافر باللّٰه تعالي علي شي ء سواء كان مقرّاً باللّٰه كاليهودي و النصراني و من كفره بجحد فريضة من المسلمين، أم غير مقرّ به كالوثني، ففي انعقاد يمينه أقوال أشهرها- و هو الذي اختاره المصنف رحمه اللّٰه، و الشيخ في المبسوط و أتباعه، و أكثر المتأخرين- الانعقاد؛ لوجود المقتضي- و هو حلفه باللّٰه تعالي مع باقي الشرائط- و انتفاء المانع؛ إذ ليس هناك إلّا كفره و هو غير مانع؛ لتناول الأدلّة الدالة علي انعقاد اليمين له من الآيات و الأخبار، و لأنّ الكفار مخاطبون بفروع الشرائع فيدخلون تحت عموم قوله تعالي و لكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان و غيره» «2». و لكن خالف في ذلك الشيخ

و ابن إدريس كما نقل في المسالك بقوله: «و قال الشيخ و ابن ادريس لا تنعقد مطلقاً لأنّ شرط صحتها الحلف باللّٰه و الكافر لا يعرف اللّٰه» «3».

و منها: مسألة ضمان الكافر بالاتلاف. فإنّ الفقهاء بعد تسالمهم علي

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء: ج 5، ص 21.

(2) مسالك الأفهام: ج 11، ص 203- 204.

(3) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 98

ضمان المرتد، اختلفوا في ضمان الحربي و قد قوّي في المسالك ضمانه؛ نظراً إلي هذه القاعدة؛ حيث قال: «و أما الحربي فأطلق الشيخ عدم ضمانه و إن أسلم، لقوله صلي اللّٰه عليه و آله الاسلام يجبّ ما قبله، و قيل: يضمن مطلقاً؛ لأنّه أتلف مالًا معصوماً ظلماً فيضمن، لأنّ الكفار مخاطبون بفروع الاسلام، و هو اختيار العلّامة» «1».

ترتّب الحرمة الأبدية في موارده بعد إسلامه

و منها: مسألة تزوّج الكافر امرأةً و بنتها- و كانتا كتابيتين-، ثمّ أسلم بعد الدخول بهما أو بالامّ وحدها، فقد أفتي الفقهاء بحرمتهما أبداً عليه؛ معلّلًا بالآيات بدعوي صدق أمهات نسائكم و ربائبكم، و باختصاص الحرمة بالام و تعيّن نكاح البنت لو دخل بالبنت وحدها.

و قد علّل ذلك كله في الجواهر بهذه القاعدة؛ حيث قال: «إذا تروّج الكافر امرأة و بنتها دفعة أو ترتيباً ثمّ أسلم بعد الدخول بهما و كن كتابيّتين مثلًا حرمتا أبداً عليه؛ لصدق أمهات نسائكم و صدق ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن. و كذا لو كان قد دخل بالامّ وحدها لذلك أيضاً بخلاف ما لو دخل بالبنت وحدها، فانه يثبت نكاحه لها، و تختص الامّ بالحرمة أبداً بامهات النساء. و الوجه في جواز ذلك كله ما عرفت، من أنّ الكفار مخاطبون بالفروع عندنا» «2».

______________________________

(1) مسالك الافهام: ج 15، ص

34.

(2) جواهر الكلام: ج 30، ص 67.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 99

إقامة الحدود علي الكفّار

و منها: جريان حدّ الزنا و شرب المسكر، بل مطلق الحدود في حق الكفار، و دعوي اشتراكهم مع المسلمين في إقامة الحدود عليهم.

قال السيد الخوئي قدس سره- بعد بيان أحكام حدّ الزنا-: «لا فرق في الأحكام المتقدّمة بين كون الزاني مسلماً أو كافراً، و كذا لا فرق بين كون المزني بها مسلمة أو كافرة. و أما إذا زني كافر بكافرة، أو لاط بمثله، فالامام مخيّر بين إقامة الحد عليه، و بين دفعه إلي أهل ملته، ليقيموا عليه الحد» «1».

و قد علّل نفي الفرق بين كون الزاني مسلماً أو كافراً باطلاقات الأدلّة «2». و قد نفي الفرق بين الكافر و المسلم في جريان حدّ شرب الخمر؛ مستدلًا بما دل علي إقامة الحد علي الذمّي المتجاهر بشرب الخمر بين المسلمين «3».

و قال السيد الامام الخميني قدس سره: «و يُقتل الذمّي إذا زني بمسلمة مطاوعة أو مكرهة، سواءٌ كان علي شرائط الذمة أم لا. و الظاهر جريان الحكم في مطلق الكفار. فلو أسلم هل يسقط عنه الحد أم لا؟ فيه إشكال و إن لا يبعد عدم السقوط» «4».

و قال: «لو ارتكب أهل الذمة ما هو سائغ في شرعهم و ليس بسائغ في شرع الاسلام لم يعترضوا ما لم يتجاهروا به.

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج: ج 1، ص 187، م 150.

(2) راجع المصدر المزبور.

(3) الوسائل: ب 6، من أبواب حدّ المسكر.

(4) تحرير الوسيلة: ج 2، ص 463.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 100

و لو تجاهروا به، عُمِل بهم ما يقتضي الجناية بموجب شرع الاسلام من الحد أو التعزير.

و لو فعلوا ما

ليس بسائغ في شرعهم يفعل بهم ما هو مقتضي الجناية في شرع الاسلام. قيل: و إن شاء الحاكم دفعه إلي أهل نحلته ليقيموا الحد عليه بمقتضي شرعهم. و الأحوط إجراء الحد عليه حسب شرعنا. و لا فرق في هذا القسم بين المتجاهر و غيره» «1».

و لا يخفي أنّ مقصوده من قوله: «و لا فرق في هذا القسم بين التجاهر و غيره» ما إذا ارتكبوا ما ليس بجائر في شرعهم و نحلتهم.

و قد يشكل علي ذلك- كما في الجواهر «2» أوّلًا: بأنّ دفعه لاقامة حكم شرعه عليه من قبيل الأمر بالمنكر و ترويجه؛ نظراً إلي كون أحكام شرعهم بعد نسخه من قبيل المنكرات.

و ثانياً: بخبر علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن يهودي أو نصراني أو مجوسي أخذ زانياً، أو شارب خمر ما عليه؟ قال: يقام عليه حدود المسلمين إذا فعلوا ذلك في مصر من أمصار المسلمين، أو في غير أمصار المسلمين إذا رفعوا إلي حكّام المسلمين» «3»؛ حيث دلّ بالصراحة علي وجوب إقامة حدود الاسلام علي الكفار لو ارتكبوا الجناية في أمصارهم و فيما بين أنفسهم. و اختصاص مورد السؤال بشرب الخمر لا يوجب تخصيص جواب الامام عليه السلام بعد عموميته و إلقائه علي نحو كبري كلية، كما يدل قوله عليه السلام: «غير أمصار المسلمين»

______________________________

(1) تحرير الوسيلة: ج 2، ص 506، الفرع الثاني لواحق كتاب الحدود.

(2) جواهر الكلام: ج 41، ص 336.

(3) الوسائل: ب 29، من مقدمات الحدود، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 101

علي عدم اختصاص الحكم بالذمّي.

و لكن سنده ضعيف بعبد اللّٰه بن الحسن و لم ينقله الشيخ الحر عن كتابه حتي يصحح

بذلك، مع أنّ مضمون ذيله خلاف رأي المشهور.

و من هنا احتاط السيد الامام بقوله: «و الأحوط إجراءُ الحدّ عليه حسب شرعنا».

إلي غير ذلك من الفروع لا حاجة إلي ذكرها. و لكنّك تعرف أنّ غالب هذه الفروع مستندٌ؛ إمّا إلي الاجماع في خصوصها، أو إلي ظواهر الأدلة اللفظية، و قلَّ منها ما يُستند إلي هذه القاعدة فقط.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 102

[قاعدة الثالثة] «قاعدة اشتراك الأحكام» «بين العالم و الجاهل»
اشارة

منصّة القاعدة و أهميتها

مفاد القاعدة و ماهيتها

مدرك القاعدة و أدلّتها

التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 103

1- منصّة القاعدة و أهميتها.

2- دفع شبهة العقاب بلا بيان.

3- منشأ تأسيس هذه القاعدة.

4- أوّل من تعرّض لهذه القاعدة.

منصّة القاعدة و أهميتها
اشارة

قد أشرنا في طليعة البحث عن قاعدة الاشتراك إلي أنّ قاعدة اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل، ينبغي البحث عنها علي حدة؛ نظراً إلي مغايرة الوجوه المستدلّ بها لهذه القاعدة مع الوجوه المستدلّ بها لقاعدة الاشتراك المعروفة، كما ستعرف في بيان مدرك القاعدة. فما صدر عن بعض المحققين، من إدراج هذه القاعدة في قاعدة الاشتراك و الاستدلال لهما بوجوهٍ مشتركة، مما لا وجه له.

و إنّ لهذه القاعدة منصّة مهمّة في علم الاصول من جهتين:

إحداهما: عند ما يقال: إنّ ما يحكم به العقل، من قبح العقاب بلا بيان إنّما يمنع من تنجّز التكليف علي الجاهل بالحكم ما دام جاهلًا، و لا ينافي ذلك أصل ثبوت التكليف عليه حتي يجب عليه تعلُّم الأحكام فيعاقب علي ترك تعلُّمها، و يتنجّز عليه التكليف بعد ارتفاع جهله.

ثانيتهما: ما يترتب علي البحث عن هذه القاعدة، من تحصيل الحجّة علي وجوب الاعادة و القضاء علي الجاهل بالحكم، كما اشتهر بين الفقهاء أنّ الجاهل بالحكم كالعامد. و أيضاً يترتب علي هذه القاعدة وجوب تعلُّم الأحكام. فتكون هذه القاعدة ممهّدة لتحصيل الحجّة علي الحكم الكلي الشرعي، فهي قاعدة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 104

اصولية.

و وجه عقد البحث عنها في ضمن القواعد الفقهية، ما رأيناه، من عدم استيفاء البحث عنها و عدم تنقيحها في محلّها من علم الاصول. و لمناسبتها في العنوان و الماهية مع قاعدة الاشتراك المعروفة و قاعدة اشتراك المسلمين و الكفار

في التكليف. هذا مضافاً إلي أنّ جماعة من المحققين قد بحثوا عنها في ضمن القواعد الفقهية.

هذا، و لكن ذلك إنّما بلحاظ كون نتيجة البحث عن هذه القاعدة اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل. و أما بلحاظ ثبوت التكليف للجاهل، تندرج هذه القاعدة في القواعد الفقهية؛ حيث إنّ تكليف الجاهل بالفروع حكم كلي يستدل به الفقيه علي مصاديقه، من آحاد أفراد الجاهلين، بخلاف الاشتراك فانّه ليس من مقولة الحكم، و إنّما يقع الحدّ الأوسط في قياس الاستنباط، كما هو شأن القاعدة الاصولية.

و بناءً علي هذا الأساس تكون القاعدة المبحوث عنها في المقام من قبيل القواعد الفقهية. و لا حاجة حينئذٍ إلي تجشُّم توجيه عقد البحث عنها في ضمن القواعد الفقهية، بل عنوان البحث عنها في المقام وجيه بلا إشكال.

دفع شبهة العقاب بلا بيان

ثمّ إنّه قد تبيّن بما قلناه دفع شبهة العقاب بلا بيان الناشئة من ظاهر عنوان هذه القاعدة.

بيان الشبهة: أنّ اشتراك الأحكام و التكاليف بين العالم و الجاهل يستتبع بالطبع اشتراكهما في عقاب مخالفة التكليف الثابت لهما. و هذا يوجب عقاب الجاهل بالحكم علي ما لم يعلم به. و ذلك قبيح من الحكيم؛ لاستقلال العقل بقبح

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 105

العقاب بلا بيان، و أيضاً ينافي ما دلّ عليه حديث الرفع، من رفع ما لا يُعلم من التكاليف.

وجه الدفع أنّ الذي يدور مدار العلم، إنّما هو تنجّز التكليف- المستتبع للثواب و العقاب- لا أصل ثبوت التكليف و فعليته. و إنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنّما يمنع من تنجّز التكليف علي الجاهل، لا أصل ثبوته المستتبع لوجوب الاعادة و القضاء بعد ارتفاع الجهل و حصول العلم، و لوجوب تعلُّم الأحكام. و هذه الثلاثة

في الحقيقة عمدة الثمرات المترتبة علي هذه القاعدة و بذلك تبدو أهميتها.

و إلي ما قلناه قد أشار صاحب الكفاية بقوله: «فان الحكم المشترك بين العالم و الجاهل و الملتفت و الغافل ليس إلّا الحكم الانشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة علي بيان الأحكام للموضوعات بعناوينها الاوّلية بحسب ما يكون فيها من المقتضيات» «1».

منشأ تأسيس هذه القاعدة

و من النكات التي ينبغي التنبيه عليها في هذا المجال أنّ الوجه في تأسيس هذه القاعدة و البحث عنها و إثباتها، إنّما هو إبطال القول باختصاص الأحكام بالعالمين و بمن قامت عنده الحجة، و أنّه من لم يعلم بالحكم و لم تقم عنده حجّة عليه لا حكم في حقّه حقيقةً. و من هذا الزعم الباطل نشأ القول بالتصويب الباطل المبني علي دوران الحكم الواقعي مدار مؤدّي الأمارة و أنّ الجاهل بالواقع لا حكم له غير ما أدّت إليه الأمارة، و أنّه لا فوت للتكليف الواقعي عند تبيّن خطاء الأمارة و انكشاف الخلاف حينئذٍ.

______________________________

(1) كفاية الاصُول: ج 1، ص 137.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 106

و إنّ باثبات هذه القاعدة ينهدم أساس هذا الزعم الباطل، و ينتفي ما رتّبوا عليه من الآثار و الأحكام.

و ممّا يشهد لما قلناه، كلام الشيخ الأعظم الأنصاري: فانه بعد ما قسّم التعبُّد بالأمارات إلي الطريقية و السببية، قسّم السببية إلي ما يؤول إلي التصويب الباطل- عند المخطّئة الموجب لاختصاص الحكم بالعالمين- و إلي ما لا يوجب التصويب و يلائم اشتراك التكليف بين العالم و الجاهل.

ثمّ حكم ببطلان القسم الأوّل، و استدلّ لبطلانه، بقوله: «و أن يكون الحكم- مطلقاً- تابعاً لتلك الأمارة، بحيث لا يكون في حقّ الجاهل- مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة و عدمها-

حكمٌ، فتكون الأحكام الواقعية مختصّةً في الواقع بالعالمين بها، و الجاهل- مع قطع النظر عن قيام أمارةٍ عنده علي حكم العالمين- لا حكم له أو محكومٌ بما يعلم اللّٰه أنّ الأمارة تؤدي إليه، و هذا تصويب باطل عند أهل الصواب من التخطئة، و قد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل الأخبار و الآثار» «1».

و قد عرفت من ذيل كلام أنّه قدس سره استدل بقاعدة الاشتراك و بما دلّ عليه من الأخبار لبطلان التصويب و عدم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها.

أوّل من تعرّض لهذه القاعدة

و قد وجدتُ خلال التحقيق السيد المرتضي قدس سره أوّل من تعرّض لمضمون هذه القاعدة و تنقيح مفادها؛ حيث إنّه في مسألة العاقد حال الاحرام عن جهلٍ، تعرّض لبيان وجه ما أفتي به الفقهاء في هذه المسألة و في فروع كثيرة اخري، من سقوط الحكم الشرعي عن

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 1، ص 113.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 107

الجاهل، و نبَّه علي ما قد يخطر بالبال من الاشكال علي ذلك؛ نظراً إلي اتفاق الأصحاب علي عدم سقوط الحكم و التكليف عن الجاهل و اشتراكه مع العالم في الأحكام، إلّا مع عدم تمكّنه من الاتيان و الامتثال، و إلّا ليلزم كون الجهل سبباً لسقوط جميع التكاليف العقلية و الشرعية الاعتقادية و العملية. و هذا لا يقوله مسلم.

ثمّ بيّن وجه ذلك- أعني سقوط الحكم عن الجاهل في مواضع من الفروع الفقهية في مختلف الأبواب- بما حاصله:

أنّ العمل مع الجهل بالأحكام حرام ممنوع، و لا يجوز من المكلّف مع تمكّنه من التعلّم. و إن لا يكون حال الجاهل و العالم بالحكم سواءً في حال العلم و الجهل من حيث تنجّز التكليف و ما

يترتب علي مخالفته من العقاب و الثواب.

فيسقط التكليف المنجّز عن الجاهل حال جهله، و إن ليس معذوراً في جهله.

قال قدس سره: «ما الوجه فيما يفتي به الطائفة من سقوط الحكم الشرعي عمّن عقد نكاحاً، و هو محرم مع الجهل بالحكم؟ و ما وردت به الروايات من سقوط الحكم في كثير من المواضع مع الجهل به؟

مع اتفاق العلماء علي أنّ الجهل لا يبيح سقوطه إلّا عمّن لا يتمكّن به … و لو لا ذلك، لكان الجهل سبباً مبيحاً لسقوط ما يلزم عليه من التكاليف العقلية و الشرعية. و هذا شي ءٌ لا يقوله مسلمٌ.

الجواب:

اعلم أنّ الجهل ممّن كلّف العلم و له إليه طريق، لا يكون إلّا معصية و تفريطاً من المكلّف، إلّا أنّ الحكم الشرعي غير ممتنع أن يتغيّر مع الجهل و لا يكون حاله مساوية لحاله مع العلم … و العلم بالحكم كان لازماً و هو الآن أيضاً له لازم. و

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 108

إنّما دخلت الشبهة علي من يظنّ أنّه بالجهل يسقط عنه وجوب العلم. و ما كذلك قلنا. و إنّما ذهبنا إلي تغيّر الحكم الشرعي الذي تغيُّره موقوف علي المصالح التي لا يعلم وجوهها إلّا علّام الغيوب جلّت عظمته» «1».

مقصوده من قوله: «و العلم بالحكم …» أنّ الحكم لمّا كان ثابتاً في حق الجاهل واقعاً يجب عليه تعلّمه، بلا فرق بين قبل المخالفة و بين ما بعدها.

و حاصل جوابه: أنّ السؤال المزبور إنّما نشأ من شبهة عدم ثبوت الحكم الإنشائي في حق الجاهل و سقوط وجوب تعلّمه عنه، و هذا لم نقل به قطّ. و إنّما:

قلنا بتغيّر الحكم حسب ما يتبعه من المصالح و الملاكات الكائنة في رتبة تشريع

الأحكام التي تدور مدارها كيفية جعل الأحكام الشرعية. و هذه الملاكات خارجة عن حدّ إدراك البشر و فوق عقله و فهمه، و لا يعلمها إلّا علّام الغيوب جلّت عظمته.

و لا يخفي عليك أنّ ما بيّناه- قبل نقل كلام السيد المرتضي و بعده-، لُبّ مراده و مغزي مطلوبه.

و قد عرفت من صدر كلامه- المتضمّن لبيان الاشكال- أنّه أذعن باتفاق العلماءِ علي عدم سقوط التكليف بالجهل و اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

و المتحصّل من جوابه: اشتراك التكليف في أصل ثبوته بين العالم و الجاهل. و من هنا يجب علي الجاهل تعلُّمه، إلّا في موارد عُلم بالدليل تغيُّره بالجهل و العلم كتغيّره بحسب ملاكات الأحكام المعلومة عند اللّٰه.

و نظيره ما قال في جواب سؤالٍ في مسألة: من أتم صلاته في السفر عن

______________________________

(1) رسائل المرتضي: ج 2، ص 370- 371.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 109

جهل بالحكم.

قال: «ما الوجه فيما يفتي به الطائفة، من سقوط فرض القضاء عمن صلّي من المقصّرين صلاة مُتِمٍّ، بعد خروج الوقت، إذا كان جاهلًا بالحكم في ذلك …

الجواب: إنّا قد بيّنا أنّ الجهل- و إن لم يكن صاحبُه معذوراً، بل ملوماً مذموماً،- لا يمتنع أن يتغيّر معه الحكم الشرعي و يكون حكم العالم بخلاف حكم الجاهل» «1».

لكن يرد عليه أنّ سقوط الحكم عن الجاهل المتمّ صلاته في السفر من قبيل ما عُلِم فيه تغيّر الحكم بالدليل، من الاجماع و النص الخاص؛ خلافاً لمقتضي قاعدة الاشتراك، و لا بد من الاقتصار علي مورده؛ اقتصاراً فيما خالف القاعدة علي موضع النص.

و علي ضوء هذا البيان عرفت ما في جواب السيد الماتن من الضعف و الاجمال.

______________________________

(1) رسائل المرتضي: ج 2، ص 383- 384.

مباني

الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 110

مفاد القاعدة
اشارة

1- خروج الجاهل بالموضوع عن نطاق هذه القاعدة.

2- شمول القاعدة للجاهل القاصر.

3- المناقشة في كلام السيد الخوئي.

4- ثمرة القاعدة في الفقه.

5- إنّما الاشتراك في الحكم الانشائي الفتوائي.

إنّ مفاد هذه القاعدة- كما يلوح من عنوانها- اشتراك الأحكام الشرعية- التكليفية و الوضعية- بين العالم و الجاهل؛ بمعني ثبوت الحكم الواقعي و تشريعه لذات الموضوع، مع قطع النظر عن علم المكلّف و جهله به، و عدم انتفاءِ آثاره التكليفية و الوضعية لأجل الجهل المكلّف به.

خروج الجاهل بالموضوع عن نطاق هذه القاعدة

و لا يخفي أنّ هذه القاعدة لا نظر لها إلي اشتراكهما في التكليف بلحاظ العلم و الجهل بالموضوعات.

بيان ذلك: أنّه تارة: يُعلم أو يُجهل نفس الحكم، فيكون الحكم معلوماً أو مجهولًا للمكلّف، و اخري: يُعلم أو يجهل موضوع الحكم. و علي الأوّل يكون المكلّف عالماً أو جاهلًا بالحكم نفسه، و علي الثاني يكون عالماً أو جاهلًا بموضوع الحكم.

و الكلام في اشتراك الجاهل و العالم في التكليف يمكن أن يقع بلحاظ كلّ من الصورتين المزبورتين.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 111

و المقصود من هذه القاعدة هو الصورة الاوليٰ؛ أي اشتراك الجاهل و العالم في التكليف بلحاظ العلم و الجهل بالحكم، لا الموضوع.

و السرُّ في ذلك وضوح الاشتراك بلحاظ الثاني؛ ضرورة وضوح عدم أخذ العلم بالموضوعات في تشريع الأحكام؛ حيث إنّ الأحكام تتعلّق بطبائع الموضوعات المقدّر وجودها علي سبيل القضايا الحقيقية، لا بأفرادها و مصاديقها الموجودة المعلومة للمكلّفين. و إنّ ما ادُّعي من الاجماع و تواتر الأخبار إنّما يكون معقده و مدلوله هو اشتراكهما في التكليف بلحاظ العلم و الجهل بنفس الحكم.

و أما الناسي، فهو خارج عن مصبّ هذه القاعدة؛ نظراً إلي تغاير عنوانه مع الجاهل، فيخرج عن مقعد الاجماع و منصرف

نصوصها. اللّهم إلّا بتنقيح الملاك.

هذا مضافاً إلي خروج الناسي عن حكم الجاهل في كثير من الفروع عن مختلف أبواب الفقه بدليل النصوص الخاصة.

شمول القاعدة للجاهل القاصر

و أما الغافل بالمرّة، فهو في الحقيقة من قبيل الجاهل المركّب المعبّر عنه بالجاهل القاصر. و لا فرق في جريان هذه القاعدة و تمامية أدلّتها بين الجاهل القاصر و الجاهل المقصّر، و إنّما الفرق بينهما من حيث المعذورية و عدمها.

و من هنا تعمّ هذه القاعدة الجاهل البسيط المعبَّر عنه بالجاهل المقصر، و الجاهل المركّب المعبّر عنه بالجاهل القاصر كليهما علي السواء؛ حيث لا دخل للتقصير و القصور و لا بساطة الجهل و تركيبه في شمول القاعدة و عدمه، بعد ما كان بلحاظ ما قبل مرتبة التنجّز، غاية الأمر يجب علي المقصّر تعلّم الأحكام؛

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 112

لاحتماله الخلاف و تمكّنه من تحصيل العلم، بخلاف القاصر. و من هنا يستحق الجاهل المقصر العقوبة بالاخلال في تكاليفه، بخلاف القاصر. و إلّا لا فرق بينهما من حيث ثبوت أصل التكليف الإنشائي و عدم تنجّزه حال الجهل. و تظهر الثمرة في وجوب الاعادة و القضاء عليهما بعد ارتفاع الجهل؛ نظراً إلي صدق الفوت بعد ما كان التكليف ثابتاً مكتوباً في دفتر التشريع في حقّهما.

و إلي ذلك أشار المحقق البجنوردي بقوله:

«فالعامد إلي الاخلال- و لو كان من جهة الجهل بالحكم قصوراً أو تقصيراً أو من جهة نسيان الحكم؛ حيث إنّ الأمر الأوّل لم يسقط عنه؛ لأنّ الجهل بالحكم لا يوجب سقوط الأمر مطلقاً، قصوراً كان أو تقصيراً أو نسياناً، و ذلك للإجماع علي اشتراك التكاليف بين العالم و الجاهل بها، و بعضهم ادّعي تواتر الأخبار علي ذلك- و لا فرق في ذلك

بين الجهل قصوراً أو تقصيراً، و إنّما الفرق بينهما في أنّ الجاهل المقصّر يستحق العقاب دون القاصر-، فلا يكون له خطاب جديد «أعد»، بل المحرّك له نحو الاتيان بالمأمور به الكامل التام الأجزاء و الشرائط، هو الأمر الباقي إلي زمان ارتفاع الجهل بكلا قسميه، و أيضاً إلي زمان ارتفاع نسيان الحكم و حصول العلم به» «1». و لا يخفي أنّ قوله: «فلا يكون له خطاب» خبرٌ لقوله: «فالعامد إلي الاخلال».

المناقشة في كلام السيد الخوئي

و علي ضوء ما بيّناه اتّضح ضعف ما يظهر من بعض الأعلام من اختصاص هذه القاعدة بالجاهل البسيط؛ حيث قال: «و ما يقال من أنّ الأحكام مشتركة بين العالم و الجاهل،

______________________________

(1) القواعد الفقهية: ج 1، ص 84.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 113

فانما هو في مورد الجهل البسيط الذي يُتمكن من الامتثال في مورده، لا الجهل المركب و القطع بالخلاف الذي لا يتمكن من الامتثال أصلًا» «1».

وجه الضعف أن المانع من الاشتراك إنّما هو قبح العقاب بلا بيان، و هذا المحذور إنّما يترتب علي تنجّز التكليف علي الجاهل بالحكم حال جهله. و أما أصل ثبوت التكليف الانشائي، فلا محذور في ثبوته في حق الجاهل القاصر و اشتراكه بينه و بين الجاهل المقصر.

ثمرة القاعدة في الفقه

تظهر ثمرة هذه القاعدة بالنسبة إلي الاعادة فيما إذا أخلّ المصلّي في الصلاة بغير الأركان عن جهل بالحكم.

دون ما إذا لم يأت بالواجب و تركه بالمرّة عن جهل بالحكم، ثمّ ارتفع جهله في أثناء الوقت، ضرورة توجّه الخطاب إليه و تنجُّز التكليف في حقه بمجرد ارتفاع جهله في داخل الوقت. بلا حاجة إلي قاعدة الاشتراك. و هذا الفرض خارج عن محل الكلام، مع ندرة وقوعه. و إنّما الكلام فيما إذا أخلّ ببعض أجزاءِ الواجب و شرائطه عن جهل بالحكم.

فمقتضي هذه القاعدة حينئذٍ وجوب الاعادة في الوقت إذا ارتفع جهله في الوقت، و القضاء في خارجه. و لكن حكم جماعة- و منهم السيد في العروة- بعدم وجوب الاعادة حينئذٍ، فضلًا عن القضاءِ و إجراءِ حكم السهو عليه، و كذا في الجهر و الاخفات. و قد قام الاجماع في الجهر و الاخفات، و لكن في غيره كلامٌ و سيأتي البحث عن ذلك

في التطبيقات الفقهية.

و من ذلك الصلاة في المغصوب جاهلًا بالحكم، فحكم السيد بصحة

______________________________

(1) معتمد العروة/ كتاب الحج/ للسيد الخوئي: ج 3، ص 72.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 114

صلاته و عدم وجوب الاعادة في الوقت و القضاء في خارجه. و لكن أشكل عليه السيد الحكيم مستدلًا بهذه القاعدة.

و أما في القضاء فلا فرق بين الصورتين المزبورتين و تجري فيه القاعدة مطلقاً؛ نظراً إلي كونه فرع صدق الفوت.

و منها: ارتفاع حرمة الجمع بين الاختين مع الجهل بالحكم.

و منها: عدم بطلان المغارسة مع الجهل بالحكم.

و منها: ارتفاع الحرمة المؤبّدة عن المُحرِم العاقد عن جهلٍ بالحكم. ذهب إليه السيد الخوئي و حكم بعدم اشتغال ذمّته لو ارتفع جهله بعد زوال الاستطاعة.

إلي غير ذلك من الفروع الخارجة عن مصبّ القاعدة المبحوث عنها في المقام بالنص أو الاجماع. و في غير موارد النص و الاجماع لا بد من العمل بالقاعدة؛ اقتصاراً فيما خالف القاعدة علي موضع النص.

إنّما الاشتراك في الحكم الانشائي الفتوائي

ثمّ إنّ العلم لمّا كان شرطاً في تنجّز التكليف، لا مناص من كون اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل بلحاظ قبل مرتبة التنجّز. و ذلك لقبح عقاب الجاهل بالحكم علي ترك العمل به أو مخالفته؛ لأنّه من العقاب بلا بيان، و هو قبيح علي الحكيم.

و من أجل ذلك قد خصّص صاحب الكفاية مصبّ هذه القاعدة بالحكم الانشائي، بقوله: «فانّ الحكم المشترك بين العالم و الجاهل و الملتفت و الغافل ليس إلّا الحكم الانشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة علي بيان الأحكام

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 115

للموضوعات بعناوينها الاوّلية بحسب ما يكون فيها من المقتضيات» «1».

و من جانب آخر قد أثبتنا في محلّه أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالطبائع

في مرحلة التشريع و الانشاء. فاذا تعلّقت بطبائع الموضوعات و ذواتها، تدور فعليتها مدار تحقق موضوعاتها بلا فرق بين العالم و الجاهل، فتشمل العالمين و الجاهلين علي حدّ سواء لا محالة في مرحلة الانشاء و الفعلية، نعم يختصّ تنجّزها بالعالمين.

و لا إشكال في دخول جميع الأحكام الأولية و الثانوية في مصبّ هذه القاعدة، فتشمل كلّ ما يكون من قبيل حكم اللّٰه المعبّر عنه بالحكم الفتوائي.

و أما الحكم الانشائي الصادر من الفقيه و الحاكم الشرعي، فهو خارج عن مصبّ القاعدة؛ نظراً إلي تعلّقه بالأشخاص، لا بالطبائع. نعم قد يصدر من الفقيه الحكم الكلي كقوله: «اليوم استعمال التوتون و التنباكو حرام في حكم محاربة صاحب الزمان» و مثل هذا الحكم الانشائي يدخل في مصبّ هذه القاعدة؛ نظراً إلي وجود ملاكها فيه. و لكنه خارج عن مقصود الباحثين و المتعرّضين لهذه القاعدة، مع عدم كونه من قبيل حكم اللّٰه، و إن ينتهي في أسناده و أدلّته إلي حكم اللّٰه.

______________________________

(1) كفاية الاصول: ج 1، ص 137.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 116

مدرك القاعدة
اشارة

1- الاستدلال بالاجماع.

2- الاستدلال بالروايات.

استُدلّ لهذه القاعدة بأربعة وجوه، و هي:

1- الاجماع، 2- الأخبار المتواترة، 3- إطلاق أدلّة الأحكام، 4- حكم العقل.

الاستدلال بالاجماع

يستفاد من كلام السيد المرتضي اتفاق العلماء علي مضمون هذه القاعدة. قال: «و ما وردت به الروايات من سقوط الحكم في كثير من المواضع مع الجهل به، مع اتفاق العلماء علي أنّ الجهل لا يبيح سقوطه، إلّا عمّن لا يتمكّن به» «1». و قد سبق آنفاً تفصيل كلامه.

و قد نسب في الحدائق القول باشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل إلي المشهور و فرّع عليه بطلان عبادة الجاهل؛ حيث قال: «المقدّمة الخامسة: في حكم الجاهل بالأحكام. و قد اختلف في ذلك كلام علمائنا الأعلام. فالمشهور بينهم عدم المعذورية. إلّا في أحكام يسيرة كحكمي الجهر و الاخفات و القصر و الاتمام. و فرعوا علي ذلك بطلان عبادة الجاهل- و هو عندهم من لم يكن مجتهداً و لا مقلّداً- و إن طابقت الواقع؛ حيث أوجبوا معرفة واجبها و ندبها و إيقاع كل منهما علي وجهه … و ذهب جمعٌ من المتأخرين و متأخريهم إلي معذورية الجاهل مطلقاً إلّا في مواضع يسيرة، حتي حكم بعض متأخري

______________________________

(1) رسائل المرتضي: ج 2، ص 370- 371.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 117

المتأخرين بصحة صلاة العوام كيف كانت، و اقتصر بعض علي ما طابق الواقع من ذلك» «1».

بل استظهر المحقق النائيني من كلمات الأصحاب قيام الاجماع و الضرورة علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل، بعد ما أنكر ثبوت تواتر الأخبار علي ذلك؛ حيث قال:

«و قد ادُّعي تواتر الأدلّة علي اشتراك الأحكام في حق العالم و الجاهل؛ و نحن و إن لم نعثر علي تلك الأدلّة سوي بعض

أخبار الآحاد التي ذكرها صاحب الحدائق في مقدمات كتابه، إلّا أنّ الظاهر قيام الاجماع، بل الضرورة علي ذلك» «2».

و ممن استدلّ بالاجماع في المقام، هو السيد الخوئي؛ فانّه قد صرّح في مواضع عديدة «3» بقيام الاجماع علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل. و ادّعاه أيضاً الشيخ المظفّر «4»، و السيد البجنوردي «5». هذا حال دعوي الاجماع المطلق علي هذه القاعدة و قد ادّعي الاجماع أيضاً علي لحوق الجاهل بالعالم في فروع كثيرة مندرجة تحت هذه القاعدة، كالاخلال بواجبات الصلاة- غير الجهر و الاخفات- كما نقل في الجواهر «6» عن بعض الأصحاب الاجماع علي ذلك.

و لكن الاجماع المدعي في المقام ليس كاشفاً تعبدياً عن رأي المعصوم،

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 1، ص 77- 78.

(2) فوائد الاصول: ج 3، ص 12.

(3) مصباح الاصول: ج 2، ص 96 و 103 و 349.

(4) اصول الفقه: ج 2، ص 32.

(5) القواعد الفقهية: ج 1، ص 84.

(6) جواهر الكلام: ج 12، ص 229.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 118

بعد وجود وجوه صالحة للاستناد إليها لهذه القاعدة، بل استند إليها في الجملة كل من تعرّض لهذه القاعدة.

الاستدلال بالروايات

قد ادّعي الشيخ الأعظم تواتر الأخبار علي وجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل؛ حيث قال: «و قد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم و الجاهل الأخبار و الآثار» «1».

و لا يخفي أنّ مقصوده ليس دلالة الأخبار المتواترة علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل علي النحو المطلق الذي هو مفاد هذه القاعدة؛ حتي تنفع لتأسيس الأصل الكلّي و القاعدة العامة المبحوث عنها في المقام.

بل إنّما الظاهر من كلامه دلالة الأخبار و الآثار المتواترة علي وجود أحكام مشتركة بين العالم و الجاهل

في الجملة، و لو في فروع كثيرة من مختلف أبواب الفقه.

و إنّ بين هذا المعني و بين مفاد القاعدة المبحوث عنها في المقام بوناً بعيداً.

و قد تبيّن بذلك أنّ ما استظهره بعض المحققين من كلام الشيخ الأعظم في المقام، من دعوي تواتر الأخبار علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل علي النحو المطلق- كما هو مفاد هذه القاعدة-، فهو في غير محلّه.

كما سيأتي من السيد الخوئي نسبته ذلك إلي الشيخ الأعظم. و قد صرّح بهذا الاستظهار الشيخ المظفّر بقوله: «و عن الشيخ الأنصاري أعلي اللّٰه مقامه و عن غيره أيضاً كصاحب الفصول رحمه اللّٰه، أن أخبارنا متواترة معني في

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 1، ص 113.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 119

اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل، و هو كذلك» «1».

و قد حكي جماعةٌ من المحققين تواتر الأخبار علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

فمن هؤلاء: المحقق النائيني؛ حيث جعل الأخبار المزبورة من قبيل متمّم الجعل الذي ينتج نتيجة الاطلاق. قال: «ثمّ إنّ متمّم الجعل تارةً: ينتج نتيجة الاطلاق، و اخري: ينتج نتيجة التقييد. فالأوّل: كمسألة اشتراك الأحكام بالنسبة إلي العالم و الجاهل، حيث حكي تواتر الأخبار علي الاشتراك» «2».

و لكنّ المحقق المزبور نفسه أنكر ثبوت تواتر الأخبار علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل؛ حيث قال: «و قد ادُّعي تواتر الأدلّة علي اشتراك الأحكام في حق العالم و الجاهل؛ و نحن و إن لم نعثر علي تلك الأدلّة سوي بعض أخبار الآحاد التي ذكرها صاحب الحدائق في مقدمات كتابه» «3».

و منهم: المحقق العراقي؛ حيث صرّح بورود الأخبار المتواترة علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل. «4»

و منهم: المحقق السيد الخوئي، فانّه ادّعي

في مواضع عديدة من مباحثه الاصولية «5» دلالة الأخبار علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

إلّا أنّه اعترف في الدورة اللاحقة من مباحثه بعدم دلالة خبر علي هذه القاعدة بالخصوص؛ حيث قال: «و ما عن شيخنا العلامة الأنصاري من أنّه قد

______________________________

(1) اصول الفقه: ج 2، ص 33.

(2) فوائد الاصول: ج 1، ص 163.

(3) فوائد الاصول: ج 3، ص 12.

(4) مقالات الاصول: ج 2، ص 497.

(5) مصباح الاصول: ج 2، ص 96، و 103، و 349.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 120

تواترت الأخبار و الآثار علي اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم و الجاهل، لعلَّه أراد منها الروايات الدالة علي ثبوت الأحكام مطلقاً، أو أراد أخبار الاحتياط و البراءة أو ما شاكلها مما يدل بالالتزام علي الاشتراك، و إلّا فلم ترد رواية واحدة تدلّ علي أنّ الأحكام الواقعية مشتركة بين العالمين بها و الجاهلين» «1».

و لكن قد عرفت أنّ كلام الشيخ الأعظم ليس بالمعني الذي استظهره هذا العَلَم حتي يرد إشكاله عليه. و ذلك لما بيّناه آنفاً، فلاحظ.

______________________________

(1) محاضرات في اصول الفقه: ج 2، ص 271.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 121

تحقيق نصوص المقام

1- النصوص الدالة علي هذه القاعدة.

2- ما دلّ علي تشريع ما احتاج إليه العباد.

3- ما دل علي عقاب الجاهل بالحكم.

4- ما دل علي وجوب التوقف عند الجهل بالحكم.

5- ما دل من النصوص علي نفي قاعدة الاشتراك.

6- تحقيق حال أحمد بن محمد بن يحيي العطّار.

7- الاستدلال باطلاق الخطابات.

8- مناقشة النائيني في إطلاقات المقام و نقد كلامه.

9- الاستدلال بحكم العقل.

و الذي يقتضيه التحقيق في النصوص أنّه لم يدلّ شي ءٌ منها علي نصّ هذه القاعدة؛ أعني به كبري اشتراك الأحكام بين العالم

و الجاهل علي النحو المطلق.

نعم دلّت علي مفاد هذه القاعدة عدّة نصوص بالالتزام أو الاطلاق، كما أشار إليه السيد الخوئي. و لكن ورد في مقابلها ما يعارضها بظاهرها؛ حيث دلّ علي سقوط التكليف عن الجاهل. ففي المقام طائفتان من النصوص بينهما تعارض بحسب الظاهر.

و نقدّم الكلام في ما دل من النصوص علي مفاد قاعدة الاشتراك بالملازمة.

فنقول: يمكن تقسيم هذه النصوص إلي أربع طوائف.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 122

النصوص الدالة

علي هذه القاعدة

الطائفة الاولي: ما دلّ من النصوص باطلاقها أو بالالتزام علي اشتراك الأحكام بين العالم و بين الجاهل.

فمن هذه النصوص ما دلّ علي وجوب تحصيل العلم بالأحكام و قد استدل بهذه الطائفة الاصولي المجدّد الوحيد البهبهاني «1».

وجه الدلالة هذه النصوص علي المطلوب، أنّه لو لم يكن التكليف مشتركاً بين العالم و الجاهل، لم يجب علي الجاهل تعلُّمها.

كقول النبي صلي الله عليه و آله: «طلب العلم فريضة علي كل مسلم» «2».

و في روايةٍ: «سُئل أبو الحسن عليه السلام هل يسع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه؟ فقال عليه السلام: لا» «3».

و عن مفضّل بن عمر، قال: «سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام: يقول: عليكم بالتفقُّه في دين اللّٰه، و لا تكونوا أعراباً؛ فانّه من لم يتفقّه في دين اللّٰه، لم ينظر اللّٰه إليه يوم القيامة و لم يزكّ له عملًا» «4».

و عن محمد بن علي بن النعمان (أبي جعفر الأحول) عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«لا يسع الناس حتي يسألوا و يتفقّهوا» «5».

______________________________

(1) الفوائد الحائرية: ص 415- 429.

(2) الكافي: ج 1، ص 30 و 31، ح 1 و 2 و 5.

(3) المصدر: ص 30، ح 3.

(4) المصدر: ص 31، ح 7.

(5) المصدر:

ص 40، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 123

وجه الدلالة- كما قلنا- أنّه لو لم يكن الجُهّال مكلّفين بالأحكام، لم يوجب عليهم تعلُّم الأحكام بالسؤال و الفحص و التفقّه في شرايع الاسلام. و لكن لا يخفي أنّها لا تشمل الجاهل القاصر الذي لا يحتمل ثبوت حكم لنفسه في دفتر التشريع غير ما يعمله و يعتقد عن جهل مركّب. فانّ ايجاب التعلّم لا يُعقل في خفّه.

ما دلّ علي تشريع

ما احتاج إليه العباد

الطائفة الثانية: ما دلّ علي تشريع جميع ما يحتاج إليه العباد من الأحكام، كقول أبي جعفر عليه السلام:

«إنّ اللّٰه تبارك و تعالي لم يدع شيئاً يحتاج إليه الامّة، إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله صلي الله عليه و آله. و جعل لكلّ شي ءٍ حدّاً، و جعل عليه دليلًا يدلّ عليه، و جعل علي من تعدّي ذلك الحدّ حدّاً» «1».

وجه الدلالة: أنّه دلّ علي بالمطابقة دوران جعل الأحكام و تشريعها مدار احتياج المكلّفين. و دلّ بالالتزام علي أنّ كلِّهم سواءٌ مشتركين في الأحكام حسب احتياجهم، بلا فرق بين العالم و الجاهل. و بلا فرق بين الجاهل القاصر و المقصر؛ لأنّ ملاك ثبوت التكليف في دفتر التشريع هو احتياج البشر إلي قانون إلهي ليعمل به و يطبّق افعاله اليومية و ينظّم مجالات عيشه علي أساسه، ليهديه إلي الفلاح الخالد الذي لأجله ارسال الرسل و انزال الكتب، و لا دخل لعلم العباد و جهلهم في هذا الملاك، و لا لأنحاء الجهل دخلٌ في ذلك.

______________________________

(1) المصدر: ص 59، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 124

ما دل علي

عقاب الجاهل بالحكم

الطائفة الثالثة: ما دلّ علي عدم كون الجاهل بالحكم معذوراً في ترك

الواجبات و فعل المحرّمات و أنّه معاقبٌ علي ترك تعلّمه.

مثل: معتبرة مسعدة بن زياد، قال: «سمعت جعفر بن محمد عليه السلام، و قد سئل عن قوله تعالي: فللّٰه الحجّة البالغة، فقال عليه السلام: إنّ اللّٰه تعالي يقول للعبد يوم القيامة: أ كنت عالماً؟ فان قال نعم، قال له: أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال كنت جاهلًا، قال له: أ فلا تعلّمت حتي تعمل؟ فيخصمه. و ذلك الحجّة البالغة» «1».

ما دل علي وجوب

التوقف عند الجهل بالحكم

الطائفة الرابعة: ما دلّ بالمطابقة و الصراحة علي وجوب التوقف و الفحص و التبيُّن عند الجهل بالحكم. و دلّ بالالتزام علي ثبوت التكليف في حق الجاهل؛ حيث إنّه لو لم يكن في حقّه تكليف، لم يكن لوجوب التوقف و الفحص و التبيّن وجه.

مثل: قول الصادق عليه السلام: «إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون، إلّا الكفّ عنه و التثبّت و الردّ إلي أئمة الهدي حتي يحملوكم فيه علي القصد، و يجلو عنكم فيه العمي. و يعرِّفوكم فيه الحق. قال اللّٰه تعالي: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» «2» في حسنة حمزة بن الطيّار. قوله عليه السلام: «علي القصد»؛ أي الاقتصاد و الاعتدال من غير إفراط و لا تفريط و لا اعوجاج، كما قال تعالي: «و منهم مقتصد» «3»، و قال:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 1، ص 177، ح 58.

(2) الوسائل: ب 12، من أبواب صفات القاضي، ح 3.

(3) الفاطر: 32.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 125

«اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْويٰ» «1»، و قال علي عليه السلام: «اليمين و الشمال مضلّة و الطريق الوسطيٰ هي الجادّة» «2».

من هذه الطائفة: قوله عليه السلام: «لو أنّ العباد إذا

جهلوا وقفوا و لم يجحدوا، لم يكفروا» «3»؛ حيث دلّ باطلاقه علي وجوب التوقف عند الجهل و عدم جواز إنكار أصل ثبوت التكليف.

و منها: صحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيداً و هما محرمان، الجزاءُ بينهما؟ أو علي كلّ واحد منهما جزاءً؟ قال عليه السلام: لا بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد.

قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه. فقال عليه السلام: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط، حتي تسألوا عنه فتعلموا» «4».

وجه دلالة هذه النصوص علي المطلوب أنّه لو لم يكن في حق الجاهل تكليفاً ثابتاً لم يكن للأمر بالاحتياط و التوقف و السؤال و الفحص وجهٌ.

و منها: خبر ابن أبي عمير، عن محمد بن مسكين و غيره، عن أبي عبد اللّه، قال: «قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابة و هو مجدور، فغسّلوه، فمات؟ فقال عليه السلام قتلوه، ألا سألوا؟! ألا يمَّموه؟! إنّ شفاءَ العيِّ السؤال» «5».

و في خبره الآخر عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن مجدور أصابته جنابة، فغسّلوه، فمات. فقال عليه السلام: قتلوه، ألا سألوا؟! فانّ دواءَ العيّ

______________________________

(1) المائدة: 8.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 16.

(3) المصدر: ح 11.

(4) الوسائل: ب 12، من أبواب صفات القاضي، ح 1.

(5) الوسائل: ب 5، من أبواب التيمّم، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 126

السؤال» «1».

هذان الخبران، فالأول منهما معتبرٌ، بناءً علي إرادة كفاية وثاقة الرُّواة عن ابن أبي عمير من الاجماع المدّعيٰ في كلام الكشّي علي تصحيح ما يصح عن أصحاب الاجماع. و الثاني معتبرٌ بناءً علي التسوية بين مراسيل ابن أبي

عمير و مسانيده في الاعتبار باجماع الأصحاب. و فيه كلام، بحثنا عنه مفصّلًا في كتابنا «مقياس الرواية» «2»، و «مقياس الرواة» «3».

و لا يخفي أنّ هذه الطائفة إنّما تتمّ دلالتها علي قاعدة الاشتراك في الجاهل المحتمل لثبوت الحكم الواقعي المخالف، دون الغافل المحض المعبّر عنه بالجاهل القاصر المركّب.

و لا ريب أنّ القول بعدم اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل و اختصاصها بالعالمين، يرجع في الحقيقة إلي إنكار ثبوت حكم اللّٰه في حق الجاهلين، و لا أقلّ أنّه من مصاديق ذلك.

هذه نبذةٌ من الأخبار الدالة علي هذه القاعدة بظاهرها، بل هي متواترة معني؛ مضافاً إلي ما ورد من النصوص المتظافرة في مختلف أبواب الفقه و شتّي الفروع. و قد دلّت علي اشتراك العالم و الجاهل في أحكام تلك الأبواب و الفروع، كالاخلال بواجبات الصلاة في غير الجهر و الاخفات، و غير ذلك.

و سيأتي ذكر نماذج منها في التطبيقات الفقهية.

______________________________

(1) المصدر: ح 3.

(2) مقياس الرواية في علم الدراية: ص 107.

(3) مقياس الرواة في كليات علم الرجال: ص 177- 196.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 127

ما دلّ من النصوص

علي نفي قاعدة الاشتراك

و أمّا النصوص التي دلّت بظاهرها علي نفي مفاد هذه القاعدة- أعني عدم اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل- و أنّه لا تكليف علي الجاهل، فهي تعارض الطوائف الأربع المزبورة بظاهرها.

فمن هذه النصوص: ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد بقوله: «حدّثنا أبي رحمه اللّٰه، قال: حدّثنا عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أحمد ابن محمد بن عيسي، عن الحجّال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الأعلي بن أعين قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عمّن لم يعرف شيئاً، هل عليه شي ءٌ؟ قال: لا»

«1».

هذه الرواية صحيحة؛ إذ لا ضعف في أحدٍ من رجال سندها. و أما دلالتها علي نفي الاشتراك، فالوجه فيه ظهور جواب الامام عليه السلام بقوله: «لا» في عدم ثبوت شي ءٍ من التكليف علي الجاهل. فانّه قد دلّ بعموم النكرة في سياق النفي علي نفي أيّ تكليف و وظيفة عليه.

و منها: ما رواه الصدوق بقوله: حدّثنا أحمد بن محمد بن يحيي العطّار عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن عيسي، عن ابن فضّال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريّا بن يحيي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، «قال: ما حجب اللّٰه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» «2».

______________________________

(1) كتاب التوحيد: ص 412، ح 8.

(2) كتاب التوحيد ص 413، ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 128

تحقيق حال أحمد

بن محمد بن يحيي العطّار

هذه الرواية معتبرة أو موثقة؛ إذ لا كلام في رجال سندها، إلّا أحمد بن محمد بن يحيي العطّار؛ حيث ادُّعي جهالته، كما يفهم من تعليل الشيخ البهائي في الحبل المتين تضعيف بعض الروايات بجهالة أحمد بن محمد بن يحيي. «1» و قد نسب السيد الخوئي جهالة الرجل إلي جمع منهم صاحب المدارك؛ حيث قال: «فالمتحصّل مما ذكرناه أنّ الرجل مجهولٌ، كما صرّح به جمعٌ منهم صاحب المدارك» «2».

و لكن الأقوي اعتبار روايات أحمد بن محمد بن يحيي.

و ذلك أوّلًا: لكثرة ترضّي الصدوق و ترحّمه عليه. فانّه قد ترضّي و ترحّم عليه كثيراً في جميع كتبه. و إنّ ترضّيه عنه في الخصال فقط يتجاوز عن خمسين مورد، فكيف باضافة العلل و العيون و الفقيه. و قد بحثنا و أثبتنا في كتابنا «مقياس الرواة» «3» أنّ كثرة ترضّي الصدوق و ترحُّمه علي

شيخ من مشايخه أمارة علي وثاقة الرجل، بل فوق حد الوثاقة، بل تثبت جلالة قدر الرجل.

و ثانياً: لأنّ كثرة نقل الصدوق عن شيخ من مشايخه بنفسها أمارة كاشفة عن ثبوت وثاقته عنده.

أ فهل تري من ينقل عنه علماؤنا و الفقهاء المعاصرون بعض أحوال مشايخهم، أن لا يكون ثقة عندهم؟ فضلًا عمّن يروي عنه مثل الصدوق كثيراً من معالم الدين و أحكام المذهب؟!

______________________________

(1) راجع معجم رجال الخوئي: ج 3، ص 121- 122.

(2) معجم رجال الخوئي: ج 3، ص 122.

(3) مقياس الرواة في كليات الرجال: ص 147- 150.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 129

و ثالثاً: إنّ أحمد بن محمد بن يحيي العطار كان من مشايخ الاجازة للصدوق و غيره من مشاهير المحدّثين و أعاظم الأصحاب. و قد بيّنا في كتابنا «مقياس الرواة» «1» أنّ شيخ الإجازة إذا كان ممن اشتهر بين أعاظم الأصحاب و أجلّاء المحدثين، لا ريب في كشف ذلك عن وثاقته، بل جلالته.

و رابعاً: إنّ ظاهر كلام السيرافي اعتماد أصحابنا الامامية و تعويلهم علي ما نقله أحمد بن محمد بن يحيي العطار. و اعتمادهم يكشف عن وثاقة الرجل. و احتمال بنائهم علي أصالة العدالة لا يُعتني به في مثل أحمد بن محمد، كما أنّ تعدد طريق السيرافي إلي أحمد بن محمد بن عيسي و وقوع أحمد بن محمد بن يحيي العطار في أحدهما، لا يمنع من ظهور كلام السيرافي في كون كل واحد من الطريقين معتمداً عليه، فلا يُعبأُ باشكال السيد الخوئي علي ذلك «2».

هذا مضافاً إلي اعتماد جلّ المتأخرين و فحول المحققين علي الرجل.

هذا من جهة السند. و أما من جهة الدلالة، فقوله: «موضوع عنهم»؛ أي مرفوع عنهم؛ فانّ فعل «وضع»

إذا تعدّي بحرف «عن»، يفيد معني الرفع. و تقريب الاستدلال بها لنفي الاشتراك أنّها دلّت علي رفع التكليف المجهول عن الجاهل به.

و منها: حسنة حمزة بن الطيّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إنّ اللّٰه عزّ و جلّ احتجّ علي الناس بما آتاهم و عرّفهم» «3».

هذه الرواية حسنة؛ إذ لا إشكال في رجال سندها، إلّا حمزة بن الطيّار؛ إذ لم

______________________________

(1) مقياس الرواة في كليات علم الرجال: ص 145.

(2) راجع معجم رجال الخوئي: ج 3، ص 122.

(3) التوحيد: ص 410، ب 64، ح 2 و 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 130

يوثّقه الأصحاب، إلّا أنّ الكشي مدحه، و ورد في الروايات أنّ الامام الصادق عليه السلام دعا له و ترحّم عليه. و من هنا عبّرنا عنها بالحسنة.

و وجه دلالتها علي نفي الاشتراك أنّها دلَّت بمفهوم التحديد علي عدم مؤاخذة اللّٰه الجاهل بما جَهِلَه من التكاليف و الأحكام.

و في دلالتها علي نفي قاعدة الاشتراك إشكال واضح؛ إذ الكلام في وجوب تدارك ما فات علي الجاهل بعد ارتفاع جهله و حصول علمه بالحكم.

و منها: معتبرة طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قرأت في كتاب علي عليه السلام إنّ اللّٰه لم يأخذ علي الجهّال عهداً بطلب العلم حتي أخذ علي العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال؛ لأنّ العلم كان قبل الجهل» «1».

لا إشكال في رجال سندها؛ إلّا طلحة؛ حيث إنّه عامّي، إلّا أنّ أصحابنا اعتمدوا علي كتابه، و من هنا عبّرنا عنها بالمعتبرة.

أما من حيث الدلالة، فانّما تتمّ دلالتها علي المطلوب، إذا دلّت علي أنّ الجاهل قبل أن يتعلّم الأحكام من العالم، لا يكون مأخوذاً بالتكاليف المجهولة؛ لأنّ مرجع ذلك إلي عدم

ثبوت التكليف في حق الجاهل. و لكن في دلالتها علي ذلك إشكالٌ، بل إنّما هي ناظرة إلي وجوب تعليم الجاهل عند تعلُّمه في الرتبة السابقة عن وجوب التعلُّم، و إلي أنّ وجوب التعلم فرع وجوب تعليم المتعلّم عند تعلّمه.

و هذا نظير دلالة إيجاب السؤال علي وجوب الجواب عند السؤال؛ نظراً إلي تفرُّع الأوّل علي الثاني.

و منها: صحيحة عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد اللّه عليه السلام- في حديث من أحرم في قميصه جاهلًا بالحكم- قال عليه السلام: «أيّ رجل ركب أمراً بجهالة، فلا شي ءَ

______________________________

(1) الكافي: ج 1، ص 41، باب بذل العلم، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 131

عليه» «1».

و منها: صحيحة حريز بن عبد اللّه، عن الصادق عليه السلام، عن النبي صلي الله عليه و آله، قال:

«وُضِعَ عن أمتي تسعة … ما لا يعلمون» «2».

و لكن مقتضي التأمل في هذه النصوص أنّه لا يصلح شي ءٌ منها لنفي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

و ذلك لأنّه يرد علي الاستدلال بصحيحة عبد الأعلي بن أعين.

أوّلًا: أنّ موضوع الكلام فيه من لا يعرف شيئاً حتي أصل الاسلام و الشريعة. و ذلك لدلالة النكرة في سياق النفي علي العموم، و لأنّ من يعرف أصل الاسلام و يعتقد به، تصدق أنّه يعرف شيئاً.

و ثانياً: أنّ ظاهره عدم شي ءٍ من التكليف المنجّز و العقاب عليه حال كونه لا يعرف شيئاً. و ليس المنفي حال الجهل إلّا التكليف المنجّز، لما سبق من أنّ الجهل لا يمنع، إلّا التكليف المنجّز، و هذه القرينة العقلية الحافّة بالخطاب تعطي ظهوره فيما قلنا.

و يرد علي الاستدلال بمعتبرة أحمد بن محمد بن يحيي العطار؛

أوّلًا: أنّ ظاهر قوله عليه السلام: «ما حجب

اللّٰه علمه» ما لم يبيّنه الشارع من الأحكام و لم يبلّغه النبي و الأئمة إلي الناس، و عليه فيكون الحديث المزبور علي وزان قوله عليه السلام: «اسكتوا ما سكت اللّٰه عنه». و قوله تعالي: «لا يكلّف اللّٰه نفساً إلّا ما آتاها»، و هذا أجنبيٌ عن محل الكلام.

و ثانياً: يحتمل كون المراد الجاهل القاصر و الناسي؛ نظراً إلي عدم كون

______________________________

(1) الوسائل: ب 30 من أبواب الخلل في الصلاة، ح 1.

(2) الوسائل: ب 30، من الخلل الواقع في الصلاة، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 132

جهله هذا و نسيانه من فعال نفسه، بل من اللّٰه؛ نظراً إلي خروج الغفلة و النسيان عن الاختيار، فهذا من قبيل قوله عليه السلام «كلما غلب اللّٰه عليه فاللّٰه أولي بالعذر»، كما في صحيح ابن سنان. فلا يشمل الجاهل المقصّر، فهو أخصّ من المدّعي.

و ثالثاً: أنّ غاية مدلولها رفع تنجيز الحكم المجهول عن الجاهل ما دام الجهل بمعني عدم عقابه علي تركه. و لا ينافي ذلك وجوب الاعادة و القضاء بعد رفع الجهل و العلم بالتكليف الفائت.

و مثله في المناقشة قوله: «وُضع ما لا يعلمون». و ذلك لأنّ الحكم إذا صار معلوماً بعد ارتفاع الجهل يخرج عمّا حجب اللّٰه علمه عن العبد و عمّا لا يُعلم. و لأنّ القرينة العقلية و السياقية حاكمة بأنّ المرفوع، إنّما هو ما كان للعلم دخل في إثباته، و ليس ذلك إلّا التكليف المنجّز.

و يرد علي الاستدلال بحسنة ابن طيّار أنّ غاية مدلولها عدم الاحتجاج علي الجاهل و لا مؤاخذته بما تركه عن جهل ما دام جاهلًا، و لا ينافي ذلك وجوب تدارك ما فاته من التكليف حال الجهل بعد العلم به؛ نظراً

إلي صيرورته بعد ارتفاع الجهل معلوماً. و أما احتمال وضع المجهول و رفعه مطلقاً، حتي في مرتبة الانشاء بسقوطه عن دفتر التشريع، فهو لا وجه له؛ لعدم تأثير لجهل المكلّف و علمه فيه. و ثمرة ذلك أنّه كلما إذا ارتفع جهله يتنجّز عليه، فلا بد من تداركه.

و أما معتبرة طلحة، فانّ موضوع الكلام فيها طلب العلم، و المقصود أنّه كما يجب علي الجاهل طلب العلم، يجب علي العالم التعليم و بذل علمه للجاهل في الرتبة السابقة؛ لأنّ التعلّم فرع التعليم، فكذا وجوبه فرع وجوبه بالملازمة القطعية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 133

و أما صحيحة عبد الصمد، فالمقصود لا شي ءَ من العقاب علي ما ارتكبه الجاهل بالحكم من المحرّمات؛ لظهور «ركب» و «علي» في ذلك. و لا نظر لها إلي ترك التكليف و عدم الاتيان بالواجب عن جهل، و علي فرض شموله بالعموم- بدلالة النكرة في سياق النفي عليه وضعاً- ظاهرها نفي العقوبة، اخرويةً كانت أو دنيويةً كالكفّارات.

الاستدلال

باطلاق الخطابات

و مما يمكن الاستدلال به لهذه القاعدة إطلاق الخطابات المتكفّلة لتشريع الأحكام.

و ذلك لما سبق منا في محلّه من علم الاصول «1» أنّ الأحكام تتعلّق بالطبائع. فاذا تعلقت الأحكام في تشريعها بطبائع الموضوعات و المتعلّقات، لا فرق في شمولها للمكلّفين بين العالم و الجاهل.

كقوله: «وَ لٰا تَجَسَّسُوا وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» «2». و «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» «3» و «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «4». و قوله عليه السلام: «إذا التقي الختانان، فقد وجب الغسل». ففي الأوّل تعلّق النهي بطبيعي التجسُّس و الاغتياب، و في الثاني بطبيعي التطفيف و المطففين، و في الثالث بطبيعي الهمز و اللّمز، و في الرابع قد علِّق الايجاب بطبيعي التقاءِ الختانين.

و من

هذا القبيل عموم الخطابات، مثل قوله تعالي: «إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي

______________________________

(1) بدائع البحوث: ج 3، ص 50.

(2) الحجرات: 12.

(3) المطفّفين: 1.

(4) لمزة: 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 134

الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً» «1»، و قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ …» «2»، و قوله: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ» «3»، إلي غير ذلك من الخطابات الواردة في الكتاب و السنة المتكفّلة لتشريع الأحكام.

وجه دلالة هذه الخطابات علي اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل.

أوّلًا: تعلُّق الأحكام في الخطابات بطبائع الموضوعات و المتعلّقات و ذواتها الشاملة لجميع المكلّفين علي حدّ سواء، بلا فرق بين العالم و الجاهل.

و ثانياً: شمول عموم «المؤمنين» و «الناس» للعالمين و الجاهلين علي حد سواء.

مناقشة النائيني صلي الله عليه و آله

في إطلاقات المقام

و لكن قد أشكل المحقق النائيني علي الاستدلال باطلاق الخطابات لاثبات اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل، بدعوي أنّ العلم و الجهل- كقصد الامتثال- من الانقسامات الثانوية اللاحقة المتأخّرة عن مرتبة تشريع الأحكام، و لا يمكن تقييد الحكم بها.

______________________________

(1) النساء: 103.

(2) البقرة: 183.

(3) البقرة: 189.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 135

فاذا استحال تقييد الحكم بالعلم، يستحيل ثبوت الاطلاق به بالنسبة إلي الجاهل؛ لأنّ التقابل بين الاطلاق و التقييد من قبيل العدم و الملكة.

و من هنا التجأَ المحقق المزبور إلي متمّم الجعل، و التزم بأنّ الاشتراك من قبيل نتيجة الاطلاق. و مراده من متمّم الجعل إنّما هو الدليل المنفصل المستقلّ عن نفس أدلّة الأحكام، كالاجماع و النصوص المستفاد منها الاشتراك و الوجوه العقلية المستدلّ بها في المقام.

و إليك بعض فقراتٍ من نصّ كلامه.

قال قدس سره: «توضيح ذلك: هو أنّ العلم بالحكم لمّا كان

من الانقسامات اللاحقة للحكم، فلا يمكن فيه الاطلاق و التقييد اللحاظي؛ لاستلزامه الدور، كما أوضحناه في مبحث التعبدي و التوصلي، و قلنا: إنّ أخذ العلم قيداً- جزءاً أو شرطاً أو مانعاً- ممّا لا يمكن في مرتبة الجعل و التشريع، كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحكم به كقصد التعبّد و التقرّب في العبادات. و إذا امتنع التقييد، امتنع الاطلاق أيضاً، لأنّ التقابل بين الاطلاق و التقييد تقابل العدم و الملكة. و لكن الاهمال الثبوتي أيضاً لا يعقل، بل لا بد إمّا من نتيجة الاطلاق أو من نتيجة التقييد؛ فانّ الملاك الذي اقتضي تشريع الحكم، إمّا أن يكون محفوظاً في كلتي حالتي الجهل و العلم، فلا بد من نتيجة الاطلاق. و إمّا أن يكون محفوظاً في حالة العلم فقط، فلا بدّ من نتيجة التقييد؛ و حيث لم يمكن أن يكون الجعل الأوّلي متكفّلًا لبيان ذلك، فلا بد من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الاطلاق أو التقييد، و هو المصطلح عليه بمتمّم الجعل. فاستكشاف كل من نتيجة الاطلاق و التقييد يكون من دليل آخر.

و قد ادّعي تواتر الأدلّة علي اشتراك الأحكام في حق العالم و الجاهل؛ و نحن و إن لم نعثر علي تلك الأدلة سوي بعض أخبار الآحاد التي ذكرها «صاحب الحدائق» في مقدمات كتابه، إلّا أنّ الظاهر قيام الاجماع، بل الضرورة علي ذلك». «1»

و قال في موضع آخر: «و المفروض أنّه ليس للأمر إطلاق بالنسبة إلي

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 3، ص 11- 12.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 136

قصد الامتثال، لامتناع التقييد به الملازم لامتناع الاطلاق كما تقدم، فالأمر من هذه الجهة يكون مهملًا لا إطلاق فيه و لا

تقييد، كما كان بالنسبة إلي العلم و الجهل به مهملًا لا إطلاق فيه و لا تقييد، هذا بحسب عالَم الجعل و التشريع.

و أما بحسب الثبوت و الواقع، فلا بدّ إمّا من نتيجة الاطلاق، و إما من نتيجة التقييد. و السرّ في ذلك: هو أنّه في الواقع و في عالم الثبوت، إمّا أن يكون ملاك الحكم و الجعل محفوظاً في كلتا حالتي العلم و الجهل و كلتا حالتي قصد الامتثال و عدمه، و إمّا أن يكون مختصّاً بأحد الحالين. فالأوّل يكون نتيجة الاطلاق. و الثاني يكون نتيجة التقييد …

و الفرق بين استكشاف نتيجة الاطلاق في المقام، و استكشاف الاطلاق في سائر المقامات، هو أنّ من عدم ذكر القيد في سائر المقامات يستكشف أنّ مراده من الأمر هو الاطلاق. و هذا بخلاف المقام، فانَّ من عدم ذكر متمم الجعل لا يستكشف أنّ مراده من الأمر هو الاطلاق؛ لما عرفت من أنّه لا يمكن أن يكون مراده من الأمر هو الاطلاق، بل من عدم ذكر متمم الجعل يستكشف أنّه ليس له مراد آخر سوي ما تعلّق به الأمر.

و بعبارة اخري: من عدم ذكر متمم الجعل في مرتبة وصول النوبة إليه يستكشف أنّ الملاك لا يختص بصورة قصد الامتثال، بل يعمُّ الحالين، فيحصل نتيجة الاطلاق» «1».

و قال بعد أسطر: «ثمّ إنّ متمّم الجعل تارة: ينتج نتيجة الاطلاق و اخري:

ينتج نتيجة التقييد، فالأوّل: كمسألة اشتراك الأحكام بالنسبة إلي العالم و الجاهل، حيث حكي تواتر الأخبار علي الاشتراك، و الثاني: كمسألة قصد

______________________________

(1) فوائد الاصول: ج 1، ص 159- 160.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 137

الامتثال في موارد اعتباره» «1».

و يفهم من مجموع كلامه أنّ الاطلاق علي ثلاثة أنحاءِ.

الأوّل:

الاطلاق اللفظي، و هو الاطلاق الناشي من لفظ طبيعي متعلّق الحكم أو موضوعه؛ نظراً إلي قابليته للصدق علي أفراده و مصاديقه، فهو بمقتضي ذاته يشمل جميع أفراده، استغراقاً أو بدلًا. و إرادة بعض أفراده بحاجة إلي بيان قيد لاخراج ما هو غير المراد.

الثاني: الاطلاق المقامي. و هو الاطلاق الثبوتي؛ بلحاظ عدم خلوّ الواقع من ثبوت الحكم علي نحو المطلق أو المقيّد. فاذا لم يثبت القيد- و لو بمتمّم الجعل-، لا بدّ من ثبوته علي نحو المطلق. و يكشفه عدم ذكر القيد.

الثالث: الاطلاق الثابت بمتمّم الجعل. و هو في الخصوصيات اللاحقة عن مقام الجعل بناءً علي عدم إمكان أخذها قيداً في متعلّق الحكم في الخطاب، فيما إذا ثبت الاطلاق بدليل منفصل.

نقد كلام

المحقق النائيني

و قد عرفت من كلامه أنّ اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل يثبت بطريقين:

أحدهما: عدم ذكر متمم الجعل؛ حيث يكشف ذلك عن أنّ الشارع لم يُرد شيئاً سوي متعلق الأمر، و هو الحكم المتعلّق بطبيعي الموضوع و ذاته، و أنّ ملاك ثبوت الحكم لا يختص بصورة العلم، بل يعمّ حالتي العلم و الجهل في مرحلة الثبوت و التشريع و يتبعه الاثبات و الفعلية.

و هذا الاطلاق من قبيل الاطلاق المقامي الثبوتي، و هو غير الاطلاق اللفظي

______________________________

(1) المصدر: ص 162.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 138

المستدلّ به في عداد أدلّة قاعدة الاشتراك.

ثانيهما: متمِّم الجعل- بناءً علي وروده من الشارع، كما هو مقتضي التحقيق، و هو ما سبق من النصوص-؛ فانّه يقتضي نتيجة الاطلاق؛ إذ دلّ علي عدم اختصاص الأحكام- في مرحلة الثبوت و التشريع بالعالمين و اشتراكها بين العالم و الجاهل.

و قد عرفت أنّ المحقق المزبور- بعد ما أشكل علي التمسّك بالاطلاق اللفظي

لاثبات قاعدة الاشتراك- التجأ إلي الاستدلال، باستفادة نتيجة الاطلاق من الطريقين المزبورين، كما عرفت من نصّ كلامه.

و لكن أجاب عنه بعض المحققين «1» بما حاصله: أنّ إشكال العَلَم المزبور إنّما يرد لو كان الاطلاق في مرحلة الانشاء و بيان الحكم و بلحاظ حالتي العلم بالحكم و الجهل به. و لا يرد لو كان بلحاظ مرحلة الثبوت من حيث واقع الحكم الثابت في نفس الأمر. و ذلك لأنّه لا يخلو من كونه في عالم الثبوت؛ إما مختصّاً بالعالمين، أو مشتركاً بينهم و بين الجاهلين. و التقابل بينهما إنّما هو تقابل الايجاب و السلب- و هو التقابل بين الاختصاص و عدمه- لا العدم و الملكة. فاذا لم يثبت الاختصاص و لو لامتناعه، يثبت الاشتراك لا محالة. فاشتراك التكليف ثابت بنفس امتناع أخذ الاختصاص في متعلق الحكم و عدم دليل منفصل عليه.

و هذا الكلام متين جدّاً.

و يرد عليه: أنّ تقابل العدم و الملكة إنّما ادّعاه المحقق النائيني بين الاطلاق و التقييد، و هو المانع من التمسك باطلاق الخطاب اللفظي لنفي قيد امتنع تقييد الخطاب به، لا تقابل العدم و الملكة بين العلم و الجهل و لا بين الاختصاص و

______________________________

(1) و هو الشيخ المظفّر في اصول الفقه: ج 2، ص 35.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 139

الاشتراك.

و لكن الجواب الأساسي: عدم استحالة أخذ العلم و قصد الامتثال و نحوهما من الانقسامات الثانوية في متعلّق الحكم حين تشريعه.

و ذلك لما بيّناه في محله- من علم الاصول- أنّ المستحيل إنّما هو تحقق الخصوصيات المزبورة بوجودها الواقعي في مرتبة التشريع و قبلها بالأخذ في متعلّق الحكم و موضوعه، لا مجرد فرضها المتقوّم عليه تشريع الحكم و إنشاؤه. و عليه

فاطلاقات الكتاب و السنة لا مانع من التمسّك بها لقاعدة الاشتراك.

الاستدلال

بحكم العقل

و قد استُدِل بحكم العقل لاثبات اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل بوجوه، عمدتها وجهان:

الأوّل: لزوم محذور التصويب الباطل من اختصاص الأحكام بالعالمين. و حاصل هذا المحذور: أنّه لو كانت الأحكام مختصّة بالعالمين، ليلزم خلوّ الواقعة من الحكم الثابت في نفس الأمر و دورانه مدار علم المكلفين، و هذا مخالف للضرورة و الاجماع و نصوص الكتاب و السنّة. فلا مناص من الالتزام بثبوت أحكام واقعية ثابتة في نفس الأمر، سواءٌ علم بها المكلّفون، أم لم يعلموا.

و قد أشار إلي هذا المحذور الشيخ الأعظم بقوله: «أن يكون الحكم مطلقاً تابعاً لتلك الأمارة، بحيث لا يكون في حق الجاهل- مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة و عدمها- حكمٌ، فتكون الأحكام الواقعية مختصّةً في الواقع بالعالمين بها، و الجاهل- مع قطع النظر عن قيام أمارةٍ عنده علي حكم العالمين- لا حكم له أو محكومٌ بما يعلم اللّٰه أن الامارة تؤدّي إليه. و هذا تصويب باطل عند أهل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 140

الصواب من التخطئة» «1».

الثاني: لزوم محذور الدور، كما يظهر من كلام المحقق النائيني في بعض تقارير دروسه «2». و حاصله: أنّه لا إشكال في توقف العلم بالتكليف علي إنشائه و جعله. فلو اختص التكليف بالعالمين، ليلزم توقف جعل الحكم علي لحاظ العلم به في متعلّقه، و هذا مستلزم للدور.

و قد أشكل السيد الامام الراحل علي لزوم محذور الدور من اختصاص الحكم بالعالمين.

و حاصله: أنّ المستلزم للدور توقف جعل الحكم علي واقع العلم به، لا توقفه علي مجرد لحاظ العلم به من جانب الشارع الجاعل. و لا نطيل الكلام بالغور في ذلك،

فراجع «3».

هذه هي الوجوه الأربعة المستدل بها لهذه القاعدة. و لكن في تحقق الاجماع في المقام نظرٌ؛ لعدم تعرّض كثيرٍ من الفقهاء لمفاد هذه القاعدة باطلاقه، و علي فرض تحققه يشكل كونه إجماعاً تعبّدياً، بعد إمكان، بل وقوع الاستدلال لها بظواهر النصوص المزبورة و باطلاقات الأدلة و الخطابات و بحكم العقل.

فالعمدة هي الوجوه الثلاثة الأخيرة، و هي الحجّة في المقام، بلا إشكال.

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 1، ص 113.

(2) كتاب الصلاة تقريرات الكاظمي: ج 2، ص 189.

(3) كتاب الخلل في الصلاة/ طبع مؤسسة نشر آثار الامام: ص 24/ مناهج الوصول: ج 1، ص 260- 263.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 141

التطبيقات الفقهية
اشارة

1- مسألة إجزاء الأمارات.

2- من لم يُحسن القراءة بالعربية.

3- لو جمع بين الاختين المملوكتين.

4- لو غرس في أرض الغير باذنه.

5- لو عقد المُحرم علي امرأة جاهلًا بالحكم.

6- لا فرق بين العالم و الجاهل في الاخلال بواجبات الصلاة.

7- فساد المعاوضة بالربا بلا فرق بين العالم و الجاهل.

8- وجوب الكفارة بتناول المفطرات.

9- حكم من صلّي في المغصوب جاهلًا.

10- لو أتمّ المسافر صلاته جاهلًا.

11- حكم الجاهل الغافل عن وجوب الحج بالاستطاعة.

إنّ لهذه القاعدة تطبيقات عديدة في فروع كثيرة من مختلف أبواب الفقه. و قد حكم الفقهاءُ فيها بنفي الفرق بين العالم و الجاهل، و هي واضحة لا حاجة إلي التعرّض إليها لسهولة الوصول. و إنّما المهم موارد منها وقع الخلاف بين الفقهاء في اشتراك الحكم بين العالم و الجاهل. و ينبغي أن نتعرّض إلي نماذج من هذه الفروع.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 142

مسألة إجزاء الأمارات

فمن الفروع الأساسية المترتبة علي قاعدة الاشتراك القول بعدم إجزاء الأمارات مطلقاً- إعادةً و قضاءً- إذا انكشف الخلاف بالعلم. و أما لو انكشف بأمارة اخري، فقد فصّلنا بين الاعادة و القضاء، فقلنا بعدم الاجزاء في الأوّل و بالاجزاءِ في الثاني علي تفصيل. و قد فصّلنا البحث عن ذلك في مبحث الاجزاء في كتابنا «بدائع البحوث». «1»

و إليك نبذة مما حقّقناه هناك:

مقتضي

التحقيق

مقتضي التحقيق في المقام: التفصيل بين الإعادة و القضاء و في الثاني بين ما لو انكشف الخلاف بالعلم و بين ما لو انكشف بأمارة اخري.

أمّا في الإعادة: فالتحقيق فيها عدم إجزاء الأمر الظاهري مطلقاً بلا فرق بين ما لو كان انكشاف الخلاف بالعلم و بين ما لو كان بأمارة اخري.

أما لو كان الكشف بالعلم، فواضح؛ لما سبق من أنّ شأن الأمارة

الانكشاف و الطريقية إلي الواقع، فبعد انكشاف الواقع لا معني لطريقيته.

و أمّا لو كان الانكشاف بأمارة اخري، فلأنّ بقيامها تسقط الأمارة السابقة عن الحجية. فإذا سقطت، يتنجّز التكليف الواقعي بالأمارة اللاحقة في داخل الوقت؛ حيث لا ريب في ثبوت التكليف الواقعي و أنّ الحجة قامت عليه في داخل الوقت فلا محالة يتنجّز بقيام الحجة عليه و يتعيّن الواقع في مؤدّاها.

______________________________

(1) بدائع البحوث في علم الاصول: ج 3، ص 273- 318.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 143

و محذور العسر و الحرج لا يلزم من تبدّل الرأي و الرجوع إلي مجتهد آخر حينئذ؛ لأنّ الإعادة تختص بالواجب الفائت في داخل الوقت، بخلاف القضاء الشامل لكلّ ما فات سابقاً.

أمّا القضاء ففي ما إذا كان الانكشاف بالعلم، لا يمكن القول بالإجزاء؛ لما سبق آنفاً من تبيّن الواقع و تعيّنه في المعلوم بسبب القطع بمخالفة الأمارة السابقة للواقع و محذور العسر و الحرج منتفٍ حينئذ؛ نظراً إلي ندور تبدّل الرأي بالعلم القطعي و عدم حصول العلم بالواقع بفتوي المجتهد الثاني المعدول إليه.

و أمّا إذا انكشف الواقع بأمارة اخري، فالتحقيق إجزاء الأمر الظاهري فيه عن القضاء. و ذلك لمضي وقت العمل بالتكليف الأوّلي و عدم قيام الأمارة اللاحقة في داخل الوقت، حتي يتنجّز التكليف الواقعي بها.

و حينئذ يُحكّم إطلاق دليل حجية الأمارة السابقة؛ نظراً إلي دلالتها علي مشروعية العمل المأتي به باستنادها مطلقاً، حتي لو قامت أمارة علي خلافها في خارج الوقت. و سقوط السابقة عن الحجية بقيام اللاحقة في خارج الوقت، لا ينافي حجّية السابقة في داخل الوقت، فلا محالة يؤخذ بإطلاقها علي النحو المزبور.

و بعبارة اخري: إنّ الأمارة اللّاحقة و إن كانت حجة، و لكن مقتضي

حجيتها سقوط السابقة عن الحجية في ظرف قيام اللاحقة و وجوب العمل باللاحقة في الإتيان بالفرائض في هذا الظرف. و لا إطلاق لها بالنسبة إلي مقتضي حجية السابقة في ظرفها.

و إنّ مقتضي إطلاق حجية الأمارة السابقة مشروعية العمل المأتي به

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 144

باستنادها مطلقاً حتي بعد قيام اللاحقة، و لا إطلاق للّاحقة بالنسبة إليها. و إن شئت فقل: ليست اللاحقة بأظهر من السابقة بالنسبة إلي مقتضي إطلاق حجية السابقة في ظرف قيامها، حتي تُقدّم عليها أو تبطلها و تسقطها عن الحجية بالنسبة إلي ذلك.

هذا مضافاً إلي لزوم العسر و الحرج الشديد علي القول بعدم الإجزاء حينئذ عند تبدّل الرأي و الرجوع إلي مجتهد آخر، و لا سيّما فيما لو عُمل بالفتوي السابقة سنين عديدة.

فتحصّل أنّ التحقيق إجزاء الأمر الظاهري فيما إذا كان انكشاف الخلاف بالعلم مطلقاً، بلا فرق بين الأمارات و الاصول. و أمّا إذا كان الانكشاف بأمارة اخري، فالتحقيق فيه التفصيل بين الإعادة و القضاء، ففي الإعادة عدم الإجزاء مطلقاً و في القضاء الإجزاء.

و أما تعميم عدم الإجزاء إلي الصورة الثانية، فغاية ما يمكن أن يستدل له:

إنّ شأن الطريقية و الكشف في الأمارات يقتضي عدم جواز ترتيب أثر الواقع عليها عند كشف الخلاف؛ نظراً إلي إثبات عدم كونها طريقاً كاشفاً عن الواقع بعد قيام الحجة المعتبرة بالأمارة اللاحقة علي نفي حجية السابقة. و أنّه و إن لا فرق بين الأمارة السابقة و بين اللاحقة من جهة احتمال الخطأ و عدم الإصابة بالواقع؛ حيث لا دافع لاحتمال ذلك في كلّ أمارة، إلّا أنه بقيام الحجة علي مخالفة السابقة للواقع، يتعيّن الطريق الكاشف عن الواقع في الأمارة اللاحقة.

فإنّها كما تكون

حجّة علي كون مؤدّاها حكماً واقعياً، كذلك تكون حجّة علي عدم كون مؤدّي السابقة حكماً واقعياً.

و لكن كل ذلك لا ينافي ما بيّناه في تعليل التفصيل المختار؛ من دلالة إطلاق

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 145

دليل حجية الأمارة السابقة علي مشروعية العمل المأتي به باستنادها، و جواز الاجتزاء به عن الواقع حتي بعد قيام الأمارة اللاحقة، مع ما سبق من الفرق في ذلك بين الإعادة و القضاء، و إن كان الأمر في القضاء أهون بناءً علي احتياجه إلي أمر جديد.

هذا مضافاً إلي لزوم العسر و الحرج من إيجاب القضاء عند تبدل الرأي أو الرجوع إلي مجتهد آخر.

فانّ لزوم العسر و الحرج يكشف عن عدم وجود الحكم المستلزم له في مرحلة الجعل و التشريع، لا أنّه جعل ثمّ ارتفع بعروض الحرج. و ذلك لما أخبرنا سبحانه و تعالي عن عدم جعل حكم حرجي في الشريعة بقوله: «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». «1»

فاذا لم يُجعل في موارد لزوم العسر و الحرج حكماً من جانب الشارع، لا معني لحجية الأمارة اللاحقة عليه، حتي تكشف عن كون الحكم الحرجي مجعولًا في الواقع.

______________________________

(1) الحج: 78.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 146

من لم يُحسن القراءة بالعربية

و منها: من لم يحسن القراءة بالعربية، و لا يتمكن من التعلّم و لا يقدر إلّا علي الملحون. فحكم السيد اليزدي بإجزاء الملحون منه.

قال في العروة: «من لا يقدر إلّا علي الملحون أو تبديل بعض الحروف و لا يستطيع أن يتعلّم، أجزأه ذلك». «1»

و يدل عليه بعض النصوص بالخصوص، مثل معتبرة مسعدة بن صدقة، قال: سمعت جعفر بن محمد عليه السلام يقول:

«إنّك تري من المُحرم من العجم لا يُراد منه ما

يراد من العالم الفصيح، و كذلك الأخرس، في القراءة و التشهد و ما أشبه ذلك، فهذا بمنزلة العجم …». «2»

و في معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال النبي صلي الله عليه و آله:

«إنّ الرجل الأعجمي من امّتي ليقرأ القرآن بعجميةٍ، فترفعه الملائكة علي عربيّته». «3»

و إنّ مقتضي قاعدة الاشتراك عدم الاجزاء في مفروض المسألة، إلّا أنّ النصّ قد دلّ علي تخصيصها.

و لا يخفي أنّ قول السيد: «و لا يستطيع أنّ يتعلّم …» يشمل غير المتمكن عن التعلّم لضيق الوقت.

و لكنّ الظاهر انصراف المعتبرتين المزبورتين إلي الأعجمي الغير المتمكن عن تعلّم العربية لعجميته، لا غير المتمكّن منه لضيق الوقت.

______________________________

(1) العروة الوثقي: ج 2، ص 513، م 33.

(2) الوسائل: ب 67 من القراءة في الصلاة ح 2.

(3) الوسائل: ب 30 من قراءة القرآن ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 147

و علي أيّ حال يكون قوله: «لا يستطيع أن يتعلّم» ظاهر في عقد المسألة في الجاهل بالحكم؛ أي الجاهل بما يجب رعايته في القراءة من وجوه الاعراب و مخارج الحروف، فهو كالجاهل بما يجب رعايته في الركوع و السجود داخل في الجاهل بالحكم.

لو غرس في أرض الغير باذنه

لو غرس في أرض الغير باذنه علي أن يكون الثمار بينهما حكم الأصحاب ببطلان المغارسة و أنّ الغرس لصاحبه، و لمالك الأرض طلب اجرة أرضه. و حكموا بجواز إزالة الغرس للمالك، و لكن عليه ضمان الخسارة الواردة علي الغارس بالقلع.

و ظاهر كلمات الأصحاب عدم الفرق بين ما إذا كان الغارس و المالك عالمين بالحكم و بين كونهما جاهلين. و لكن احتمل الشهيد الفرق بينهما؛ حيث قال: «و لم يفرّق الأصحاب في إطلاق كلامهم بين العالم بالبطلان و

الجاهل، بل تعليلهم مؤذن بالتعميم. و لا يبعد الفرق بينهما و أن لا اجرة لصاحب الأرض مع علمه، و لا أرش لصاحب الغرس مع علمه» «1».

و قد وافقه المحدث البحراني فقوّي الفرق بين العالم و الجاهل؛ حيث قال:

«و ظاهر كلامهم أنّه لا فرق في ذلك بين العالم بالبطلان، و الجاهل به.

و أنت خبير بأنّه لا يبعد الفرق بين الحالين و تخصيص الحكم المذكور بحال الجهل، و أما مع العلم فانّه لا اجرة للعامل فيما إذا كان الغرس لصاحب الارض و لا لصاحب الارض فيما إذا كان الغرس للعامل، و لا أرش لصاحب الغرس مع عمله، لأنّ الأوّل- مع علمه ببطلان العقد و أنّه لا يستحق الحصة في

______________________________

(1) مسالك الافهام: ج 5، ص 72.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 148

مقابلة عمله- يكون متبرعاً بالعمل حينئذٍ. و مقتضي تعليل وجوب الاجرة بأنّه إنّما عمل لأجل الحصة و لم تسلم له فوجب له الاجرة، لا يجري إلّا في صورة الجهل، كما هو ظاهر.

و الثاني قد أذن للعامل في التصرف في أرضه بالحصة مع علمه بعدم استحقاقها، فيكون في معني الاذن بغير عوض، فكيف يستحق عليه اجرة و الحال هذه» «1».

لو عقد المُحرم علي امرأة جاهلًا بالحكم

إذا عقد المُحرم علي امرأةٍ، ذهب المشهور إلي أنّ المرأة تحرم عليه مؤبّداً إذا كان عالماً بالتحريم، و إن لم يدخل بها، دون ما إذا كان جاهلًا. و مستند المشهور رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال عليه السلام: «و المحرم إذا تزوّج و هو يعلم أنّه حرام عليه لم تحلّ له أبداً» «2». و الرواية ضعيفة بوقوع المثنّي في طريقها؛ لأنّه مجهول لم يُذكر اسمه في الرجال، فضلًا عن التعرّض

إلي حاله.

و في المقام تفاصيل اخري، قد أجاد في تحريرها الشهيد؛ حيث قال في ذيل متن الشرائع- و هو القول المزبور المستفاد من الرواية-:

«هذا هو المشهور بين الأصحاب. و مستنده رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام، و من جملتها: و المُحرم إذا تزوّج و هو يعلم أنّه حرام عليه، لا تحلّ له أبداً، و هي دالّة باطلاقها علي التحريم مع العلم و إن لم يدخل، و بمفهومها علي عدم التحريم مع عدمه و إن دخل، و يعتضد المفهوم بالأصل فيتقوّي من

______________________________

(1) الحدائق الناظرة: ج 21، ص 392- 393.

(2) الوسائل: ب 31، من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 149

ضعفه. و إنّما الكلام في حالة العلم، لضعف الرواية، إلّا أنّه لا قائل بعدم التحريم مطلقاً، و إن اختلفت كلمتهم في الشرط، فانّ الأكثرين اعتبروا ما ذكره المصنّف.

و منهم من اقتصر علي حالة العلم كالمفيد، وقوفاً مع الرواية، و منهم من أطلق التحريم من غير فرق بين العالم و غيره، كسلّار و الصدوق، و جماعة أطلقوا التحريم مع العلم و مع الدخول في حالة الجهل، منهم ابن ادريس، و قوّاه فخر الدين في شرحه إلي غير ذلك من الاختلافات. و ليس في الباب من النصوص سوي ما ذكرناه» «1».

و لكن الأقوي ما ذهب إليه المشهور؛ نظراً إلي انجبار ضعف سند رواية زرارة بعملهم. و قد بنينا علي انجبار ضعف الرواية بعمل المشهور، و استوفينا البحث فيه و الاستدلال له في كتابنا مقياس الرواية، فراجع.

و بهذه الرواية تقيَّد إطلاقات التحريم كصحيحة محمد بن قيس و خبر الخزاعي و موثق ابن بكير «2» و خبر زرارة. و قد نقل

هذه الروايات كلها في الحدائق «3». و قد جمع الشيخ بين أخبار المقام بما بيّناه و استجوده في الحدائق- بعد نقله- بقوله: «فما ذكره المحقق و نحوه غيره- من بيان حكم العالم و الجاهل- فالظاهر أنّهم قد تبعوا الشيخ فيما قدمنا نقله عنه من الجمع بين الأخبار، و هو جيّد وجيه، كما لا يخفي علي الفطن النبيه» «4».

______________________________

(1) مسالك الافهام: ج 7، ص 344.

(2) الوسائل: ج 9، ص 92، ح 3، و ص 91، ح 1 و 2.

(3) الحدائق الناضرة: ج 23، ص 602- 603.

(4) الحدائق الناضرة: ج 23، ص 605.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 150

لا فرق بين العالم و الجاهل في الاخلال بواجبات الصلاة

المشهور بين الفقهاء أنّه لا فرق بين العالم و الجاهل في بطلان الصلاة بالاخلال في واجباتها عمداً، بل ادّعي عليه الاجماع، كما قال في الجواهر، «و كيف كان فلا فرق بين العالم بالحكم الشرعي التكليفي و الوضعي و الجاهل بهما أو بأحدهما معذوراً كان الجاهل أو غير معذور علي الأصح في الأخير، و لذلك قال: و كذا أي تبطل صلاته لو فعل ما يجب تركه أو ترك ما يجب فعله جهلًا بوجوبه أو بتوقف الصحة عليه، فيكون كالعامد غير معذور، و عن الدرة الاجماع عليه، كما عن شرح الألفية للكركي أن جاهل الحكم عامد عند عامة الأصحاب في جميع المنافيات من فعل أو ترك» «1».

و إنّما استثنوا من ذلك الجهر و الاخفات، كما أشار إليه في الجواهر بقوله:

«إلّا الجهر و الاخفات فانه يعذر الجاهل بذلك إجماعاً محصلًا و منقولًا كما تبين في محله من غير فرق فيه بين المتنبه و غيره» «2».

هذا، و لكن قوّي صاحب العروة التفصيل بين العالم و الجاهل و حكم في

الجاهل بالصحة إلحاقاً له بالناسي في غير الخمس المذكور في حديث لا تعاد.

قال: «إذا حصل الاخلال- بزيادة أو نقصان- جهلًا بالحكم، فان كان بترك شرط ركن- كالاخلال بالطهارة الحدثية، أو بالقبلة؛ بأن صلي مستدبراً أو إلي اليمين أو اليسار، أو بالوقت؛ بأن صلّي قبل دخوله، أو بنقصان ركعة أو ركوع أو غيرهما من الاجزاء الركنية، أو بزيادة ركن-، بطلت الصلاة. و إن كان

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 229.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 230.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 151

الاخلال بسائر الشروط أو الأجزاء زيادة أو نقصاً، فالأحوط الالحاق بالعمد في البطلان، لكن الأقوي إجراء حكم السهو عليه» «1».

و الوجه فيه ظاهراً تقييد إطلاقات الجزئية و الشرطية- الشاملة للجاهل بالحكم- بحديث «لا تعاد»؛ إذ دلّ بمفهومه علي عدم بطلان الصلاة بالاخلال عن غير علم و عمد في غير الخمسة؛ بدعوي عدم انصرافه إلي الاخلال عن سهو و نسيان كما عليه المشهور، و إلّا تبقي الاطلاقات المزبورة علي حالها من غير تقييد بحال العلم، كما هو المشهور؛ نظراً إلي كون الاطلاق ثبوتياً و ثابتاً بمجرد عدم الاختصاص بالعالم و التقابل بينه و بين الاختصاص بالعالم هو الايجاب و السلب، لا العدم و الملكة حتي يرد إشكال المحقق النائيني من امتناع الاطلاق لأجل امتناع التقييد، كما بيّنا ذلك مفصلًا في مدرك القاعدة.

فساد المعاوضة بالربا بلا فرق بين العالم و الجاهل

من الفروع المترتبة علي هذه القاعدة في أبواب المعاملات فساد المعاوضة الربوية بلا فرق بين العالم بالتحريم و بين الجاهل به، بل و لا بين الجاهل القاصر و المقصّر.

و قد استظهر ذلك صاحب الجواهر من كلمات الأصحاب؛ حيث قال: «و أما لو كان الربا في عقد المعاوضة، فالمتّجه حينئذٍ فساد المعاملة،

فيبقي كلّ من العوضين علي ملك صاحبه لا الزيادة خاصة، إذ الفرق بينه و بين القرض واضح، و حينئذٍ يجري فيه ما يجري في باقي المعاملات الفاسدة من غير فرق أيضاً بين العالم و الجاهل إلّا في الاثم و عدمه، إذا كان غير مقصّر في البحث و

______________________________

(1) العروة الوثقي: المسألة الثالثة من الخلل الواقع في الصلاة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 152

التفحّص و لو لأنّه غير متنبّه، إلّا أنّ الاصحاب هنا لم يفرقوا بين الموضوعين، فأطلقوا وجوب ردّ الزيادة إذا كان حال تناولها عالماً بالتحريم، بل نفي بعضهم عنه الخلاف فيه، بل عن المقداد و الكركي الاجماع عليه» «1».

قوله: «لم يفرّقوا بين الموضوعين»؛ أي بين الجاهل القاصر و المقصّر، و قوله: «إذا كان حال تناولها عالماً بالتحريم»؛ أي ارتفع جهله بالتحريم بعد تمام المعاوضة و انتقال الزيادة إليه حينما أراد أن يتناولها؛ أي يتصرّف فيها.

وجوب الكفارة بتناول المفطرات

نُسب إلي المشهور وجوب الكفارة علي من تناول المفطرات عمداً، بلا فرق بين العالم بالحكم و بين الجاهل به؛ لعدم منافاة الجهل للعمد. و من هنا قالوا: الجاهل كالعامد. و استندوا في ذلك اطلاقات وجوب الكفارة علي من أفطر متعمّداً.

و لكن قوّي في العروة الفرق بين العالم و الجاهل، و لا سيّما القاصر فنفي وجوب الكفارة عن الجاهل.

و استدلّ له في المستمسك بقوله: «لما تقدّم من موثق أبي بصير و زرارة عن رجل أتي أهله و هو في شهر رمضان أو أتي أهله و هو محرم، و هو لا يري إلّا أن ذلك حرام له، قال عليه السلام: ليس عليه شي ءٌ، بناء علي عمومه الشامل للقاصر و المقصر- كما هو الظاهر- لترك الاستفصال، مع عدم القرينة علي

التعيين» «2».

و لكن ناقش في شمول الموثقة للجاهل المقصّر الذي يحتمل الخلاف و يتردّد في الحكم، بدعوي انصرافها إلي القاطع الذي لا يحتمل الخلاف، و هو

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 23، ص 397.

(2) مستمسك العروة: ج 8، ص 341.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 153

الجاهل القاصر؛ بقرينة قول الراوي: «و هو لا يري إلّا أنّ ذلك حلال له».

قال قدس سره: «نعم موردها من كان يري أنّه غير مفطر، فتشمل القاطع بالحِلّ مطلقاً و المتردد الذي يحكم عقله بجواز الارتكاب، بناء علي أنّ المراد بالحل الأعم من الواقع و الظاهر. و لا تشمل المتردد الذي لا يحكم عقله بالحل، فالتعدي إليه لا يخلو من إشكال، بل الرجوع إلي عموم الكفارة فيه أنسب بالقاعدة» «1» و إنّ كلامه متين لا غبار عليه.

حكم من صلّي في المغصوب جاهلًا

إذا صلّي أحدٌ في المغصوب جاهلًا باشتراط إباحة اللباس أو بأصل حرمة الغصب، حَكَم جماعة من الفقهاء ببطلان صلاة الجاهل حينئذٍ و أنّه كالعامد مطلقاً، و فصل في العروة بين الجهل بالحكم الوضعي- و هو اشتراط إباحة اللباس في صحة الصلاة- و بين الجهل بالحكم التكليفي- و هو حرمة أصل الغصب- فحكم في الأوّل بالبطلان و في الثاني بالصحة؛ حيث قال: «فلو صلّي في المغصوب و لو كان خيطاً منه عالماً بالحرمة عامداً بطلت و إن كان جاهلًا بكونه مفسداً، بل الأحوط البطلان مع الجهل بالحرمة أيضاً و إن كان الحكم بالصحة لا يخلو عن قوّة» «2».

و علّل ذلك في المستمسك- بعد نقل القول المزبور عن جماعة من الفقهاء- بهذه القاعدة، و نفَي الفرق بين الجاهل القاصر و المقصّر؛ حيث إنّه- في ذيل كلام صاحب العروة المزبور- قال: «و في القواعد، و عن

المنتهي: البطلان مع جهل الحكم، لأنّ التكليف لا يتوقف علي العلم، و إلّا لزم الدور المحال. و مقتضي

______________________________

(1) المصدر.

(2) العروة الوثقي: ج 1، الشرط الثاني من شرائط لباس المصلّي.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 154

إطلاقهم الصحة و البطلان عدم الفرق بين القاصر و المقصر.

و التحقيق: أنّ الالتفات و الغفلة و العلم و الجهل مما لا دخل لها في التكليف، لتأخرها عنه رتبة، بل التكليف مشترك بين الملتفت و الغافل و العالم و الجاهل، فانه يغفل عنه مرة و يلتفت إليه اخري، و يعلم به تارة و يجهل اخري. و إنّما العناوين المذكورة دخيلة في تنجز التكليف و عدمه، و استحقاق العقاب علي مخالفته و عدمه» «1».

لو أتمّ المسافر صلاته جاهلًا

المعروف بين الأصحاب صحة صلاة المسافر لو أتمّها عن جهل بالحكم، بل ادّعي الاجماع عليه، كما أشار إليه السيد الحكيم، «2» في ذيل فتوي السيد اليزدي بذلك بقوله: «و إن كان جاهلًا بأصل الحكم و أنّ حكم المسافر التقصير، لم تجب عليه الاعادة، فضلًا عن القضاء» «3».

و قد دلّ علي ذلك صحيح زرارة و محمد بن مسلم، قالا: «قلنا لأبي جعفر عليه السلام رجل صلي في السفر أربعاً أو لا؟ قال: إن كان قرأت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّي أربعاً أعاد، و إن لم يكن قرأت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه» «4».

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقي: ج 5، ص 283- 284.

(2) مستمسك العروة: ج 8، ص 159.

(3) العروة الوثقي: المسألة الثالثة من أحكام صلاة المسافر.

(4) الوسائل: ب 17، من صلاة المسافر، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 155

حكم الجاهل الغافل عن وجوب الحج بالاستطاعة

إذا كان المستطيع جاهلًا بحكم وجوب الحج علي المستطيع جهلًا مركباً، فقد حكم السيد الخوئي بسقوط وجوب الحج عليه إذا التفت بعد زوال الاستطاعة. قال:

«إذا كان عنده ما يفي بمصارف الحج لكنه معتقد بعدمه، أو غافلًا عنه، أو كان غافلًا عن وجوب الحج عليه غفلةَ عذرٍ، لم يجب عليه الحج، و أما إذا كان شاكاً فيه أو كان غافلًا عن وجوب الحج عليه غفلة ناشئة عن التقصير ثمّ علم أو تذكر بعد أن تلف المال فلم يتمكن من الحج فالظاهر استقرار وجوب الحج عليه إذا كان واجداً لسائر الشرائط حين وجوده» «1».

و قد عرفت من كلامه أنّه فصّل في المقام بين الجاهل القاصر و بين الجاهل المقصر. و قد علّل ذلك- علي ما في تقريرات درسه بعد ما نقل عن

السيد اليزدي استقرار وجوب الحج مطلقاً و عن المحقق القمي عدم وجوب الحج مطلقاً- بقوله:

«و الصحيح التفصيل- كما في المتن- بين الجهل البسيط و المركب. فان كان الجهل جهلًا بسيطاً و كان شاكاً، فالظاهر استقرار وجوب الحج عليه؛ لما حقق في محله، من أنّ رفع الحكم في مورده حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحج و استقراره عليه واقعاً؛ إذ العلم بالاستطاعة لم يؤخذ في موضوع وجوب الحج، و لا مانع من توجه التكليف إليه لتمكّنه من الاتيان به و لو علي سبيل الاحتياط.

و بعبارة اخري: في مورد الجهل البسيط الذي كان يتردد و يشك في أنّه مستطيع أم لا، إذا كان اعتماده علي أصل شرعي يعذره عن ترك الواقع ما دام

______________________________

(1) المعتمد في كتاب الحج: ج 3، ص 71.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 156

جاهلًا به، إذا انكشف الخلاف و بان أنّه مستطيع، تنجز عليه التكليف الواقعي، كسائر موارد انكشاف الخلاف في الاحكام الظاهرية.

بخلاف ما لو كان جاهلًا بالجهل المركب و كان معتقداً للخلاف؛ فان التكليف الواقعي غير متوجه إليه؛ لعدم تمكّنه من الامتثال حتي علي نحو الاحتياط. فانّ من كان قاطعاً بالعدم لا يمكن توجه التكليف إليه؛ لعدم القدرة علي الامتثال.

و ما يقال من أنّ الأحكام مشتركة بين العالم و الجاهل، فانما هو في مورد الجهل البسيط الذي يتمكن من الامتثال في مورده لا الجهل المركب و القطع بالخلاف الذي لا يتمكن من الامتثال أصلًا» «1».

و الفروع المترتّبة علي هذه القاعدة في مختلف أبواب الفقه كثيرةٌ، فوق حدّ الاحصاء في المقام.

______________________________

(1) المصدر: ص 72.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 157

«قاعدة» «الإكراه»

اشارة

مفاد القاعدة

مدرك القاعدة

التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد

الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 158

مفاد القاعدة

اشارة

1- التعريف اللغوي و الاصطلاحي.

2- نظرة إلي كلمات الفقهاء في تعريف الاكراه.

3- بيان الفرق بين الاكراه و الاجبار و الاضطرار.

التعريف اللغوي و الاصطلاحي

لفظ الاكراه في اللغة جاءَ بمعني حمل الغير علي ما يكرهه و لا يحبّه و لا يطيّب نفسه به. قال الخليل: «أكرهتُه:

حملتُه علي أمرٍ و هو كارهٌ» «1».

و قال ابن فارس: «كره: - الكاف و الراءُ و الهاء- أصلٌ صحيح واحد يدل علي خلاف الرضا و المحبّة» «2».

و لفظ الاكراه إنّما استعمل في اصطلاح الفقهاء في مقابل الرضا و طيب النفس، لا في مقابل الارادة و الاختيار.

بيان ذلك: أنّ قصد المكلّف إلي أيّ فعل اختياري؛ إمّا أن يكون عن رضاه و طيب نفسه، و إمّا بسبب خوف علي نفسه أو ماله، من غير رضاه و لا طيب نفسه. ففي الصورة الثانية يصدق عنوان الاكراه. و يقال: إنّه مكره في فعله.

فالاكراه: هو التخويف بالوعيد و إخافة الغير بتهديده بقتله و ضربه و إسقاط عرضه و إحراق بيته و إتلاف ماله، و نحو ذلك مما يخاف منه علي نفسه أو عرضه أو ماله أو متعلّقيه.

______________________________

(1) كتاب العين: ج 3، ص 1570.

(2) معجم مقائيس اللغة: ج 5، ص 172.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 159

نظرةٌ إلي كلمات الفقهاء في تعريف الإكراه

قال الشيخ الطوسي: «و أما بيان الاكراه، فجملته أنّ الاكراه يفتقر إلي ثلاث شرائط. أحدها: أن يكون المكرِه قاهراً غالباً مقتدراً علي المكرَه، مثل سلطان أو لصّ أو متغلّب. و الثاني: أن يغلب علي ظنّ المكرَه: أنّه إن امتنع من المراد منه، وقع به ما هو متوعّد به. و الثالث: أن يكون الوعيد بما يستضرّ به في خاصّة نفسه.

و ما الذي يلحقه به ضرر؟ علي قولين؛ قال قوم: الوعيد مثل قتل أو قطع. و ما عداهما من الضرب و الشتم و أخذ المال، فليس باكراه. و الثاني: - و هو

الصحيح عندهم- أنّ جميع ذلك؛ أعني القتل و الضرب و الشتم و أخذ المال، إكراه في الجملة.

فمن قال بالأوّل، فلا كلام و لا يختلف ذلك باختلاف النّاس. و من قال إنّ جميع ذلك إكراه، فعلي هذا يختلف باختلاف صفة المكره. فإن كان من النّاس الذين لا يبالون بالشّتم فالاكراه القتل و القطع و أخذ المال لا غير، و أما الضرب و الشّتم فانّ هؤلاء لا يعدّون الشتم عاراً و لا ذلًا، و يعدُّون الضرب و الصّبر عليه فتوةً و جلادةً. و إن كان من أهل الصيانات و المروّات، فالضرب و الشتم إكراه في حقّهم، و هذا القول أقرب و أقوي عندنا.

فأمّا إن كان الوعيد بنزول الضرر بالغير مثل أن يخوَّف بأخذ مال الغير و بضرب الغير و قتل الغير، فلا يكون إكراهاً إلّا إذا كان ذلك الغير يجري مجراه مثل ولده و والده» «1». قوله: جلادة؛ أي صلابة.

و قال في جامع المقاصد: يتحقق الاكراه بالخوف علي النفس أو المال و إن

______________________________

(1) المبسوط: ج 5، ص 51 و 52.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 160

قلّ، أو العرض إن كان من أهل الاحتشام» «1».

و قد عرّف السيد المرتضي الاكراه بقوله: «الاكراه هو حمل العاقل علي الفعل الشاقّ بالتخويف، أو علي ترك الفعل علي وجه يخرجه عن داعيه الأصلي مع سقوط المدح و الذم» «2».

و قال الشيخ الأعظم: «إنّ حقيقة الاكراه لغة و عرفاً حمل الغير علي ما يَكرهه. و يعتبر في وقوع الفعل من ذلك الحمل اقترانه بوعيد منه مظنون الترتّب علي ترك ذلك الفعل، مضرّ بحال الفاعل أو متعلّقه نفساً أو عرضاً أو مالًا». «3»

و قال في التنبيه الثاني من تنبيهات الاكراه: «إن

الاكراه يتحقق بالتوعّد بالضرر علي ترك المكره عليه ضرراً متعلّقاً بنفسه أو ماله أو عرضه أو بأهله ممّن يكون ضرره راجعاً إلي تضرّره و تألّمه». «4» و لا يخفي أنّ لفظ الاكراه و الاستكراه في النصوص بمعني واحد.

و كلامه متينٌ، إلّا أن مطلق الضرر ليس بملاك، بل يعتبر في الاكراه ضررٌ فاحش أو موجب لسقوط عرضه. و هذا أمر نسبي بالنسبة إلي حالات الأشخاص و تمكّنهم المالي و وجاهتهم الاجتماعية و السياسية، كما أشار إليه شيخ الطائفة. فربّ وعيد يكون إكراهاً بالنسبة إلي شخص، و لا يكون إكراهاً في حق غيره.

و علي أيّ حالٍ فالفعل الصادر من المكره اختياريٌ، و إنّ الاكراه غير الاجبار و القهر السالب للاختيار.

______________________________

(1) جامع المقاصد: ج 9، ص 36.

(2) رسائل المرتضي: ج 2، ص 263.

(3) كتاب المكاسب: ص 119، كتاب البيع: في مسألة ذكر الاختيار من شرائط المتعاقدين.

(4) المصدر: ص 58، المسألة السادسة و العشرون، التنبيه الثاني من تنبيهات الاكراه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 161

و من هنا وقع البحث في صحة معاملة المكرَه؛ لأنّ فعله اختياري له و مستندٌ إليه عرفاً، إلّا أنّه لم يصدر عن رضاه و طيب نفسه، بل عن الخوف علي نفسه أو ماله بسبب وعيد المكرِه و تهديده.

و ليس المراد مطلق الرضا و الطيب النفساني، بل المقصود الرضا المعاملي في المعاملات و الرضا بالفعل الصادر منه في غير المعاملات، و إلّا فالمضطر لا تطيب نفسه بالمعاملة الاضطرارية، و لكنه ليس بمكره و لا بمجبور و يصح معاملته؛ لحصول الرضا المعاملي منه بالعقد.

بيان الفرق بين الاكراه و الاجبار و الاضطرار
اشارة

و حاصل الكلام: إنّ الاكراه غير الاجبار و القهر السالب للاختيار و غير الاضطرار.

فههنا ثلاث عناوين.
أحدها: الاجبار

، و هو القهر السالب للاختيار؛ بأن يكون الفاعل مقهوراً مجبوراً علي الفعل، و غير قاصد لفعله و لا قادر علي تركه، فحقيقة الاجبار سلب القدرة و الاختيار و قصد الفعل. فليس في الاجبار تمكن و لا اختيار و لا قصد.

و يؤيّده خبر ابن سنان عن أبي عبد اللّه، قال: «قلت له: أصلحك اللّٰه فما فرقٌ بين الجبر و الاكراه؟ فقال عليه السلام: الجبر من السلطان و يكون الاكراه من الزوجة و الامّ و الأب، و ليس ذلك بشي ء» «1».

و ذلك لأنّ الجبر- من السلطان القاهر بالسيف و السوط و الحبس- سالب للاختيار غالباً، و لكن الاكراه من الزوجة و الام و الأب يكون بالتهديد اللفظي و لا يسلب الاختيار غالباً.

و لكن هذا الخبر ضعيف سنداً؛ لوقوع عبد اللّه بن القاسم الحارثي البطل في

______________________________

(1) الوسائل: ب 16، من كتاب الايمان، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 162

سنده و هو كذّاب ضعيف. قاله النجاشي و ابن الغضائري. و من هنا عبّرنا عنه بالخبر، و لكن لا حاجة لاثبات الفرق بينهما إلي هذا الخبر، و الأمر في التأييد سهل.

ثانيها: الاكراه،

و هو القهر غير السالب للاختيار و القصد؛ بأن كان الفاعل مختاراً في فعله و قاصداً لإتيانه، إلّا أنّ قصده للفعل لا يكون لأجل رضا قلبه و طيب نفسه، بل إنّما هو بسبب خوفه علي نفسه أو ماله أو عرضه لأجل تهديد غيره و توعيده إيّاه؛ بمثل قوله: «لو لم تفعل كذا لأقتلنّك»، أو «لُاحرقنَّ بيتك»، أو «لأقذفنّك بالزنا و اللواط في الملأ العام».

و قد أجاد السيد الخوئي في بيان حقيقة الاكراه بمناسبة التعليل لبطلان صوم المكرَه علي الافطار؛ حيث قال:

«فلو تناول المفطر باختياره،

و لكن بغير طيب النفس، بل لإكراه الغير و دفعاً لضرره و توعيده بطل صومه لصدوره عن العمد و الاختيار، فتشمله إطلاقات الأدلة؛ فانّ الاختيار، له معنيان. تارة: يطلق في مقابل عدم الارادة، و اخري: في قبال الاكراه؛ أي بمعني الرضا و طيب النفس و بما أنّ الفعل في المقام صادر عن الارادة، فهو اختياري له بالمعني الأوّل، فيكون مصداقاً للعمد المحكوم بالمفطرية في لسان الأدلة. نعم التحريم مرفوع في ظرف الاكراه بمقتضي حديث الرفع. و أما المفطرية، فلا يمكن رفعها بالحديث؛ ضرورة أنّ الأمر بالصوم قد تعلق بمجموع التروك من أول الفجر إلي الغروب. و ليس كل واحد من هذه التروك متعلقاً لأمر استقلالي، بل الجميع تابع للأمر النفسي الوجداني المتعلق بالمركب؛ إن ثبت، ثبت الكل، و إلّا فلا. فان الأوامر الضمنية متلازمة ثبوتاً و سقوطاً بمقتضي فرض الارتباطية الملحوظة بينها، كما في أجزاء الصلاة و غيرها من ساير العبادات.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 163

فاذا تعلق الاكراه بواحد من تلك الاجزاء، فمعني رفع الأمر به رفع الأمر النفسي المتعلق بالمجموع المركب؛ لعدم تمكنه حينئذٍ من امتثال الأمر بالاجتناب عن مجموع هذه الامور. فاذا سقط ذلك الأمر بحديث الرفع، فتعلُّق الأمر حينئذٍ بغيره- بحيث يكون الباقي مأموراً به، كي تكون النتيجة سقوط المفطرية عن خصوص هذا الفعل-، يحتاج إلي الدليل. و من المعلوم إنّ الحديث لا يتكفّل باثباته؛ فان شأنه الرفع لا الوضع، فهو لا يتكفل لنفي المفطرية عن الفعل الصادر عن اكراه لينتج كون الباقي مأموراً به و مجزياً، كما هو الحال في الصلاة. فلو اكره علي التكلم فيها، فمعناه أنّه في هذا الآن غير مأمور بالاتيان بالمقيد بعدم التكلُّم.

و أما الأمر بالباقي فكلّا» «1».

ثالثها: الاضطرار،

و هو لابديّة الاتيان بفعل لأجل عروض ضرورة من غير ناحية التهديد و التوعيد؛ بأن يعزم الفاعل علي الفعل و يأتي به باختياره و إرادته و قصده و رضاه؛ لأجل ضرورة طارئة لا بد من رفعها، كعلاج مرض نفسه أو والديه أو ولده أو زوجته أو دفع خطر هلاك عن نفسه أو غيره و نحو ذلك من الضرورات التي تبيح المحظورات. و قد بحثنا عن ذلك مفصّلًا في قاعدة الاضطرار في المجلّد الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال»، فراجع.

أربع نكات مهمّة
اشارة

و ينبغي في بيان مفاد هذه القاعدة التنبيه علي أربعة امور:

أحدها: يستفاد من كلمات بعض الفقهاء- ممّن تقدّم نقل كلامه- أنّه يعتبر في حقيقة الاكراه في الاصطلاح- مضافاً إلي ما مرّ- كون المتوعَّد به أكثر ضرراً و أشد مشقّةً من الفعل المكره عليه.

______________________________

(1) كتاب الصوم: ج 1، ص 257- 285.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 164

فلو كان المتوعّد به أقل ضرراً أو مساوياً مع الفعل المكره عليه من حيث الضرر و المشقة، لا يتحقق الاكراه.

و قد يناقش بأنّ فعل المكره عليه في هذا الفرض أيضاً لا يصدر عن طيب نفس المكرَه، بل إنّما لإخافة الغير و تهديده، فالاكراه متحقق حينئذٍ و يمكن الجواب أنّ العقل لا يري حينئذٍ مُلزماً لموافقة المكرِه (بالكسر) و لا ضرورة في خصوص المكره عليه من فعل أو ترك؛ لعدم دفع ضرر بذلك، بل يري الضرر في الموافقة. فلا يدخل في نطاق أدلّة الاكراه.

ثانيها: إنّه قد استثني الفقهاء عن قاعدة الاكراه الدماء،

فحكموا بأنّه لا حكم للاكراه فيها؛ بمعني أنّه لا يرتفع الحكم الأوّلي- و هو حرمة قتل النفس المحترمة- بسبب الاكراه عليه، كما صرّح به السيد المرتضي و الشيخ و المحقق و غيرهم. «1»

ثالثها: أنّه لا إشكال في رفع العقاب بالاكراه،

بل هو المتيقن من مفاد الأدلّة- مثل حديث الرفع-، بل ادُّعي عليه الاجماع «2». و إنّما الكلام واقع بين الفقهاء في رفع الآثار الوضعية من الصحة و البطلان و المانعية و الشرطية و الملكية و الزوجية و النقل و الانتقال، و غيرها من الوضعيات في العبادات و المعاملات.

و المشهور المعروف عدم صحة معاملات المكرَه (بالفتح).

رابعها: أنّه قد تحصّل مما سبق في تحريره مفاد هذه القاعدة: أنّ الاكراه حمل الغير علي فعل أو ترك باخافة أو تهديد

يوجب توجّه ضرر بدني أو مالي

______________________________

(1) رسائل المرتضي: ج 2، ص 93، و المبسوط: ج 2، ص 227. و شرايع الاسلام: ج 4، ص 975.

(2) كما ادّعاه السيد المراغي في العناوين الفقهية: ج 2، ص 704.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 165

أو عرضي متعلّق به أو بمتعلقيه.

فما ليس من ناحية حمل الغير من الضرورات، لا يدخل في قاعدة الاكراه بل يدخل في قاعدة الاضطرار. و ما لم يكن من الحمل بمجرد إخافة أو تهديد، بل بإلجاء و قهر سالب للاختيار لا يكون من قبيل قاعدة الاكراه، بل من قبيل قاعدة الاجبار.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 166

مدرك القاعدة

اشارة

1- الاستدلال للقاعدة بالكتاب و السنة.

2- الاستدلال للقاعدة بحكم العقل.

3- الاستدلال للقاعدة بالاجماع.

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بالكتاب و السنة.

الاستدلال للقاعدة بالكتاب

أما الكتاب:

فقد دلّ منه علي مفاد هذه القاعدة قوله تعالي: «إِنَّمٰا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْكٰاذِبُونَ* مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ، وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ». «1»

وقع الخلاف بين المفسرين في كون «مَنْ كَفَرَ …» بدلًا من الكاذبين كما عن الزجاج، أو كونه شرطاً و جوابه محذوف لدلالة قوله: «وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ»، كما عن الكوفيين. و لكن الأنسب بالسياق هو القول الأوّل.

و علي أيّ حال لا إشكال في دلالة قوله: «إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ» علي جواز التفوّه بالكفر بسبب الإكراه، فضلًا عن ساير المحرمات،

______________________________

(1) النحل: 105- 106.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 167

فيدل علي جوازها عند الاكراه بالفحوي القطعي.

و منها: قوله تعالي: «وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ، فَإِنَّ اللّٰهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرٰاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «1»، و دلالتها علي المطلوب واضحة.

الاستدلال بالسنة

و أما السنة:

فقد دلّت عدّة نصوص علي مفاد هذه القاعدة.

و من هذه النصوص: صحيح حريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال النبي صلي الله عليه و آله:

«رفع عن امّتي تسعة أشياء … ما اكرهوا عليه» «2». لا إشكال في سند هذا النبوي؛ إذ روي الصدوق في الخصال بسنده الصحيح عن النبي صلي الله عليه و آله.

و إنّ المتيقّن من مدلول هذا النبوي رفع العقاب، بل ظاهر في ذلك؛ بقرينة رفع ما لا يعلمون و الطيرة و الحسد. و ذلك لإجماع الفقهاء علي عدم رفع بعض آثار ما تركه الجاهل من الفرائض العبادية، كالاعادة و القضاء

و الكفارة، كما لا معني لرفع الآثار الوضعية عن الطيرة و الحسد.

و لكن لا بد من رفع اليد عن هذا الظهور. و ذلك بقرينة ما ورد في بعض النصوص من استشهاد الامام عليه السلام بهذا النبوي لبطلان الحلف بالطلاق و العتاق عن استكراه.

كما في صحيح صفوان و البزنطي عن أبي الحسن عليه السلام: «في الرجل يستكره علي اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك أ يلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول

______________________________

(1) النور: 33.

(2) الوسائل: ب 30 من أبواب خلل الصلاة، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 168

اللّٰه صلي الله عليه و آله: وضع عن أمّتي ما اكرهوا عليه و ما لم يطيقوا و ما أخطئوا» «1».

و من هذه النصوص ما دلّ علي رفع حرمة اليمين الكاذبة و جواز الحلف باللّٰه كاذباً عند الخوف عن الظالم الطاغوت.

مثل صحيح زرارة، قال: قلت لأبي جعفر: «نمرّ بالمال علي العشّار، فيطلبون منّا أن نحلف لهم و يخلّون سبيلنا، و لا يرضون منّا إلّا بذلك. قال عليه السلام: فاحلف لهم، فهو أحلي من التمر و الزبد» «2».

و منها: صحيح أبي بكر الحضرمي، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل حلف للسلطان بالطلاق و العتاق؟ فقال: إذا خشي سيفه و سطوته، فليس عليه شي ءٌ يا أبا بكر إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يعفو و الناس لا يعفون» «3»؛ فإنّ عموم قوله عليه السلام: «ليس عليه شي ءٌ» يدل- بدلالة النكرة في سياق النفي- علي نفي الكفارة أيضاً.

و من هذه الطائفة ما دلّ علي جواز الحلف باللّٰه كاذباً لإنجاء الأخ المؤمن، بل لحفظ ماله. و هذا المدلول ينفي ما اعتبره بعض الفحول في مصبّ قاعدة الاكراه،

من ورود الضرر المتوعّد به و توجّهه إلي نفس المكره أو متعلقيه من الأهل و العيال و الوالدين و الأولاد.

و من النصوص الدالة علي ذلك صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام- في حديث- قال: «سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك، فحلف. قال عليه السلام: لا جناح عليه. و عن رجل يخاف علي ماله من السلطان

______________________________

(1) الوسائل: ب 12، من كتاب الايمان، ح 12.

(2) الوسائل: ب 12، من كتاب الأيمان، ح 6.

(3) المصدر: ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 169

فيحلفه لينجو به منه. قال عليه السلام: لا جناح عليه. و سألته: هل يحلف الرجل علي مال أخيه كما يحلف علي ماله؟ قال عليه السلام: نعم» «1».

و منها: معتبرة السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله: احلف باللّٰه كاذباً، و نجّ أخاك المؤمن» «2».

وجه التعبير بالمعتبرة وقوع النوفلي في سندها؛ لما بنينا علي اعتبار روايات النوفلي و قد ذكرنا وجه ذلك في كتابنا «مقياس الرواة»، و بيّنا وجه تطبيق المبنا المزبور علي النوفلي في بعض كتبنا الفقهية بالمناسبة.

و منها: ما أرسله الصدوق جازماً بقوله: «و قال الصادق عليه السلام: اليمين علي وجهين- إلي أن قال-: فأما الذي يوجر عليها الرجل إذا حلف كاذباً و لم تلزمه الكفارة، فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرءٍ مسلم أو خلاص ماله من متعدٍّ يتعدي عليه، من لُصّ أو غيره» «3».

و لا يخفي أنّ جوازم مرسلات الصدوق بمكانة من القرب إلي درجة الاعتبار.

هذه النصوص كلها قد دلّت باطلاقها؛

أوّلًا: علي رفع الحكم الأوّلي و جواز مخالفته عند الخوف

الناشي من إكراه أيّ ظالم.

و ثانياً: نفي الفرق بين خوف المكرَه علي نفسه أو ماله أو متعلقيه و بين خوفه علي نفس أو مال إخوانه المؤمنين، و كذا سقوط عرضه بمرتبته الشديدة العظيمة التي لا يتحمَّلها المكرَه لنفسه بأيّ وجهٍ.

______________________________

(1) المصدر: ح 1.

(2) المصدر: ح 4.

(3) المصدر: ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 170

و منها: النصوص النافية للضرر، كقوله صلي الله عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الاسلام» «1»؛ نظراً إلي دلالتها علي نفي أيّ حكم ضرري في شريعة الاسلام، بل نفي تشريعه عن دفتر التشريع. و لا ريب أنّ العمل بالحكم الاوّلي ضرري في موارد الاكراه. و لا ينافي ذلك ما تقدّم، من وقوع التعارض بين إطلاق دليل «لا ضرر» و دليل نفي الاكراه في موارد التوجه إلي الغير بالتقريب المتقدّم آنفاً.

و منها: النصوص الواردة في التقية الدالة علي ارتفاع وجوب الفرائض و آثارها عند الخوف علي النفس لأجل الاكراه بالتوعيد و التهديد. و قد بحثنا عن مفاد هذه النصوص مفصّلًا في خلال البحث عن قاعدة التقية في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

و قد وقع بين الفقهاء بحث مفصّل في صحة معاملات المكره، و ليس هاهنا محل التعرّض لذلك. فمن أراد، فليطلب ذلك في كتاب البيع.

الاستدلال للقاعدة بحكم العقل

بقيت هاهنا نكتة: و هي أنّه هل يمكن الاستدلال بحكم العقل علي هذه القاعدة؟ فقد يستدل بحكم العقل لها بتقريب أنّه يستقلّ بلزوم دفع الضرر المحتمل. و لمّا كان موضوع هذه القاعدة خوف الضرر، يدخل في موضوع حكم العقل. و لمّا كان دفع الضرر المخوف منه متوقفاً علي مخالفة التكليف، فيجوز المخالفة بحكم العقل في جميع موارد الاكراه؛ نظراً إلي فرض

توقّف دفع الضرر المخوف منه علي ذلك.

و لكن يرد علي هذا الاستدلال؛

أوّلًا: إنّ الأمر دائرٌ في مفروض الكلام بين الضرر المتوعّد به و بين ما هو

______________________________

(1) الكافي: ج 5، ص 292- 293 باب الضرار، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 171

أعظم منه بأضعاف، و هو العقاب الاخروي المتوعّد به المترتب علي مخالفة التكليف.

و لا ريب في استقلال العقل بتقديم دفع ما هو أعظم ضرراً. و عليه فالعقل يحكم بتحمّل الضرر المتوعد به الأخفّ الأقل دفعاً للعقاب الاخروي. إلّا في موارد عُلم بتخطئته من جانب الشارع كالاكراه بالتهديد علي القتل.

إن قلت: ترتب العقاب فرع مخالفة المولي، و أصل ترتب العقاب علي ارتكاب الفعل المكره عليه أوّل الكلام، بل المتيقن من مدلول حديث الرفع، رفع العقاب.

قلت: إنّ الاستدلال بحكم العقل مبنيٌّ علي قطع النظر عن أيّ دليل من الشارع.

و ثانياً: إنّ غاية ما يلزم من حكم العقل جواز مخالفة التكليف بارتكاب الحرام المكره عليه أو ترك الواجب المكره علي تركه ما دام الاكراه باقياً. و أما نفي أصل التكليف بحيث يرتفع الاعادة و القضاء أو ينتفي أصل اشتراط مورد الاكراه، فلا حكم للعقل به؛ لخروجه عن مصبّ حكم العقل.

الاستدلال للقاعدة بالاجماع

و أما الاجماع، فلا يبعد تحصيل اتفاق الأصحاب علي مفاد هذه القاعدة في الجملة، و لو في بعض الفروع و الأبواب. و لكنّه ليس إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم؛ نظراً إلي استناد الأصحاب إلي ساير الوجوه و الأدلّة.

هذا. و لكن يظهر من أبي الصلاح الحلبي في الكافي خروج القبائح الفعلية مما يحكم العقل العملي بقبحه، كالظلم و الكذب و أيضاً قال بخروج الزنا و شرب الخمر عن مصبّ قاعدة الاكراه بالاجماع.

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 172

قال: «و ما يصح فيه الاكراه أفعال الجوارح. و هي علي ضربين: أحدهما: لا يؤثر فيه الاكراه. و الثاني: يؤثّر فيه. فالأوّل القبائح العقلية كلها كالظلم و الكذب … و من السمعيات الزنا بإجماع الامة و شرب الخمر باجماع الفرقة المحقة» «1».

و لكنني لم أر هذا الاجماع في كلام غيره، بل الظاهر من كلمات الفقهاء ملاحظة الأهمية بين الحرام المكره عليه و بين الضرر المتوعّد به. فلو أكرهه علي شرب الخمر، أو الزنا بالتهديد بالقتل، لا أظنّ أن يفتي الفقهاء ببقاء حرمتهما حينئذٍ و لا سيّما شرب الخمر، و إن كان الالتزام بجواز مثل الزنا و اللواط و لأجل الاكراه علي القتل مشكلٌ جدّاً.

هل تجري قاعدة الاكراه في موارد الاضرار بالغير؟

و هل يشمل حديث الرفع موارد توجُّه الضرر إلي الغير بمخالفة الحكم الأوّلي لأجل الاكراه؟ فقد يقال بعدم شموله لها؛ نظراً إلي كونه في مقام الامتنان علي الامّة، لا علي خصوص الشخص المكرَه، كما قيل بذلك في أدلّة نفي الضرر.

و لكن يمكن المناقشة في ذلك: بأنّ موضوع هذه الأدلّة رفع الحكم عن طبيعي المكرَه الساري إلي جميع أفراده. و لا نظر لها إلي غير المكرَه، من ساير المكلَّفين. و هذا بخلاف أدلّة نفي الضرر؛ لعدم اختصاص موضوعها بصنف خاص، بل المنفي فيها كلّ حكم ضرري؛ بلا فرق بين من توجّه إليه الضرر أوّلًا، أو ثانياً برفع الضرر عن الأوّل؛ لأنّ دليل نفي الضرر يفيد العموم بلسان النكرة في سياق النفي. فينفي أيّ حكم ضرري عن دفتر التشريع. و يكون في مقام

______________________________

(1) الكافي للحلبي: ص 270.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 173

الامتنان علي جميع الامّة.

و عليه فيقع التعارض بين دليل نفي الاكراه و

بين دليل نفي الضرر في موارد توجه الضرر إلي الغير برفع الحكم عن المكرَه.

و ذلك لأنّ إطلاق دليل نفي الاكراه يقتضي رفع الحكم عن المكره مطلقاً، و لو توجّه بذلك الضرر إلي الغير. و لكن دليل نفي الضرر لمّا كان في مقام الامتنان علي جميع الامّة ينفي أيّ حكم ضرري، حتي ما نشأ منه توجُّه الضرر إلي الغير ثانياً و بالعرض. و بعبارة اخري: دليل نفي الضرر لا يقتضي الاضرار بالغير بنفسه، بل ينفيه أيضاً.

و من هنا لا بدّ في هذه الموارد من ملاحظة الأهمية؛ نظراً إلي القطع بمذاق الشارع و استقرار دأبه علي تقديم دفع ما هو أهمّ و أعظم ضرراً؛ وفقاً لحكم العقل بذلك. و قد اتضح ممّا بيّناه أنّ ملاحظة الاهمية لا تختصّ بشخص المكره و بما بينه و بين متعلقيه، بل يأتي فيما بينه و بين إخوانه المؤمنين.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 174

التطبيقات الفقهية

اشارة

1- بطلان طلاق المكره و ظهاره.

2- سقوط الحد و الكفارة عن المكرَه.

3- جواز قبول ولاية الجائز للمكره.

4- بطلان صوم المكره علي الافطار و علي الارتماس.

و قد استدل الفقهاء بهذه القاعدة في فروع عديدة من مختلف الأبواب الفقهية، و إحصاؤها خارج عن حدّ وسع المقام. و إنّما نكتفي بذكر نماذج من هذه الفروع.

بطلان طلاق المكره و ظهاره

منها: مسألة بطلان طلاق المكره.

فقد أفتي فقهاؤنا الامامية علي بطلان طلاق المكرَه، تمسكاً بهذه القاعدة، كما أشار إليه السيد المرتضي بقوله:

«و مما انفردت به الامامية أنّ العتق لا يقع إلّا بقصد إليه و تلفّظ به و لا يقع مع الغضب الشديد الذي لا يُملك معه الاختيار و لا مع الاكراه …» «1».

و قد صرّح في موضع آخر بارتفاع التكليف و الكفارة بالاكراه علي الحلف.

بقوله: «فانّ الفعل المحلوف عليه يتعذّر بالإكراه و النسيان كما يتعذّر بفقد القدرة، فكما يرتفع التكليف مع فقد القدرة، فكذلك يرتفع مع الإكراه و فقد العلم، و كما أنّ من حلف علي أن يفعل شيئاً و فقد قدرته عليه لا يلزمه كفّارة، فكذلك

______________________________

(1) الانتصار: ص 370.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 175

من حلف أنّه يفعله فاكره علي أن لا يفعله أو سلب علمه، فيجب أيضاً أن لا تلزمه الكفّارة؛ لارتفاع التمكّن علي الوجهين معاً» «1».

و منها: بطلان الظهار بالاكراه، كما صرّح بذلك شيخ الطائفة بقوله: «و لا يقع ظهار علي الاكراه و لا علي الاجبار و لا علي الغضب …» «2».

و بمثله قال القاضي ابن البرّاج «3».

سقوط الحدّ و الكفارة عن المكرَه

و منها: سقوط الحدّ بالاكراه، كما صرّح به في الشرائع بقوله: «يسقط الحد مع الاكراه» «4».

و قوله: «و لو ادّعي العبد الاكراه سقط عنه دون المولي» «5». و صرّح أيضاً بذلك العلامة في المختلف «6».

و منها: مسألة سقوط كفارة الجماع عن الصائم في شهر رمضان بالاكراه.

و قد اتفق الفقهاء في ذلك، و لم أر من بين الفقهاء من لم يُفت بذلك. و كذلك في وطي المُحرم امرأته في الحج، و كفارته بدنة؛ فانها تسقط مع الاكراه.

و لكن وقع الخلاف بين الفقهاء في

ارتفاع الأثر الوضعي بالاكراه في فروع عديدة من مختلف الأبواب الفقهية. و من هذه الفروع إمالة المصلّي خلاف جهة القبلة حال الصلاة. فقد وقع الخلاف في بطلان صلاته، فاحتُمل لفقدان شرطها،

______________________________

(1) الانتصار: ص 355- 356.

(2) النهاية: ص 525.

(3) ابن البرّاج: ج 2، ص 300.

(4) شرايع الاسلام: ج 4، ص 933.

(5) المصدر: ص 940.

(6) مختلف الشيعة: ج 9، ص 161، و 268.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 176

و احتُمل الصحة؛ لزوال التكليف عند الاكراه، كما أشار العلامة إلي ذلك بقوله:

«المصلّي إلي القبلة لو أماله إنسان عنها قهراً و طال الزمان، احتمل البطلان؛ لفقد الشرط، و الصحة؛ لزوال التكليف عند الاكراه» «1».

جواز قبول ولاية الجائز للمكره

و منها: ارتفاع حرمة قبول الولاية من الجائر بالاكراه، كما صرّح به العلامة في القواعد بقوله: «و تحرم من الجائر، إلّا مع التمكن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أو مع الاكراه بالخوف علي النفس أو المال أو الاهل أو بعض المؤمنين، فيجوز حينئذٍ اعتماد ما يأمره إلّا القتل الظلم» «2».

و ممن صرّح بذلك المحقق مع قيد؛ حيث قال: «و لو نصب الجائر قاضياً مكرهاً له، جاز الدخول معه دفعاً لضرره، لكن عليه اعتماد الحق و العمل به ما استطاع». و قد فصّل في ذلك الشهيد؛ حيث قال في شرح كلام المحقق: «إنّما يتوقف الجواز علي الاكراه مع عدم اتصاف الحاكم بشرائط الفتوي، و تمكّنه من إجراء الاحكام علي وجهها الشرعي، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إلّا جاز قبول الولاية، بل قد يجب. و بدون ذلك لا يجوز إلّا مع الاكراه. و يتحقق بالخوف من المخالفة علي نفسه أو ماله، أو عرضه. و يختلف ذلك بحسب اختلاف أحوال

الناس في احتمال الإهانة و عدمها» «3».

و منها: بطلان البيع، بل جميع المعاملات مع الاكراه؛ نظراً إلي عدم حصول

______________________________

(1) نهاية الاحكام: ج 1، ص 406.

(2) جامع المقاصد: ح 4، ص 44.

(3) مسالك الافهام: ج 3، ص 111.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 177

التراضي المعتبر في صحة المعاملة عند الاكراه عليها؛ لعدم تحقق طيب النفس في المكرَه. و قد صرّح بذلك جميع الفقهاء، و لا خلاف في ذلك، و لا حاجة إلي نقل كلامهم.

بطلان صوم المكره علي الافطار و علي الارتماس

و منها: بطلان صوم من أفطر عن إكراه. فانّ الفقهاء بعد اتفاقهم علي عدم بطلان الصوم بالافطار بالاجبار القهري السالب للاختيار، اختلفوا في بطلانه بالافطار عن إكراه، كما صرّح بذلك الشهيد في المسالك بقوله: «لا خلاف في عدم وجوب القضاء علي من وُجر في حلقه- بتخفيف الجيم- بغير اختياره؛ لأنّه لم يتناول المفطر، و أما الاكراه فإن بلغ حداً يرفع قصده أو يذهب اختياره، كما لو قهره قاهر بضرب شديد أو تخويف عظيم حتي لم يملك أمره و لم يكن له بُدَّ من الفعل، فلا قضاءَ أيضاً، و إن لم يبلغ ذلك الحدَّ؛ بأن تُوعِّد بفعل لا يليق بحاله و يعد ضرراً لمثله من ضرب أو شتم و نحوهما، و شهدت القرائن بايقاعه له إن لم يفعل، إلّا إنّ اختياره لم يذهب، و قصده لم يرتفع، ففي فساد صوم حينئذٍ قولان:

أحدهما: إلحاقة بالأوّل؛ لقوله صلي اللّٰه عليه و آله و سلّم: رفع عن امتي الخطا و النسيان و ما استكرهوا عليه، و المراد رفع حكمها، و من جملته القضاء، و لسقوط الكفارة عنه و هي من جملة أحكامه.

و أصحهما وجوب القضاء و إن ساغ له الفعل؛ لصدق تناول المفطر

عليه باختياره. و قد تقرِّر في الاصول أنّ المراد برفع الخطأ و قسيميه في الحديث رفع المؤاخذة عليها، لا رفع جميع أحكامها. و مثله الافطار في يوم يجب صومه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 178

للتقية أو التناول قبل الغروب لها» «1».

و منها: بطلان صوم من اكره علي الارتماس، بخلاف ما إذا كان مقهوراً، كما أفتي به الفقهاء. و صرّح به السيد في العروة. و قد تعرّض السيد الحكيم في ضمن تعليل هذا الفرع إلي بيان وجه الفرق بين الاكراه و الاجبار، بقوله: «لعدم الدليل علي الصحة. و كون البطلان مقتضي إطلاق الأدلة. و أدلة نفي الاكراه إنّما تصلح لنفي المؤاخذة أو سائر الآثار المترتبة علي فعل المكره، و لا تصلح لاثبات الصحة، لأنّ وظيفتها النفي، لا الاثبات. و مثله: الكلام فيما لو اكره علي ترك الجزء، أو الشرط، أو فعل المانع، في سائر العبادات» «2».

و علّل صحة صوم المجبور المقهور علي الارتماس بقوله: «لانتفاء العمد.

و بذلك افترق عن الاكراه، لتحقق القصد معه؛ لأنّ الاكراه هو الحمل علي فعل المكروه عن إرادة. و كذا الحال لو كان الارتماس واجباً عليه لانقاذ غريق، إذ الوجوب المذكور إنّما يقتضي وجوب الافطار، الصحة مع الارتماس؛ إذ لا تعرض فيه لذلك». «3»

و قد أجاد السيد الخوئي في بيان الفرق بينهما في بيان تعليل المسألة المزبورة؛ حيث قال: «إذ الاكراه لا يوجب سلب الإرادة. فالفعل المكره عليه صادر عن عمد و قصد، و إن لم يكن عن طيب النفس. فيشمله إطلاق الأدلة. و من الواضح أنّ أدلّة نفي الاكراه مفادها نفي العقاب و المؤاخذة. و لا تنهض لاثبات

______________________________

(1) مسالك الافهام: ج 2، ص 19- 20.

(2) مستمسك العروة: ج

8، ص 269.

(3) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 179

الصحة؛ لأنّ شأنها الرفع، دون الوضع. و منه يظهر الحال في وجوب الرمس لانقاذ الغريق الذي تعرض له في المسألة الآتية، فانّ وجوب الانقاذ لا يستدعي إلّا وجوب الارتماس، و لا يستلزم صحة الصوم مع الارتماس المزبور بوجه. و هذا بخلاف ما إذا كان مقهوراً في الارتماس؛ فانه يوجب زوال الارادة و الاختيار، و انتفاء العمد و القصد، و مثله لا يوجب البطلان، و لأجله يفرَّق بين القهر و الاكراه» «1».

______________________________

(1) كتاب الصوم للسيد الخوئي: ج 1، ص 167.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 180

«قاعدة» «الأهمية»

اشارة

منصّة القاعدة

مفاد القاعدة

شرائط جريان القاعدة

مدرك القاعدة

مجاري القاعدة و تطبيقاتها الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 181

1- منصة القاعدة و أهميتها.

2- هذه القاعدة فقهية، لا اصولية.

منصة القاعدة و أهميّتها

اشارة

منصّة هذه القاعدة لا تختص ببابٍ خاص من أبواب الفقه. و ذلك لأنّه كما يكون الواجبات العبادية بعضها أهمّ من بعض في نظر الشارع- كما أنّ أكثر موارد هذه القاعدة و مجاريها المذكورة في كلمات الفقهاء من قبيل العباديات-، كذلك تجري هذه القاعدة في غير العباديات. و ذلك مثل موارد إنجاء النفس المحترمة من الهلاك و الغرق و الحرق و نحوه، و إنقاذ أموال المؤمنين من الضياع بسيل أو حرق أو سقوط بناءٍ أو خرابها، و تولّي الولاية من قبل الجائر لأهمية ما يحصل التمكّن منه بقبولها، من إنقاذ النفوس المحترمة و حفظ أعراض المؤمنين و أموالهم و مظاهرتهم في امورهم.

و أيضاً تجري في الأحكام الوضعية فيما إذا دار الأمر بين شرطين أحدهما أهم في نظر الشارع، كالدوران بين الطهارة و التستر في حال الصلاة. أو بين معاملتين أحدهما أهمّ في نظر الشارع. و كذا في تعلّم العقائد الدينية و المعارف الالهية، فانّ بعضها أهمّ من الآخر و كذا تعلّمه. و غير ذلك من موارد جريان هذه القاعدة، كما سيأتي في التطبيقات الفقهية.

و بهذا البيان اتّضح أهمية هذه القاعدة و خطرها العظيم و دورها الكبير في رفع التحيّر عن المكلّف عند ما واجه واجبين أحدهما أهمّ في نظر الشارع و هو

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 182

يتمكّن من الاتيان بأحدهما.

و هذه القاعدة قد بحث عنها الاصوليون في علم الاصول في باب التزاحم و مسألة الترتّب و مسألة الضدّ؛ أي اقتضاءُ الأمر بالشي ء النهي عن

ضدّه.

هذه القاعدة فقهية، لا اصولية

ثمّ إنّ هذه القاعدة فقهية، لا اصولية؛ لأنّ مفادها وجوب تقديم الأهم، و إن شئت فقل: وجوب صرف القدرة في الاتيان بالأهمّ. و الوجوب حكم شرعي. و لا ينافي ذلك ابتناء هذا الوجوب علي حكم العقل؛ لأنّ العقل من أحد الأدلّة الأربعة التي يستدل بها الفقيه علي الحكم الشرعي؛ لقاعدة كل ما حكم به العقل حكم به الشرع.

و ملاك الفرق بين القاعدة الاصولية و الفقهية، أنّ القاعدة الاصولية كبري واقعة في الحد الأوسط من قياس الاستنباط و تغاير النتيجة؛ بمعني عدم كونها حكماً كلياً بحيث تكون النتيجة من أفرادها و مصاديقها.

بخلاف القاعدة الفقهية؛ فانّها حكم كلي يُحتج به علي مصاديقه و أفراده.

و قاعدة الأهمية من قبيل الثاني؛ لأنّ وجوب تقديم الأهمّ عند الدوران بينه و بين المهم، حكم شرعي يحتج به الفقيه علي مصاديقه و أفراده.

و في هذا المجال مباحث اخري، فليُطلب في محلّه من علم الاصول.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 183

مفاد القاعدة

اشارة

1- ما هو المقصود من الأهمية؟

2- هل الاضطرار مأخوذٌ في مصبّ القاعدة؟

تفيد هذه القاعدة تقديم ما كان من الواجبات و التكاليف أهم في نظر الشارع الأقدس أو في نظر العقل من واجب آخر عند دوران أمر الامتثال بينهما.

بيان ذلك: إنّ المكلّف في مقام امتثال أمر الشارع و الاتيان بالوظيفة الشرعية قد يواجه تكليفين واجبين يكون وجوبهما فعلياً في حقّه. و لكنه لا يتمكّن من صرف قدرته فيهما معاً؛ بمعني أنّه لا يقدر علي الاتيان بهما معاً في زمان واحد. فلا مناص له حينئذٍ من إتيانه بأحدهما أوّلًا، ثمّ الاتيان بالآخر. و لا تجري هذه القاعدة فيما إذا كان المكلّف قادراً علي الجمع بين التكليفين؛ فانّ الدوران و التقديم إنّما

يعقل و يتصوّر فيما إذا لم يتمكن المكلّف من الجمع بينهما في آن واحد.

و في مثل هذا المورد لو كان أحد الواجبين المفروضين أهمّ في نظر الشارع من الآخر؛ بحيث لا يرضي بتركه بوجه، و لو انجرّ فعله إلي ترك الآخر رأساً أو تأخيره، تفيد هذه القاعدة حينئذٍ وجوب صرف القدرة في الاتيان بما هو أهمّ في نظر الشارع و تقديمه علي الواجب الآخر.

و ذلك كدوران الأمر بين الصلاة المفروضة اليومية و بين صلاة الآيات، أو بين الصلاة و بين دفع خطر عن نفسه أو أخيه المؤمن، أو بين إنقاذ نفسه و بين إنقاذ نفس أخيه المؤمن، أو بين انقاذ أبيه أو ولده و بين إنقاذ مؤمن.

و كذلك فيما لو دار الأمر بين ترك حرام و بين الاتيان بواجب أهمّ، و ذلك

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 184

مثل ما لو دار الأمر بين ترك قبول الولاية و تصدّي الامارة من قبل الجائر و بين إنقاذ نفوس المؤمنين من الهلاك و حفظ أعراضهم و أموالهم من جور الجائر.

فانّ التولّي من قبل الجائر حرامٌ، و لكن إنقاذ نفوس المؤمنين و حفظ أموالهم و أعراضهم و إحقاق حقوقهم و دفع الظلم عنهم واجب أهمّ. و من هنا أفتي الفقهاء بجواز التولي من قبل الجائر حينئذٍ مستدلًاّ بهذه القاعدة.

ما هو المقصود من الأهمية؟

و من النكات المهمّة التي ينبغي اتضاحها في تبيين مفاد هذه القاعدة، أنّ المقصود من الأهمية في نصّ هذه القاعدة، هل هو أهمّية أحد الحكمين الإلزاميين علي الآخر؟ أو الأهمية في مطلق الأحكام؟ فتشمل هذه القاعدة أهمية أيّ حكم شرعي من أيّ حكم شرعي آخر؟.

لا بدّ للإجابة عن هذا السؤال من التأمل في مدرك هذه القاعدة. فان

كان مدركها العقل- كما سيأتي بيانه- تشمل كل مورد دار الأمر بين حكمين كان أحدهما أهمّ في نظر الشارع من الآخر، بلا فرق بين أنحاءِ الأحكام. فتشمل القاعدة مطلق موارد الأهمية، سواءٌ كانت بين واجبين، أو حرامين أو مكروهين أو مندوبين أو مختلفين، إلّا أنّ الاتيان بالأهمّ و امتثال أمره واجب في الدوران بين الحكمين الالزاميين أو بين حكمين كان أحدهما إلزاميّاً، بخلاف ساير صور الدوران.

و اما إذا كان مدركها النصوص، فلا بدّ من ملاحظة النصوص. و الظاهر أنّ مواردها و إن كان خصوص الأحكام الالزامية، إلّا أنّه لما كان لها جذر في حكم العقل و إنّما النصوص مُرشدةٌ إلي حكمه، تعمّ الدوران بين مطلق الأحكام كما

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 185

قلنا. و لكن الظاهر من كلمات القوم اختصاص هذه القاعدة في اصطلاحهم بموارد الدوران بين حكمين إلزاميين، أو حكمين كان أحدهما إلزامياً.

هل الاضطرار مأخوذٌ في مصبّ القاعدة؟

مقتضي التحقيق عدم أخذ الاضطرار في موضوع هذه القاعدة و مصبّها، بل تجري في كلّ أمرين اختياريّين أحدهما أهمّ من الآخر، دار أمر المكلّف بينهما؛ بحيث يمكن له فعل المهم و ترك الأهم و بالعكس، لكنه لو ترك الأهم يتعيّن عليه الاتيان بالمهم مطلقاً- سواءٌ كان الترك بسوءِ اختياره أو لأجل عروض الاضطرار-، إلّا أنّه في الفرض الأوّل عصي بترك الأهمّ و داخلٌ في مسألة الترتب المعروفة، «1» و لم يعص في الفرض الثاني. و علي أيّ حال يتعيّن عليه المهم في ظرف ترك الأهم.

و لكنه لو ترك الأهم عصياناً وقع الكلام في كيفية تشريع المهم حينئذٍ و إيجابه.

و قد عنون الاصوليون البحث عن ذلك في مسألة الترتب.

و علي ضوءِ ما بيّناه قد عرفت:

أوّلًا: أنّ الاضطرار لم يؤخذ

في موضوع قاعدة الأهمية، و إن كان ربما يكون موردها الاضطرار، كمن اضطر إلي بيع داره لعلاج ولده أو زوجته و إنقاذهما من الموت. فيكون حفظهما بالعلاج أهم من حفظ داره. و من هذا القبيل كلّ مورد كان الأهم مورد الاضطرار.

و ثانياً: الفرق بين قاعدة الاضطرار و قاعدة الأهمية؛ إذ لم تؤخذ الدوران بين الأهم و المهم في موضوع قاعدة الاضطرار، و إن كان الاضطرار من أحد ملاكات الأهمية. و من هنا اشتهر أنّ الضرورات تبيح المحذورات. و ذلك لمكان

______________________________

(1) و قد بحثنا عنها في خاتمة مسألة الضدّ من علم الاصول في كتابنا «بدائع البحوث».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 186

أهمية الضرورات.

أما الفرق بين قاعدة التزاحم و بين قاعدة الأهمية أنّ التزاحم ربما يكون بين واجبين متساويين في الأهمية، بخلاف قاعدة الأهمية؛ فانّها قد اخذ في موضوعها أهمية أحد المتزاحمين عن الآخر.

و أما القدرة المأخوذ عدمها في الاتيان بالتكليفين في مصبّ هذه القاعدة، هي القدرة العقلية، لا الشرعية؛ لأنّ غير المقدور شرعاً ممنوعٌ غير جائز في نظر الشارع، فلا وجوب لإتيانه، بل لا يجوز. فلا معني لكونه أهم من وجوب فعل الواجب الذي يدور أمر المكلّف بينهما.

و أما قاعدة الترتب فهي ناظرة إلي صورة العصيان بترك الأهمّ، و تصحيح وجوب المهم حال تركه الأهم عصياناً.

و لكن قاعدة الأهمية إنّما تتكفّل لاثبات أصل وجوب تقديم الأهم علي المهم.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 187

شرائط جريان القاعدة

اشارة

1- اشتراط عدم مانع شرعي من جريان القاعدة.

2- كلام الشهيد الصدر و نقده.

3- اشتراط عدم كون الأهمّ و المهم جزءين لواجب.

اشتراط عدم مانع شرعي من جريان القاعدة

هذا، و لكن قد يقال باعتبار عدم مانع شرعي في جريان هذه القاعدة؛ بأن لم يرد من الشارع ما يدل علي وجود مانع شرعي من تقديم الأهم، كما لو كان الأهم واجباً مشروطاً بشرط، و لكن يزاحمه واجب شرعي في ظرف حصول الشرط. كما لو نذر المكلّف المشي إلي زيارة سيد الشهداء و حصل الشرط و تنجّز النذر. لكن في ظرف حصول شرطه حصل شرط الواجب الشرعي المشروط كالاستطاعة للحج. و قد ورد في النصوص أنّ «شرط اللّٰه قبل شرطكم».

فيكون حينئذٍ حصول الاستطاعة مانع شرعي من الاتيان بالنذر و لا بدّ من تقديم الحج حينئذٍ، و إن كان الواجب المنذور أهمّ في نظر الشارع. فلا ينظر حينئذٍ إلي أهمية أحد الواجبين المتزاحمين ملاكاً.

كلام السيد الشهيد الصدر قدس سره و نقده

و يظهر اشتراط ذلك من السيد الشهيد الصدر قدس سره؛ حيث قال: «إنّ القانون المتبع في حالات التزاحم هو قانون ترجيح الأهم ملاكاً، و لكن هذا فيما إذا لم يفرض تقييد زائد علي ما استقل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 188

به العقل من اشتراط، فقد عرفنا أنّ العقل يستقل باشتراط مفاد كل من الدليلين بالقدرة التكوينية بالمعني الاعم فاذا فرضنا أنّ مفاد أحدهما كان مشروطاً من قبل الشارع- إضافة إلي ذلك- بعدم المانع الشرعي، أي بعدم وجود حكم علي الخلاف دون الدليل الآخر، قدِّم الآخر عليه، و لم يُنظر إلي الأهمية في الملاك. و مثاله وجوب الوفاء بالشرط إذا تزاحم مع وجوب الحج، كما إذا اشترط الشخص أن يزور الحسين عليه السلام في عرفة كل سنة، و استطاع بعد ذلك فإنّ وجوب الوفاء بالشرط مقيد في دليله بأن لا يكون هناك حكم علي خلافه بلسان إنّ شرط اللّٰه قبل

شرطكم. و أما دليل وجوب الحج فلم يقيد بذلك فيقدم وجوب الحج، و لا ينظر إلي الأهمية.

أما الأوّل: فلأنه ينفي بنفسه موضوع الوجوب الآخر؛ لأنّ وجوب الحج ذاته- و بقطع النظر عن امتثاله- مانع شرعي عن الاتيان بمتعلق الآخر فهو حكم علي الخلاف، و المفروض اشتراط وجوب الوفاء بعدم ذلك، فلا موضوع لوجوب الوفاء مع فعلية وجوب الحج.

و أما الثاني: فإنّ أهمية أحد الوجوبين ملاكاً، إنّما تؤثر في التقديم في حالة وجود هذا الملاك الأهم، فاذا كان مفاد أحد الدليلين مشروطاً بعدم المانع الشرعي دلّ ذلك علي أنّ مفاده حكماً و ملاكاً، لا يثبت مع وجود المانع الشرعي.

و حيث إنّ مفاد الآخر مانع شرعي، فلا فعلية للأوّل حكماً و لا ملاكاً مع فعلية مفاد الآخر» «1».

و لكن يرد علي هذا العَلَم أنّ أهمية ملاك أحد الواجبين إنّما يمكن إحرازه من طريق بيان الشارع فقط، و إلّا فمن أين نعلَم أن أحد الواجبين أهم في نظر الشارع

______________________________

(1) المجموعة الكاملة: ج 4، ص 191- 192.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 189

من الآخر؟ أ بحكم العقل أو العرف؟

فاذا علمنا من طريق النص الشرعي أنّ شرط اللّٰه قبل شرط الانسان المكلّف و أنّه مقدّم علي شرطه فكيف يمكننا أن نحرز أهمية الواجب بشرطنا من الواجب بشرط اللّٰه؟ بل إنّما نُحرز بذلك أهمّية الواجب بشرط اللّٰه و بحكمه الأولي الذاتي الثابت بلا وساطة عهد المكلّف و شرطه علي نفسه.

اشتراط عدم كون الأهمّ و المهم جزءين لواجب

نعم يمكن أن يقال باشتراط أمر آخر في جريان هذه القاعدة. و هو عدم كون الأهم و المهم كليهما من أجزاء واجب عبادي و كان الأهم في طول المهم. و ذلك كالركوع و السجدة، فانّهما في طول القيام

و مرتّبان عليه، مع أنّه يستفاد من النصوص أهمّيتها من القيام؛ لما دل من النصوص علي أن الصلاة ثلثٌ طهور و ثلث ركوع و ثلثٌ سجود، و أنّ أوّل الصلاة الركوع «1». و لعلّه من أجل ذلك- أي اعتبار عدم كون الأهم في طول المهم- ذهب المشهور إلي تقديم القيام عند الدوران بينه و بين الركوع و السجود لمن يتعذّر عليه القيام بعد الركوع و السجود، لمرض أو مانع آخر، بل نسب ذلك إجماعهم، كما حكي عنهم في الجواهر، «2» و إن اختاره في كشف اللثام تقديم الركوع و السجود و قواه في الجواهر. و سيأتي تفصيل ذلك في التطبيقات الفقهية.

و عليه فمقتضي القاعدة في هذه الموارد الحكم بأهمية الواجب بشرط اللّٰه من الواجب بشرط المكلّف في نظر الشارع دائماً، بلا فرق بين الموارد.

______________________________

(1) الوسائل: ب 9، من أبواب الركوع، ح 1 و 6.

(2) جواهر الكلام: ج 9، ص 256- 257.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 190

مدرك القاعدة

اشارة

1- ملاكات الأهمية و مواردها الكلية.

2- موارد الأهمية في لسان النصوص.

3- مقتضي القاعدة في محتمل الأهمية.

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بحكم العقل و نصوص الكتاب و السنة.
أمّا العقل؛

فانّه يحكم بتقديم ما هو أهم في نظر الشارع. و ذلك لأنّ العقل إذا علم و أحرز أهمية واجب عند الشارع من الواجب الآخر، يستقل بتقديمه و يستقل بوجوب طاعته؛ قضاءً لحق العبودية و المولوية، و تحصيلًا للمؤمّن من العقاب الاخروي المحتمل. و هذا مما لا ريب فيه. و لا ينبغي إطناب البحث عن ذلك.

و أما الكتاب:

فلم أجد في الآيات القرآنية ما يدل علي هذه القاعدة، إلّا بعض ما يُشعر بها بالالتزام.

مثل قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لٰا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» «1».

وجه الاشعار، بل دلالته علي القاعدة المبحوث عنها، ظهوره في تقديم حفظ النفس من المعاصي علي هداية الغير و إنكار العاصي إذا دار الأمر بينهما.

و ذلك لأنّ إضرار أهل الضلالة و المعصية بالمؤمن المهتدي؛ إما بوسوستهم،

______________________________

(1) سورة المائدة: 105.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 191

كما أمر اللّٰه بالاستعاذة من شرّ الوسواس الخنّاس، من الجنّة و الناس. و إنّ الوسواس الخنّاس الذي من الناس- المعبّر عنه بشياطين الأنس- إنّما هو أهل الضلالة و المعصية.

و إمّا: من أجل ترك وظيفة هدايتهم و إرشادهم و انكارهم عن المعاصي و أمرهم بالمعروف و الآية المزبورة تشمل كلتا الصورتين بالاطلاق.

و الصورة الثانية تنطبق علي قاعدة الأهمية، و هي ما إذا دار الأمر بين نهي الغير و منعه عن المعصية و بين ارتكاب الناهي نفسه الحرام فيما لو توقف انكار الغير علي ارتكاب الحرام. فالآية تدل علي سقوط وظيفة الانكار و جواز تركه و عدم توجه ضرر و عقاب اخروي إليه بترك الانكار ما دام وقي نفسه من ارتكاب الحرام، و إن وقع الفاعل في المعصية و ضلّ بارتكابها.

و من هنا استدللنا باطلاق

هذه الآية لسقوط وجوب الانكار في المسألة في كتابنا «دليل تحرير الوسيلة»، فراجع «1».

و لكن ناقشنا هناك باحتمال انصراف الآية المزبورة إلي نفي إضرار كفر الكفّار و ضلالتهم بالمؤمنين بعد اهتدائهم؛ بقرينة آيات وجوب الأمر و النهي بين المؤمنين. كقوله تعالي: «الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» «2»، و غيره من الآيات.

و أمّا السنة:

فيمكن الاستدلال لهذه القاعدة بعدّة نصوص.

من هذه النصوص:

______________________________

(1) دليل تحرير الوسيلة/ كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: ص 77- 79.

(2) التوبة: 71.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 192

ما ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام- مخاطباً لعمر بن الخطاب، لمّا استشاره للخروج إلي قتال الفُرس بنفسه-: في خطبة له عليه السلام، قال: «و مكان القيِّم بالأمر مكان النظام من الخَرَز يجمعه و يضمّه. فان انقطع النظام، تفرَّق الخرز و ذهب، ثمّ لم يجتَمِع بحذافيره أبداً و العَرَب اليوم، و إن كانوا قليلًا، فَهُم كثيرون بالاسلام، عَزيزون بالاجتماع فكن قُطباً و استدر الرحا بالعرب و أصلهم. دونك نار الحرب؛ فانّك إن شخصتَ من هذه الأرض، انتقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها، حتي يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ اليك مما بين يديك» «1».

قوله: «القيّم بالأمر»؛ أي القائم به، و المقصود الخليفة. «النِّظام»؛ أي الخَيط، يُنظم به، و الخَرَز- بفتحتين-: أي حبّات السُّبحة و نحوها، مما يُجمع و يُنتظم بالخيط بصورة الحلقة.

قوله: «بحذافيره»؛ جمع الحِذفار، و هو أعلي الشي ء و ناحيته. و المقصود اصول الخَرَز و جوانبه علي طبق النظم السابق قوله: «شخصتَ»؛ أي خرجتَ.

و مقصوده من قوله: «ما تدع ورائك من العورات»؛ نواميس المسلمين و نساؤهم الباقيات بعد خروج الخليفة بلا قيّم

و أمير يدافع عنهنّ و يحفظهنّ عن هجمات البغاث المهاجمين.

هذه الخطبة قد رواها الشيخ المفيد في الارشاد مع تفاوت و ننقل من مرويّه موضع الحاجة، و هو قوله عليه السلام: «و إن أشخصت بهذين الحرمين انتقضت العرب عليك من أطرافها و أكنافها، حتي يكون ما تَدَعُ وراءَ ظهرك من عيالات العرب أهمّ إليك ممّا بين يديك» «2».

______________________________

(1) نهج البلاغة صبحي الصالح: ص 203، خ 146.

(2) الارشاد: ج 1، ص 209.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 193

و أيضاً روي ابن شهرآشوب في مناقبه عن تاريخ الطبري هذه الخطبة بعين ألفاظ رواية الشيخ المفيد «1».

أمّا وجه دلالتها علي هذه القاعدة أنّ قوله عليه السلام: «حتي يكون ما تَدَعُ …» في قوّة تعليل النهي عن الخروج بأهمية ما يستتبعه الخروج من المحذور، و هو خطر الهجوم علي نواميس المسلمين.

و منها: كلام أمير المؤمنين في الخطبة الشقشقية، قال عليه السلام: «أما و اللّٰه لقد تقمَّصها فلان. و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محل القُطب من الرّحي. ينحدر عنّي السيل، و لا يرقي إليَّ الطير، فسدلتُ دونها ثوباً و طويت عنها كشحاً و طَفقتُ أرتئي بين أن اصول بيد جذّاءٍ أو أصبر علي طَخْيَةٍ عمياءٍ يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتي يلقي ربّه! فرأيت أنّ الصبر علي هاتا أحْجي، فصبرت و في العين قذي و في الحلق شجًا أري تراثي نَهْباً» «2».

قوله: «تقمّصها»؛ أي لبسها، و المقصود التلبُّس برداءِ الخلافة.

و قوله: «سَدَلت»؛ أي أرخيت. قوله: «طويت عنها كشحاً»؛ أي انصرفت عنها ميلًا و إرادة عن تعقُّل. قوله: «أصول» من صال يصول؛ أي وثب عليه ليقتله. و قوله: «بيد جذّاء»؛ أي يد

مقطوعة، كناية عن عدم القدرة. قوله: «طَيخة عمياء»؛ أي ظلمة محضة لا يمكن فيها الرؤية. قوله: أحجيٰ: اسم التفصيل من الحِجا بمعني العقل و كلُّ ما يستر الانسان، قاله الخليل.

و المقصود أنّ اختيار الصبر أقرب إلي العقل و أحفظ من الفتنة و الفَشَل. و قوله: «الشجا»؛ ما اعترض في الحلق من عظم و نحوه.

______________________________

(1) مناقب ابن شهرآشوب: ج 1، ص 406.

(2) نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص 48، خ 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 194

و معني الخطبة أنّ فلاناً لقد تلبّس برداءِ الحكومة و تصدّي لإمارة المسلمين و هو و اللّٰه غير لائق لمنصب الخلافة. و هو نفسه يعلم أنّ الخلافة و أمارة المسلمين إنّما تدور مداري و تقوم بي. و إنّي عالي المكان و مرتفع الشأن و بعيد المرتقي عند اللّٰه و رسوله. كما أنّ السيل ينحدر من الأماكن العالية و الطير لا يرقي إليها؛ لذروة رفعتها.

و الأمر عندي دار بين أن اقاتل معه بلا عِدّة و لا عُدّة- كأنّي مقطوع اليدين-، و بين أن أصبر علي فتنة مظلمة عمياء. ففكّرت و تأملت، فرأيت أنّ الصبر و ترك القتال أقرب إلي العقل و أحفظ لنواميس المسلمين و اقتدارهم و دمائهم فصبرت حال كوني، كمن اعترض العظم في حلقة و الشوك في عينه من شدّة ألم التحمّل و الصبر علي هذه الفتنة الصعبة و المصيبة الشاقّة.

و مقصود الامام عليه السلام: أنّي فكّرت و تأملت عند ما ابتُليت بالدوران بين المحذورين- المذكورين في كلامه- فرأيت ترجيح الصبر و ترك القتال مع عدم العدّة و العُدّة، أقرب إلي حكم العقل و مقتضي التأمّل؛ لما في الاجتناب عن الفتنة و الاحتراز عن سفك دماءِ المسلمين-

من غير نتيجة و لا تحصيل الغرض الواجب- من الأهمية، و إن كان الجهاد و قتال أهل البغي أيضاً واجب مهمّ. و بهذا التقريب تتمّ دلالة هذه الخطبة علي القاعدة المبحوث عنها في المقام. و عموم التعليل بأقربية أحد طرفي الدوران و أهميته ينفي اختصاص الترجيح المزبور بشخص الامام عليه السلام في تلك الواقعة، بل يقتضي التعميم و تسرية ترجيح الأهم في جميع موارد الدوران بين الأهم و المهمّ. فلا يُعبأ باحتمال مثل هذا الترجيح بالامام المعصوم عليهم السلام.

هذا من جهة الدلالة و فقه الحديث.

و أما من جهة السند:

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 195

فقد رواه الصدوق في العلل و معاني الأخبار بطريقين عن عكرمة عن ابن عباس، أحدهما: بقوله: و حدثنا محمد بن علي ماجيلويه، عن عمّه محمد بن أبي القاسم، عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال عليه السلام: «و اللّٰه لقد تقمّصها … الخ» «1».

لا إشكال في رجال هذا السند، إلّا عكرمة مولي ابن عباس؛ لعدم توثيقه من جانب مشايخ رجالنا. و لكن ورد في شأنه رواية عن الصادق، عن أبي جعفر أنّه عليه السلام قال في حق الرجل بعد موته: «لو أدركت عكرمة عند الموت لنفعته. قيل لأبي عبد اللّه عليه السلام بما إذا ينفعه؟ قال: كان يلقّنه ما أنتم عليه. فلم يدركه أبو جعفر و لم ينفعه» «2».

و استظهر الكشي من هذه الرواية ذمّ عكرمة؛ حيث إنّه قال: - بعد نقل الرواية-: «و هذا نحو

ما يُروي: لو اتخذت خليلًا لاتخذت فلاناً خليلًا. لم يوجب لعكرمة مدحاً، بل أوجب ضدّه» «3».

و لكن الظاهر عدم دلالة الجملة المزبورة علي ذم الرجل لو لم يُفد مدحه من حيث غير فساد العقيدة، بل هو الظاهر؛ لأنّ حسن حاله من ساير الجهات أوجب استحقاق الرجل لإيصال النفع إليه من جانب الامام بتلقينه مسألة الامامة و الولاية، و لعدم دلالة الرواية علي أكثر من فساد عقيدة الرجل من حيث الولاية و الامامة. مع عدم ورود ذمّ في الرجل من أحد، بل الظاهر تلقّي الأصحاب هذه الخطبة بالقبول.

______________________________

(1) معاني الاخبار: ص 361 و علل الشرائع: ج 1، ص 151.

(2) معجم رجال الحديث: ج 12، ص 177.

(3) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 196

و أيضاً رواها الشيخ الطوسي بسنده في الأمالي «1». و رواه في الاحتجاج بقوله: «و روي جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس» «2».

و أيضاً رواها أهل العامة بطرقهم العديدة، مع كونها عليهم.

فلا يبقي شك في صدور هذه الخطبة. و لا ريب في اشتهار روايتها بين الخاصّة و العامة.

و منها: قول أمير المؤمنين عليه السلام في توبيخ بعض أصحابه: «و إنّي لَعالِمٌ بما يُصلحكم و يقيم أودَكم، و لكنّي لا أري إصلاحكم بافساد نفسي» «3». و رواه الشيخ المفيد في الارشاد «4». و قد دلّ علي تقديم حفظ نفسه عن الاعوجاج لأهمّيته من إصلاح جَهلَة أصحابه.

و منها: معتبرة مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد عليه السلام يقول: «و كان أبي رضي اللّٰه عنه يقول في دعائه: ربِّ أصلح لي نفسي؛ فانّها أهم الأنفس إليّ. ربّ أصلح لي ذريتي؛ فإنّهم يدي و عضدي. ربِّ و أصلح لي أهل

بيتي؛ فانّهم لحمي و دمي. ربِّ أصلح لي جماعة إخواني و محبّي؛ فانّ صلاحهم صلاحي» «5». و دلالة هذه المعتبرة علي المطلوب واضحة؛ حيث إنّه عليه السلام علّل دعائه و طلبه إصلاح نفسه من اللّٰه بأنّها أهمّ من ساير الأنفس.

و من هذا القبيل ما دلّ من النصوص علي تقديم الفريضة علي النافلة و تقديم الفرائض بعضها علي بعض.

______________________________

(1) أمالي الشيخ الطوسي: ص 372- 373.

(2) الاحتجاج: ج 1، ص 281- 283.

(3) نهج البلاغة، صبحي الصالح: ص 99 خ 69.

(4) الارشاد: ص 272.

(5) قرب الاسناد: ص 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 197

مثل صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما عليهم السلام، قال: «سألته عن صلاة الكسوف في وقت الفريضة، فقال: أبدأ بالفريضة، فقيل له: في وقت صلاة الليل، فقال: صلّ صلاة الكسوف قبل صلاة الليل» «1».

و نحوه صحيحه الآخر و صحيح ابراهيم بن عثمان. «2»

و مثله ما دلّ علي تقديم فريضة الحج- في المال الموصي به للحج و العتق و الصدقة-؛ معلّلًا بأنها فريضة، كما في صحيح معاوية بن عمّار، قال: «دخلت عن أبي عبد اللّه عليه السلام، فقلت له: إنّ امرأة من أهلي ماتت و أوصت إليّ بثلث مالها، و أمرت أن يعتق عنها و يحجّ عنها و يتصدّق، فنظرت فيه فلم يبلغ، فقال: أبده بالحجّ فانّه فريضة من فرائض اللّٰه عزّ و جلّ، و اجعل ما بقي طائفة في العتق، و طائفة في الصدقة، فأخبرت أبا حنيفة قول أبي عبد اللّه عليه السلام فرجع عن قوله و قال يقول أبي عبد اللّه عليه السلام» «3».

و في صحيحة الآخر عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «في امرأة أوصت بمال في عتق و

حجّ و صدقة فلم يبلغ، قال: ابدأ بالحج فانّه مفروض فان بقي شي ء فاجعل في الصدقة طائفة و في العتق طائفة» «4».

و من هذا القبيل ما دلّ علي الابتداء باخراج الكفن ثمّ الدين ثمّ الوصية ثمّ الميراث من الدين.

مثل معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «أوّل شي ءٍ يبدأ به من المال الكفن، ثمّ الدين ثمّ الوصية ثمّ الميراث» «5».

______________________________

(1) الوسائل: ب 5، من صلاة الكسوف، ح 1.

(2) المصدر: ح 2 و 3.

(3) الوسائل: ب 65، من أحكام الوصايا، ح 1.

(4) المصدر: ح 2.

(5) الوسائل: ب 28، من الوصايا، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 198

و صحيح محمد بن قيس، عن أبي جعفر 7، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ الدين قبل الوصية، ثمّ الوصية علي أثر الدين، ثمّ الميراث بعد الوصية فانّ أوّل القضاء كتاب اللّٰه» «1».

و النصوص الدالة علي كبري قاعدة الاهمية و صغراها كثيرة جدّاً، يجدها المتتبع في روايات أهل البيت عليهم السلام الواردة في مختلف أبواب الفقه. و سوف يأتي ذكر نصوص اخري واردة في تعيين صغري هذه القاعدة.

ملاكات الأهمية و مواردها الكلية

إنّ ملاكات الأهمية مختلفة باختلاف الموارد و عمدتها هي الموارد التالية:

1- كون أحد الواجبين مندوباً و الآخر واجباً.

2- كون أحد الواجبين أكثر احتراماً و أوجب حفظاً في نظر الشارع، كالدوران بين الصلاة و بين حفظ نفس محترمة من الهلاك، أو بين انقاذ أمير الجيش و بين الجندي في الحرب، أو بين انقاذ عالم ربّاني و مرجع ديني و إنقاذ بين شخص عامّي.

3- إذا كان أحدهما واجباً موسعاً و الآخر مضيقاً، فلا ريب في تقديم المضيق؛ لفوته بتقديم الموسع، دون العكس.

______________________________

(1) المصدر: ح 2.

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 199

4- إذا كان أحدهما واجباً مخيّراً و الآخر معيناً، كما لو دار الأمر بين سفر منذور و بين صوم الكفارة. فالسفر هو الأهم؛ لامكان ابدال صوم الكفّارة باطعام المسكين، دون السفر المنذور. و غير ذلك من أنحاء موجبات الأهمية في نظر الشارع.

هذا في العبادات، و كذا في المعاملات، كما لو توقّف أداء دين واجب أو الوفاء بنذر أو علاج مريض علي معاملة. فاذا دار الأمر بين مثل هذه المعاملة و بين ما ليس فيه الخصوصية المزبورة تُقدَّم المعاملة الاولي؛ لأهميتها. و ملاكات الأهمية و مواردها كثيرة خارجة عن حدّ الاحصاء.

موارد الأهمية في لسان النصوص

ثمّ إنّ الملاك في إحراز أهمية أحد الواجبين علي الآخر، إما بحكم الشرع أو بحكم العقل.

أما الشرع فمن ملاكات الأهمية المستفادة من النصوص الشرعية، ما دلّ منها علي تقديم الواجب بحكم اللّٰه علي الواجب بشرط المكلف و عهده و نذره.

فمن هذه النصوص قول أبي جعفر عليه السلام: «إنّ شرط اللّٰه قبل شرطكم» في موثق محمد بن قيس. و أيضاً رواه العياشي عن ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام «1».

و أيضاً قد وردت النصوص من الشارع في بعض الواجبات و المحرّمات دلّت علي أهميتها، كما في الدماء و الفروج و أعراض المؤمنين كما ورد أنّ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة، بل من جميع حُرمات اللّٰه. مثل ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«إنّ اللّٰه حرّم حراماً غير مجهول، و أحلّ حلالًا غير مدخول و فضّل حرمة المسلم من الحُرُم كلّها» «2». و كذا ورد في الكبائر ما دلّ علي أهميتها من ساير المحرّمات.

فمن هذه النصوص:

صحيحة عبيد بن زرارة، قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الكبائر فقال: هنّ

في

______________________________

(1) الوسائل: ج 15، ص 290، ب 13، ح 2، و ص 47 ب 38، ح 1 و ص 31 ح 6.

(2) نهج البلاغة/ للشيخ محمد عبده: ج 2، ص 79، الخطبة 167.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 200

كتاب علي عليه السلام سبع: الكفر باللّٰه و قتل النفس و عقوق الوالدين و أكل الربا بعد البيّنة و أكل مال اليتيم ظلماً و الفرار من الزحف و التعرُّب بعد الهجرة. قال: فقلت: هذا أكبر المعاصي؟ فقال عليه السلام: نعم. قلت: فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلماً أكبر أم ترك الصلاة؟

قال عليه السلام: ترك الصلاة، قلت: فما عددت ترك الصلاة في الكبائر؟ قال عليه السلام: أيُّ شي ء أوّلُ ما قلت لك؟ قلت الكفر، قال عليه السلام: فانّ تارك الصلاة كافر، يعني من غير علّة» «1».

بل دلّت النصوص علي أهمّية بعض الكبائر علي بعضها، كصحيح عبد العظيم الحسني قال: «حدّثني أبو جعفر الثاني عليه السلام، قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبي موسي بن جعفر يقول: دخل عمرو بن عبيد علي أبي عبد اللّه عليه السلام. فلمّا سلم و جلس تلا هذه الآية: الذين يجتنبون كبائر الاثم و الفواحش، ثمّ أمسك، فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام ما أسكتك؟ قال: احبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّٰه عزّ و جلّ، فقال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الاشراك باللّٰه. يقول اللّٰه: و من يشرك باللّٰه فقد حرم اللّٰه عليه الجنّة. و بعده الأياس من روح اللّٰه عزّ و جلّ يقول: و لا ييأس من روح اللّٰه إلّا القوم الكافرون، ثمّ الأمن من مكر اللّٰه لأنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول: و لا يأمن مكر اللّٰه إلّا

القوم الخاسرون … الحديث» «2».

و في خبر الكراجكي، قال عليه السلام: «الكبائر تسعٌ أعظمهنّ الاشراك باللّٰه عزّ و جلّ و قتل النفس المؤمنة، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات و الفرار من الزحف و عقوق الوالدين و استحلال البيت الحرام، و السحر. فمن لقي اللّٰه عزّ و جلّ و هو بري ءٌ منهنّ، كان معي في جنةٍ مصاريعها الذهب» «3».

و خبر محمد بن مسلم- في حديث-، قال: «قلت: فأيُّ شي ءٍ الكبائر؟ قال عليه السلام:

أكبر الكبائر الشرك باللّٰه، و عقوق الوالدين، و التعرب بعد الهجرة، و قذف المحصنة و

______________________________

(1) الوسائل: ب 46، من أبواب جهاد النفس، ح 4.

(2) المصدر: ح 2.

(3) المصدر: ح 37.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 201

الفرار من الزّحف و أكل مال اليتيم ظلماً، و الربا بعد البيّنة، و قتل المؤمن» «1».

و قال الصدوق في ذيل الخبر المزبور: «الأخبار في الكبائر ليست مختلفة؛ لأنّ كل ذنب بعد الشرك كبير بالنسبة إلي ما هو أصغر منه، و كل كبير صغير بالنسبة إلي الشرك باللّٰه» «2».

و نظيره عن الطبرسي- ناسباً له إلي الأصحاب-؛ حيث قال: «قيل: كلّ ما نهي اللّٰه عنه، فهو كبيرة، عن ابن عباس. و إلي هذا ذهب أصحابنا، فانهم قالوا:

المعاصي كلها كبيرة من حيث كانت قبائح، لكن بعضها أكبر من بعض. و ليس في الذنوب صغيرة، و إنّما يكون صغيراً بالاضافة إلي ما هو أكبر منه و يستحق العقاب عليه أكثر» «3».

و من هذا القبيل ما دلّ علي أهمية بعض الواجبات؛ كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كقول الباقر عليه السلام في خبر جابر: «و لو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم و أبدانهم، لرفضوها، كما

رفضوا أسمي الفرائض و أشرفها، إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض» «4».

و في صحيحة طلحة بن زيد و عبد اللّه بن محمد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إنّ رجلًا من خثعم جاءَ إلي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّٰه أخبرني ما أفضل الاسلام؟

قال صلي الله عليه و آله: الايمان باللّٰه. قال: ثمّ ما ذا؟ قال صلي الله عليه و آله: صلة الرحم. قال: ثمّ ما ذا؟ قال صلي الله عليه و آله: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. قال: فقال الرجل: فأخبرني أيّ الأعمال أبغض إلي اللّٰه:

قال صلي الله عليه و آله: الشرك باللّٰه. قال: ثمّ ما ذا؟ قال صلي الله عليه و آله: ثمّ قطيعة الرحم. قال: ثمّ ما ذا؟ قال صلي الله عليه و آله: الأمر

______________________________

(1) المصدر: ح 35.

(2) المصدر: ذيل الحديث المزبور.

(3) تفسير مجمع البيان: ج 4- 3، ص 38.

(4) الوسائل: ب 1، من أبواب الأمر و النهي، ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 202

بالمنكر و النهي عن المعروف» «1».

و منه ما دلّ علي أهمية الجهاد في سبيل اللّٰه و الواجبات الخمسة المبني عليهما الاسلام، و الولاية المعلَّلة أهمّيتها بأنّها مفتاحهنّ.

فمن هذه النصوص قول أبي عبد اللّه عليه السلام: «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض» في خبر حيدرة «2».

و منها: معتبرة السكوني عن جعفر عليه السلام عن أبيه عليه السلام عن آبائه عليهم السلام «إنّ النبي صلي الله عليه و آله قال: فوق كلِّ ذي برٍّ برٌّ، حتي يقتل في سبيل اللّٰه. فاذا قتل في سبيل اللّٰه، فليس فوقه برٌّ. و فوق كلِّ ذي عقوق عقوقٌ،

حتي يقتل أحد والديه. فاذا قتل أحد والديه، فليس فوقه عقوق» «3».

و منها: معتبرة منصور بن حازم، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها و برّ الوالدين و الجهاد في سبيل اللّٰه» «4».

و من هذه النصوص:

صحيح أبي حمزة بن أبي جعفر عليه السلام، قال: «بُني الاسلام علي خمس: علي الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الولاية و لم يناد بشي ء كما نودي بالولاية» «5».

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «بُني الاسلام علي خمسة أشياء: علي الصلاة و الزكاة و الحج و الصوم و الولاية، قال زرارة: فقلت: و أيّ شي ء من ذلك أفضل؟

فقال: الولاية أفضل، لانّها مفتاحهنّ و الوالي هو الدليل عليهنّ، قلت: ثمّ الذي يلي ذلك في

______________________________

(1) المصدر: ح 11.

(2) الوسائل: ب 1، من أبواب جهاد العدوّ، ح 9.

(3) المصدر: ح 21.

(4) المصدر: ح 28.

(5) اصول الكافي، ج 1، ص 18، ح 1 و 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 203

الفضل: فقال: الصلاة إنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله قال: الصلاة عمود دينكم قال: قلت: ثمّ الذي يليها في الفضل؟ قال: الزكاة لانّه قرنها بها و بدأ بالصلاة قبلها و قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله الزكاة تذهب الذنوب. قلت: و الذي يليها في الفضل؟ قال عليه السلام: الحج» «1».

و أما موارد إحراز الأهمية بحكم العقل، فمثل إنقاذ النفس علي الغير، أو تقديم إنقاذ الوالدين و الولد علي انقاذ الغير، أو تقديم حفظ المال الكثير علي المال القليل، و غير ذلك من موارد تقديم ما هو أهمّ في نظر العقل؛ حيث إن ما استقل له العقل

يحكم به الشرع قطعاً فيما إذا لم يرد منه نص بخلاف حكم العقل.

و ذلك لأنّ العقل حجّة من اللّٰه علي العباد، كما نطقت بذلك الآيات القرآنية و النصوص المتواترة، و لا مجال هاهنا إلي ذكرها. و من هنا اتفق الفقهاء و الاصوليون علي كون العقل من أحد الأدلة الأربعة التي هي من مصادر التشريع الاسلامي.

مقتضي القاعدة في محتمل الأهمية

وقع الكلام في أنّ مقتضي القاعدة عند احتمال أهمية أحد الواجبين، هل هو حكم العقل بتقديم محتمل الأهمية؟ أو لا حكم له بتقديم أحدهما حينئذٍ بعد عدم إحرازه أهمية شي ءٍ منهما. و عليه فالقول بوجوب تقديم محتمل الأهمية خلاف مقتضي القاعدة و لا يمكن الالتزام به. و ذلك لأنّ موضوع حكم العقل الحكم بوجوب طاعة أمر المولي و امتثاله؛ تحصيلًا للمؤمّن من العقاب المحتمل. و ذلك إنّما إذا أحرز العقل أهمية أحد الواجبين في نظر الشارع، و إلّا فلا موضوع لحكمه.

يظهر من المحقق الهمداني القول الثاني؛ حيث إنّه قال: «لا يبعد دعوي القطع

______________________________

(1) المصدر: ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 204

من طريقة الشارع و المتشرعة عملًا و فتوي بعدم الاعتناء باحتمال الأهمية و أن المرجع في مثل الفرض و نظائره التخيير …؛ إذ لم يثبت أهمية أحد الأمرين، فمن الجائز مساواتهما في الواقع» «1».

و يظهر من بعض المحققين تقديم محتمل الأهمية بحكم العقل؛ نظراً إلي العلم بعذرية العمل بمحتمل الأهمية عن الآخر دون العكس.

قال: «و حيث يُعلم بكون محتمل الأهمية عذراً عن الآخر و لا يُعلم العكس، تعيّن التحفظ علي محتمل الأهمية عقلًا» «2»

و فيه: أنّ تعلُّق أمر الشارع بكل واحد منهما و عدم إحراز الأهمية يكفي في العذرية، و لا دخل لاحتمال الأهمية في العذرية؛

لمكافأته باحتمال المساواة.

و لكن مقتضي التحقيق وجوب تقديم محتمل الأهمية. و هذا الوجوب ثابت بحكم العقل فيما إذا احتمل أهمية أحد الواجبين بعينه دون الآخر. و لا حكم له بذلك فيما إذا احتمل أهمية كلّ واحد منهما أو احتمل أهمية أحدهما لا بعينه.

و الوجه في حكمه بوجوب تقديم محتمل الأهمية في الصورة الاولي- من الصور الثلاث المزبورة- أنّه لا يري المؤمّن من العقاب المحتمل حاصلًا في الاتيان بما لا يحتمل أهميته، بل إنّما يراه حاصلًا في الاتيان بخصوص محتمل الاهمية؛ لانه بترك محتمل الاهمية و تقديم الآخر لا يزال يحتمل العقاب، حيث يحتمل كون المأمور به محتمل الأهمية دون الآخر؛ لتعلّق الأمر بالأهمّ، فلا يحصل له حينئذٍ اليقين بطاعة المولي، بل يحتمل مخالفته. و من هنا لا يري المؤمّن من العقاب المحتمل حاصلًا. و لمّا يحكم العقل بلزوم تحصيل المؤمّن و

______________________________

(1) مصباح الفقيه: ج 2، ق 1، ص 104.

(2) مصباح المنهاج للسيد محمد سعيد الحكيم: ج 2، ص 47.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 205

يري تحصيله متوقفاً علي الاتيان بمحتمل الأهمية، فمن هنا يحكم بوجوب تقديم الأهم. و مع تقديمه يحصل له الأمن و لا يحتمل العقاب بترك المهم؛ حيث إنّه لمّا لا يحتمل أهميته، لا يحتمل الأمر بخصوصه، فلا يحتمل بتركه مخالفة أمر الشارع.

و بعبارة اخري: إنّ في فرض تعلّق الأمر بكلٍّ منهما، بعد العلم بكون تقديم الأهم مطلوب الشارع و احتمال أهمية أحدهما بعينه دون الآخر، إنّما يري العقل الأمن من العقاب بتقديم محتمل الأهمية، دون العكس.

و يشهد لما قلناه كلمات فحول الفقهاء في ذلك منهم السيد الحكيم، فانّه قد حكم بوجوب تقديم محتمل الأهمية في موارد عديدة، و علّل

التقديم في موردٍ بقوله: «و أن عُلِم بأهميته أحدهما بعينه أو مساواته للآخر، فقد عُلِم بوجود الملاك في محتمل الأهمية و شُك في وجوه في الآخر» «1».

و علّله في موضع آخر بقوله: «مع احتمال الأهمية في أحد الطرفين بعينه يُعلم بوجود الملاك في محتمل الأهمية؛ إمّا تعييناً أو تخييراً بينه و بين الآخر فيجب بعينه عقلًا، دون الآخر» «2».

و ممن صرّح بتقديم محتمل الأهمية في مواضع عديدة من مختلف الفروع الفقهية، هو السيد الخوئي.

و قد علّل تقديمه في موضع بقوله: «و إذا كان أحد الحكمين محتمل الأهمية وجب الأخذ به، و سقط الإطلاق في غيره قطعاً.

و الوجه في ذلك: أنّه لا يجوز للمكلّف تفويت الغرض الملزم- بعد إحرازه-

______________________________

(1) مستمسك العروة: ج 1، ص 551.

(2) المصدر: ص 550.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 206

إلّا بعجزه عن الامتثال تكويناً أو بتعجيز المولي إياه: بأن يأمره بما لا يجتمع معه في الخارج و إذا لم يوجد شي ءٌ من الأمرين حكم العقل بقبح التفويت. و استحقاق العقوبة عليه.

و علي هذا فاذا كان أحد الحكمين المتزاحمين معلوم الأهمية فلا شبهة في وجوب الأخذ به، لأنّ الملاك في الطرف الآخر و إن كان ملزماً في نفسه، إلّا أن تفويته مستند إلي تعجيز المولي، ضرورة أن المولي قد أمر المكلّف بصرف قدرته في الأهمّ، فاذا أتاه المكلّف كان معذوراً في ترك المهم، و تفويت ملاكه، و هذا بديهي لا ريب فيه.

و إذا كان أحد الحكمين المتزاحمين محتمل الأهمية فأيضاً لا شبهة في لزوم الأخذ به، و ذلك لما عرفته- قريباً- من أنّه لا يجوز للمكلّف عقلًا أن يترك الملاك الملزم- بعد إحرازه- إلّا بالعجز عن الامتثال تكويناً، أو تشريعاً

و من الواضح أنّ المكلّف قادر علي الامتثال بمحتمل الأهمية، و لو بترك الآخر و إذن فلا يجوز ترك محتمل الأهمية، لحكم العقل بالاشتغال، و استحقاق العقاب علي تحركه من غير عذر» «1».

التنبيه

علي نكتتين

ينبغي التنبيه علي نكتتين في المقام:

إحداهما: إنّ منشأ احتمال الأهمية إنّما هو لسان الخطابات الشرعية و دلالتها إمّا بالمطابقة و الصراحة أو بالظهور السياقي من شدّة مرتبة العقوبة و الوعيد و الآثار السيئة علي ترك الواجبات و إتيان المحرمات. و لا ينشأ احتمال الأهمية من حكم العقل؛ نظراً إلي عدم تطرّق

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: ج 3، ص 311- 312.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 207

الاحتمال في حكمه.

ثانيتهما: أنّه لا تأتي قاعدة تقديم محتمل الأهمية في باب التعارض؛ لأنّ هناك يكون الدوران بين المتعارضين راجعاً إلي اشتباه الحجة باللاحجّة و إلي تعارض الحجتين في إثبات أصل التكليف و لا مناص في ذلك من تبعية الشارع في ملاك الترجيح.

و إنّما تأتي في باب التزاحم؛ لأنّ الدوران من ناحية عدم تمكن المكلّف من الامتثال بواجبين ثبت فيهما أصل التكليف، و هو يستدعي الفراغ اليقيني. و حينئذٍ يأتي التوجيه المتقدّم في تقديم محتمل الأهمية. و لا يخفي أنّ هذا الكلام إنّما يأتي في التخيير الاصولي قطعاً.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 208

مجاري القاعدة و تطبيقاتها الفقهية

اشارة

1- تقديم اليومية علي الآيات و الفريضة علي النافلة.

2- لو دار الأمر بين القيام و الركوع و السجود.

3- لو دار الأمر بين الوضوء و رفع العطش.

4- لو دار الأمر بين الواجب المالي و بين الواجب البدني.

5- لو دار الأمر بين الصلاة عرياناً و بين الصلاة في غير مأكول اللحم.

6- لو دار الأمر بين تطهير مصحف الغير و بين الاستيذان

منه.

7- لو دار الأمر بين الصلاة عارياً و بين الصلاة في الثوب المعلوم نجاسته اجمالًا.

اتضح في تبيين مفاد هذه القاعدة أنها تجري عند التزاحم بين كل واجبين أحدهما أهمّ ملاكاً في نظر الشارع. و من مجاري هذه القاعدة موارد دفع الأفسد بالفاسد.

و قد اشتهر بين الفقهاء و الاصوليين لزوم دفع الأفسد بالفاسد و جعل ذلك من موارد جريان قاعدة الأهمية، كما نسب إليهم الفقيه المحقق السيد الخوانساري في توجيه قبول الولاية من قبل الجائر؛ حيث قال: «و أما ما ذكر من أنّ الولاية إن كانت محرّمة …، فالظاهر أنّ نظر المستدل إلي ما هو المشهور، من لزوم دفع الأفسد بالفاسد في بعض الصور و لزوم حفظ الأهمّ الواجب، و إن

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 209

كان مستلزماً لفعل الحرام في بعض الصور» «1».

و قد تمسك الفقهاء بقاعدة الأهميّة في جميع أبواب الفقه، من العبادات و المعاملات و في فروع كثيرة لا تُحصي. و نكتفي هاهنا بذكر نماذج منها.

فمن هذه الفروع:

تقديم اليومية علي الآيات و الفريضة علي النافلة

مسألة تقديم الصلاة اليومية علي الآيات؛ لأهميتها عند الدوران بينهما. فقد حكم جماعة حينئذٍ بتقديم اليومية. و تردد بعض.

قال الشهيد الأوّل: لو اشتغل بالكسوف لظنّه سعة الحاضرة فتبيّن ضيق وقتها، ففي تقديم أيهما وجهان للفاضل، من سبق انعقاد الكسوف فيُتمّها للنهي عن إبطال العمل، و من أهمية الحاضرة» «2».

و منها: ما لو كان أحد مشتغلًا بالنافلة فأحرم امام الجماعة للصلاة فحكم الفقهاء بجواز قطع النافلة للدخول في صلاة الجماعة. كما صرّح بذلك المحقق النراقي بقوله: «لو كان أحد في نافلة فأحرم الامام للصلاة قال جماعة: إنّه يقطع

______________________________

(1) جامع المدارك: ج 3، ص 60.

(2) الذكري: ص 247.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية،

ج 3، ص: 210

النافلة إن خاف الفوات، و يدخل الفريضة مع الامام … و استُدِلّ له تارةً بأنّ فيه تحصيلًا لما هو أهمّ في نظر الشارع فإنّ الجَماعة في نظره أهمّ من النافلة» «1».

______________________________

(1) مستند الشيعة: ج 8، ص 139.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 211

لو دار الأمر بين القيام و الركوع و السجود

و منها: ما لو دار الأمر بين القيام و بين الركوع و السجود لم يتعذّر رفع رأسه عن الركوع و السجود لمرض أو مانع آخر. فمقتضي القاعدة حينئذٍ- كما قال في الجواهر- تقديم القيام لأنّه مقدّم علي الركوع؛ نظراً إلي ترتّبهما عليه. فاذا تمكّن من القيام وجب عليه، و إذا وصل إلي الركوع و السجود و لم يتمكّن سقطا عنه، كما أفتي المشهور بذلك و عملوا بمقتضي القاعدة.

و لكن حكم في كشف اللثام بتقديم الركوع و السجود علي القيام؛ نظراً إلي أهمّيتها و تبعه جماعة و قوّاه في الجواهر. و قد أجاد في الجواهر في تحرير ذلك؛ حيث قال:

«و لو دار أمره بين الركوع و السجود جالساً و بين القيام خاصة لتعذّر الجلوس عليه بعده للسجود أو للركوع و الانحناء قائماً قام و أو ما بهما كما صرح به بعضهم، بل يظهر من آخر أنّه المشهور بل المتفق عليه، بل في الرياض عن جماعة دعوي الانفاق عليه، لاشتراط الجلوس بتعذر القيام في النصوص و لأنّ الخطاب بأجزاء الصلاة مرتب، فيراعي كل جزء حال الخطاب به بالنسبة إليه و بدله، ثمّ الجزء الثاني و هكذا إلي تمام الصلاة، و لما كان القيام أول أفعالها وجب الاتيان به مع القدرة عليه. فاذا جاء وقت الركوع و السجود خوطب بهما، فإن استطاع و إلّا فبدلهما.

و يحتمل كما مال إليه في

كشف اللثام تقديم الجلوس و الاتيان بالركوع و السجود، بل قال: و كذا إذا تعارض القيام و السجود وحده، و لعله لأنّهما أهم من القيام، خصوصاً بعد أن ورد أن الصلاة ثلث طهور، و ثلث ركوع، و ثلث سجود و أن أول الصلاة الركوع و نحو ذلك. و لأنّ أجزاء الصلاة، و إن كانت مرتبة في الوقوع، إلّا أنّ الخطاب بالجميع واحد حاصل من الأمر بالصلاة. فمع فرض تعذر الاتيان بها كما هي اختياراً، وجب الانتقال إلي بدلها الاضطراري. و لما كان متعدداً؛ ضرورة كونه إما القيام وحده أو الجلوس مع استيفاء باقي الأفعال، وجب الترجيح بمرجح شرعي. و لعلَّ الأهمية و نحوها منه، و أنّها أولي بالمراعاة من السبق؛ لما عرفت- إلي أن قال-: و المسألة لا تخلوا من إشكال، و إن كان احتمال تقديم الجلوس قوياً» «1».

لو دار الأمر بين الوضوء و رفع العطش

و منها: من كان معه ماءٌ و دار أمره بين الوضوء به و بين رفع شربه لخوف العطش، فقد أفتي الفقهاء حينئذٍ سقوط الوضوء و جواز الاكتفاء بالتيمّم؛ مستدلّاً بهذه القاعدة.

كما علّل بها في الجواهر:

«لو كان معه ماءٌ للشرب و خاف العطش علي نفسه أن استعمله في الحال أو المآل إجماعاً محصلًا و منقولًا عن علمائنا، بل و عن كل من يحفظ عنه العلم مستفيضاً و سنة بالخصوص كذلك فضلًا عن عمومها و عمومات الكتاب، و علي رفيقة المسلم المحترم الدم، سيما إذا كان ممن تجب نفقته عليه بلا خلاف أجده فيه أيضاً: لأهمية حفظ النفس في نظر الشارع بدليل تقديمه علي غيره من الواجبات كقطع الصلاة لانقاذها و غيره مما لا بدل له، فضلًا عما له بدل مساو له في الطهورية» «2».

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج

9، ص 256.

(2) جواهر الكلام: ج 5، ص 114.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 212

لو دار الأمر بين الواجب المالي و بين الواجب البدني

و منها: ما لو وقع التزاحم بين الواجب المالي و بين الواجب البدني في العمل بالوصية بهما باخراجهما من الثلث. فقد نُسب إلي المشهور تقديم الواجب المالي؛ نظراً إلي جواز إخراجه من أصل التركة في غير مورد الوصية، بخلاف الواجب البدني، فانّه يُخرج من الثلث.

و لكن حَكمَ في المسالك بتقديم الواجب البدني في مفروض الكلام و تعجّب منه الشيخ الأعظم بعد الاشارة إلي مخالفته للمشهور مع التفاته إلي كلام المحقق الثاني؛ حيث إنّه صرّح بكون ذلك لازم قول المشهور بجواز اخراج الواجب المالي من أصل لتركة، دون البدني.

فانه قدس سره،- بعد الاشارة إلي ما صرّح به المحقق الكركي و إلي مخالفة صاحب المسالك- وجّه كلام صاحب المسالك بكون الواجب البدني أهم من المالي، ثمّ أشكل في احراز صغري الأهمية. قال: «و بالجملة فلا إشكال في كون هذا القول خلاف المشهور، بل الظاهر تفرّد صاحب المسالك به، و إن كان عجيباً مع التفاته قدس سره إلي كلام المحقق الثاني كما هو عادته في غير موضع.

نعم، يمكن الاستدلال عليه بانّه أهمّ، و بالتعليل في الرواية السابقة بكون الحج فريضة، و أنّ ما بقي من الفريضة يجعل في النوافل.

و يمكن التفصّي عن الأهمية بأنّها اعتبار عقلي لا يصلح لأن يرفع به اليد عمّا يقتضيه القاعدة الشرعية من كون نسبة الوصيّة التي هي السبب في الاخراج من الثلث إلي الواجب البدني و غيره علي السواء؛ إذ المفروض أنّه لا سبب لخروجه من المال سوي الوصيّة، بل لا وجه لمزاحمة غيره به عند تأخّر

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص:

213

الوصية به عن الوصية لغيره؛ لأنّ مقتضي القاعدة- كما سيجي ء- تقديم الأوّل فالأوّل» «1».

لو دار الأمر بين تطهير مصحف الغير و بين الاستيذان منه

و منها: مسألة تطهير مصحف الغير إذا تعذّر الاستئذان منه و لم يلزم من ترك التطهير هتك المصحف؛ حيث لا إشكال في وجوب تطهيره بلا اعتبار إذن صاحبه.

فقد أشكل السيد في العروة «2» في جواز تطهيره بغير اذنه في مفروض الكلام.

و قد أدرج السيد الشهيد الصدر المسألة في باب التزاحم و قاعدة الأهمية إذا كان متعلق الوجوب تحصيل الطهارة و في باب التعارض إذا كان متعلق الوجوب نفس التطهير بما أنّه فعلٌ و حكم بدخول الشق الثاني في محتمل الأهمية باعتبار ملاك وجوب التطهير و سمّاه بالتزاحم الملاكي و جزم بعدم كفاية احتمال الأهمية فيه لتقديم محتملة، بل إنّما المعتبر فيه العلم بالأهمية.

قال قدس سره: «و أما إذا تعذّر الاستئذان و تحصيل الاذن، فتارة: يفرض عدم ترتب الهتك و المهانة علي ترك التطهير. و اخري: بفرض ترتب ذلك علي الترك.

فعلي الأوّل يقع التنافي بين دليل وجوب التطهير و دليل حرمة التصرف في مال الغير و قد قيل إنّ هذا التنافي يدخل في باب التزاحم و يقدم الحكم بحرمة التصرف في مال الغير؛ لاحتمال أهميته. و لكن إذا فرض أنّ متعلق الوجوب

______________________________

(1) رسالة الوصايا و المواريث/ إعداد لجنة التحقيق: ص 72.

(2) العروة الوثقي: المسألة 29، من أحكام النجاسات.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 214

نفس التطهير بما هو فعل المكلّف، لا الاثر الحاصل منه. فالمقام يدخل في باب التعارض فدخوله في مسألة اجتماع الأمر و النهي؛ لأنّ التطهير و التصرف في مال الغير ينطبقان علي شي ءٍ واحد. فلا بد من تطبيق قواعد باب التعارض، اللّهم إلّا أن يدَّعي كون ملاك

كل من الحكمين محرزاً في مادة الاجتماع فيدخل في التزاحم الملاكي. و في التزاحم الملاكي يقدَّم معلوم الأهمية و لا يكفي احتمال الاهمية لتقديم كما حققناه في محله من الاصول» «1».

و فيه أنّ مقصوده قدس سره من الملاك لو كان هو مصلحة جعل الحكمة و ما فيه من الحكمة فلا يكفي معلومه للتقديم فضلًا عن محتمله.

و إن كان مقصوده الملاك المنصوص أهميته من جانب الشارع أو الذي يستقل به العقل- كما قلنا في بيان مدرك القاعدة- فانما يكفي محتملة لحسن الاحتياط لا وجوبه فضلًا عن كفايته للفتوي بوجوبه؛ لعدم حجّيةٍ للاحتمال و لا دليلية له و من هنا يشكل الحكم بكفاية احتمال الأهمية لوجوب التقديم مطلقاً.

لو دار الأمر بين الصلاة عرياناً و بين الصلاة في غير مأكول اللحم

و منها: ما لو دار أمر المصلّي بين الصلاة عرياناً و بين الصلاة في غير مأكول اللحم، فحكم الفقهاء في المقام بجريان قاعدة الأهمية، كما صرّح بذلك السيد الحكيم؛ حيث قال: «و حينئذٍ يدور الأمر بين الخلل الحاصل من وجود المانع علي تقدير لبس غير مأكول اللحم و بين الخلل الحاصل بفقد الساتر فقط علي تقدير نزعه، أو مع فوات الركوع و السجود لو فرض أن حكم العاري الايماء، فيرجع حينئذٍ إلي قواعد التزاحم من ترجيح الأهم

______________________________

(1) شرح العروة الوثقي: ج 4، ص 332.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 215

المعلوم الأهمية و كذا محتمل الأهمية» «1».

لو دار الأمر بين الصلاة عارياً و بين الصلاة في الثوب المعلوم نجاسته إجمالًا

و منها: ما لو دار أمر المصلّي بين الصلاة عرياناً و بين الصلاة في غير مأكول اللحم، فحكم الفقهاء في المقام بجريان قاعدة الأهمية، كما صرّح بذلك السيد الحكيم؛ حيث قال: «و حينئذٍ يدور الأمر بين الخلل الحاصل من وجود المانع علي تقدير لبس غير مأكول اللحم و بين الخلل الحاصل بفقد الساتر فقط علي تقدير نزعه، أو مع فوات الركوع و السجود لو فرض أن حكم العاري الايماء، فيرجع حينئذٍ إلي قواعد التزاحم من ترجيح الأهم المعلوم الأهمية و كذا محتمل الأهمية» «2».

[لو دار أمر المصلي بين الصلاة عارياً و بين الصلاة في أحد الثوبين- المعلوم نجاسة أحدهما اجمالًا- معيّناً أو مخيّراً.]

و منها: ما لو دار أمر المصلي بين الصلاة عارياً و بين الصلاة في أحد الثوبين- المعلوم نجاسة أحدهما اجمالًا- معيّناً أو مخيّراً.

فحكم السيد الامام بتقديم الصلاة عارياً لأهمية الطهارة في الصلاة من الستر فيها؛ لإجماع الفقهاء علي تقديم الصلاة عارياً علي الصلاة في الثوب المقطوع نجاسته، فكذلك في المقام. لكنه احتمل أهمية الستر عند تعدد المطلوب في فرض عدم العلم بنجاسة أحد الثوبين بعينه.

قال قدس سره: «يمكن أن يقال: إنّ الأوجه وجوب الصلاة عارياً، لأنّ أهمية مراعاة المانع كما أوجبت الصلاة عارياً مع النجس المحرز توجب تقديم الموافقة الاحتمالية فيه علي الموافقة الاحتمالية في الستر عقلًا في مقام الامتثال، فيجب

______________________________

(1) مستمسك العروة: ج 5، ص 389.

(2) مستمسك العروة: ج 5، ص 389.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 216

الصلاة عارياً، إلّا أن يقال: إنّه مع احتمال تعدد المطلوب يأتي احتمال أهمية الستر من المانع كما يحتمل العكس فالقاعدة التخيير» «1».

______________________________

(1) كتاب الطهارة: ج 3، ص 591.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 217

«قاعدة» «القرعة»

اشارة

منصة القرعة في الفقه و كلمات الفقهاء

تعريف القرعة و ماهيتها

مدرك القاعدة

شرائط القرعة

مجاري القاعدة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 218

«منصة القرعة» «في الفقه و كلمات الفقهاء»

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 219

1- منصّة القرعة في الفقه.

2- الاستدلال بها في كلمات الفقهاء.

3- أوّل من عبّر عنها بالقاعدة.

4- هل القرعة قاعدة اصولية أو فقهية.

منصّة القرعة

في الفقه

إنّ تشريع قاعدة القرعة يبتني علي أساس رفع المشاكل و الصعوبات التي يواجهها الناس في شئون العيش و مختلف المجالات من امورهم و تعاملاتهم، كما يُشعره التعابير الواردة في نصوص القرعة، كقوله عليه السلام: «كل أمر مشكل ففيه القرعة». «1»

و عليه فيكون تشريع هذه القاعدة مبنياً علي سياسة التسهيل علي العباد في أمر الدين و التيسير لهم في جعل أحكام الشريعة.

ثمّ إنّ قاعدة القرعة قد بحث عنها فحول الفقهاء و الاصوليين في علمي الاصول و الفقه كليهما.

ففي علم الاصول قد بحث عنها الاصوليون في مواضع.

منها: تعيين المشتبه بالمغصوب، كما عن الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين. «2»

و منها: تعيين الحرام المشتبه في الشبهات الموضوعية الخارجية كالغنم

______________________________

(1) عوالي اللئالي: ج 2، ص 112، ح 308.

(2) هداية المسترشدين: ص 460.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 220

الموطوءة المشتبهة و نحوها، كما عن الشيخ الأعظم قدس سره؛ حيث بحث عن جريان القرعة و وجه جريانها في المسألة. «1» و المحقق النائيني تعرّض لها في فوائده. «2»

و منها: مسألة تعارض الاستصحاب مع القرعة. فقد تعرَّض فيها الشيخ الأعظم «3» لقاعدة القرعة و بحث عنها و تبعه في ذلك من تأخّر عنه من الاصوليين. «4»

و منها: مسألة تعارض البينات في باب التعادل و الترجيح. فقد تعرَّض فيها الشيخ الأعظم لقاعدة القرعة و بحث عن وجه

جريانها و كيفية حجيتها. «5»

و أما الفقه فقد بحث الفقهاء عن قاعدة القرعة في مواضع عديدة؛ منها: باب القسمة، و منها: باب القضاء. و قد بحثنا عن هذه القاعدة إجمالًا في أحكام القسمة من كتابنا «دليل تحرير الوسيلة».

و بما بيّناه قد اتضح لك أهمية هذه القاعدة. و أما سابقتها التاريخية، فيكفي لاثبات قدم سابقتها التعرّض لها في نصوص أهل البيت عليهم السلام، بل لها جذر في الشرائع السالفة، كما ستعرف من الكتاب ما يدل علي ذلك.

و لكن هاهنا مشكلة و هي أنّ الفقهاء ربما يتمسّكون بهذه القاعدة في موارد،

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 2، ص 105 و 208 و 210 و 223. و كذا بحث عن ذلك صاحب الكفاية و المحقق العراقي و السيد الخوئي و السيد الامام في أواخر الاستصحاب.

(2) فوائد الاصول: ج 4، ص 678.

(3) راجع فرائد الاصول/ طبع مجمع الفكر الاسلامي: ج 3 ص 385.

(4) كفاية الاصول: ج 2، ص 358- 359 و نهاية الافكار: ج 4، ص 104- 108 و مصباح الاصول: ج 3، ص 341- 343 و الرسائل للسيد الامام الخميني: ج 1، ص 337- 352.

(5) راجع فرائد الاصول: ج 4، ص 31.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 221

و لكنّهم لم يعملوا بها و لم يعتنوا بعموماتها و إطلاقاتها في موارد اخري مشابهة، مع عدم الفرق بينها من جهة ملاك جريان القرعة من وقوع الاشتباه في الموضوع و تردّد الحقوق بين منازعيها. و من هنا اشتبه الأمر علي كثير حتي اقتصر جماعةٌ في حجية القرعة و اعتبارها علي موارد عمل الأصحاب بها و لم يجوّزوا التعميم في جريانها.

و السر في هذه التشويشات و الاضطرابات عدم تنقيح مفاد نصوص

القرعة و نطاقها و شرائط جريانها و ما هو المعيار و الملاك في الرجوع إليها.

و من هنا ينبغي استيفاءُ البحث عن هذه القاعدة و تنقيح الجهات المهمة و النقاط الأساسية منها.

الاستدلال بها في كلمات الفقهاء

قد استدل الفقهاء في فتاواهم بقاعدة القرعة و حكموا بالقرعة في مختلف أبواب الفقه. و لا اختصاص للاستدلال بها في كلمات المتأخرين بل يوجد في كلمات أقدم القدماء، كالمحدث الأجلّ و الفقيه الأقدم الشيخ الصدوق؛ حيث حكم بالقرعة في ولد ولدتها جارية واقعاها رجلان.

قال قدس سره: «و إذا اشتري رجلان جارية، فواقعاها جميعاً فأتت بولد، يُقرع بينهما فمن أصابته القرعة الحق به الولد» «1».

و نظيره في هذا الفرع كلام الفقيه الأجلّ الأقدم الشيخ المفيد «2».

و قال في الجواب عن السؤال حول تعيين المعتَق من العبيد: «مسألة اخري:

______________________________

(1) المقنع/ للشيخ الصدوق: ص 401.

(2) المقنعة/ طبع جماعة المدرسين: ص 544.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 222

رجل كان له ثلاثون عبداً، فأعتق ثلثهم عند موته، فلم يعلم من العتيق منهم.

الجواب: يقرع بينهم. فمن خرجت القرعة عليه، عُتِق» «1».

و أما شيخ الطائفة و المحقق الحلّي و غيرهما من القدماء، فقد حكموا بالقرعة في مواضع عديدة من كلماتهم، سيأتي ذكر بعضها في التطبيقات الفقهية.

أوّل من عبّر عنها بالقاعدة

و لا يخفي أنّ القرعة- رغم كثرة التعرّض إليها و التعبير بلفظها في كلمات القدماء و المتأخرين- لم يُعبّر عنها بالقاعدة.

و أول من رأيته عبّر عنها بالقاعدة، هو الفقيه المحقق السيد المراغي (المتوفي بسنة: 1250 ه ق) في كتابه العناوين. فانه- بعد ما نقل عن قواعد الشهيد أنّ القرعة لا تستعمل في الفتاوي و الأحكام المشتبهة إجماعاً- قال: «و ليس ذلك تخصيصاً لقاعدة القرعة، بل إنّما هو اختصاص و عدم شموله من أصله». «2»

و لكن في كلمات من بعده من الفقهاء جاء التعبير بقاعدة القرعة كثيراً، بل ألّفوا رسائل في هذه القاعدة.

هل القرعة قاعدة اصولية أو فقهية

قد عرفت أنّ الفقهاء و الاصوليين تعرّضوا للبحث عن قاعدة القرعة في مواضع من علمي الفقه و الاصول كليهما.

______________________________

(1) العويس/ طبع المؤتمر العالمي: ص 51.

(2) العناوين/ للسيد المراغي: ج 1، ص 354.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 223

و أما كونها قاعدة فقهية أو اصولية دائر مدار تحقق ملاك أيّهما.

و قد بحثنا في المجلد الأوّل من كتابنا «بدائع البحوث» عن الفرق بين القاعدة الاصولية و بين القاعدة الفقهيّة. و بعد نقل مباني فحول الاصوليين و تحقيقها و تنقيح رأي المشهور، بيَّنّا مقتضي التحقيق في الفرق بينهما بأنّ نتيجة البحث عن القاعدة الاصولية تحصيل الحجة علي الاحكام الكلية الشرعية و لكن القاعدة الفقهية إنّما تنتج نفس الحكم الكلّي الشرعي لا الحجة عليه.

ففي المثال قاعدة «ما يضمن …» ليست إلّا حكماً كلياً منطبقاً علي مصاديقه و هي الحكم الكلي بضمان كل عقد يضمن بصحيحة، و قاعدة الالزام لا تفيد إلّا جواز إلزام كل من دان بدين أو خصوص المخالفين.

و أما قاعدة اليد، فانما تفيد حجية اليد و أماريتها علي ملكية ما في اليد

لصاحبها و جواز شرائه. و كذا قاعدة السوق و نحوها، فهذه القواعد تشبه قاعدة حجية الخبر الواحد؛ حيث لا تفيد إلّا حجية خبر الثقة.

فالفارق الأصلي أنّ الحكم الكلي بنفسه نتيجة القاعدة الفقهية. و أما في القاعدة الاصولية، فانّما تكون النتيجة حجية موضوع القاعدة و الحكم الكلي إنّما يثبت بواسطة نتيجة القاعدة الاصولية.

و مقتضي التحقيق: أنّه ينبغي عدّها من القواعد الاصولية؛ نظراً إلي تحقق ملاك القاعدة الاصولية فيها؛ لأنّ نتيجة البحث عنها إثبات حجيتها علي تعيين كل مشتبه؛ إما واقعاً كما يشعر به قول أبي جعفر عليه السلام: «إلّا خرج سهم المحق» في صحيح أبي بصير «1» و قول الامام الكاظم عليه السلام: «كل ما حكم اللّٰه به فليس

______________________________

(1) الوسائل: ب 13 من ابواب كيفية الحكم ح 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 224

بمخطئٍ» «1»؛ نظراً إلي ما لهذين التعبيرين من الاشعار بطريقية القرعة إلي الواقع، و لو بارادة تكوينية و تقدير واقعي من اللّٰه تعالي.

و إما ظاهراً برفع التحيّر عن المكلّفين عند مواجهة المشكلة تعبّداً، كما يشعر بذلك قوله عليه السلام: «كلّ أمر مشكل فيه القرعة». «2» و ما نقله في الدعائم عن أمير المؤمنين عليه السلام و أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل». «3»

و علي الأوّل تكون من الأمارات و علي الثاني من الاصول. و لكنّها علي أيّ حال حجّة علي الحكم الكلي الشرعي؛ إمّا الواقعي أو الظاهري.

فعلي أيّ حال تكون القرعة قاعدة ممهدة لتحصيل الحجة علي الحكم الكلي الشرعي. و هو إما حكم وضعي كملكية الشي ء الخارج بالقرعة لمن خرج باسمه، أو حكم تكليفي مترتب علي الموضوع الثابت بالقرعة، كوجوب الاجتناب عن

الغنم الموطوءة المشتبهة الخارجة بالقرعة. و لا فرق في ذلك بين كون الحكم الوضعي أو التكليف الثابت بالقرعة واقعياً أو ظاهرياً، فعلي أيّ حال يكون حكماً شرعياً كلياً وضعياً. و ذلك مثل ملكية كل ما خرج بالقرعة لمن خرج له في الأموال و الحقوق المشتبهة، أو نجاسة كل ما خرج بالقرعة في المشتبه بالنجس. أو تكليفاً مثل حرمة كل ما خرج بالقرعة و وجوب الاجتناب عنه في المشتبه بالحرام، و نحو ذلك.

______________________________

(1) المصدر: ح 11.

(2) عوالي اللئالي: ج 2، ص 112، ح 308 و ص 285، ح 25.

(3) مستدرك الوسائل: ب 11 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 225

و أما وجه عقد البحث لهذه القاعدة في ضمن القواعد الفقهية، فلما جرت عادة الفقهاء المحققين، و لا سيّما المعاصرين علي البحث عنها في ضمن القواعد الفقهية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 227

«تعريف القرعة» «و ماهيتها»

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 228

1- الجذر اللغوي و المعني الاصطلاحي.

2- هل القرعة أمارة أو أصل؟

3- الفرق بين القرعة و بين ساير الأمارات.

4- ما هو الواقع الذي تكشف عنه القرعة؟

الجذر اللغوي

لفظ القرعة اسم مصدر من تقارع القوم و اقترعوا، كما قال في المصباح: تقارع القوم و اقترعوا و الاسم القرعة. و مأخوذ من القرع بمعني الضرب، كما قال في المقائيس: قَرَعتُ الشي ء أقرَعُه:

ضربته … و الإقراع و المقارعة، هي المساهمة. و سمِّيت بذلك؛ لأنّها شي ءٌ كأنّه يُضرب. و لا يخفي أنّ الضرب هنا متحقق بمعناه المجازي، كما في قوله تعالي: «كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اللّٰهُ الْحَقَّ وَ الْبٰاطِلَ». «1»

فانّ السهام المكتوبة علي قطعات القرطاس أو علي البنادق و ما شابهها لا يكون كلها سهم المحق، بل انما يكون واحدٌ منها سهم المحق، فهو حق و الباقي باطل. و إن ضرب بعضها ببعض و تشويشها من قبيل ضرب الحق و الباطل.

______________________________

(1) الرعد: 17.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 229

المعني الاصطلاحي

المراد من القرعة في الاصطلاح عملية هو الاقتراع و المساهمة لتمييز شي ءٍ من مال أو حق مشتبه مجهول. فكلّ ما إذا اشتبه شي ءٌ- يترتَّب عليه حقٌّ أو حكمٌ- و كان مجهولًا، و أشكل الأمر في تشخيصه و لم يمكن تمييزه بأمارة أو أصل و لا بغيرهما، يتوسّل لتمييزه و تعيينه إلي عملية الاقتراع. و يعبّر عن هذه العملية بالقرعة.

فاتضح بهذا البيان أنّه يعتبر في قاعدة القرعة ثلاثة أمور:

أحدها: أن الشي المشتبه المجهول- الذي أخذ في موضوع قاعدة القرعة- يعتبر فيه كونه مشكلًا. و من الواضح أنّه إذا كان هناك طريق عقلائي أو شرعي لرفع الاشتباه و الجهل و تمييز الشي ء المجهول و تعيينه، لا يصدق عليه عنوان المشكل حقيقةً.

فليس كلّ شي ءٍ مشتبه مجهول مأخوذاً في موضوع قاعدة القرعة، بل يُعتبر كونه مشكلًا، كما أشار إلي ذلك الفقيه المحقق السيد المراغي بقوله:

«إنّ المراد من المشكل و المشتبه

و المجهول واحد، و هو كونه كذلك من حيث هو كذلك، بمعني: كون الشي ء مشتبهاً لا سبيل إلي رفع ذلك بطريق معتبر شرعاً حتّي يكون مخرجاً للحكم في تلك الواقعة. فمتي كان له سبيل مثبت، لم يكن ذلك من الاشكال و الاشتباه في شي ءٍ، بل هو معلوم بالمآل و إن كان مشكلًا ابتداءً. و هذا هو مقتضي النصوص و مؤدّي النظر السليم». «1»

ثانيها: أنّ المراد من الاشتباه هو الشبهات الموضوعية لا الحكمية؛ لأنّ المرجع في الشبهات الحكمية هو الأدلّة و الاصول الشرعية. و قد أشار إلي ذلك

______________________________

(1) العناوين الفقهية: ج 1، ص 352.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 230

الشهيد الأوّل في القواعد بقوله:

«و لا تستعمل القرعة في الفتاوي و الأحكام المشتبهة إجماعاً». «1»

هذا، مع دلالة الآيات و النصوص الواردة في القرعة علي تشريعها في موارد الاشتباه في الموضوعات، كما سيأتي بيانها.

مضافاً إلي أنّه لا موضوع للقرعة بعد حلّ العويصة و رفع المشكلة في الشبهات الحكمية بالأمارات الشرعية الرافعة للجهل بالحكم الواقعي؛ نظراً إلي تنزيلها منزلة العلم. كما لا تصل النوبة إليها بعد رفع الشك بالاصول الشرعية الرافعة للتحيّر عند الشك في الحكم.

ثالثها: كون الشي ء المشتبه المجهول مما يترتب عليه حق أو حكم شرعيّ، و إن شئت فقل يترتب عليه أثرٌ مالي أو حقوقي أو حكم شرعي. فما لا يترتب عليه شي ءٌ من الآثار المذكورة، خارج عن موضوع القرعة، و إن كان مشتبهاً مجهولًا مشكلًا.

و ذلك لأنّ القرعة قاعدة تعبّدية تتوقف في أصل مشروعيتها و كيفية حجيتها و سعة نطاقها علي ما يستفاد من أدلتها و نصوصها الشرعية. و إنّ المستفاد من نصوصها اعتبار ذلك، كما سيأتي في البحث و التحقيق عن مدرك

القاعدة.

هل القرعة أمارة أو أصل؟

قبل الورود في البحث ينبغي التنبيه علي نكتة، و هي بيان ثمرة الفرق بين كون القرعة أمارةً أو أصلًا.

و تلك الثمرة هي حجية مثبتات الأمارات، دون الاصول. و أنّه بناءً علي

______________________________

(1) القواعد و الفوائد: ج 2، ص 23.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 231

حجية متثبتات الأمارات، لا بد في المقام من القول بحجية مثبتات القرعة و الالتزام بحجيتها في لوازمها العادية و العقلية.

لكن ليس هذا المبني بهذه البساطة، بل فيه تفصيل. و قد حقّقناه في المجلد الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعال» «1» في تنقيح قاعدة أصالة الصحة و توجيه عدم حجيتها في مثبتاتها العقلية و العادية: لكونها من الأمارات التعبّدية المحضة.

و حاصل ما قلنا هناك:

إنّ مقتضي التحقيق التفصيل بين الأمارات العقلائية التي أمضي الشارع اعتبارها و بين الأمارات التعبدية التأسيسية، كما أشار إلي ذلك الامام الراحل قدس سره و فصّل بذلك في المقام. «2» كما لا بد من هذا التفصيل بين الأمارات التعبدية و بين ما ثبت اعتباره بالدليل اللفظي.

و تحرير كلامه قدس سره: أنّ الأمارات العقلائية التي أمضاها الشارع، لم تستقرّ سيرة العقلاء علي العمل بها، إلّا لأجل كشفها عن الواقع وجداناً، لا للتعبّد بها. و ذلك لأنّ في هذه الأمارات كاشفية ناقصة توجب مرتبةً من الوثوق و الظن بالواقع وجداناً و هي توجب الظن الوجداني بلوازمه. و لذا تري العقلاء يرتّبون الأثر علي لوازمها. و هذا بخلاف الأمارات التعبّدية التأسيسية التي لا توجب الظن الوجداني بمؤداها بمقتضي ذاتها، فضلًا عن لوازمها العقلية و العادية، كالاجماع و نحوه.

و الحاصل: أنّ مثبتات الأمارات العقلائية و الامضائية و التي ثبت اعتبارها

______________________________

(1) مباني الفقه الفعال: ج 1، ص 68.

(2) الرسائل: ج 1،

ص 178 و 181.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 232

بالدليل اللفظي حجة، بخلاف الأمارات التعبدية.

و ذلك لأنّ في الأمارات العقلائية، لمّا جري بناؤهم علي ترتيب الأثر عليها بما أنّها طرق إلي الواقع وجداناً، يأخذون بلوازمها العادية و العقلية، و جرت سيرتهم علي ترتيب هذه الآثار. و أما الأمارات الثابتة بالأدلة اللفظية، فلدخول اللوازم العادية و العقلية في نطاق إطلاقها بحسب المتفاهم العرفي، كما هو المتفاهم من قولهم عليهم السلام «صدّق العادل». و لا يتوقف ترتيب آثار اللوازم علي العلم بالملازمة بينها و بين المعلوم بالتعبد، بل علي المتفاهم العرفي من الخطاب. و هذا بخلاف الأمارات التعبدية المحضة كالاجماع.

و لا يخفي أنّ القرعة و إن لا كشف وجداني لها عن الواقع بمقتضي ذاتها و لو كشفاً ناقصاً كخبر الثقة، إلّا أنّ أماريتها قد ثبتت بالدليل اللفظي؛ حيث إنّ الشارع قد أخبر عن إصابتها إلي الواقع و كشفها عن سهم المحق.

فليست القرعة من الأمارات العقلائية. و ما يري في سيرتهم من العمل بالقرعة فهو من باب الرجوع و الالتجاء إليه عند اليأس عن الواقع و التحيّر بعد فقدان الطريق، فلا يأخذون بها من أجل كشفها عن الواقع.

كما أنّها ليست من قبيل الأمارات التعبدية المحضة مما لا كاشفية ذاتية لها و لم تُستفَد أماريتها من دليل لفظي، كالاجماع، بناءً علي عدم كاشفية ذاتية له.

بل إنّما القرعة من قبيل ما استفيدت كاشفيته و طريقيته بدلالة الدليل اللفظي. فتكون حجة في آثارها العقلية و العادية؛ لدخولها في نطاق إطلاق دليلها اللفظي. و من أجل ذلك يستفاد حجية القرعة في لوازمها العادية و العقلية من دليل أماريتها بحسب المتفاهم العرفي.

و أما الأمارات التعبدية المحضة لا كاشفية لها عن

الواقع و لا تستفاد

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 233

أماريتها من دليل لفظي- بل استُفيدت من دليل لبّي كالاجماع أو سيرة المتشرعة- ليست حجة في مثبتاتها العقلية و العادية، كأصالة الصحة.

و أما الآثار الشرعية، فلا فرق بين الأمارات بأنحائها و بين الاصول في ترتّبها، فانّ ذلك من لوازم أصل حجيتها الشرعية علي مؤدّياتها، كما هو واضح.

و لا فرق في هذه الجهة بين الاصول و بين الأمارات التعبدية المحضة؛ إذ الاصول و إن كانت عقلائية، إلّا أنّه أخذ الشك في موضوعها. و إنّ بناء العقلاء و سيرتهم قد قامت علي العمل بالأصل بعد اليأس عن العلم بالواقع و الشك فيه، و هذا بخلاف الأمارات العقلائية، فانّ بناء العقلاء قد قام علي الأخذ بها بلحاظ أنّهم يرونها طريقاً إلي الواقع.

ثمّ إنّ أمارية القرعة لا تنافي تقدم بعض الاصول عليه و ذلك لما بيّناه من اعتبار صدق المشكل في موضوعها؛ بأن لم يكن هناك طريق شرعي من أمارة أو أصل لحلّ العويصة و رفع المشكلة. فان القرعة جعلت آخر مخلصٍ للمكلّف من عويصة الشبهات الموضوعية.

و سيأتي في البحث عن مدرك القرعة أنّ ظاهر صحاح أبي بصير و جميل و محمد بن حكيم أنّ القرعة أمارة؛ لدلالة قوله عليه السلام: «إلّا خرج سهم المحق» في الأوّلين و قوله: «فليس بمخطئٍ» في الثالث علي طريقية القرعة إلي الواقع، كما هو واضح.

و أيضاً يدل علي ذلك قوله عليه السلام: «رجم به- يعني ساهم- فأصاب» في معتبرة عبد الرحيم، و قوله عليه السلام: «فيرجمه فتصيب ذلك» في معتبرة موسي البجلي «1» فانّ

______________________________

(1) بصائر الدرجات: ص 409، ح 4، و ص 410، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية،

ج 3، ص: 234

الإصابة إلي الواقع إنّما هو شأن الأمارة، دون الاصول.

و لا ينافي ذلك كون موردها وقوع الاشتباه و التردد و المشكل في الأمر.

فانّ لسان نصوصها تحكي عن طريقيتها إلي الواقع، لا أنّها مجرد جعل حكم ظاهري تعبدي لرفع التحيّر في مقام العمل. فلا تكون أصلًا، بل هي أمارة.

و بعبارة اخري: إنّ ظاهر التعبير بخروج سهم المحق ثبوت سهم للمحق واقعاً و إنّما القرعة تُخرجه عن ستار الواقع و يكشف عن الواقع المستور و هذا عين الطريقية. و أيضاً إنّما يتصور الخطأ و الاصابة بالنسبة إلي ما كان طريقاً إلي الواقع. و من هنا لا يتصور الخطأ في الاصول العملية؛ لأنها- بعد اليأس عن الواقع و مع قطع النظر عنه- إنّما جُعلت لتعيين الوظيفة الظاهرية.

اللهم إلّا أنّ يقال: إنّ مقصود الامام عليه السلام أنّ القرعة لا تخطئ من حيث إنّها حكم اللّٰه، فهي لا تخطئ بما أنها حكم اللّٰه، لا بما أنها كاشفة عن الواقع. و لكنه خلاف ظاهر قوله: «خرج سهم المحق» كما قلنا، بل هذا التعبير يعطي الظهور لقوله: «فليس بمخطئ» في طريقية القرعة إلي الواقع، بل إصابتها اليه.

الفرق بين القرعة و بين ساير الأمارات

و لا يخفي أنّ أمارية القرعة ليست علي وزان ساير الأمارات، بل تفترق عنها. و ذلك لأنّ ساير الأمارات لها جهة كشف عن الواقع بحسب ذاتها؛ حيث أنّها من الظنون و الظن بمقتضي ذاته غالب المطابقة أو أغلب المطابقة مع قطع النظر عن دليل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 235

الاعتبار، كما أشار إليه الشيخ الأعظم في رسائله. «1»

و إنّما دليل الاعتبار شأنه إلغاءُ ما في الظنون من احتمال الخلاف تعبّداً.

و هذا بخلاف القرعة؛ لعدم جهة كاشفية في ذاتها بل إنّما صارت

كاشفة عن الواقع و مصيبة إليه بدليل اعتبارها تعبداً. و ذلك لأنّ نصوص اعتبارها دلّت علي ثبوت أمرين لها، أحدهما: أصل اعتبار القرعة و حجيتها، ثانيهما: إصابتها إلي الواقع و عدم خطأها بارادة اللّٰه تعالي.

فاتضح بذلك أنّ إصابة القرعة إلي الواقع بارادة اللّٰه تعالي بعد تفويض الأمر إليه لا يُخرجها عن الأمارية، كما يظهر من السيد الامام الراحل؛ حيث قال:

«ثمّ إنّ الظاهر من قوله: ما يقارع قوم فوضوا أمرهم إلي اللّٰه إلا خرج سهم المحق، أنّ القرعة ليست أمارة علي الواقع بل اللّٰه تعالي إذا فوض الامر اليه يخرج سهم المحق بارادته و اسباب غيبية و هذا غير أماريتها» «2».

كما أنّ اعتبار التفويض في إصابتها، لا ينافي أماريتها؛ نظراً إلي تعلّق إرادة اللّٰه باصابتها إذا فَوَّض المتقارعون الأمر إلي اللّٰه.

و أما اختصاصها بموارد الاشتباه و وقوع المشكلة فلا ينافي جعلها طريقاً إلي الواقع بارادة اللّٰه؛ بأن تتعلّق مشيته و ارادته بإصابتها إلي الواقع لكل قوم وقعوا في مشكلة اشتباه الحق، ثمّ فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه و تقارعوا، كما هو ظاهر نصوص القرعة. و من هنا اعتبرنا التفويض و توكيل الامر إلي اللّٰه في مشروعية القرعة و لزومها.

ما هو الواقع الذي تكشف عنه القرعة؟

و هل يكون وجوب تبعية القرعة لأجل التعبّد المحض؟ أو لأنّ القرعة كاشفة بارادة اللّٰه عن الواقع الثابت في الخارج الذي وقع النزاع فيه و معلوم عند مستحقّه؟ أو

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 1، 112- 113.

(2) الرسائل: ج 1، ص 354.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 236

لدوران الواقع- الثابت في اللوح المحفوظ المعلوم عند اللّٰه تعالي مدار حكم اللّٰه؛ بمعني أنّ الخارج بالقرعة لمّا كان بحكم اللّٰه كان هو الحق الواقعي الثابت في علم اللّٰه و

إن كان مخالفاً لما يظن صاحب الحق أنّه له واقعاً؛ لأنّ الواقع في موارد القرعة إنّما هو ما خرج بالقرعة؛ لأنّه الخارج بحكم اللّٰه، دون ما كان ملكاً لأحد المتنازعين قبل القرعة؟ فههنا ثلاثة وجوه:

و مقتضي التحقيق أنّ ظاهر قوله: «خرج سهم المحق»، هو الثاني؛ إلّا أنّ ذلك الحق الثابت قبل القرعة إنّما يعتبر كونه لأحد المتنازعين فيما إذا كان هناك تنازع في حق مشتبه بينهم. و أما في غير موارد التنازع، فيكفي كونه حقاً ثابتاً في علم اللّٰه و اريد العلم به؛ لما يترتب عليه من الأثر لمستحقه الواقعي أو لكل من يرجع نفعه المادّي أو المعنوي إليه. فأشكل الأمر للجهل به، فالظاهر مشروعية القرعة فيه؛ نظراً إلي شمول عمومات القرعة لذلك، كقول الامام الكاظم عليه السلام: «كلّ مجهول ففيه القرعة. قلت له: القرعة تُخطئ و تصيب. قال عليه السلام: كلّ ما حكم اللّٰه به، فليس بمخطئٍ» «1» و قوله: «كل أمر مشكل فيه القرعة» «2».

نعم في موارد عدم تطابق الحق الثابت لصاحبه في الخارج الحق الواقعي الثابت في علم اللّٰه، يمكن القول بالوجه الثالث؛ بأن تكشف القرعة عن الحق الواقعي الثابت في علم اللّٰه تعالي، و إن كان مخالفاً لما كان ثابتاً لصاحبه قبل القرعة؛ لما في مكسبه من الشبهة و الحرام و الظلم أو الشراء من الأيادي الغاصبة و نحو ذلك من المحرّمات الخفيّة علي المالك الفعلي الذي أحد المتقارعين.

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 11.

(2) عوالي اللئالي: ج 2، ص 112، ح 308.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 237

و قد اتضح من ضوء ما بيّناه أن القرعة إنّما ترفع المشكلة بتعيين الواقع و الاصابة إلي الحق.

فليست كبعض موازين القضاء، كما يظهر من السيد الامام الراحل «1»، و إن اعترف بأنه احتمال مخالف لظاهر بعض روايات القرعة، و لكنه قويّ هذا الاحتمال مستشهداً ببعض نصوص لا يخلو من الضعف إما سنداً أو دلالةً أو من كلتا الجهتين.

و قد اتضح أيضاً وجه ظهور ثمرة هذا البحث في حجية القرعة علي لوازمها و مثبتاتها العقلية و العادية بناءً علي أماريتها؛ إذ القرعة و إن ليست من الأمارات العقلائية التي لها كشف وجداني عن الواقع و لو ناقصاً، إلّا أنّ أماريتها استُفيدت من الدليل اللفظي تكون حجة في مثبتاتها العقلية و العادية؛ نظراً إلي دخولها دليلها اللفظي، و استفادة حجية القرعة في لوازمها العادية و العقلية بحسب المتفاهم العرفي. فليست القرعة في نطاق إطلاق من الأمارات التعبدية المحضة التي هي كالأُصول في عدم حجيتها في مثبتاتها، كما بيّنا وجه ذلك آنفاً.

هذا كله في الآثار العقلية و العادية. و أما الآثار الشرعية فلا فرق بين الأمارة و الأصل في حجيتها علي ترتيبها، كما قرّر في محله؛ نظراً إلي دخولها في نطاق مدلول أدلّتها.

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 354.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 238

«مدرك القاعدة»

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 239

قد استدل علي حجية القرعة بالكتاب و السنة و سيرة العقلاء و الاجماع.

1- الاستدلال بالاجماع.

2- الاحتجاج بالكتاب.

3- الاستدلال بنصوص أهل البيت عليهم السلام.

4- سيرة العقلاء و إزاحة الشبهة من سيرة المتشرعة.

الاستدلال بالاجماع

أما الاجماع، فقد استدلَّ به الأصحاب، كما جعل الشيخ قدس سره في المبسوط «1»: القرعة من مقتضيات مذهبنا في تداعي الرجلين في ولد. و حكم في الخلاف «2»: بأن القرعة مذهبنا في كل أمر مجهول.

و قد نسب ابن ادريس إلي الأصحاب بقوله: «إنّ أخبارهم ناطقة متظافرة متواترة في أنّ كلّ أمر مشكل فيه القرعة، و هم مجمعون علي ذلك» «3». و حكم الشهيد بثبوتها عندنا في القواعد «4». و هذه التعابير ظاهرةٌ في الاجماع، بل كلام ابن ادريس صريح في الاجماع الأصحاب علي مشروعية القرعة لكلّ أمر مشكل.

و لكن الاجماع التعبدي الكاشف عن رأي المعصوم غير متحقق في المقام؛

______________________________

(1) المبسوط: ج 8، ص 306.

(2) الخلاف: ج 3، ص 319، م 32.

(3) السرائر: ج 1، ص 87.

(4) القواعد و الفوائد: ج 2، ص 183.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 240

نظراً إلي استناد الفقهاء من القدماء و المتأخرين في حجيتها إلي نصوص الكتاب و السنة.

الاحتجاج بالكتاب
اشارة

قد استُدلّ بآيتين من القرآن الكريم لاثبات حجية القرعة.

الاولي: قوله تعالي: «وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.

فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» «1».

نزلت هذه الآية في يونس عليه السلام؛ حيث كذّبه قومه و دعا عليهم بالعذاب و أوعدهم بنزوله عليهم، ثمّ فرّ منهم إلي ساحل البحر؛ فاذا سفينة مملوّة من الناس و الأحمال فركبها، فأشرفت السفينة علي الغرق لكثرة رُكبانها و أحمالها، أو لاعتراض حوت عظيم و عدم التمكن من المسير. فالتجئوا إلي إلقاء أحد ركبانه إلي البحر لدفع مزاحمة الحوت أو لاستخفاف وزن السفينة. فاتفقوا علي الاقتراع لذلك، و اقترعوا فخرج اسم يونس ثلاث مرّات. فألقوه في البحر. إلي آخر القصّة.

قال الطبرسي في تفسير مجمع البيان

في قوله تعالي: و إنّ يونس لمن المرسلين إذ أبق إلي الفلك المشحون: «أي فرّ من قومه إلي سفينة مملوّة من الناس و الأحمال؛ خوفاً من أن ينزل العذاب بهم و هو مقيم فيهم».

فساهم يونس القوم؛ بأن ألقوا السهام علي سبيل القرعة؛ أي قارعهم فكان من المدحضين؛ أي من المقروعين، عن الحسن بن عباس.

و قيل من المسهومين، عن مجاهد. و المراد من الملقين في البحر.

______________________________

(1) الصافات: 140- 139.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 241

و اختلف في سبب ذلك فقيل: إنهم أشرفوا علي الغرق، فرأوا أنّهم إن طرحوا واحداً منهم في البحر لم يغرق الباقون.

و قيل: إنّ السفينة احتبست، فقال الملّاحون إنّ هاهنا عبداً آبقاً، فانّ من عادة السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري، فلذلك اقترعوا، فوقعت القرعة علي يونس ثلاث مرات، فعلموا أنّه المطلوب، فألقي نفسه في البحر.

و قيل: إنّه لما وقعت القرعة عليه ألقوه في البحر، فالتقمه الحوت؛ أي ابتلعه.

و قيل: إنّ اللّٰه سبحانه أوحي إلي الحوت أنّي لم أجعل عبدي رزقاً لك و لكني جعلت بطنك مسجداً له، فلا تكسِرن له عظماً و لا تخدِشنّ له جلداً.

و هو مليم؛ أي مستحق للوم؛ لوم العتاب، لا لوم العقاب علي خروجه من بين قومه من غير أمر به» «1».

وجه الاستدلال بهذه الآية واضحٌ؛ حيث يستفاد منها تأييد المساهمة المذكورة فيها عند الشارع؛ إذ لم يردّها. مع أنّ المساهمة اسند في هذه الآية إلي يونس النبي عليه السلام بقوله تعالي: «فساهم»؛ أي ساهم يونس عليه السلام.

هذا مضافاً إلي أنّه مقتضي استصحاب الحكم الثابت في الشرائع السابقة مع عدم ردعه في شريعة الاسلام، كما في المقام، بل ثبت إمضاؤها بنصوص أهل البيت عليهم

السلام.

و بذلك يندفع المناقشة في دلالتها بأنّها في مقام نقل القصة و لا يدل علي إمضائها، و بأنها إنّما دلّت علي جواز المساهمة المذكورة فيها في خصوص الشريعة السابقة.

وجه الاندفاع: ما قلنا من استناده إلي يونس النبي عليه السلام و هو المعصوم، و أنّ

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان: ج 7- 8، ص 458.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 242

الآية في مقام تأييد أصل المساهمة في الاسلام، و إلّا لردّها، مضافاً إلي استصحابه إلي زمان الاسلام، و إن لا تصل النوبة إلي الاستصحاب مع تمامية دلالة الآية، كما هو الحق. هذا مضافاً إلي ما ورد من النصوص المعتبرة الدالة علي إمضائها في شريعة الاسلام.

الثانية: قوله تعالي: «وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلٰامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» «1».

نزلت هذه الآية في منازعة علماء بني اسرائيل و تشاحّهم في كفالة مريم ابنة عمران «2». و كانت القصة أنّ مريم لمّا وُلدت أتت بها امها إلي المسجد ملفوفة في خرقة، و تنافس الأحبار في كفالتها- كما اشير إلي ذلك بقوله: «إِذْ يَخْتَصِمُونَ» - لأنّ مريم كانت بنت إمامهم. فقال زكريا: أنا أحقّ بها؛ لأنّ خالتها عندي. فقالت الأحبار: إنّها لو كان أمر كفالتها إلي أحق الناس بها لكانت امها التي ولدتها أحق بها من غيرها، لكنّا نقترع.

فذهبوا إلي نهر- و هم تسعة و عشرون رجلًا- فألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، أو أقداحهم المعدّة للاقتراع- كما قيل هي المرادة من الأقلام- فارتفع قلم زكريا فوق الماء و رسبت أقلامهم أو جرت بجريان الماء فذهب بها

______________________________

(1) آل عمران: 44.

(2) عمران هذه هو عمران بن الهشم من ولد سليمان بن داود أو

عمران بن ماثان علي ما نُقل عن ابن عباس. و أنّه- علي أيّ حال- غير عمران أبي موسي عليه السلام. و بينهما ألف و ثمانمائة سنة و كان بنو ماثان رءوس بني اسرائيل. و كان حَنّة امرأة عمران فنذرت كون ولدها محرّراً للعبادة أو في خدمة البيعة و الكنيسة، و كانت اخت حنة امرأة زكريا و اسمها أشياع. فكان يحيي عليه السلام ابن خالة مريم. كل ذلك قاله في تفسير مجمع البيان: ج 1، ص 434.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 243

الماء، علي اختلاف الأقوال، ثمّ كفّلها زكريّا «1».

قال الطبرسي في ذيل الآية المزبورة: «و في هذه الآية دلالة علي أنّ للقرعة مدخلًا في تميّز الحقوق. و قد قال الصادق عليه السلام: ما تقارع قوم ففوّضوا أمورهم إلي اللّٰه تعالي إلّا خرج سهم المحق. و قال عليه السلام: أيّ قضية أعدل من القرعة إذا فُوّض الأمر إلي اللّٰه تعالي؛ يقول: فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. و قال الباقر عليه السلام:

أوّل من سوهم عليه مريم ابنة عمران، ثمّ تلا: و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم، الآية. و السهام ستة. ثمّ استهموا في يونس. ثمّ كان عبد المطلّب ولد له تسعة بنين، فنذر في العاشر إن يرزقه اللّٰه غلاماً أنّ يذبحه. فلما ولد له عبد اللّه، لم يقدر أن يذبحه و رسول اللّٰه في صلبه. فجاء بعشرة من الابل فساهم عليها و علي عبد اللّه فخرجت السهام علي عبد اللّه فزاد عشراً، فلم تزل السهام تخرج علي عبد اللّه، و يزيد عشراً، فلما أن اخرجت مائة، فخرجت السهام علي الابل. فقال عبد المطلب: ما أنصفت ربي. فأعاد السهام ثلاثاً، فخرجت علي الابل. فقال: الآن

علمت أنّ ربي قد رضي بها فنحرها» «2».

و رواه الصدوق في الفقيه و الخصال بسنده «3».

و وجه التقريب عين ما عرفته في تقريب الآية السابقة. و دفع المناقشة بنفس البيان السابق آنفاً.

______________________________

(1) ذكر ذلك الطبرسي في مجمع البيان: ج 2- 1، ص 436.

(2) تفسير مجمع البيان: ج 2- 1، ص 442- 441.

(3) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 12.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 244

نقاش و جواب

هذا، و قد يناقش ببيان آخر في دلالة الآيتين: بأنّ غاية مدلولهما مشروعية القرعة في الشرائع السابقة. و أما دلالتهما علي حجيتها في شرعنا بحاجة إلي كلام صادر من الشارع يدل علي حجيتها. و لا يكفي لذلك مجرد نقل قضية واقعة في بعض الشرائع السابقة.

و يمكن دفع هذه المناقشة بأنه قد وردت في تفسير الآيتين نصوص بعضها صحيحة دلّت علي امضاء مضمونهما في شريعة الاسلام. و هي صحيح منصور بن حازم قال: «سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسئلة فقال:

هذه تخرج في القرعة ثمّ قال: فأيُّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه تعالي؟ أ ليس اللّٰه يقول: فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ؟» «1».

و نحوه مرسل الصدوق قال: «و قال الصادق عليه السلام: ما تنازع قوم ففوضوا أمرهم إلي اللّٰه تعالي، إلّا خرج سهم المحق، و قال: أيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلي اللّٰه، أ ليس اللّٰه يقول: فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ؟» «2».

و ما رواه العياشي في تفسيره عن الثمالي عن أبي جعفر في حديث يونس عليهم السلام قال: «فساهمهم فوقعت السهام عليه، فجرت السنة أنّ السهام إذا كانت ثلاث مرات أنّها لا تخطي، فألقي نفسه، فالتقمه الحوت» «3».

و

ما رواه الصدوق بسنده في الفقيه و الخصال عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من سوهم عليه مريم بنت عمران، و هو قول اللّٰه عز و جل: و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم

______________________________

(1) الوسائل: ب 13 من كيفية الحكم، ح 17.

(2) المصدر: ح 13.

(3) المصدر: ح 22.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 245

أيّهم يكفل مريم، و السهام ستة، ثمّ استهموا في يونس لما ركب مع القوم فوقفت السفينة في اللجة فاستهموا فوقع علي يونس ثلاث مرات قال: فمضي يونس إلي صدر السفينة فاذا الحوت فاتح فاه فرمي نفسه، ثمّ كان عند عبد المطلّب تسعة بنين فنذر في العاشر إن رزقه اللّٰه غلاماً أن يذبحه، فلما ولد عبد اللّه لم يكن يقدر أن يذبحه و رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله في صلبه، فجاء بعشر من الابل فساهم عليها و علي عبد اللّه فخرجت السهام علي عبد اللّه، فزاد عشراً، فلم تزل السهام تخرج علي عبد اللّه و يزيد عشراً، فلما أن خرجت مائة خرجت السهام علي الابل، فقال عبد المطلّب: ما أنصفت ربي، فأعاد السهام ثلاثاً فخرجت علي الابل فقال: الآن علمت أنّ ربي قد رضي، فنحرها» «1».

و مع ورود هذه النصوص في تفسير الآيتين و دلالتها الواضحة علي امضاء مدلولهما لا ينبغي الاشكال في تماميته دلالتهما علي المطلوب.

و عليه فالعمدة في الاستدلال علي حجية القرعة هي النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام.

الاستدلال بنصوص أهل البيت عليهم السلام

دلّت علي اعتبار القرعة و حجيتها عدة نصوص بعضها صحيح معتبر.

و يمكن تقسيم هذه النصوص إلي طائفتين.

الطائفة الاولي: ما ورد في وقائع و موارد خاصة، كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا وقع

الحرّ و العبد و المشرك علي امرأة في طهر واحد و ادّعوا الولد اقرع بينهم، و كان الولد للذي يقرع» «2».

______________________________

(1) المصدر: ح 12.

(2) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 246

و خبر المختار قال: «دخل أبو حنيفة علي أبي عبد اللّه عليه السلام، فقال له أبو عبد اللّٰه عليه السلام:

ما تقول في بيت سقط علي قوم فبقي منهم صبيّان؛ أحدهما حرّ و الآخر مملوك لصاحبه، فلم يعرف الحرّ من العبد؟ فقال أبو حنيفة: يعتق نصف هذا و نصف هذا. فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: ليس كذلك، و لكنه يقرع بينهما فمن أصابته القرعة فهو الحرّ، و يعتق هذا فيجعل مولي لهذا» «1».

و صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت، فادّعوه جميعاً، أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده و يُرَدُّ قيمة الولد علي صاحب الجارية. قال عليه السلام: فان اشتري رجل جارية فجاء رجل فاستحقها، و قد ولدت من المشتري ردّ الجارية عليه، و كان له ولدها بقيمته» «2». و مثله صحاح الحلبي و سليمان و ابن مسلم «3».

و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل قال: «أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث سبعة جميعاً. قال عليه السلام: يقرع بينهم و يعتق الذي خرج سهمه» «4». و المقصود أنّ الرجل نذر عتق أوّل مملوك يملكه. فملك سبعة عبيد في آن واحد فحكم الامام بتعيين متعلّق النذر بالقرعة.

و من هذا القبيل النصوص الواردة في تعارض البينتين «5» و غير ذلك من

______________________________

(1) المصدر: ح 7.

(2) المصدر: ح 14.

(3)

التهذيب: ج 6، ص 240، ح 26، و ج 8، ص 169، ح 15، و ج 9، ص 348، و الكافي: ج 5، ص 490.

(4) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم: ح 15.

(5) راجع الكافي: ج 7، ص 420، و التهذيب: ج 6، ص 235، ح 9 و 8، و ص 334، ح 7، و ص 236، ح 13.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 247

النصوص الواردة في مختلف الأبواب. و سيأتي الإشارة إلي هذه النصوص في بيان مجاري القاعدة. و هذه النصوص الخاصة الدالة علي مشروعية القرعة في الجملة متواترة، بل فوق حدّ التواتر.

الطائفة الثانية: ما دلّ بعمومه أو إطلاقه علي حجية القرعة في مطلق موارد الاشتباه و التردد.

فمن هذه الطائفة صحيحة أبي بصير رواه الصدوق باسناده عن عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر- في حديث- قال عليه السلام: «قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله: ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوَّضوا أمرهم إلي اللّٰه، إلّا خرج سهم المحقّ» «1».

لا إشكال في صحة سندها؛ نظراً إلي صحة سند الصدوق إلي عاصم و وثاقته و وثاقة أبي بصير، كما لا إشكال في تماميته دلالتها.

و مثله ما ورد في صحيح جميل- في حديث- عن زرارة أنّه قال: «إنّما جاءَ الحديث بأنه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه، ثمّ اقترعوا، إلّا خرج سهم المحق» «2».

و منها: صحيح محمد بن حكيم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن شي ءٍ. فقال لي كلُّ مجهول ففيه القرعة، قلت له: إنّ القرعة تخطئ و تصيب. قال عليه السلام: كلّ ما حكم اللّٰه به فليس بمخطئ» «3».

هذه الرواية لا إشكال في دلالتها علي حجية القرعة،

بل يستفاد منها: بقرينة المقابلة إصابة القرعة إلي الواقع. و من هنا يمكن الاستدلال بها علي أمارية القرعة.

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من أبواب كيفية الحكم، ح 5 و 6.

(2) المصدر: ح 4.

(3) المصدر: ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 248

إن قلت: إنّ الامارة لا بدّ لها من كاشفيته و طريقية إلي الواقع، و لو ناقصةً، كما في الظنون. و لا كاشفية للقرعة و لو ناقضةً، فكيف يكون أمارة؟!.

و من هنا استظهر السيد الامام الراحل عدم أمارية القرعة من صحيحة أبي بصير؛ حيث قال: «إنّ الظاهر من قوله: ما يقارع قوم فوضوا إلي اللّٰه إلا خرج سهم المحق، إن القرعة ليست أمارة علي الواقع بل اللّٰه تعالي إذا فوض الأمر إليه يخرج سهم المحق بارادته و أسباب غيبة و هذا غير أماريتها» «1».

قلت: إن الكاشفية و الطريقية كما تكون بمقتضي ذات الأمارة، كذلك يمكن أن تكون بارادة اللّٰه تعالي الذي إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون. و عليه فكون القرعة كاشفةً عن الواقع في موارد تعلّق إرادة اللّٰه بمكان من الامكان ثبوتاً. و أما وقوع ذلك و إثباته، فقد ثبت باخبار الشارع عن ذلك في الصحيحة المزبورة و ما سيأتي من نظائرها.

و الملاك في الأمارية نفس الطريقية و الكاشفية عن الواقع، سواءٌ كان وجدانياً محضاً كالقطع، أو وجدانياً ناقصاً بتتميم كشفه الناقض تعبّداً كما في الظنون المعتبرة، أو التعبّد المحض، كما في القرعة؛ حيث يستفاد ذلك من النصوص المعتبرة المستفيضة الواصلة من الشارع، منها الصحيحة المزبورة.

و أما سنداً، فلا إشكال في صحة طريق الصدوق إلي محمد بن حكيم. و أما محمد بن حكيم فالأقوي ثبوت وثاقته؛ نظراً إلي عدم ورود أيّ

قدح فيه مع ما له من الاشتهار و المعروفية؛ حيث كانت له كتاب و روايات كثيرة و روي عنه أجلّاءُ الأصحاب. و يدل علي وثاقته ما نقله الكشي بطريق صحيح عن حمّاد، قال: «كان أبو الحسن عليه السلام يأمر محمد بن حكيم أن يجالس أهل المدينة في مسجد رسول

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 354.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 249

اللّٰه صلي الله عليه و آله و أن يكلّمهم و يخاصمهم حتي كلّمهم في صاحب القبر فكان إذا انصرف إليه قال له: ما قلت لهم و ما قالوا لك و يرضيٰ بذلك منه». «1» وجه الدلالة أنّه لو لم يكن ثقة عند الامام عليه السلام لم يكن عليه السلام يأمره ببيان أمر المذهب و الاحتجاج مع المخالفين.

فان الاحتجاج ربما يقتضي نقل حكم و بيان أمر من أحكام المذهب.

فالأقوي وثاقة الرجل.

و منها: صحيح منصور بن حازم قال: «سأل بعض أصحابنا أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسئلة فقال: هذه تخرج في القرعة ثمّ قال: فأيُّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه تعالي أ ليس اللّٰه يقول: فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» «2».

لا إشكال في تمامية دلالة هذه الصحيحة علي حجية القرعة، بل قوله عليه السلام:

«فأي قضية أعدل من القرعة؟» بالاستفهام الانكاري، يدل علي قوة اعتبارها.

و منها: قول الصادق عليه السلام في صحيحة إبراهيم بن عمر بن أبي عبد اللّه عليه السلام- في حديث- قال عليه السلام: «و القرعة سنّة» «3». وجه الدلالة أنّها لا يمكن أن تكون سنة مع عدم اعتبارها شرعاً، بل إنما تكون سنّة إذا كانت حجّة في نظر الشارع. و ذلك لأنّ القرعة ليست في ماهيتها إلّا لتعيين الشي ء

المشتبه و لا تُستعمل إلّا لتمييز الحق المتنازع فيه، فاذا كانت مستحبة و ندب إليها الشارع و جرت سنة النبي صلي الله عليه و آله عليه، لا مناص من الالتزام بمشروعيتها و إمضائها عند الشارع. و معني ذلك ترتيب الآثار عليها في نظر الشارع، و ليس ذلك إلّا حجّيتها شرعاً.

و منها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام- في حديث- قال: «كان

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ب 11، من كيفية الحكم، ح 1.

(2) المصدر: ح 17.

(3) المصدر: ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 250

علي عليه السلام سهم بينهم» «1». فانه يدل علي استمرار الاقتراع في تعيين بعض المملوكين للعتق. فلا بد من كونه حجة شرعاً.

و منها: ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللئالي بقوله: و روي في الصحيح عن النبي 9، قال: «في كل أمر مشكل القرعة». «2»

و قال في موضع آخر: «و نقل عن أهل البيت:: «كل أمر مشكل فيه القرعة». «3»

و منها: ما رواه في دعائم عن أمير المؤمنين و أبي جعفر و أبي عبد اللّه صلي الله عليه و آله، أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل. قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «و أيُ حكم في الملتبس أثبت من القرعة أ ليس هو التفويض إلي اللّٰه جل ذكره؟» ثمّ ذكر قصة يونس و مريم و عبد المطلّب «4».

قوله عليه السلام: «أوجبوا الحكم بالقرعة …» أي حكموا بالالتزام و العمل بما خرج بالقرعة، و بعبارة اخري: أنفذوا الحكم بمؤدّي القرعة و ألزموا المقترعين علي العمل بما أخرجته القرعة.

و ليس ذلك بمعني وجوب أصل القرعة. فلا ينافي استحبابها المستفادة من قوله: «و القرعة سنّة»، و لا إناطة

الاقتراع بتراضي المتنازعين علي القرعة، كما عليه جماعة من الفقهاء. فليست القرعة واجبة بالوجوب التكليفي، بل إنّما تجب بالوجوب الوضعي بمعني حجيتها وجوب ترتيب الأثر علي مؤدّاها. و لا ينافي ذلك استحبابها التكليفي.

______________________________

(1) المصدر: ح 3.

(2) عوالي اللئالي: ج 2، ص 285، ح 25.

(3) المصدر: ص 112، ح 308.

(4) مستدرك الوسائل: ب 11، من كيفية الحكم، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 251

نعم لا إشكال في وجوب الاقتراع علي الحاكم إذا توقف فصل الخصومة و انقاذ حق المستحق عليها، بهذا العنوان، لا بمعني وجوب القرعة بذاتها، و لو في مواردها و مع تحقق شرائطها.

و منها: ما رواه محمد بن الحسن الصفار عن احمد بن محمد عن الحسين بن سعيد و البرقي عن النضر بن سويد عن يحيي الحلبي عن عبد اللّه بن مسكان عن عبد الرحيم، قال: «سمعت ابا جعفر عليه السلام يقول: إنّ علياً عليه السلام إذا ورد عليه أمرٌ لم يجي ء به كتاب و لا سنة، رجم به- يعني ساهم-، فأصاب. ثمّ قال عليه السلام: يا عبد الرحيم و تلك من المعضِلات» «1». هذه الرواية معتبرة بلحاظ عبد الرحيم القصير؛ إذ لم يرد فيه أيّ قدح و لا ذمّ من أحد. مع أنّه من المعاريف و نقل عنه أجلّاء الأصحاب كما في سند هذه الرواية مع ورود روايات دلّت علي حسن حاله، مضافاً إلي وقوعه في طريق تفسير القمي.

و مثلها روايات اخري مروية بطريق عبد الرحيم «2».

و دلّ علي ذلك صحيح موسي بن القاسم البجلي رواه محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن موسي عن موسي البجلي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام

إذا ورد عليه ما ليس في كتاب و لا سنة نبيه، فيرجُمُه، فتصيب ذلك، و هي من المعضِلات» «3».

و جاء في متن السند موسي الحلبي؛ و لكنه غلط و الصحيح البجلي؛ حيث لم يعهد موسي الملقب بالحلبي في الرواة. و أما موسي بن القاسم البجلي فهو

______________________________

(1) بصائر الدرجات/ لمحمد بن الحسن الصفار: ص 409، ح 4.

(2) المصدر المزبور: ص 410- 409.

(3) بصائر الدرجات: ص 410، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 252

من اجلّاء الرواة و صاحب الكتب. و روي محمد بن الحسن الصفار كتبه كما صرح به النجاشي و الشيخ «1».

هذه الطائفة من النصوص لا إشكال في دلالتها علي مشروعية القرعة و لزوم العمل بها في كل معضل؛ نظراً إلي عموم التعليل الوارد في ذيلها بقوله عليه السلام:

«و هي من المعضلات». و هي تشمل بعمومها و إطلاقها كلّ مورد اشتبه الحقوق، و اشكل إخراج سهم المحق و لم يمكن تعيينه بتنصيف أو تراضٍ علي تعديل السهام أو مصالحة و نحو ذلك. و تدل علي مشروعية القرعة في هذه الموارد. و ذلك لصدق المشكل و تحقق موضوع القرعة بذلك.

و يدل علي أمارية القرعة بدلالة قوله: «فيرجمه فتصيب ذلك» أي فيقترع فتصيب الواقع. في نظير صحيحة محمد بن حكيم في الدلالة.

و قد يشكل علي عمومية قاعدة القرعة و العمل بعموم النصوص الواردة فيها، بلزوم تخصيص الأكثر من ذلك؛ إذ ربّ مشكل و مشتبه و ملتبس و مجهول لم يلتزم الأصحاب بالقرعة فيه.

و الجواب: أنّ عموم «كل مجهول» لا بد من تفسيره بمجهول لم يرد فيه كتاب و لم تجر فيه سنة فصار من المعضلات كما صرّح بذلك في معتبرة عبد الرحيم و صحيح

موسي البجلي، و قد تقدّم ذكرهما آنفاً.

سيرة العقلاء
اشارة

و أما سيرة العقلاء، فلا إشكال في استقرار سيرتهم علي الاقتراع في الامور المشكلة التي لا سبيل للعقل و القانون إلي حلّها، و لا يوجد ساير الامور المرجّحة لحلّ المشكلة و التخلص

______________________________

(1) راجع معجم رجال الخوئي: ج 20، ص 78.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 253

من العويصة في موارد اشتباه الحقوق.

كما أشار إليه السيد الامام قدس سره بقوله: «و محصّل الكلام: أنّه لا إشكال في بناءِ العقلاء علي العمل بالقرعة في موارد تزاحم الحقوق، مع عدم الترجيح عندهم …

و بالجملة: القرعة لدي العقلاء أحد طرق فصل الخصومة، لكن في مورد لا يكون ترجيحٌ في البين و لا طريق لاحراز الواقع» «1».

و أما الاستدلال بقصة يونس النبي صلي الله عليه و آله المحكية في القرآن لإثبات جريان سيرة العقلاء في القرعة، كما عن السيد الامام الراحل قدس سره «2»، فيمكن المناقشة فيه بأن أصحاب السفينة لعلّهم كانوا متشرعين ببعض الأديان السالفة. فان احتمال ذلك يهدم أساس الاستدلال المزبور. و كذا قضية تكفّل مريم عليها السلام و مقارعة بني يعقوب و عبد المطلّب. فكلّ ذلك يحتمل كونه من أحكام الأديان السالفة.

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 346.

(2) حيث قال: و يشهد لما ذكرنا مضافاً إلي وضوحه: قضية مساهمة أصحاب السفينة التي فيها يونس فعلي نقل كانت المقارعة من قبيل الأوّل و العثور علي العبد الآبق و علي نقل كانت من قبيل الثاني لأنّهم أشرفوا علي الغرق فرأوا طرح واحد منهم لنجاة الباقين و هذا أقرب إلي الاعتبار، و معلوم أن مساهمتهم لم تكن لدليل الشرعي بل لبناء عملي عقلائي بعد عدم الترجيح بينهم بنظرهم، و قضية مساهمة أحبار

بيت المقدس لتكفّل مريم عليها السلام كما أخبر بها اللّٰه تعالي إذ قال: و ما كنت لديهم إذ يلقون اقلامهم أيّهم يكفّل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون، تدل علي أنّ العقلاء بحسب ارتكازهم يتشبثون بالقرعة عند الاختصام و عدم الترجيح، و هذه من قبيل الثاني كما أنّ غالب المقارعات العقلائية لعلها من هذا القبيل كالمقارعات المتداولة في هذا العصر.

و كذا يشهد لتعارفها قضية مقارعة بني يعقوب و مقارعة رسول اللّٰه قريشاً في بناء البيت، بل مقارعته بين نساءه، فان الظاهر أنّها كانت من جهة الأمر العقلائي لا الحكم الشرعي./ الرسائل: ج 1، ص 346.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 254

و العمدة في إثبات السيرة جريانها بين العقلاء في زماننا هذا، و استقرار سيرتهم علي ذلك. و لا دليل علي عدم وجودها في زمان المعصومين صلي الله عليه و آله. بل الشواهد الروائية تثبت إمضاؤها.

و لكن الالتزام بكون سيرة العقلاء دليلًا مستقلًا علي مشروعية القرعة مشكلٌ.

و ذلك لأنّه يستفاد من النصوص المعتبرة الواردة في القرعة أولًا:

طريقيتها إلي الواقع، بل إصابتها إليه دائماً مع تحقق شرائطها المستفادة من النصوص.

و ثانياً: اشتراط تفويض الأمر إلي اللّٰه في أمارية القرعة و إصابتها إلي الواقع و خروج سهم المحق بها، بل يستفاد اعتبار ذلك في أصل مشروعيتها؛ بمعني أن أراده اللّٰه تعالي لم تتعلق باراءة الواقع و إخراج سهم المحق بالقرعة فيما إذا لم يفوّض المتقارعون أمرهم اللّٰه و لم ينقطعوا إلي ساحته تعالي.

و لكن شي ءٌ من هاتين الخصوصيتين ليس داخلًا في مجري سيرة العقلاء؛ حيث إنّ سيرتهم إنّما جرت علي القرعة لأجل تعيين المشتبه و حلّ المشكل ظاهراً؛ نظراً إلي عدم افادتها الظن بالواقع

و عدم طريقية ذاتية لها إلي الواقع؛ حتي يعاملوا معها معاملة الطريق إلي الواقع و الكاشف عنه.

كما أنّ تفويض الأمر إلي اللّٰه ليس داخلًا في مجري السيرة العقلائية الجارية في القرعة؛ حيث لا يرون لذلك دخلًا و لا اعتباراً في القرعة.

و عليه فما جرت عليه سيرة العقلاء في باب القرعة ليس مورد امضاء الشارع، بل إنّما دلّت النصوص علي مشروعية القرعة علي نحو آخر مقيد بقيد خاص، أعني به طريقيتها إلي الواقع و الاصابة إلي الحق بشرط تفويض الأمر

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 255

إلي اللّٰه تعالي.

و عليه فليست السيرة العقلائية الجارية في باب القرعة ممضاةً للشارع علي ما هي عليها من الخصوصية، بل يستفاد من نصوص القرعة تخطئتها.

فتحصّل من ذلك عدم كون السيرة العقلائية الجارية في القرعة دليلًا مستقلًا في المقام؛ لأنّ القرعة الشرعية غير القرعة العقلائية، و إن لم تصل إلي حدّ الحقيقة الشرعية.

إزاحة شبهةٍ من سيرة المتشرعة

قد يقال: إنّه لم يُر في مورد من الموارد المنصوصة المفتي بها من موارد القرعة أن يقترع الفقهاءُ فيها و يكتفوا بها. و لم يسمع في مورد أن يحكم قاض من قضاتنا باستناد القرعة في زماننا.

بل في ارتكاز المتشرعة ليست القرعة في مورد من هذه الموارد بعنوان دليل شرعي قابل للاحتجاج. و لأجل ذلك قد يناقش في أصل حجية القرعة.

و الجواب: أنّ النصوص المعتبرة المتظافرة قد دلّت علي اعتبار القرعة و مشروعيتها، و أفتي فقهاؤنا بها و لم يعرضوا عن العمل بنصوصها في مقام الفتوي، بل اتفاق فقهاء الشيعة الامامية علي وجوب العمل بالقرعة في مواردها، من القطعيات و المسلّمات، و غير قابل للانكار.

و مع اتفاق نصوص الكتاب و السنة و فتاوي الأصحاب علي مشروعية القرعة،

لا يضرّ باعتبارها عدم التزام المؤمنين و المتشرعين بالعمل بها. و لا سيّما أنّ فقهاء زمان الغيبة لم يكونوا مبسوطي الأيدي في إجراء الأحكام و رفع الخصومات حتي يمكن إحراز اتصال السيرة المدّعاة بزمن المعصومين عليهم السلام.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 256

و أما قضاتنا المعاصرين و متشرعي عصرنا، لا ربط لعملهم بالسيرة الكاشفة عن نظر الشارع؛ لعدم ملازمةٍ بينهما؛ حيث لا طريق لنا إلي إحراز اتصالها بزمان الشارع.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 257

«شرائط القرعة»

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 258

1- هل يعتبر تفويض الأمر إلي اللّٰه في القرعة.

2- هل يشترط كون الاقتراع بيد الامام عليه السلام أو نائبه؟

إنّ من أهمّ شرائط جريان القرعة ثبوت واقع لموردها؛ بأن عُلم وجود حق معيّن في الواقع، و لكن لم يعلم بعينه، فالقرعة إنّما تكشف عن ذلك الواقع المعلوم إجمالًا و تعيّنه. فلا تجري فيما لا واقع له كما لو طلق الزوج إحدي زوجاته و لم يقصد واحدة منهنّ بعينها أو أعتق المولي أحد عبيده كذلك، فلا تجري حينئذٍ قاعدة القرعة لتعيين الزوجة المطلقة أو العبد المعتق. كما أشار إلي ذلك السيد الخوئي بقوله:

«إنّ المستفاد من أدلّة القرعة اختصاصها بموارد اشتباه الواقع، بأن يكون له تعين. و اشتبه علي المكلّف، كما في المثال الذي ذكرناه. و يدل عليه قوله عليه السلام:

ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه، ثمّ اقترعوا إلّا خرج سهم المحق و قوله عليه السلام في ذيل رواية بعد قول الراوي: إنّ القرعة تخطي و تصيب، كلما حكم اللّٰه به فليس بمخطئ.

فلا يرجع إلي القرعة في مورد لا تعين له في الواقع أيضاً، كما إذا أطلق

أحد إحدي زوجاته بلا قصد التعيين. بأن يقول إحدي زوجاتي طالق، فعلي القول بصحة هذا الطلاق لا يمكن الرجوع إلي القرعة، لتعيين المطلقة. هذا إذا لم يرد نص خاص. و إلّا فلا مانع من الرجوع إلي القرعة، و إن كان المورد مما ليس له تعيين واقعي كما ورد النص- في رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهو حر، فورث ثلاثة- أنّه يقرع بينهم. فمن أصابه القرعة أعتق» «1».

و لكن كلام هذا العَلَم قد ينقض بصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل

______________________________

(1) مصباح الاصول: ج 3، ص 343.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 259

قال: «أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث سبعة جميعاً. قال عليه السلام: يقرع بينهم و يعتق الذي خرج سهمه» «1»؛ نظراً إلي أنّ الرجل ملك العبيد كلّهم في آن واحد و بسبب واحد، فلا أوّل بين العبيد المملوكين في الواقع في مفروض الرواية مع أنّها دلّت علي تعيين الأوّل بالقرعة.

و لكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ في مورد هذه الرواية بعد صحة شراء العبيد و تحقق الملاك يثبت حق العتق لأحدهم في الواقع و إن لم يعلم المستحق للعتق واقعاً. و هذا بخلاف ما لو لم يكن في الواقع شيئاً. كمثل قوله: «إحدي زوجتي طالق»؛ حيث لم يتحقق هناك أصل الطلاق، حتي يعيّن الطلاق منهنّ.

هل يعتبر تفويض الأمر إلي اللّٰه في القرعة و هل يعتبر في القرعة تفويض الأمر إلي اللّٰه تعالي أم لا؟

يظهر من نصوص المقام اعتبار تفويض الأمر إلي اللّٰه في القرعة بتوطين النفس علي تسليم أمر اللّٰه و قبول ما خرج بالقرعة معتقداً بأنه حكم اللّٰه تعالي. فلو كان الاقتراع لداعي آخر كالتجربة أو دواعي مادّية- من دون توكيل و لا تفويض إلي اللّٰه تعالي- لا ينكشف بها الواقع. و الدليل علي ذلك

تعليق خروج سهم المحق علي تفويض الأمر إلي اللّٰه في صحيح أبي بصير و جميل «2».

و مما دلّ علي ذلك جواب زرارة عن سؤال طيّار في صحيح جميل قال: «قال الطيّار لزرارة ما تقول في المساهمة أ ليس حقاً؟ قال: زرارة: بلي هي حق، فقال الطيّار:

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم: ح 15.

(2) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 4 و 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 260

أ ليس قد ورد أنّه يخرج سهم المحق؟ قال: بلي، قال: فتعال حتي ادّعي أنا و أنت شيئاً ثمّ نساهم عليه و ننظر هكذا هو؟ فقال له زرارة: إنّما جاء الحديث بأنه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه ثمّ اقترعوا إلّا خرج سهم المحق، فأما علي التجارب فلم يوضع علي التجارب» «1».

و يدل علي ذلك عدة نصوص معتبرة اخري سبق ذكرها الاستدلال بالنصوص العامة.

وجه الاستدلال بها ظهورها في تفريع خروج سهم المحق و تعلق إرادة اللّٰه به علي تفويض الأمر عليه.

و لا سيما بقرينة المقابلة في قوله: «و أما علي التجارب فلم يوضع …» أي إنّما وضعت علي ما ليس للتجارب؛ بأن كان الاقتراع لتعيين سهم المحق المتنازع فيه جدّاً بعد تفويض الأمر إلي اللّٰه.

و قد أجاد السيد المراغي في بيان ذلك؛ حيث قال: «إنّ ظاهر اعتبار تفويض الامر إلي اللّٰه تعالي في صحة القرعة بمعني: أن يوطّن المتقارعون أنفُسهم علي تسليم ما أمر به اللّٰه و إطاعته حتّي ينكشف لهم الحق؛ فلو اتفق ذلك منه تجربةً أو من دون التفاتٍ إلي اللّٰه تعالي بطلب البيان فلا عبرة بذلك.

و يدل علي ذلك قيد التفويض المأخوذ في الروايات، و صرح ببعض ذلك زرارة

في جواب الطيار، كما عرفت» «2».

و يظهر من المحقق المزبور كون التفويض واجباً تكليفاً؛ حيث قال: «و الظاهر وجوب هذا التوكل و التفويض علي أهل المقارعة عند تعيّن القرعة

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 4.

(2) العناوين: ج 1، ص 372.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 261

مقدمةً للواجب» «1». وجه الاستظهار تعبيره بمقدمة الواجب و لمّا بني علي وجوب القرعة في موردها واجباً تكليفياً فلا مناص له من الالتزام بكون التفويض أيضاً واجباً تكليفياً؛ لوجوب ما لا يتم الواجب إلّا به.

و لكنّه غير وجيه بل الظاهر كونه واجباً غيرياً وضعياً؛ حيث يستفاد من النصوص شرطيته للقرعة.

و ذلك لأنّ مقدمة الواجب إنّما تجب تكليفاً إذا كان ذو المقدمة واجباً تكليفاً.

و القرعة ليست من الواجبات التكليفية حتي تجب مقدمتها تكليفاً، كما يجب شراء الماء للوضوء إذا توقف عليه الوضوء لإتيان صلاة الفريضة المضيّق وقتها و ذلك لوجوب نفس الوضوء حينئذٍ تكليفاً.

هل يشترط كون الاقتراع بيد الامام عليه السلام أو نائبه؟

قال في العناوين: «و هل القرعة وظيفة الامام عليه السلام خاصة أو تعمّ كلَّ أحدٍ؟ وجهان» «2».

و الأقوي جواز القرعة لكل أحد و عدم اختصاصها بالامام عليه السلام بل لا إشكال في ذلك. و ذلك لانه مقتضي عمومات القرعة فانّ عموماتها- كما ستعرفها- تنفي اعتبار ذلك في القرعة، بل تنفي اعتبار كل شي ءٍ غير تفويض الأمر إلي اللّٰه تعالي. و لصراحة بعض النصوص الدالة بالخصوص علي مشروعية القرعة من غير الامام عليه السلام.

كصحيحة الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في مولود ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء، قال عليه السلام: يقرع الامام أو المقرع به يكتب علي سهم عبد اللّه و علي سهم

______________________________

(1) المصدر.

(2) العناوين: ج

1، ص 364.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 262

أمة اللّٰه ثمّ يقول الامام أو المقرع: …» «1».

و صحيحة محمد بن عيسي عن الرجل: «أنّه سئل عن رجل نظر إلي راع نزا علي شاة. قال: ان عرفها ذبحها و أحرقها، و إن لم يعرفها قسّمها نصفين ابداً حتي يقع السهم بها فتذبح و تحرق و قد نجت سائرها» «2».

و أما مرسلة حماد عن أحدهما عليهما السلام قال: «القرعة لا تكون إلّا للامام عليه السلام»، «3» ضعيفة بالارسال.

و أما النصوص الخاصّة الواردة في اقتراع النبي صلي الله عليه و آله و الامام عليه السلام، فانها حاكية عن قضايا واردة في وقائع و لا تدل علي الاختصاص.

فمن هذه النصوص صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت، فادّعوه جميعاً أقرع الوالي بينهم.

فمن قرع كان الولد ولده و يردُّ قيمة الولد علي صاحب الجارية» «4». حيث قال: «أقرع الوالي بينهم» فان اسناد الاقتراع إلي الوالي بلحاظ كون سؤال الراوي عن مورد النزاع و المخاصمة.

و منها: معتبرة اسماعيل بن مرّار عن يونس قال: «في رجل كان له عدّة مماليك، فقال: أيّكم علّمني آية من كتاب اللّٰه فهو حرّ، فعلّمه واحد منهم ثمّ مات المولي و لم يدر أيهم الذي علمه أنّه قال: يستخرج بالقرعة، قال لا يستخرجه إلّا الامام لأنّ له علي القرعة كلاماً و دعاءً لا يعلمه غيره» «5». و قد عبّرنا عنها بالمعتبرة لعدم ورود

______________________________

(1) الكافي: ج 7، ص 158، ح 2.

(2) التهذيب: ج 9، ص 43، ح 182.

(3) التهذيب: ج 6، ص 240، ح 23.

(4) الوسائل: ب 13، من أحكام كيفية

الحكم، ح 14.

(5) الوسائل: ب 34، من كتاب العتق، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 263

توثيق صريح في اسماعيل بن مرّار، و إنّما حكما باعتبار ثمانية، فلو كان فيه قدح و ضعف لبان و ظهر.

هذا، مع اعتماد ابن الوليد علي رواياته، مع وقوعه في أسناد تفسير علي ابن إبراهيم.، و إن ناقشنا في أمارية الأخيرين وحدهما علي الوثاقة إلّا أن مجموع هذه القرائن لا إشكال في كشفها عن وثاقة الرجل و لا أقل من اعتبار رواياته.

بناءً علي المبني المختار، إلّا أنّ الكلام في دلالتها علي اعتبار كون الاقتراع بيد الامام عليه السلام أو نائبه؛ نظراً إلي ما ورد فيه من التعليل؛ حيث إنّ اعتبار دعاءٍ أو كلام خاص في القرعة لا شاهد له من النص و الفتوي، بل إنّهما متفقان علي خلافه و لم يلتزم به أحدٌ فيحمل علي الاستحباب؛ نظراً إلي ما قلنا من ظهور العمومات في نفي اعتبار أيّ شي ء- غير تفويض الأمر إلي اللّٰه تعالي و وقوع المشكل و المعضل- في مشروعية القرعة، و إلي صراحة بعض النصوص الخاصّة في مشروعية قرعة غير الامام عليه السلام ممن وقعت له المشكلة.

بل إنّ قوله عليه السلام: «ليس من قوم تقارعوا» في صحيح أبي بصير، و قوله عليه السلام «ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه ثمّ اقترعوا …» في صحيح جميل ظاهرٌ في عدم اختصاص القرعة بالامام عليه السلام و نائبه.

و لا سيما بدلالة قوله عليه السلام: «القرعة سنة»؛ لظهورها لفظ السنة في الاستحباب عند عدم القرينة علي شمولها للوجوب.

و لا يخفي أنّ للقرعة موارد من العبادات و الحقوق و المعاملات و المخاصمات، سيأتي بيانها في مجاري القرعة.

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 264

أحكام القرعة

اشارة

1- هل القرعة لازمة أو جائزة؟.

2- كيفية القرعة.

3- هل القرعة تصلح لإيجاد الحق.

4- حكم موارد خطاء القرعة.

5- حكمها مع معارضة ساير الأدلة.

هل القرعة لازمة أو جائزة؟

يقع الكلام تارة: في أنّ القرعة هل هي واجبة تكليفاً في الموارد المشكلة أم لا؟ و اخري: في وجوب ترتيب الأثر عليها بعد إعمالها. فالكلام في مقامين.

أما أصل الاقتراع، فيظهر من السيد المراغي وجوبه تكليفاً في موارد القرعة و أنه علي نحو العزيمة، لا الرّخصة؛ حيث قال:

«و أما لو كان من المشكلات، فالأقوي لزوم القرعة و أنّها عزيمة؛ لظاهر أغلب ما مرّ من النصوص، فانها قريبة من الصراحة في لزوم إعمال القرعة» «1».

و لكنه خلاف مقتضي التحقيق؛ لعدم دلالة شي ءٍ من نصوص القرعة علي وجوبها تكليفاً؛ بحيث كان الامتناع حراماً و يعاقب عليها الممتنع. و أما توقف حلّ المشكلة عليها، فيمكن حلُّها بالرجوع إلي الحاكم ليجبر الممتنع عليها، فانّ ذلك من شئون ولاية الحاكم. فلو حكم بالقرعة يجب طاعته و يحرم الامتناع عن

______________________________

(1) العناوين: ج 1، ص 369.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 265

القرعة حينئذٍ؛ لا لأنّها واجبة تكليفاً، بل لأنّ الامتناع نقض حكم الحاكم و ردّه، و هو حرام بلا إشكال.

و أما ترتيب الأثر علي القرعة بعد إعمالها، فيظهر من السيد المراغي «1» أنّ وجوبه تابعٌ لوجوب نفس القرعة. فجعل المقام الثاني تابعاً في الحكم للمقام الأوّل.

و فيه أيضاً: أنّ ظاهر إطلاقات القرعة وجوب العمل بها و حرمة مخالفتها في مطلق موارد مشروعيتها. فكل مورد كانت القرعة فيه مشروعة، فاقتُرع، يجب العمل بها و ترتيب الأثر عليها. و الوجه في ذلك دلالة صحاح أبي بصير و جميل و محمد بن حكيم علي خروج سهم المحق بارادة اللّٰه تعالي و

حكمه و أنّ ما خرج بحكم اللّٰه تعالي غير مخطئ. و عليه فلا إشكال في كون مخالفة القرعة مخالفة حكم اللّٰه تعالي. و لا ريب في حرمة مخالفة حكم اللّٰه و وجوب موافقته.

فاتضح بذلك عدم إناطة وجوب ترتيب الأثر علي القرعة و حرمة مخالفتها بوجوب أصل الاقتراع تكليفاً، بل إنّما هو تابع لأصل مشروعيتها.

كيفية القرعة

و لا يخفي أنّه لم ترد كيفية القرعة في نصٍّ خاصٍّ، إلّا نصوص الاستخارة بالبنادق و الرقاع و المساهمة. و هذه الروايات متظافرة و سيأتي ذكر هذه النصوص مفصّلًا في تحقيق الاستخارة. و قد جاءت كيفيتها أيضاً في كلمات الفقهاء، كما ذكرها في الجواهر «2».

و المعيار مراعاة عدم مداخلة إرادة البشر و علمه في تعيين المشتبه. و

______________________________

(1) العناوين: ج 1، ص 370.

(2) جواهر الكلام: ج 40، ص 344- 347.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 266

مراعاة الستر و تعديل السهام و تفويض الأمر إلي اللّٰه و التعيين بالاقتراع فقط، من غير اطلاع أحد علي المكتوب في الأوراق أو ساير الخصوصيات قبل الاخراج.

و قال في الجواهر في بيان كيفية القرعة في القسمة: «بأن يُكتب أسماءُ الشركاء أو السهام، كلٌّ في رقعة و تصان و يؤمر من لم يطّلع علي الحال باخراج إحداها علي اسم أحد المتقاسمين أو أحد السهام، هذا إن اتفقت السهام قدراً. و لو اختلفت، قسّم علي أقل السهام، و جعل لها أول يعيّنه المتقاسمون، و إلّا الحاكم و تكتب أسماؤهم، لا أسماء السهام؛ حذراً من التفريق، فمن خرج اسمه أولًا أخذ من الأوّل، و اكمل نصيبه منها علي الترتيب، ثمّ يخرج الثاني إن كانوا أكثر من اثنين، و هكذا». «1»

و أنت تري أنّه لم يستند في كيفية

القرعة إلي نصّ أو إجماع أو دليل آخر.

و لكن وردت في الاستخارة بالرقاع و البنادق و المساهمة نصوص قد بيّن فيها الامام عليه السلام كيفية هذه الاستخارات بما يكون من قبيل القرعة في ماهيته و كيفيته.

و سيأتي بيان هذه النصوص في الرسالة التي أفردناها في الاستخارة عقيب مباحث القرعة.

و قال في المسالك- في ذيل كلام المحقق في بيان كيفية القرعة- ما لفظه: «و ما ذكره من كتبة الأسماء و السهام و وضعه في بندقة من طين و نحوه، هو المشهور في استعمال الفقهاء، و لكن لا يتعيّن. فلو جعلها بالأقلام و الحصي و الورق و ما جري مجراها مع مراعاة الستر، كفي». «2»

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 26، ص 309.

(2) مسالك الأفهام: ج 14، ص 41.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 267

و قال في الجواهر- بعد نقل كلام صاحب الشرائع في كيفية القسمة-: «و الظاهر عدم وجوب خصوص كتابة الرقاع و عدم الصون في ساتر، بل و عدم وجوب كون المأمور مكلفاً، بل و غير ذلك من القيود المزبورة؛ إذ المراد حصول التعيين من غير اختيارهما أو وكيلهما، بل يفوضان أمره إلي اللّٰه تعالي و يفعلان ما يفيده و إن كان الأولي الاقتصار علي المأثور و المعهود». «1»

و ليس مراده من المأثور ورود كيفية خاصة في رواية بل مراده الكيفية المأثورة في فتاوي الأصحاب.

و حاصل الكلام: أنّ المعيار في كيفية القرعة مراعاة الستر في كتابة السهام و الأسماء و الرُّقَع المكتوبة و كذا في إخراجها. و لا ريب في أولوية ما هو أدقّ رعاية و أقل كلفة و أخصر طريقاً من الطرق المذكورة، كما يستفاد ذلك من كلمات الشهيد «2» و غيره من

فحول المحققين.

هل القرعة تصلح لإيجاد الحق

و مما ينبغي البحث عنه في بيان مفاد نصوص القرعة، أنها تفيد تعيين حق المستحق الواقعي و إخراج سهمه في موارد الاشتباه و التردّد بمشية اللّٰه تعالي و إرادته. و من هنا يمكن استفادة أماريتها؛ حيث أنّها طريق إلي الواقع و كاشفة عنه.

كما أشار إلي ذلك في الجواهر بقوله: «و القرعة لاستخراج خصوص ما لكل منها من المصداق المتردد واقعاً، فتكشف حينئذٍ عن كون حقّه في الواقع ذلك، و لو لسبق علم اللّٰه تعالي بوقوعها عليه، و لا يحتاج بعد إلي عموم، أو عقد

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 40، ص 344- 345.

(2) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 268

آخر يقتضي الملك أو اللزوم فتأمل جيّداً فانّه دقيق نافع» «1».

و أما أنّها هل تصلح لإيجاد الحق بعد ما لم يكن ثابتاً لأحد قبل الاقتراع؟ أم لا، بل إنّما تختص بموارد تعيين الحق المشتبه و تمييزه بعد ما كان ثابتاً واقعاً و في علم اللّٰه لأحد المتنازعين قبل الاقتراع؟

ظاهر الكلام المزبور من صاحب الجواهر الثاني؛ حيث يستفاد من كلامه أنّ شأن القرعة تعيين الحق الثابت لأحد المتنازعين واقعاً لو لا القرعة.

و يستفاد ذلك من بعض نصوص المقام؛ نظراً إلي دلالة قوله عليه السلام: «إلّا خرج سهم المحق» في صحيح أبي بصير و جميل «2». وجه الدلالة أنّه لو لم يكن حقاً ثابتاً لمحقٍّ قبل القرعة، لا يصح التعبير بخروج سهم بالقرعة. فان خروج الشي ء فرع ثبوته في موطنه قبل آن الخروج.

و عليه فليست القرعة مشرّعةً لإيجاد حق لم يكن ثابتاً في الواقع لمحقٍّ قبلها، كما في بعض أنحاءِ الاقتراعات من جانب بعض البنوك لتعيين الجوائز. و بناءً علي هذا الأساس فلا يترتب عليها

أحكامها، من الملكية و اللزوم و عدم جواز الاقالة و غير ذلك.

حكم موارد خطاء القرعة

و أما في موارد العلم بخطإ القرعة كما لو عَلِم من له الحق واقعاً أنّ القرعة أخطأ، فلا إشكال في وجوب تبعيتها.

و مقتضي التحقيق في المقام عدم وقوع الخطاء في القرعة؛ نظراً إلي دلالة

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 26، ص 312.

(2) الوسائل: ب 13 من كيفية الحكم ح 6 و 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 269

النص علي ذلك، كيف و قد أخبرنا الامام المعصوم بأنها لا تُخطئ؟!

و علي فرض عدم تطابق القرعة مع الحق المعلوم عند صاحبه. فلا مناص من الالتزام بأن ما يظن صاحب الحق أنّه حقه غير مطابق للواقع الثابت في علم اللّٰه، فلعلّه اشتراه ممن اشتراه من غاصب كما في موارد الايادي الغاصبة و لكنه لا يعلم بذلك، بل إنّما اشتراه من البائع معتقداً بأنه ملكه، فتكشف الواقع حينئذٍ عن الواقع الثابت عند اللّٰه المستور عن الناس.

أو يكون هناك اختلال في نية المتقارعين؛ بأن اقترعوا علي التجارب أو لدواعي اخري من غير تفويض الأمر إلي اللّٰه، كما عرفت في صحيحة جميل مما جري بين الطيّار و بين زرارة من المباحثة في ذلك «1».

و لكن الذي يقتضيه التحقيق: أنّ ظاهر قوله عليه السلام: «إلّا خرج سهم المحق» و «فليس بمخطئٍ» إصابة القرعة للواقع في الحق المشتبه بين المتنازعين، و أنّه لا يخرج بالقرعة إلّا سهم المحق واقعاً، كما قلنا آنفاً. و علي فرض خطأه في مورد كما لو علم المالك الواقعي بأن سهمه خرج باسم غيره بالقرعة فالتوجيه الصحيح أنّ ذلك الحق إنّما يستحقه ذلك الغير واقعاً و أنّه مستحقه الواقعي في علم اللّٰه. و الوجه في ذلك

دلالة قوله عليه السلام: «كل ما حَكَم اللّٰه به فليس بمخطئٍ» علي دوران الواقع في موارد القرعة مدار حكم اللّٰه تعالي، لا الواقع الخارجي الثابت قبل القرعة.

و قد أجاد في العناوين في بيان ذلك؛ حيث قال: «و من هنا ظهر أنّ القرعة كما تكون كاشفة تكون مثبتةً. يحتملهما رواية ابن حكيم، حيث قال: إنّ القرعة تخطئ و تصيب؟ فقال عليه السلام: كل ما حكم اللّٰه به فليس بمخطئٍ.

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 270

و المراد علي الكشف أنّ ما حكم اللّٰه به مبيِّن للواقع قطعاً و لا يكون مخالفاً للواقع. و علي الاثبات يكون معناه ما حكم اللّٰه به فهو الصواب. فيكون جعلًا للحكم ابتداءً. فالفرض أنّ القرعة ليس بمخطئٍ، بل إمّا كاشف عن الواقع لو كان أحدهما معيّناً في الواقع، أو مثبت ابتداءً، لو لم يكن كذلك، و كلاهما متّبع.

نعم، هل يستفاد منه أنّ صورة تعيّن الواقع لو أخرجت القرعة خلافه يتّبع فيكون كالجعل الابتدائي، أولًا، بل الظاهر أنّ القرعة في هذا المقام لا تخرج إلّا الواقع؟ وجهان.

و الظاهر من قرينة السؤال: الثاني، لأنّ غرض السائل من الإصابة و الخطأ إبراز الواقع و عدمه، لا أنّه لو فرض حكم اللّٰه بخلاف ما كان معيّناً قبل القرعة في الواقع لكان هذا خطأً، فيكون قوله عليه السلام: ليس بمخطئٍ، أنّه لا يقع كذلك، بل لا يخرج إلّا نفس الواقع.

مع احتمال أن يقال: إنّ المراد في الجواب تنبيه السائل علي أنّ إصابة الواقع و العدم لا دخل له في الخطأ و الصواب، بل الميزان في الصواب و الخطأ حكم اللّٰه، فكل ما حكم اللّٰه به هو

الصواب، و لا دخل لكون شي ء معيّناً في نظرنا في ذلك فتأمل. و يصير الحاصل: أنّ حكم اللّٰه يكشف عن تعيّن خلافه» «1».

حكمها مع معارضة ساير الأدلّة

قد عرفت أنّ القرعة إنّما جُعلت لكل أمر مشكل لا مناص منها. و عليه فاذا كانت المشكلة قابلة للارتفاع بقيام أمارة كخبر الثقة أو البينة و نحوهما، لا تصل النوبة إلي القرعة.

و أما الاصول الجارية في موارد الشبهات الحكمية التكليفية أو الوضعية

______________________________

(1) العناوين: ج 1، ص 364- 363.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 271

فلا مساس لها بالقرعة حتي تقع المعارضة بينهما؛ نظراً إلي اختصاص القرعة بالشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي؛ بمعني الشبهات المحصورة و غير المحصورة من موارد الاشتباه في الموضوعات الخارجية من الحقوق و غيرها.

و أما الشبهات الموضوعية الراجعة إلي الشبهة في الأحكام الوضعية، كالطهارة و النجاسة و الشرطية و المانعية، و نحو ذلك فمرجعها إلي الاصول الجارية فيها.

نعم قد يتفق التعارض بين مقتضي القرعة و بين مقتضي الاصل الجاري في مثل الملكية و النجاسة و الطهارة و نحوه كموارد اشتباه الغنم الموطوءة و المال المردّد بين جماعةٍ. ففي هذه الموارد تحكّم نصوص القرعة لأنها موضع النص، و لكن لا بد من الاقتصار بمواردها و لا يمكن التعدي عنها؛ اقتصاراً فيما خالف القاعدة علي موضع النص. و قد بحثنا عن هذه القاعدة في محلها من علم الاصول في المجلد الرابع من كتابنا «بدائع البحوث». و أما كون القرعة أمارة و معارضها أصلًا، لا ينافي تقديم الاصل بل تقدمُه طبعاً، بل وروده علي القرعة؛ لما يستفاد من أدلّة القرعة من اختصاص أماريتها بموارد الاشكال فاذا ارتفع المشكل، لا موضوع للقرعة.

تطبيقها علي محل الكلام أنّ قاعدة الطهارة و أصالة العدم

أو الاستصحاب ربما تقتضيان خلاف ما خرج بالقرعة. فيكون مؤدّي القرعة في مثل هذه الموارد خلاف مقتضي القاعدة. فلا يمكن التعدي حينئذٍ عن مورد النص الدال علي مشروعية القرعة فيه بالخصوص إلي غيره من مجاري تلك القاعدة الأوّلية.

و قد أجاد في بيان ذلك السيد الخوئي قدس سره؛ حيث قال:

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 272

«و الذي يستفاد من مجموع الروايات الواردة في القرعة و مواردها أنّها جعلت في كل مورد لا يعلم حكمه الواقعي و لا الظاهري. و هذا المعني هو المراد من لفظ المشكل في قولهم: إنّ القرعة لكل أمر مشكل. و إن لم نعثر علي رواية بهذا اللفظ، و هو المراد أيضاً من لفظ المشكل المذكور في متن الكتب الفقهية، فان المراد- من قولهم: هو مشكل أو فيه إشكال- عدم العلم بالحكم الواقعي، و عدم الاطمئنان بالحكم الظاهري لجهة من الجهات، لا عدم العلم الاطمئنان بالحكم الواقعي فقط، إذ الاشكال بهذا المعني موجود في جميع الاحكام الفقهية، سوي القطعيات.

و بالجملة، مورد القرعة- نظراً إلي مورد الروايات الواردة فيها- هو اشتباه الحكم الواقعي و الظاهري، فالمراد من المجهول في قوله عليه السلام في رواية: كل مجهول ففيه القرعة. هو المجهول المطلق أي المجهول من حيث الحكم الواقعي و الظاهري.

و ظهر بما ذكرناه أنّه يقدم الاستصحاب علي القرعة تقدم الوارد علي المورود، إذ بالاستصحاب محرز الحكم الظاهري، فلا يبقي للقرعة موضوع بعد كون موضوعه الجهل بالحكم الواقعي و الظاهري علي ما ذكرناه، بل يقدم علي القرعة أدني أصل من الاصول كأصالة الطهارة و أصالة الحل و غيرهما مما ليس له نظر إلي الواقع، بل يعين الوظيفة الفعلية في ظرف الشك في الواقع،

إذ بعد تعيين الوظيفة الظاهرية تنتفي القرعة بانتفاء موضوعه.

و ظهر بما ذكرناه أيضاً أنّه لا أساس لما هو المعروف في ألسنتهم: من أنّ أدلّة القرعة قد تخصصت في موارد كثيرة. و كثرة التخصيص صارت موجبة لوهنها، فلا يمكن الأخذ بها في موارد انجبار ضعفها بعمل الاصحاب فيها. و ذلك، لأنّ الموارد التي لم يعمل فيها بالقرعة إنّما هو لعدم اشتباه الحكم الظاهري

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 273

فيها لجريان قاعدة من القواعد الظاهرية، لا لأجل تخصيص أدلّة القرعة، فلم تثبت كثرة التخصيص فيها الموجبة لوهنها.

نعم قد يعمل بالقرعة في بعض الموارد مع جريان القاعدة الظاهرية، للنص الخاص الوارد فيه، كما إذا اشتبه غنم موطوءٌ في قطيع، فانّه ورد نص دال علي أنّه بنصف القطيع و يقرع، ثمّ يجعل نصفين و يقرع و هكذا إلي أن يعين الموطوء، فيجتنب عنه دون الباقي. و لو لا النص الخاص، لكان مقتضي القاعدة هو الاحتياط و الاجتناب عن الجميع» «1».

كما أنّ قاعدة العدل و الانصاف محكّمة- في موارد جريانها- علي القرعة؛ نظراً إلي ارتفاع المشكلة بجريانها، إلّا فيما ورد النص فيه بالقرعة بالخصوص.

فيجب العمل فيه بالقرعة. و لكنّه لما كان حينئذٍ خلاف مقتضي القاعدة، يجب الاقتصار فيما خالف القاعدة علي موضع النص.

______________________________

(1) مصباح الاصول: ج 3، ص 341- 342.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 274

«مجاري القاعدة»

اشارة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 275

1- عدم اختصاصها بالتنازع في الحقوق.

2- كلام السيد الامام الراحل قدس سره و نقده.

3- الموارد المنصوصة بالخصوص.

4- مقتضي التحقيق في ضابطة جريان القرعة.

قاعدة القرعة إنّما تجري في الشبهات الموضوعية؛ بمعني موارد الاشتباه في الموضوعات الخارجية المقرونة بالعلم الاجمالي التي

لا يمكن فيها رفع الاشتباه و حلّ المعضل بنصّ من الكتاب و السنة. و هذه هي الضابطة الكلية في جريان قاعدة القرعة. و يستفاد ذلك من مجموع النصوص الواردة في القرعة.

و أما الشبهات الحكمية و كذا الموضوعية الراجعة إلي الشبهة في الأحكام الوضعية كالطهارة و النجاسة و الملكية و الشرطية و المانعية و نحوها، فانّ المحكّم فيها الاصول، كأصالة الطهارة و أصالة عدم التذكية و أصالة عدم الانتقال و نحو ذلك ما لم ينجر إلي المخالفة القطعية، و إلّا فلا بد من الاحتياط في الشبهات المحصورة و لو بالاجتناب عن بعض الأطراف، إلّا في موارد ورد النصّ الخاص فيها بالقرعة.

و لمّا كانت القرعة في مجاري الاصول الشرعية خلاف مقتضي القاعدة، فلا بد في جريانها من الاقتصار علي موضع النص. و كذا في موارد جريان الأمارات الشرعية و العقلية و العقلائية، حتي مثل قاعدة العدل و الانصاف، لو بنينا علي حجيتها، كما هو الحق. و قد بحثنا عنها مفصّلًا في المجلّد الأوّل من كتابنا «مباني الفقه الفعّال».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 276

و أما ما ورد في بعض النصوص المعتبرة، «1» من جريان سيرة أمير المؤمنين عليه السلام علي القرعة في كلّ أمرٍ لم يرد فيه كتابٌ و لا سنّةٌ، فالمقصود ما يعمّ أدلّة الأمارات و الاصول؛ بمعني عدم ورود نصٍّ من الكتاب و السنة و لا الاجماع في ذلك المورد بالخصوص، بلا فرق بين أدلّة الأمارات كخبر العدل و البيّنة، و بين أدلّة الاصول كقاعدة الطهارة و الاستصحاب و نحو ذلك.

و التعبير الوارد في هذه النصوص بيان للأمر المشكل و الملتبس المذكور في ساير نصوص الباب موضوعاً للقرعة، كما يشهد لذلك ما

ورد في ذيل هذه النصوص بقوله عليه السلام: «و هي من المعضلات».

و عليه فالضابطة الأوّلية في باب القرعة اختصاصها بموارد لم يمكن تعيين المشتبه و رفع المشكلة و حلّ المعضل بدلالة نصّ من الكتاب و السنة.

و بناءً علي هذا الأساس فلو أمكن في مورد رفع الاشتباه و حل المعضل بنصّ من الكتاب و السنة، فمع ذلك ورد فيه النص بالقرعة، يكون علي خلاف مقتضي القاعدة و يجب فيه الاقتصار علي موضع النص و لا يمكن التعدي إلي غيره من الموارد الممكن فيها رفع الاشتباه و حلّ المعضل بنص من الكتاب و السنة.

______________________________

(1) بصائر الدرجات/ لمحمد بن الحسن الصفار: ص 409، ح 4، و ص 410، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 277

عدم اختصاصها بالتنازع في الحقوق

إنّ مشروعية القرعة لا تختص بموارد التنازع في الحقوق، كما قد يستظهر من صحاح أبي بصير و جميل و معاوية و الحلبي «1». و ذلك لعدم فرض التنازع في الأوّلين، و عدم دلالة المورد علي الاختصاص في الأخيرين، و كذا ما شابهما من النصوص الواردة في موارد خاصة؛ حيث إنّه لم يرد في هذه النصوص تعبير في كلام الامام عليه السلام يدل علي اختصاص مشروعية القرعة بموارد التنازع في الحقوق، أو بالموارد المذكورة فيها.

و لا ينقض بتفويض الأمر إلي اللّٰه لعدم كونه من قبيل المورد.

و أما الدليل علي التعميم فعموم عدّة من الأخبار الواردة في القرعة، كقوله عليه السلام: «كل مجهول ففيه القرعة» «2» في صحيح محمد بن حكيم. و قوله: «القرعة سنّة» «3» في صحيح إبراهيم. و قوله عليه السلام: «فأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه عز و جلّ أ ليس اللّٰه يقول: فَسٰاهَمَ

فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» «4» في صحيح منصور بن حازم. و قوله: «و هي من المعضلات» في صحيح موسي البجلي و معتبرة عبد الرحيم؛ حيث يفهم منهما أنّ موضوع القرعة وقوع المعضل، و بما أنّه من مصاديق المعضلات يجوز فيه القرعة.

و بذلك تدل هذه النصوص علي مشروعية القرعة في كل معضل و مجهول و مشكل لم يمكن فيه رفع الاشتباه و حلّ المعضل بنصّ من الكتاب و السنة،

______________________________

(1) الوسائل: ب 13، من كيفية الحكم، ح 4، 6، 14، 5.

(2) المصدر: ح 11.

(3) المصدر: ح 2.

(4) المصدر: ح 17.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 278

بلا اختصاص بموارد التنازع في الحقوق.

هذا مع استشهاد الامام في ذيله بقضية مساهمة يونس الواردة في القرآن، مع عدم كونها من قبيل التنازع في حق. و مثله ساير النصوص المفسّرة للآية.

كلام السيد الإمام الراحل قدس سره و نقده

ثمّ إنّ للسيد الامام الراحل كلاماً في المقام، حاصله: إنّ سيرة العقلاء إنّما جرت علي القرعة في موارد تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح مطلقاً- سواءٌ كان لها واقع معلوم عند اللّٰه أم لا- بعنوان أحد طرق فصل الخصومة عند فقدان ساير الطرق.

و إنّ النصوص الواردة في القرعة كلها ناظرة إلي ذلك واردة في هذا المورد، لا غيره، إلّا ما ورد في اشتباه الغنم الموطوءة، فلا بد من التعبّد بمورده. ثمّ وجَّه هذا المورد بأنّ التعبّد بالقرعة في هذا المورد أيضاً يمكن أن يكون لأجل تزاحم حقوق الشياة أو حقوق أربابها.

قال قدس سره: «و محصّل الكلام أنّه لا إشكال في بناء العقلاء علي العمل بالقرعة في موارد تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح عندهم، سواء كان لها واقع معلوم عند اللّٰه أو لا.

و بالجملة القرعة لدي العقلاء أحد طرق فصل الخصومة،

لكن في مورد لا يكون ترجيح في البين و لا طريق لإحراز الواقع …

إلي أن قال: إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المتتبع في الموارد المتقدّمة التي وردت فيها الأخبار الخاصة و كذا المتأمل في كلمات الأصحاب في الموارد التي حكموا بالقرعة يحصل له القطع بأنّ مصبّ القرعة في الشريعة ليس إلّا ما لدي العقلاء طابق النعل بالنعل. فان الروايات علي كثرتها، بل تواترها- باستثناء مورد واحد

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 279

سيأتي الكلام فيه- إنّما وردت في موارد تزاحم الحقوق سواء أ كان لها واقع معلوم عند اللّٰه مجهول لدي الخصمين أو لا؟ …

نعم يبقي مورد واحد- هو قضية اشتباه الشاة الموطوءة- مما لا يمكن الالتزام بها في اشتباهها فلا بد من الالتزام فيه بالتعبد في المورد الخاص لا يتجاوز منه إلي غيره …

و يمكن أن يقال: إنّ التعبّد في هذا المورد أيضاً إنّما يكون لأجل تزاحم حقوق الشياة لنجاة البقية كما أشار إليه في النص بقوله: فان لم يعرفها قسمها نصفين أبداً حتي يقع السهم بها فتذبح و تحرق و قد نجت سائرها، و في رواية تحف العقول: فايهما وقع السهم بها ذبحت و احرقت و نجي سائر الغنم و التعبير بنجاة سائرها لعلّه إشارة إلي أنّ هذا المورد أيضاً من قبيل تزاحم حقوق الشياة في بقاء حياتها. و ربما يحتمل أن يكون مورده من قبيل تزاحم حقوق أرباب الغنم، فان قطيع الاغنام يكون من أرباب متفرقة غالباً فيتزاحم حقوقهم. و بالجملة من تتبع موارد النص و الفتاوي يظهر له أنّ مصب القرعة ليس إلّا ما أشرنا إليه» «1».

هذا، و لكن المناقشة فيه أولًا: بأنّ نصوص القرعة قد دلّت علي اعتبار

قيد التفويض إلي اللّٰه و عدم ورود كتاب و لا سنة في موردها. و هذان القيدان غير معتبرين في بناء العقلاء. فليست نصوص القرعة إمضاءً لما جري في سيرة العقلاء، بل دلّت علي تخطئتها.

و ثانياً: بأنّ المستفاد من نصوص القرعة أنّها طريق إلي الواقع، كقوله عليه السلام:

«إلّا خرج سهم المحق» و «ما حكم للّٰه فليس بمخطئٍ» و «فتصيب» في النصوص

______________________________

(1) الرسائل/ طبع مطبعة مهر: ج 1، ص 348- 346.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 280

الصحيحة المذكورة. و هذا إنّما هو من شأن الأمارات، بل القرعة دائم الاصابة إلي الواقع بارادة اللّٰه بعد تفويض الأمر إليه تعالي. و ليست القرعة لدي العقلاء كذلك، كما هو واضح.

و ثالثاً: بأنّ عمومات القرعة تنفي اختصاص اعتبارها بموارد تزاحم الحقوق. و وقوع المخاصمة فيها، كما عرفت آنفاً.

الموارد المنصوصة بالخصوص

قد وردت نصوص دلّت علي مشروعية القرعة في موارد خاصة. و جاءَ ذكر بعض هذه الموارد في كلام الشهيد و إليك نص كلامه. قال:

«كل أمر مجهول فيه القرعة بالنص و لها موارد، منها: بين أئمة الصلاة عند الاستواء في المرجحات. و بين أولياء الميت في تجهيزه من الاستواء. و بين الموتي في الصلاة و الدفن مع الاستواء في الأفضلية، أو عدمها. و بين المزدحمين في الصف الأوّل مع استوائهم في الورود، و كذا في القعود في المسجد أو المباح، و كذا في الحيازة، و إحياء الموات، و في الدعاوي و الدروس، إلّا أن يكون منهم مضطراً لسفر، أو امرأة. و بين الزوجات في الأسفار، و في الابتداء لو سبق اليه زوجتان دفعةً. و بين الموصي بعتقهم، أو المنجز من غير ترتيب. و عند تعارض البينتين، أو تعارض الدعويين. و لا

تستعمل في العبادات في غير ما ذكرناه، و لا الفتاوي، و الأحكام المشتبهة، إجماعاً» «1».

هذه الموارد- التي ذكرها الشهيد- جملة من موارد القرعة.

و إنّ لها موارد اخري أيضاً وردت فيها النصوص الخاصة و لم تُذكر في

______________________________

(1) القواعد و الفوائد: ص 23.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 281

كلام الشهيد.

و ذلك مثل ما ورد في تعيين الغنم الموطوءة المشتبهة، كما في صحيحة محمد بن عيسي: «محمد بن عيسي عن الرجل أنّه سئل عن رجل نظر إلي راع نزا علي شاة، قال عليه السلام: إن عرفها ذبحها و أحرقها، و ان لم يعرفها قسَّمه نصفين أبداً حتي يقع السهم بها، فتذبح و تحرق و قد نجت سائرها» «1».

و ما ورد في تعيين المعتق المتردّد بين عدة مماليك كما في صحيحة ابن مسلم «2» و غيره «3».

و في تعيين الوارث المشتبه بين صبيين، كما في صحيحة حريز و موثق ابن مسلم و غيرهما «4».

و ما ورد منها في تعيين جنس الخنثي، كصحيح الفضيل و غيرها «5».

و ما ورد في تعيين الولد المولود من وطي عدّة في طهر واحد، كما في صحاح الحلبي و أبي بصير و معاوية بن وهب و سليمان بن خالد و غيرها «6».

إلي غير ذلك من النصوص الواردة في موارد مختلفة. و قد عدّ السيد الامام

______________________________

(1) التهذيب: ج 9، ص 43، ح 182.

(2) التهذيب: ج 6، ص 240، ح 21.

(3) التهذيب: ج 9، ص 171، ح 46.

(4) التهذيب: ج 9، ص 362، ح 11 و 12 و ص 363، ح 18 و 17، و الكافي: ج 7، ص 137، ح 4.

(5) الكافي: ج 7، ص 158، ح 3 و 2، و التهذيب: ج

9، ص 356، ح 7 و ج 6، ص 239، ح 19، و الفقيه: ج 4، ص 329، ح 5705.

(6) الكافي: ج 5، ص 490، و التهذيب: ج 6، ص 240، ح 26، و ص 238، ح 16، و ص 239، ح 20، و ج 9، ص 348، ح 23، و ج 8، ص 169، ح 15 و 14، و الفقيه: ج 3، ص 92، ح 3392، و ص 94، ح 3395، و 3399.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 282

الراحل موارد القرعة التي وردت فيها النصوص بالخصوص و أحصاها إلي اثنين و عشرين مورداً. «1»

مقتضي التحقيق في ضابطة جريان القرعة

مقتضي التحقيق في ضابطة جريان القرعة: اختصاصها بموارد الشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي التي لم يمكن فيها حلّ المشكلة و رفع العويصة بأمارة أو أصل شرعي، كما في المال المتردد بين شخصين تنازعا فيه.

و عليه فلو كان لأحدهما يدٌ تجري قاعدة اليد، أو قامت لأحدهما بينة يتعين العمل بالبينة، أو موارد اشتباه الشي ء النجس إذا جرت قاعدة الطهارة أو أصالة عدم التذكية في موارد اشتباه المذكّيٰ بالميتة، أو أصالة الاحتياط في الشبهات المحصورة، و نحوها من موارد جريان الأمارات و القواعد و الاصول الشرعية.

و السر في ذلك أنّ في موارد قيام الأمارات و جريان الاصول لمّا ترتفع بها المشكلة لا تصل النوبة إلي القرعة. إلّا أن يرد فيها نص خاص بالقرعة، فحينئذٍ إذا دلّ نصٌّ بالخصوص علي تعيّن القرعة في مورد، يجب الاقتصار فيه علي موضع النص و لا يجوز التعدي إلي غيره. و ذلك لقاعدة وجوب الاقتصار فيما خالف القاعدة علي موضع النص. و قد بحثنا عن هذه القاعدة مفصّلًا في المجلّد الثالث من كتابنا «بدائع

البحوث»، فراجع.

و قد عرفت أيضاً عدم اختصاصها بباب التنازع في الحقوق لأعمّية مفاد نصوصها، كما عرفت.

______________________________

(1) راجل الرسائل/ للسيد الامام: ج 1، ص 345- 340.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 283

التطبيقات الفقهية

اشارة

و قد استدل الفقهاء- من القدماء و المتأخرين- بقاعدة القرعة و نصوصها في فروع كثيرة من مختلف أبواب الفقه.

فمن هذه الفروع مسألة الاختلاف في ولد جارية اشتراها رجلان فواقعاها جميعاً.

قال أقدم المحدثين و أجلّهم الشيخ الصدوق: «و إذا اشتري رجلان جارية، فواقعاها جميعاً فأتت بولد، فانّه يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة الحق به الولد، و يغرم نصف قيمة الجارية لصاحبه» «1». و نظيره جاءَ في كلام الشيخ المفيد «2».

و منها: مسألة من أعتق بعض عبيده و لم يعلم من المُعتَق.

قال الفقيه الأقدم الأجلّ الشيخ المفيد في رسالته المسمّاة بالعويص: مسألة اخري: «رجل كان له ثلاثون عبداً، فأعتق ثلثهم عند موته، فلم يعلم من المعتق عليه. الجواب: يقرع بينهم، فمن خرجت القرعة عليه عُتِقَ» «3».

و منها: مسألة تردّد حق بين شخصين تساوت الشهود في العدالة و التعداد.

قال مؤسّس الفقه الامامية الشيخ الطوسي في النهاية: «و من شهد عنده شاهدان عدلان علي أنّ حقّاً ما لزيد فان كانت أيديهما خارجتين معاً، فينبغي للحاكم أن يحكم لأعدلهما شهوداً. فان تساويا في العدالة، كان الحكم لأكثرهما

______________________________

(1) المقنع: ص 401.

(2) المقنعة: ص 544.

(3) العويص/ طبع المؤتمر العالمي: ص 51.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 284

شهوداً، مع يمينه باللّٰه تعالي أنّ الحق له. فان تساويا في العدد اقرع بينهم، فمن خرج عليه، حلف و كان الحكم له. فان امتنع من خَرَجَ اسمُه في القرعة من اليمين، حلف الآخر و كان الحكم له». «1»

و قال في الخلاف: «إذا تعارضت البيّنتان علي وجه لا ترجيح لأحدهما علي الاخري اقرع بينهما. فمن خرج اسمه حلف و أعطي الحق. هذا هو المعوّل عليه عند أصحابنا» «2».

و لا يخفي أنّ الشيخ رتّب علي ذلك- أي استعمال القرعة عند تعارض البينتين- فروعاً عديدة في مختلف أبواب الفقه في كتبه المختلفة.

و قال ابن ادريس: «فأما مذهب أصحابنا في هذه المسألة فمعروف، إذا تقابل البينتان و لم يترجح إحداهما علي الاخري بوجه من الوجوه و أشكل الأمر، فانهم يرجعون إلي القرعة؛ لأنّ أخبارهم ناطقة متظاهرة متواترة في أنّ كلّ أمر مشكل فيه القرعة، و هم مجمعون علي ذلك» «3».

و قد عرفت من كلامه إجماع الأصحاب علي استعمال القرعة في كل أمر مشكل من مختلف الفروع و الأبواب.

و منها: مسألة ميراث الخنثي المشكل،

فحكموا فيها بالقرعة.

قال الشيخ الطوسي في النهاية: «إذا وُلد مولود ليس له ما للرجال و ما للنساء اقرع عليه: فإن خَرَجَ سهم الرجال الحِق بهم و ورث ميراثهم. و إن خرج سهم النّساء الحق بهنّ و ورث ميراثهن. و كل أمر مشكل مجهول يشتبه

الحكم

______________________________

(1) النهاية/ من منشورات قدس: ص 344- 343.

(2) الخلاف: ج 6، ص 337.

(3) السرائر: ج 1، ص 87.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 285

فيه فينبغي أن تستعمل فيه القرعة؛ لما روي عن أبي الحسن موسي عليه السلام و عن غيره من آبائه و أبنائه عليهم السلام من قولهم: كل مجهولٍ ففيه القرعة، قلت له: إنّ قرعة تخطئ و تصيب، فقال عليه السلام: كل ما حكم اللّٰه به فليس بمخطئٍ» «1».

و منها: مسألة تردّد البهيمة الموطوءة و اختلاطها بغيرها من البهائم الموجودة في القطيع؛

فحكموا فيها بالقرعة.

قال الشيخ الطوسي: «فان اختلطت البهيمة الموطوءة بغيرها من البهائم و لم تتميّز، قُسِّمَ القطيع الذي فيه تلك البهيمة و اقرع بينهما، فما وقعت عليه القرعة، قُسِّم من الرأس و اقرع بينهما إلي أن لا تبقي، إلّا واحدة» «2».

و منها: مسألة القسمة بالقرعة.

قال الشيخ في الخلاف: «القسمة إذا كان فيها ردٌّ أو لم يكن فيها ردٌّ، لا يدخلها خيار المجلس إذا وقعت القرعة و عُدّلت السهام، سواءٌ كان القاسم الحاكم، أو الشريكين، أو غيرهما» «3».

و قال في الشرائع: «و تكون بتعديل السهام و القرعة» و قال في المسالك في شرحه: «أيّ تكون القسمة الاجبارية تامّةً بذلك. فمتي حصلت القرعة، لزمت» «4».

و لا يخفي أنّ التعريفات المترتبة علي اعتبار القرعة في باب القسمة كثيرة.

و استعمال القرعة في جميعها مورد اتفاق الأصحاب.

______________________________

(1) النهاية: ص 346- 345.

(2) المصدر: ص 709.

(3) الخلاف: ج 3، ص 18.

(4) مسالك الافهام: ج 4، ص 320.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 286

و منها: مسألة اشتباه قتلي المشركين بقتلي المسلمين

فحكم فيها ابن ادريس بالقرعة؛ معلّلًا باتفاق أصحابنا علي ذلك.

قال: «و إذا اشتبه قتلي المشركين بقتلي المسلمين، فقد روي أنّه يُواري منهم من كان صغير الذكر. و هذا رواية شاذة، لا يعضدها شي ءٌ من الأدلّة. و الأقوي عندي أنّه يقرع عليهم؛ لأنّ كل أمر مشكل عندنا فيه القرعة بغير خلاف، و هذا من ذاك» «1». و ليس هذا المورد من قبيل تزاحم الحقوق و من تبع في مطاوي كلماتهم يجد فروعاً فقهية كثيرة ليست من قبيل تزاحم الحقوق.

إلي غير ذلك من الفروع الفقهية الكثيرة المنتشرة في أبواب الفقه و هي أكثر من أن تحصي، و قد عرفت جعله منها في مطاوي ما بيّناه و نقلناه من النصوص و كلمات الأصحاب. و من أراد التتبّع في ذلك فليرجع كتب الأصحاب من القدماء و المتأخرين و المعاصرين.

______________________________

(1) السرائر: ج 2، ص ابن ادريس.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 287

«تحقيق» «في الاستخارة»

اشارة

منصة الاستخارة في الشريعة و أهميتها

شبهات و ردود

معني الاستخارة؛ لغةً و اصطلاحاً

أقسام الاستخارة بمعناها الأخص الشائع

مدرك الاستخارة

شرائط الاستخارة و آدابها

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 288

منصة الاستخارة في الشريعة و أهميّتها

اشارة

1- رفع التحيُّر و تحصيل العزم الراسخ.

2- الخضوع و الخشوع لعظمة اللّٰه و التوكل و تفويض الأمر إليه.

3- دور الاستخارة في فلاح الانسان و نجاحه.

4- الاستخارة من آيات وجود اللّٰه.

5- كلام صاحب الحدائق في الغرض من الاستخارة.

قد استقرّ دأب الفقهاء علي البحث عن الاستخارة في صلاة الاستخارة من أقسام الصلوات المندوبة.

و لكن جرت عادة المحققين الباحثين عن القواعد الفقهية عقد البحث عن الاستخارة في فذلكة البحث عن قاعدة القرعة. و من هنا رأينا الأنسب عن نبحث عن الاستخارة بعد البحث عن قاعدة القرعة، و إن كان نطاق البحث عنها أوسع و مسائلها أكثر من المسائل المبحوث عنها في القرعة؛ لكثرة ما وقع بين فحول الفقهاء من البحث و النزاع في مشروعية الاستخارة المتداولة و مدركها و شرائطها و كيفيتها و ساير خصوصياتها.

ثمّ لا يخفي أنّ الاستخارة و إن كانت من العباديات؛ لما اخذ فيها من الدعاء و التوسل و تفويض الأمر إلي اللّٰه، إلّا أنّ موارد استعمالها لما كانت عامّة شاملة لجميع امور الانسان و عامّة شئون عيشه، فهي تكون في سعة نطاقها كالقرعة، بل هي أوسع منها؛ لعدم كلام و لا نزاع في سعة نطاقها، بخلاف القرعة؛ حيث ذهب جماعة إلي اختصاص القرعة بمواردها المنصوصة، و قد خصّها بعض بالحقوق المتنازع فيها. و ليس شي ءٌ من هذه الاختلافات في سعة نطاق

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 289

الاستخارة.

رفع التحيُّر و تحصيل العزم الراسخ

إنّ من أعظم فوائد الاستخارة رفع التحيُّر في امور العيش و الوصول إلي عزم راسخ و اكتساب قوّة إرادة في الأفعال. و إنّ قوّة الارادة و استحكام العزم و الجزم فيه من أهم عوامل التوفيق و التقدم و الانجازات الملموسة، كما أنّ رفع الحيرة

و إزالة اليأس، و نفث روح التأميل و اضاءة الطريق و تنوير مستقبل الامور، من أعظم اسباب التوفيق و النجاح في صعوبات العيش و مزالّ الأقدام، و إنّ لذلك دوراً كبيراً للفلاح في كل أمر خطير.

و ذلك أنّ كثيراً من امور العيش تختفي مصالحها الواقعية عن فكر البشر، و لا يتمكن الانسان من الخروج عن وادي التحيّر و لا من رفع الشك و الترديد بالفكر و لا بمشاورة الناس.

ففي مثل هذه الموارد أيّ مشاور أعلم و أصلح من الخالق السبحان؟! و ليست الاستخارة، إلّا مشاورة الربّ الجليل، كما أشار إليه الامام عليه السلام في ذيل رواية- واردة في الاستخارة بالرقاع-: «هكذا شاور ربّك» «1».

فالاستخارة في الحقيقة نعمة من جانب اللّٰه تعالي منَّ اللّٰه بها علي المؤمنين لأجل رفع الشك و الحيرة و إزالة اليأس عنهم، و لغرض توجّه القلوب إلي علّام الغيوب و مقلّب القلوب، و تأميلهم لمستقبل الامور.

و بذلك يهديهم إلي الطريق الناجح و يريهم سبيل الرشد و الكمال، و يلهمهم بالاستخارة رموز السعادة و الفلاح في صعوبات امور الدنيا و

______________________________

(1) الوسائل: ب 2، من صلاة الاستخارة، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 290

مشاكلها.

الخضوع و الخشوع لعظمة اللّٰه و التوكل و تفويض الأمر إليه

و من أحسن خصوصيات الاستخارة، الخضوع في مقابل قدرة اللّٰه تعالي و الخشوع لعظمته، و الدعاء و طلب الخير من ساحته المقدسة للتوفيق و النجاح في العمل الذي يريده، و التوكل و تفويض الأمر إليه سبحانه و تعالي.

فانّ لهذه الخصال الجليلة الرفيعة قيمة ذاتية نفسية، مع قطع النظر عن التوصل بها إلي المطلوب؛ مع أنّها من أحسن طرق الوصول و النيل إليه؛ لأنّ فيها إعطاء زمام الأمر إلي من بيده ملكوت السماوات و الأرض و هو

علي كلِّ شي ءٍ قدير.

فانّ اللّٰه تعالي وعد من دعاه الاجابة. بقوله: «وَ قٰالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» «1» و «قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لٰا دُعٰاؤُكُمْ» «2»، و قد أخبر سبحانه و تعالي من توكل عليه بالكفاية؛ حيث قال: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ» «3».

و ليس روح الاستخارة، إلّا الدعاء و التوكل علي اللّٰه و طلب الخير منه.

و لا خُلف في وعد اللّٰه تعالي و لا كذب في إخباره جلّ شأنه، كما قال تعالي:

«إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُخْلِفُ الْمِيعٰادَ» * «4»، و قال عزّ و جلّ: «وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّٰهِ حَدِيثاً» «5».

______________________________

(1) غافر: 60.

(2) الفرقان: 77.

(3) الطلاق: 3.

(4) الرعد: 31.

(5) النساء: 87.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 291

و قد ورد عن الصادق عليه السلام: «ما استخار اللّٰه مسلم إلّا خار اللّٰه له البتة» «1».

دور الاستخارة في فلاح الانسان و نجاحه

و قد اتضح من ضوء ما بيّناه أهمّية الاستخارة و دورها الكبير في ظفر الانسان علي صعوبات العيش و مشاكلها و توفيقه و هدايته إلي الرشد و الكمال و الفلاح.

و لا يخفي علي أهل الدراية و البصيرة ما للاستخارة من الدخل الكبير في إضاءة مصير الانسان و التأثير العميق في تعيين مقدّراته، أثراً ناجحاً مُفلحاً سعيداً مباركاً.

و ذلك لأنّ في هذا العالم العصري المملوّ من الفساد و التلوث بأنحاء الذنوب و المغمور بظلمات الجهل و الشهوات و الكفر و الالحاد، أيّة عروة أمتن من الاستخارة يستمسك بها الانسان اليائس المكبوت من المجتمع المنغمس في ورطة الذنوب و الجهالة و الالحاد؟!.

الاستخارة من آيات وجود اللّٰه

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 292

و قد جعل بعض الأعاظم الاستخارة من أدلة وجود واجب الوجود. و علّل ذلك بأنّه: أيّ ارتباط بين عدد الفرد أو الزوج للسبحة و بين عالم التكوين و الواقع؟ حيث يصيب إلي الخير و المصلحة في صورة و إلي الشر و المفسدة في صورة اخري؟

و كذلك في الاستخارة بالرقاع و بافتتاح المصحف و ساير أنحاء الاستخارات.

كما أشار إلي ذلك المحقق الفقيه الشيخ الكلباسي «1» و السيد البجنوردي «2».

و تبدو أهمية الاستخارة من جهة مهمّة اخري، و هي اتّجاه المستخير في موارد التحيُّر و الترديد في جهة رضوان اللّٰه و ابتغاء مرضاته تعالي، مضافاً إلي رفع التحيُّر و حصول العزم الراسخ له بالاستخارة.

بيان ذلك: أنّ الانسان إذا توكّل علي اللّٰه في الصعوبات و فوّض نفسَه و جميع اموره إلي اللّٰه في مشاكل العيش، و رضي بما قدّره اللّٰه سبحانه و تعالي له في موارد التحيّر و الترديد بالتوسل إلي

الدعاء و الاستخارة التي جعلها اللّٰه وسيلة له عند ذلك، يقدّر اللّٰه له الخير و يوفّقه إلي الفلاح و السعادة حسبما وعد عباده.

______________________________

(1) حيث قال: إنّ من أدلة وجود واجب الوجود الاستخارة، سواء كانت من القرآن المجيد أو غيره، لأنّ بالمواظبة عليها، و انكشاف آثارها، و لا سيّما الآثار التي تقع بعد أزمنة بعيدة غاية البعد، يظهر استناد جودة الاستخارة و رداءتها إلي العالم بالمغيّبات الغريبة و الخفيّات العجيبة، سبحان من لا يخفي عليه شي ء، لا في الأرض و لا في السماء، و يعلم ما تحمل كل انثي، و ما تغيض و ما تزداد أرحام النساء. و نظير ذلك ما قيل: من أدلة وجود واجب الوجود أنّه كثيراً ما يشاهد انحلال عقد المكاره العسر الوعرة بحيث يصل استناد ذلك إلي القادر الذي لا تنتهي عجائب قدرته بالتقصّي و الاحصار. رسالة في الاستخارة للشيخ الميرزا أبي المعالي الكلباسي/ طبع مؤسسة الامام المهدي: ص 61.

(2) حيث قال: و ذلك كما في الاستخارة أقوالهم عليه السلام ما خاب من استخار، يوجب الاطمئنان باصابتها للواقع، و لذلك نُقل لي عن بعض الأعاظم قدس سره أنّ الاستخارة من أقوي الأمارات و أقوي الحجج علي إثبات الصانع؛ لأنّه لو لم يكن صانع كان أيّ ارتباط بين عدد الزوج أو الفرد، و بين ما فيه المصلحة و المفسدة؟ و لكن اللّٰه تعالي شأنه هو الذي يجعل ما فيه المصلحة أو المفسدة زوجاً أو فرداً بعد تفويض الأمر إليه تعالي، و كذلك الأمر في القرعة. القواعد الفقهية/ للسيد البجنوردي: ج 1، ص 69.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 293

و لا ريب أنّ هذا الاتجاه الإلهي المقدّس يؤثّره أثراً معنوياً عجيباً

في جميع أبعاد حياته و زوايا عيشه، و يصبغ نياته و أفعاله بصبغة اللّٰه، حتي يبلغ بذلك إلي درجة عاليةٍ من الانقطاع إلي اللّٰه بحيث لا ينوي و لا يطلب في أفعاله و اموره غير رضوان اللّٰه و مرضاته.

كلام صاحب الحدائق في الغرض من الاستخارة

و قد تبيّن بما سردناه أنّ الغرض من الاستخارة رفع الحيرة و الشك عن المستخير و إيجاد إرادة قوية و عزم راسخ له في العمل؛ ليخرج فكره عن ظلمات التحيّر و يتنوّر بالهامٍ من اللّٰه، و لا يَهِنُ عزمه، و لا يزلّ قدمه و لا يتلجلج لسانه في صعوبات الامور.

و قد أجاد صاحب الحدائق في بيان ذلك؛ حيث قال: «الغرض من الاستخارة طلب ما هو الأصح و الانجح لما في الدخول في الامور و التهجُّم عليها من غير استخارة، من احتمال تطرُّق المهالك و عدم الأمن من المعاطب في جميع المسالك. و أقله احتمال حرمان المطلوب و عدم الظفر بالأمر المحبوب كما جاء في الخبر: من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال فلا يستخيرني، و لأنّه بعد الاستخارة يكون آمناً من تطرق أسباب الحرمان و سالماً من آفات العطب و الخذلان، فكان العمل بالاستخارة أمراً راجحاً و طريقاً واضحاً عند كل من له عقل سليم و ذهن قويم» «1». و سيأتي في تحرير كلامه أنّ مراده من الاستخارة ليس مجرّد الدعاء و الصلاة، بل مقصوده الاستخارة المتداولة الشائعة بالمصحف و السبحة و الرقاع و مثلها.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة ج 10، ص 530.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 294

شبهات و ردود

اشارة

1- شبهة عدم ارتباط مؤدّي الاستخارة بالواقع و جوابها.

2- شبهة سدّ طريق الفكر و المشورة بالاستخارة.

3- شبهة أنّ الاستخارة بمعناها الأخص بدعة.

4- لو عُلم الواقع بالاستخارة لم تحدث مشكلة للمؤمنين.

5- شبهة الاستقسام بالأزلام.

و هاهنا شبهات حول الاستخارة أوردها بعض الأصحاب و بعض بعض المتنوّرين المادّيّين، و قد أجاب عنها السيد الامام الراحل في كتابه «كشف الاسرار» «1».

و نتعرّض في المقام لأهمّ هذه الشبهات و تحرير جواب

السيد الامام الراحل قدس سره عنها، مع إضافات مكمّلة منّا.

شبهة عدم ارتباط مؤدّي الاستخارة بالواقع و جوابها

الشبهة الاولي:

إنّ الصلاح و الفساد الثابتين لفعل مورد الاستخارة من الواقعيات التكوينية، و لكن الخير أو الشرّ المعلوم بالاستخارة أمر اعتباري؛ بأن يُعتبر الخير لعدد الفرد من السبحة و الشر لعدد الزوج منها في الاستخارة بالسبحة. و ليس أيّ ربط لذلك بالواقعية الخارجية.

و نفس الإشكال المزبور يأتي في الاستخارة بالحصيٰ، و الرقاع، و بافتتاح

______________________________

(1) كشف الاسرار: ص 98- 89.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 295

المصحف. و ذلك لأنّ مضمون الآية المتعيّنة بالاستخارة، لا ارتباط له بالصلاح و الفساد الواقعيين في عالم التكوين و الخارج.

و حاصل الإشكال: أنّ ما أدّت إليه الاستخارة من الخير أو الشر أمر اعتباري، لا ارتباط له بالخير و الشر الواقعيين تكويناً للفعل المقصود من الاستخارة.

و يمكن الجواب عن هذه الشبهة:

بأنّ ثبوت القدرة المطلقة للّٰه تعالي علي جميع امور العالم مما استقلّ به العقل و ثبت بالبرهان، و قد أخبر عنه اللّٰه سبحانه بقوله: «إِنَّ اللّٰهَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» * و «إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1».

و عليه فمن الممكن تعلّق قدرة اللّٰه تعالي بتسخير إرادة الشخص المستخير؛ بأن يهدي أنامله و بنانه هداية تكوينية في خلط الرقاع و أخذها، أو أخذ مقدار من حبّات السبحة و الحصي و إسقاط بعضها، أو في افتتاح المصحف؛ بحيث يطابق مؤدَّي الاستخارة الواقع الموجود في عالم التكوين. و ليس في ذلك أيّ محذور عقلي، إذا تعلّقت إرادة اللّٰه تعالي بذلك تكويناً.

و قد أخبرنا اللّٰه سبحانه و تعالي بطريق النصوص الواردة في الاستخارة عن تعلّق إرادته التكوينية بذلك. فلا وقع للاشكال المزبور.

نعم ينبغي الكلام في إثبات صحة

مدارك النصوص الواردة في الاستخارة و قيام الحجة الشرعية علي مشروعيتها. و سيأتي البحث عن ذلك في مدرك الاستخارة.

______________________________

(1) يس: 82.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 296

شبهة سدّ طريق الفكر و المشورة بالاستخارة

الشبهة الثانية:

إنّ العقلاء و ذوي الدراية و الفكر في الصعوبات و الامور الخطيرة، إنّما يستمدّون من التفكّر و التعقّل و يستفيدون من الآراء و أنظار ساير العقلاء بمشاورتهم، و بذلك يُزيلون الشك و الترديد عن أنفسهم و يُذلّلون الصعوبات.

و قد اهتمّت الشريعة الاسلامية بالتعقل و التفكر في الامور و المشورة مع ساير المؤمنين.

و قد دلّت علي ذلك نصوص كثيرة متظافرة من الكتاب و السنة.

و إليك بعض نصوص الكتاب، و في ذلك كفاية:

«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْميٰ وَ الْبَصِيرُ أَ فَلٰا تَتَفَكَّرُونَ» «1».

«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لٰا يَعْقِلُونَ» «2».

«وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَي الَّذِينَ لٰا يَعْقِلُونَ» «3».

«وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» «4».

«وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ» «5».

و حاصل هذه الشبهة أنّ الاستخارة تسدّ طريق الفكر و التعقل و المشورة

______________________________

(1) الانعام: 50.

(2) الانفال: 22.

(3) يونس: 100.

(4) آل عمران: 159.

(5) الشوري: 38.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 297

و الاستفادة من آراء الآخرين.

و يمكن الجواب عن هذه الشبهة: بأنّ موضوع الاستخارة و موردها التحيّر و الترديد في الأمر بعد التفكر و المشورة فيما يمكن فيه المشورة.

كما يظهر ذلك من قول السائل: «فلا يوفّق فيه الرأي أفعلُه أو أدَعُهُ» «1» في خبر اليسع القمي.

و من قوله: «الرجل تعرض له الحاجة لا يدري أن يفعلها أم لا؟» في مكاتبة الحميري عن صاحب الزمان «عج» فكتب إليه: «الذي سنّه العالم عليه السلام في هذه، الاستخارة بالرقاع و الصلاة» «2».

بل ورد في بعض النصوص الأمر بالدعاء و الاستخارة- بمعني طلب

الخير- قبل المشورة مع إخوانه المؤمنين، حتي يُجري اللّٰه الحق الواقع علي لسانهم ببركة دعاءِ المستخير، كما في خبر هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا أراد أحدكم أمراً، فلا يشاور فيه أحداً من الناس حتي يبدأ فيشاور اللّٰه تبارك و تعالي، قال: قلت: جعلت فداك و ما مشاورة اللّٰه؟ قال: تبتدأ فتستخير اللّٰه فيه أولًا، ثمّ تشاور فيه؛ فانه إذا بدأ باللّٰه أجري له الخيرة علي لسان من يشاء من الخلق» «3».

بل يستفاد من بعض النصوص جواز الاستخارة- بالرقاع و المصحف و غيرها- و مشروعيتها في صورة عدم وجود مشاور يشاوره المستخير، كقول السائل: «و لا يجد أحداً يشاوره فكيف يصنع؟» في مرفوعة علي بن محمد «4»، فأمره الامام عليه السلام بمشاورة ربّ العالمين حينئذٍ بالاستخارة بالرقاع.

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من صلاة الاستخارة، ح 1.

(2) المصدر: ب 3، ح 1.

(3) المصدر: ب 5، ح 2.

(4) المصدر: ب 2، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 298

و عليه فالاستخارة لا تسدّ طريق الفكر و التعقّل و المشورة، بل هي، طريق شرعي يصون المستخير عن الخطاء و يوصله إلي ما فيه صلاحه و فلاحه، و وسيلة لتنوير ذهنه بالمشورة في جهة الاصابة إلي الواقع.

و حاصل الكلام: أنّ الاستخارة تسهّل للمستخير طريق الوصول إلي المطلوب و تيسّر له الأمر، و بمخالفته العمل بمؤدّاها يقع المستخير في الصعوبة و العنت. كما اشير بذلك في بعض النصوص، كقوله عليه السلام: «فانّك إن خالفت لقيت عنتاً في» «1».

و هل يعتبر المشورة قبل الورد فيها؟ الأقوي عدم ذلك؛ نظراً إلي تعذّر مشاورة الناس في كثير من الامور التي هي من الأسرار و يري المستخير مشاورة

الغير فيه مخالفاً لمصلحة نفسه أو موجباً لهتك عرضه، و إلي عدم دلالة لنصوص الاستخارة علي اعتبار المشورة قبلها في مشروعيتها مطلقاً، كما عرفت هاهنا، و ستعرف تفصيل ذلك في خلال المباحث الآتية.

______________________________

(1) المصدر: ب 2، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 299

شبهة أنّ الاستخارة بمعناها الأخص بدعة

الشبهة الثالثة:

قد جاءَ لفظ الاستخارة في نصوص أهل البيت عليهم السلام بمعني طلب الخير بالدعاءِ و الصلاة.

و هذا المعني هو المقصود مما ورد في النصوص، من الترغيب و التأكيد علي الاستخارة.

و أما ما تعارف في عصرنا من الاستخارة بالقرآن و السبحة و الرقاع، فلا أصل له في الشرع و لا دليل عليه، بل نسبتها إلي الشارع نوعٌ من البدعة؛ لأنّ البدعة إدخال ما ليس من الدين في الدين و لم يثبت كون الاستخارة بهذا المعني من الدين.

هذه الشبهة أوردها بعض أهل العامة. و قد نُقل هذه الشبهة عن الشيخ شلتوت «1». و أيضاً يرجع كلام بعض أصحابنا إلي ذلك.

و الجواب عن هذه الشبهة:

أنّ كون الاستخارة في كثير من النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام بمعني طلب الخير بطريق الدعاء و الصلاة، و كونها بهذا المعني مورد ترغيب الشارع و تأكيده، مما لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه.

و لكن لا ينافي ذلك مجي ءَ عنوان الاستخارة بمعني خاص أيضاً، و هو طلب الخير من اللّٰه تعالي باراءته المستخير ما فيه الخير و المصلحة واقعاً بالقرآن أو السبحة أو بالرقاع علي النحو الذي ورد في النصوص، و لكن كل ذلك بعد الدعاء و التضرّع إلي اللّٰه تعالي، بل بعد الاتيان بصلاة الاستخارة.

______________________________

(1) اللمحات: للشيخ آية اللّٰه الصافي ص 246- 247.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 300

و

قد حدثت هذه الشبهة لابن ادريس، فأنكر مشروعية ساير أنحاء الاستخارات. و وقع بذلك مورد هجمة فحول الفقهاء، كالعلامة الحلي و الشهيد و ابن طاوس و صاحب الجواهر و غيرهم.

و سيأتي بيان أقوالهم و تنقيح آرائهم في البحث عن مدرك الاستخارة.

و أما إسناد ذلك إلي الشارع، فجوازه منوط بورود الدليل عن جانبه علي مشروعية هذا النوع من الاستخارة. و قد وردت عدّة روايات دلّت علي مشروعيته. و سيجي ءُ تحقيق هذه النصوص سنداً و دلالةً في البحث عن مدرك الاستخارة.

هذا، مع أنّ للاستخارة بالمعني الرائج الشائع جذراً في القرعة، بل هي من قبيل حقيقة القرعة. و قد نطق الكتاب العزيز بمشروعية القرعة كقوله تعالي «و إِذْ يُلْقُونَ أَقْلٰامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ …».

و لا فرق بين المساهمة و القرعة بالأقلام و نحوها و بين الاستخارة بالسبحة أو الحصي أو الرقاع أو المصحف، إلّا ما ورد من الدعاء و الصلاة قبل الاستخارة.

و علي ضوء ما بيّناه اتّضح عدم ابتناءِ الجواب المزبور علي مباني مذهب الامامية و نصوص أهل البيت عليهم السلام، بل يتمّ حتي بناءً علي مسلك أهل العامة؛ لما له من الجذر القرآني في الآيات الواردة في القرعة.

هذا، مع أنّ الأمر في الاستخارة أسهل؛ إذ القرعة إنّما شُرّعت في الحلال و الحرام و في حقوق الناس. و لكن بالاستخارة إنّما يثبت رجحان العمل بمؤدّاها، غاية الأمر يثبت استحبابه، من دون أن يتكفّل لاثبات الحلال و الحرام أو حقوق الناس.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 301

فلمّا كانت الاستخارة الرائجة الشائعة داخلةً في حقيقة القرعة، تكون من الدين و ليست من البدعة، بل الاستخارة الشائعة من مصاديق القرعة، كما سيأتي توضيح ذلك في خلال البحث.

لو عُلم الواقع بالاستخارة لم تحدث مشكلة للمؤمنين

الشبهة

الرابعة:

و من تلك الشبهات أنّه لو كانت الاستخارة طريقاً إلي الواقع المستور و لو عُلِمت بها المغيبات لم تحدث أيّة مشكلة في العيش للمؤمنين الذين هم أهل الاستخارة، و لتمكّنوا من كسب منافع و أموال كثيرة ضخمة، و لظفروا في الحروب علي المشركين و المنافقين كلِّهم، و لاستبقوا جميع أهل الدنيا و لَتفوّقوا علي دُوَل العالم في جميع الامور. و لم يكونوا مخلَّفين و منحَطّين من الجهات الثقافية و الاقتصادية و السياسية و النظامية، كما نشاهدهم الآن كذلك. فليست الاستخارة طريقاً للعثور و الاطلاع علي الغيب، كما قال تعالي: «قل لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ مٰا مَسَّنِيَ السُّوءُ» «1».

و أجاب السيد الامام الراحل في كشف الأسرار «2» عن هذه الشبهة بما تحريره:

إنّ جواب هذه الشبهة يُعلم بتوضيح معني الاستخارة. و هي جاءت في الأحاديث بمعنيين.

أحدهما: ما جاءَ في أكثر أحاديث الاستخارة، و هو طلب الخير بالدعاء و

______________________________

(1) الاعراف: 188.

(2) كشف الاسرار/ الطبع القديم: ص 89.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 302

الصلاة. و لم يُعرف هذا المعني عند عامّة الناس بالاستخارة.

و من الواضح أنّ مجرّد الدعاء و الصلاة ليس فيه التخرُّص علي الغيب بأيّ وجه و لا يستلزم المحذور المذكور قطعاً. فهذا المعني خارج عن مقصود المستشكل قطعاً.

ثانيهما: ما هو المعروف عند عامّة الناس و دلّ عليه بعض النصوص و اشتهر بين الأصحاب و هو طلب الخير من اللّٰه، بمعني إراءته تعالي للمستخير ما فيه الخير و الصلاح واقعاً بطريق الاستخارة بافتتاح المصحف أو بالرقاع أو بالسبحة أو بالقرعة.

و ذلك عند ما تحيّر الانسان و لم يتمكّن من تشخيص صلاح الفعل المطلوب و فساده بعد الفكر و المشورة. فبقي متحيّراً

عاجزاً عن تشخيص ما هو الحق الواقع و عن الاستضاءة بنور عقل نفسه بالتفكر و عقل غيره بالمشورة.

فحينئذٍ يبقي هذا الشخص فريداً وحيداً مضطرّاً لا مناص له من اختيار أحد الطرفين؛ إمّا الفعل و إمّا الترك.

فلو وُجد في هذا الحال أحدٌ يهدي هذا الانسان المتحيّر الواله إلي طرفٍ و يقوّي قلبه و يشدّ ظهره للعزم و العمل، لخدمه بذلك خدمة كبيرة و له عليه منّة عظيمة جدّاً.

فعند ذلك يقول علماء الدين و حَمَلة الشريعة أنّ اللّٰه تعالي- الذي هو ربّ العالمين و مجيب دعوة المضطرين و مدرك الهالكين و أمل الراجين- فتح لمثل هذا الانسان المتحيّر الواله المضطر الراجي نافذة رجاءٍ و أمل بالمستقبل بسبب الاستخارة بإحديٰ الطرق المذكورة فيهدي قلبه إلي جهةٍ و أنامله إلي طرف من

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 303

المصحف أو الرقاع أو السبحة، ليأخذ ما يطابق الحق الواقع بعد دعائه و تضرّعه و التجائه إلي ساحة الربوبية في حال تحيّره و شدة اضطراره.

فالاستخارة إنّما ترفع التحيّر و التردّد و الحيرة عن الانسان فيما يريده من الفعل و تُعطي العزم و الاستحكام في الارادة في خصوص الفعل الذي بقي الانسان متحيّراً و متردّداً في فعله.

و بذلك يريه اللّٰه تعالي ما فيه الخير و الصلاح واقعاً، كما أنّه تعالي كان يُري أنبيائه و أوليائه سبيل الرشد و يهديهم طريق الخير و الرشاد، كما قال تعالي:

«وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ» «1». و قال تعالي: «فَسُبْحٰانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» «2»

فانّ من شأن اللّٰه عزّ و جلّ اللطف بالعباد و هدايتهم إلي الحق باراءة آياته، كما قال تعالي:

«سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي الْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ

أَنَّهُ الْحَقُّ» «3».

«وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ سَيُرِيكُمْ آيٰاتِهِ فَتَعْرِفُونَهٰا» «4».

«كَذٰلِكَ يُحْيِ اللّٰهُ الْمَوْتيٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» «5».

«وَ مٰا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلّٰا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهٰا» «6».

______________________________

(1) الانعام: 75.

(2) يس: 83.

(3) فصّلت: 53.

(4) النمل: 93.

(5) البقرة: 73.

(6) الزخرف: 48.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 304

«وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ فَأَيَّ آيٰاتِ اللّٰهِ تُنْكِرُونَ» «1».

و من راجع الأحاديث الواردة في الاستخارة و تأمّل في مضامينها العالية يُذعن بأنّ ماهية الاستخارة ليست إلّا إراءة الواقع للمستخير ببركة دعائه و تضرّعه و صلاته؛ إما باخطار الواقع في قلبه و إنزال السكينة عليه، أو هداية يده و أنامله إلي طرف من السبحة أو ورقٍ من أوراق المصحف أو الرقاع؛ ليستخرج ما يطابق الحق الواقع.

هذا و لكن مع ذلك كله لا تقنع النفس بهذا الجواب مع تفصيله، و إن كان في غاية المتانة من حيث ترسيم فائدة الاستخارة و تبيين جذرها العقلائي.

و الجواب الصحيح المناسب للإشكال المزبور أن مفاد نصوص تشريع الاستخارة إراءة واقع ما يريده المستخير من الفعل في جريان اموره اليومية.

و ما كان من الأفعال المستحدثة الداخلة في شئونه عيشه و مقتضيات حوائجه اليومية، لا جميع المغيبات و ما لا يرتبط منها بامور عيشه و ما لا يبتلي به بمقتضي جريان العادة المتعارفة، كأن يأخذ سبحة أو مصحفاً و يذهب إلي الصحاري و الفلوات و الديار الخربة ليستخرج الكنز بالاستخارة و نحو ذلك مما هي خارجة عن شئون عيشه و عادته المتعارفة.

و قد أجاد العلامة المجلسي في تحرير ذلك؛ حيث قال- بعد ذكر نصوص أنحاء الاستخارات- «أظنّ أنّه قد اتضح لك مما قرع سمعك و مرّ عليه نظرك في الأبواب السابقة أنّ الأصل في الاستخارة

الذي يدلّ عليه أكثر الأخبار المعتبرة، هو أن لا يكون الانسان مستبداً برأيه، معتمداً علي نظره و عقله، بل يتوسل بربّه

______________________________

(1) غافر: 81.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 305

تعالي و يتوكّل عليه في جميع اموره، و يُقرّ عنده بجهله بمصالحه، و يفوّض جميع ذلك إليه، و يطلب منه أن يأتي بما هو خير له في اخراه و اولاه، كما هو شأن العبد الجاهل العاجز مع مولاه العالم القادر، فيدعو بأحد الوجوه المتقدّمة من الصلاة أو بدونها، بل بما يخطر بباله من الدعاء إن لم يحضره شي ءٌ من ذلك، للأخبار العامة؛ ثمّ يأخذ فيما يريد، ثمّ يرضي بكلّ ما يترتب علي فعله من نفع أو ضرٍّ» «1».

و من تأمل بعين البصيرة يجد الاستخارة آيةً من آيات اللّٰه و من هنا قال بعض الأعاظم «2»: إنّ الاستخارة من آيات إثبات وجود الواجب تعالي.

و لا ريب عند العقل السليم أنّ إراءة الواقع للمستخير، ليس علي اللّٰه، إلّا سهل يسير، بعد ما فهم و أذعن بأنّه الذي خلق السماوات و الأرض بغير عمد ترونها، و هو علي كل شي ء قدير، الذي بيده ملكوت كلّ شي ء، و أنّ أمره إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون.

هذا مضافاً إلي أنّ تحصيل قوّة الإرادة و استحكام العزم و الجزم علي الأمر المطلوب، من أهم أسباب التوفيق و النجاح في الوصول إلي المقصود، كما أذعن بذلك المتنوّرون من العلماء و أخصّائيُّ علم النفس و معرفة الروح.

و لا ريب أنّ بالاستخارة يحصل ذلك بأحسن وجه و أتمّه. و لو لم يكن للاستخارة غير هذا الأثر، من إيجاد العزم المتين و الارادة القوية و إزالة الشك و التحير و الوسوسة، لكفي ذلك

في حسنها، و ملائمتها للعقل و فهم العقلاء.

و قد تبيّن علي ضوء ما بينّاه أنّ الاستخارة ليست بمعزل عن حكم العقل و

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 287.

(2) كالشيخ الفقيه الكلباسي في رسالة الاستخارة/ طبع مؤسسة المهدي: ص 61، و السيد البجنوردي في قواعد الفقهية: ج 1، ص 69.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 306

ما يراه العقلاء و جرت عليه سيرتهم عند التحير و التردد في الأمور و عدم التمكن من العزم الراسخ علي الفعل المطلوب بعد الفكر و المشورة.

شبهة الاستقسام بالأزلام

الشبهة الخامسة:

بقيت هاهنا شبهة، و هي أنّ الاستخارة من قبيل الاستقسام بالأزلام.

و رُدّ بانّه لم يفسر لفظ الأزلام بالاستخارة في رواية و لا بما يشملها، هذا مع أنّ الاستخارة في ماهيتها مغايرة للأزلام التي كانت الجاهلية يطلبون الأرزاق بها، و هي السهام و القداح.

فقوله تعالي: «وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلٰامِ» «1»؛ أي و أن تطلبوا قسمة الأرزاق بالقداح و السهام. و لفظ الأزلام جمع الزَّلَم؛ و هو السهم الذي لا ريش له. كانت الجاهلية عند ما يشترون جزوراً أو بقراً أو ساير الأنعام يقسّمون لحومها بالقداح و السهام علي سبيل الاقتراع، كما نُقل ذلك عن الكشاف «2». و قد نقل ذلك في تفسير مجمع البيان «3» عن تفسير علي بن إبراهيم. و نقل عن بعض أنّ المراد بالأزلام هو آلات القمار التي كانوا يتقامرون بها.

و لا إشكال في خروج الاستخارة عن المعني المقصود من الاستقسام بالأزلام في الآية، بعد ورود نصوص كثيرة في الاستخارة و عمل الأصحاب

______________________________

(1) المائدة: 3، و الآية: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ

وَ مٰا أَكَلَ السَّبُعُ إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ وَ مٰا ذُبِحَ عَلَي النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلٰامِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ». المصدر.

(2) الكشاف: ج 1، ص 604، و جامع البيان: ج 6، ص 49.

(3) تفسير مجمع البيان: ج 3- 4، ص 158.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 307

بها، و لا سيما بما ورد في النصوص من الدعاء و التوسل إلي اللّٰه عند التحيّر و طلب الخيرة من اللّٰه تعالي و ما فيه الصلاح و الخير عنده و تفويض الأمر إليه.

هذا مع أنّ الاستخارة أشبه بالقرعة، و قد أثبتنا حجية القرعة، بل لا يمكن الخدشة في حجية أدلّتها من الكتاب و السنة و الاجماع، كما ثبت عمومها لكل أمر مجهول شامل لمورد الاستخارة، مع فرق بينهما. و الفارق من جانب الاستخارة ليس إلّا الدعاء و الصلاة و التوسل و طلب الخير من اللّٰه، مع افتتاح المصحف، أو عدّ حبّات السبحة، أو تشويش الرقاع، و الأخذ بما بقي من السبحة أو خرج من الرقاع و المصحف.

مع أنّ الأمر في القرعة أشكل لإفادتها الحكم الشرعي، و دليلها غير قابل للتشكيك لما له من قوّة الاعتبار.

فتحصل أنّ الشبهة المزبورة لا أساس لها.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 308

تعريف الاستخارة

اشارة

1- تنقيح آراءِ الفقهاء و المحدّثين.

2- تحقيق معني الاستخارة.

3- معاني الاستخارة من منظر النصوص.

إنّ تحقيق معني الاستخارة و تعيين المقصود منها في اصطلاح النصوص و الفتاوي من أهم ما وقع فيه البحث و الكلام في هذا المجال.

و قد اتضح من مطاوي ما بينّاه آنفاً بعض المقصود في المقام. و ينبغي قبل تحقيق معناها اللغوي و الاصطلاحي و نقل كلمات فحول الفقهاء و المحدثين في ذلك و تنقيح مبانيهم

و نقدها و ما يخطر بالبال من المناقشات فيها.

تنقيح آراءِ الفقهاء و المحدّثين
رأي ابن ادريس

قال ابن ادريس في تعريف الاستخارة:

«الاستخارة في كلام العرب الدعاء، و هو من استخارة الوحش. و ذلك أن يأخذ القانص ولد الظبية، فيَعْرُك اذنه، فيبغم. «1» فاذا سمعت امَّه بغامه، لم تملك أن تأتيه، فترمي بنفسها عليه، فيأخذها القانص حينئذٍ.

______________________________

(1) القانص: الصيّاد/ يَعرُك: يدلّك، من عَرَك يَعرُك عَركاً؛ أي تدليكاً/ بغمت الظبية تبغم؛ أي أنَّت، و البغام: أنين الظبية و صوتها الخفي الليّن.

و المقصود أنّ الصياد يأخذ ولد الظبية و يدلّك أذنه و حينئذ يرتفع صوت أنينه و تسمعه أمّه و ترمي بنفسها علي ولدها من غير اختيار. فيصيدها الصيّاد بهذا الطريق.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 309

قال حميد بن ثور الهلالي، و ذكر ظبيةً و ولدها و دعائه لها لمّا أخذه القانص، فقال:

* رأت مستخيراً فاستزال فؤادها*

* بمنيحة تبدوا لها و تغيب* «1».

أراد رأت داعياً. فكان معني استخرت اللّٰه استدعيته إرشادي.

و كان يونس بن حبيب اللغوي يقول: إنّ معني قولهم: استخرت اللّٰه؛ استفعلت من الخير؛ أي سألت اللّٰه أن يوفق لي خير الأشياء التي أقصدها. فمعني صلاة الاستخارة علي هذا؛ أي صلاة الدعاء». «2»

انتهي نصّ كلام ابن إدريس في المقام. ثمّ إنّه أنكر مشروعية الاستخارة بالرقاع و القرآن و السبحة و البنادق، خصّ الاستخارة المشروعة بمعناها اللغوي، و هو طلب الخير بالدعاء. و سيأتي نصّ كلامه علي ذلك.

و قد ردّه العلّامة بالتشنيع عليه، و كذا غيره من الفقهاء كالشهيد في الذكري و ابن طاوس و صاحب الجواهر. و سيأتي نقل كلماتهم في البحث عن مدرك الاستخارة.

______________________________

(1) و المقصود أنّ ظبية رأت داعياً- و هو ولدها- يدعوها ببغامه و أنينه فاحترق كبدها و

زال فؤادها بسبب منيحة؛ أيّ بسماع نياحة ولدها و بُغامه، قد تظهر نياحتُه لُامّه برفع أنينه فتسمعه، و قد تختفي بخفض صوت بغامه.

(2) السرائر/ طبع جماعة المدرسين: ج 1، ص 314.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 310

رأي العلامة الحلي

و قد أشار العلّامة في المختلف إلي حقيقة الاستخارة بعبارة موجزة جامعة؛ حيث قال:

«و أمر الاستخارة سهل يستخرج منه الانسان معرفة ما فيه الخيرة في بعض أفعاله المباحة المشتبهة عليه منافعها و مضارّها الدنيوية». «1»

و يفهم من كلامه اعتبار أربعةِ امور في الاستخارة شرعاً.

1- طلب معرفة ما ينبغي له أن يختاره، ممّا فيه الخير.

2- كون الفعل المورد للاستخارة مباحاً بالمعني الاعم؛ بأنّ لم يكن واجباً أو حراماً فيشمل المستحب و المكروه. و ذلك عند ما تردّد المستخير في فعل شي ء أو تركه لأجل الدوران بين المصالح و المحاذير المحتملة في الفعل و الترك.

و مقصوده موارد لم يرد من الشارع حكم إلزامي منجَّز من الوجوب و الحرمة؛ إذ موارد تنجّز التكليف الالزامي خارجة عن مورد تشريع الاستخارة. فلا يجوز الاستخارة لترك الواجب رأساً أو لفعل الحرام.

نعم يجوز الاستخارة في فعل بعض مصاديقه و ترك مصاديقه الاخري؛ كأن يستخير للاتيان بصلاة الظهر في وقت أو مكان خاص لاحتمال مفاسد و مضار دنيوية في ذاك المصداق، لا للاتيان بأصل طبيعي الواجب و إيجاده.

3- حصول الاشتباه و التحيّر في تشخيص صلاح الفعل و فسادها؛ لما فيه من الدوران بين المنافع و المصالح و بين المحاذير و المفاسد المحتملة.

4- رجوع مضار الفعل و منافعها- التي وقع فيها الاشتباه و التردّد- إلي الامور الدنيوية، لا الاخروية و المعنوية؛ نظراً إلي رجوع ذلك إلي حِكَم تشريع

______________________________

(1) مختلف الشيعة: ج 2، ص 357.

مباني

الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 311

الأحكام الشرعية، و ليست الاستخارة حجة شرعية لتعيين حكم الفعل المقصود من الاستخارة.

و لكن فيه ما لا يخفي؛ لوضوح عدم انحصار التحيُّر و التردّد المورد للاستخارة في ذلك، بل ربّما يكون لأجل احتمال ترتُّب مصالح و مفاسد معنوية علي الفعل الذي يريده، بسبب عوارض و طوارئ خارجية، لا بمقتضي ذات الفعل المستحب أو الواجب الذي يريد أن يفعله. فيقع حينئذٍ في حيرة و تردّد لأجل تكافؤ الاحتمالين. فاتضح بهذا البيان عدم اعتبار كون المضارّ و المنافع المحتملة دنيويةً.

و كيف يختص مورد الاستخارة بالتحير الراجع إلي الامور الدنيوية و لا يشمل التردّد من جهة الامور المعنوية و الاخروية؟ و قد امر في جميع نصوص الاستخارة بأن يدعو المستخير، و يطلب خيرة في عافية، و ما اصطفاه اللّٰه و اختاره له و ما ارتضي به له، و يطلب من ساحته تعالي أن لا يقع فيما يسخطه اللّٰه تعالي و لا يرضي به.

أ فلا يكشف ذلك عن خوف المستخير من وقوعه في سخط اللّٰه و بعده عن ساحته بالفعل المستخار فيه قبل الاستخارة؟

و هلّا يكشف ذلك عن رجوع تردّده و حيرته إلي الامور المعنوية و الاخروية؟!.

بل يمكن أن يقال: إنّ من أهمّ العوامل و الأسباب التي تُلجئُ المؤمن المتحيّر إلي الاستخارة: أنّه يري نفسه و أمره بين سخط اللّٰه و البعد من ساحته و بين مرضاة اللّٰه و القرب إليه. فلا يدري أنّ ما أراد أن يفعله في أيّ الأمرين يوقعه، فانّما يكون تحيّره لأجل ذلك.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 312

ثمّ إنّك قد عرفت من كلامه هذا أنّه لم يفرّق في هذا التعريف بين أنحاء الاستخارة.

فانّ كلامه عام شامل للاستخارة بمعناها الأعم الذي بمعني طلب الخير بمجرد الدعاء و الصلاة، و بمعناها الأخص الذي يكون بافتتاح المصحف أو بالرقاع أو بالسبحة. بل الاستخارة بمعناها الأخص الشائع داخلة في مقصوده قطعاً؛ لأنّه قال بذلك بعد تشنيعه علي ابن إدريس في إنكاره الاستخارة بهذا المعني.

رأي المحدث الكاشاني

و قد عرّف الفقيه العارف المحدّث الكاشاني الاستخارة في تبيين الرواية بقوله: «يعني ما طلب مسلم من اللّٰه الخيرة في أمره بالدعاء قبل أن يرتكبَه، إلّا جَعَل اللّٰه تعالي له ذلك الأمر خيراً.

هذا أحد معاني الاستخارة، و لها معان اخر تستفاد من الأخبار الآتية، كطلب تيسير ما فيه الخيرة، أو طلب تعرّف ما فيه الخيرة، أو طلب العزم علي ما فيه الخيرة. و ما سوي طلب التعرف يكون بالصلاة و الدعاء.

و طلب التعرف قد يكون بانضمام غيره، كالرّقاع و البنادق و القيام إلي الصلاة و فتح المصحف و أخذ السبحة و عدّها و القرعة. و يأتي بيان ذلك كلّه إن شاء اللّٰه تعالي. و الكل حَسَنٌ أيّها يأتي به العبد فقد استخار اللّٰه». «1»

و حاصل ما يستفاد من كلامه أمران:

أحدهما: أنّ الاستخارة جاءت في الأحاديث لأربعة معانٍ.

1- طلب الخِيَرة في أمره من اللّٰه تعالي بالدعاء قبل الشروع في العمل؛ بأن

______________________________

(1) الوافي: ج 9، ص 1409.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 313

يطلب تعلّق إرادته و عزمه علي خير ما ينبغي أن يختاره.

2- طلب تيسير ما فيه الخير و الصلاح واقعاً و تسهيله عليه.

3- طلب التعرّف و الاطلاع علي ما فيه الخير و الصلاح واقعاً.

4- طلب العزم المستحكم و الارادة الجازمة علي فعل ما فيه الخير و الصلاح.

ثانيهما: أنّ ما سوي طلب التعرّف من المعاني المزبورة-

و هو طلب الخيرة و طلب التيسير و طلب العزم- يكون بالدعاء و الصلاة، و طلب التعرّف قد يكون بانضمام غير ذلك، كالرقاع و البنادق و افتتاح المصحف و أخذ السبحة و القرعة. و يفهم من كلامه أنّ كل ذلك داخل في تعريف الاستخارة.

و يرد علي تعريفه أنّه من قبيل تعريف الشي ء بذكر مصاديقه و أقسامه.

فانّ ما ذكره من قبيل أقسام الاستخارة. و كان ينبغي له أن يُعرّفها بيان جامع لجميع هذه الاستخارة و مانع من غيرها، كما فعل العلّامة الحلّي.

و لكن الكلام في أنّه هل يمكن أخذ عنوان جامع لجميع هذه الأقسام الأربعة فيشملها؟

ظاهر كلام المحدّث المزبور أنّها معاني عديدة متغايرة بالفصول و إن كانت مشتركة في الجنس، و هو أصل الطلب و الدعاء.

رأي المحدث البحراني

قال المحدث البحراني في تعريف الاستخارة: «و ينبغي أن يُعلم أوّلًا: أنّ الاستخارة هي طلب الخيرة من اللّٰه تعالي، قاله في القاموس و النهاية و غيرهما. و قال ابن ادريس: الاستخارة في كلام العرب الدعاء، و قال أيضاً معني استخرت اللّٰه، استدعيت إرشادي، قال:

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 314

و كان يونس بن حبيب اللغوي يقول: إنّ معني استخرت اللّٰه، استفعلت اللّٰه الخير؛ أي سألت اللّٰه أن يوفقني خير الأشياء التي أقصدها. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المفهوم من الأخبار أنّها قد جاءت فيها علي معان عديدة». «1»

و قال- بعد ذكر أقسام الاستخارة في ختام كلامه-: «لا ريب أنّ الاستخارة بأيّ المعاني المتقدّمة، ترجع إلي الطلب منه سبحانه». «2»

و يفهم من ذيل كلامه- مع الالتفات إلي ما جاءَ في صدر كلامه في تعريف الاستخارة-، رجوع جميع المعاني المذكورة للاستخارة- بأقسامها التسعة أو العشرة الآتية «3» إلي معنا

جامع مشترك بين الجميع، و هو طلب الخيرة- أي خير ما ينبغي أن يختاره- و تعلُّق جزمه و عزمه به.

و يمكن كون مقصوده أنّ للاستخارة في اصطلاح الأحاديث معاني عديدة علي نحو الاشتراك المعنوي، و المعني الجامع هو أصل الطلب منه سبحانه، و كون ساير المعاني من باب مصاديق المعني الموضوع له. و الوجه في إرجاعه الكلّ إلي أصل الطلب لعلّه مغايره طلب العزم و طلب التعرّف و طلب التيسير مع معني طالب الخير، باعتبار تغاير متعلّق الطلب، و لكن الجميع مشتركة في أصل الطلب.

و علي أيّ حال رأي صاحب الحدائق موافق لرأي العلامة و الفيض في مجي ءِ الاستخارة في النصوص بجميع المعاني المذكورة. لا مجرد طلب الخير بالدعاء و الصلاة، كما زعمه ابن ادريس، و إن يرجع الجميع إلي أصل الطلب

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 524.

(2) المصدر: ص 533.

(3) و سيجي ءُ ذكر هذه الأقسام في البحث عن أقسام الاستخارة إن شاء اللّٰه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 315

بالمآل، كما أشار إليه في ذيل كلامه.

رأي صاحب الجواهر

يظهر من صاحب الجواهر أنّ لفظ الاستخارة في الأحاديث جاء بمعنيين:

أحدهما: طلب الخيرة بمعني أن يطلب من اللّٰه بالدعاء و التوسّل أن يكون ما أراد فعله أو تركه من الأمور خيراً له، لا أن يريه ما فيه الخير و الصلاح واقعاً. و قد استبعد كون هذا المعني مراداً من الاستخارة بالدعاء و الصلاة.

فانه فسّر الاستخارة بطلب الخيرة و استشهد لذلك بكلمات أهل اللّغة و نقل كلام الطريحي عن مجمع البحرين؛ حيث قال في تعريف الاستخارة:

«و هي طلب الخيرة كما في المصباح و عن القاموس و النهاية و مجمعي البرهان و البحرين، قال في الأخير: خار اللّٰه

لك أي أعطاك ما هو خير لك، و الخيرة بسكون الياء اسم منه. و الاستخارة طلب الخِيَرَة كعنبة. و استخيرك بعلمك؛ أي أطلب منك الخير متلبساً بعلمك بخيري و شرّي. و في الحديث: من استخار اللّٰه راضياً بما صنع خار اللّٰه له حتماً أي طلب منه الخيرة في الأمر» «1».

ثمّ قال: «و المراد بطلب الخيرة الدعاء و التوسل في أن يكون ما أراد فعله أو تركه من الامور خيراً له، و من هنا قال في المحكي عن إشارة السبق «2»: يصلي ركعتين- إلي أن قال-: و يسأل الخير فيما قصد إليه، … لكن الانصاف أنّي لم أجد في النصوص ما هو صريح في إرادة ذلك من الاستخارة التي يُصلي لها، نعم يحتمله صحيح عمرو بن حريث، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: صلِّ ركعتين و استخر

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12،، ص 156.

(2) و هي كتاب فقهي لعلي بن أبي الفضل الحلبي، و هو من القدماء.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 316

اللّٰه. فو الله ما استخار اللّٰه مسلم إلّا خار اللّٰه له «1»، بل لعلّه الظاهر منه عند التأمل». «2»

و نظير الصحيح المزبور خبر هارون بن خارجة «3».

ثانيهما: طلب تعرُّف ما فيه الخيرة بقرار نفسه و حصول عزمه علي ما فيه الخير و الصلاح واقعاً.

قال قدس سره: «و قال في الفقيه: قال أبي رضي اللّٰه عنه في رسالته إلي: إذا أردت يا بني أمراً فصل ركعتين و استخر اللّٰه مائة مرة و مرة فما عزم لك فافعل، و قل في دعائك: لا إله إلّا اللّٰه الحكيم الكريم، لا إله إلّا اللّٰه العلي العظيم، رب بحق محمد و آله صال علي محمد و

آله، و خر لي في كذا و كذا الدنيا و الآخرة خيرة في عافية، إلّا أنه و إن كان ظاهر الدعاء فيه يقتضي ما ذكرنا، لكن قوله: فما عزم لك فافعل، قد يشعر بارادة طلب تعرف ما فيه الخيرة باتفاق حصول العزم من المستخير الذي كان متردداً في الفعل و عدمه، كما صرح به في السرائر في كيفية الاستخارة.

و هو مضمون خبر اليسع القمي، قال: قلت لابي عبد اللّه عليه السلام: أريد الشي ء فأستخير اللّٰه فيه، فلا يوفّق فيه الرأي، أفعله أو أدعه؟ فقال عليه السلام: انظر إذا قمت إلي الصلاة- فانّ الشيطان أبعد ما يكون من الانسان إذا قام إلي الصلاة- أيّ شي ء يقع في قلبك فخذ به. و افتتح المصحف، فانظر إلي أول ما تري فيه، فخذ به إن شاء اللّٰه. «4»

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

(2) المصدر.

(3) المصدر: ح 2.

(4) الوسائل: ب 6، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 317

إذ قوله: فلا يوفَّق فيه الرأي، كالصريح في عدم حصول الارادة و العزم؛ كي يتعرَّف ما فيه الخيرة». «1»

و لا يخفي أنّ قوله: «فما عزم لك فافعل» في ذيل خبر معاوية بن ميسرة قول والد الصدوق في رسالته ظاهراً، لا كلام الامام عليه السلام. نعم جاء نظير هذا التعبير في كلام الامام عليه السلام في بعض النصوص «2». و سيأتي بيان ذلك عند تحقيق النصوص.

و مرجع كلامه في المعني الثاني إلي طلب إراءة ما فيه الخير و الصلاح واقعاً و ذلك إنّما يحصل بسكون نفسه و حصول عزمه و جزمه عليه، من فعل أو ترك.

ثالثها: طلب التوفيق لما اختاره اللّٰه له

و تيسيره له، و كون أقسام الاستخارة الشائعة طرقاً لتعرُّف ما اختاره اللّٰه له. و هذا المعني هو الذي قوّاه و استظهره من نصوص الاستخارة.

قال في ختام البحث عن ذلك: «و من هنا يُقوّيٰ أنّ للاستخارة معنيين، لا غير. أحدهما: أن يسأل من اللّٰه سبحانه أن يجعل الخير فيما أراد إيقاعه من الأفعال، و الثاني: أن يوفّقه لما يختاره له و يُيَسِّره له، نعم لتعرُّف الثاني طرق و لعلّها تتبع إرادة المستخير بالمعرفة» «3».

و لكن المعني الأوّل من هذين القسمين هو الذي ذكره أوّلًا في تعريف الاستخارة و استبعد كونه المراد من الاستخارة بالدعاءِ و الصلاة. و لعلّه ذكره

______________________________

(1) المصدر: ص 157- 158.

(2) حيث قال عليه السلام «: ثمّ تستخير اللّٰه مائة مرّة و مرّة، ثمّ تنظر فان عزم اللّٰه لك» / الوسائل: ب 1، من أبواب الاستخارة، ح 5.

(3) المصدر: ص 162.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 318

هنا لبيان حصر معني الاستخارة فيهما ثبوتاً. و لكنّه طبّق أقسام الاستخارة الشائعة علي المعني الثاني، و هو المعني الثالث من المعاني الثلاثة المستفادة من كلامه.

و لا يخفي عليك أنّ ما جاء في كلامه من تفسير الخيرة بالمعني الثاني، مناسبٌ لما ذكره الخليل و ابن الأثير؛ من أنّ لفظ «الخِيَرَة» علي وزن العِنَبَة بمعني ما يُختار.

و يظهر منه أنّ هذا المعني الثاني هو ظاهر أكثر نصوص الاستخارة؛ حيث استشهد لذلك بنصوص عديدة. و سيأتي بيان مرامه في الاستخارة عند البحث عن مدركها.

رأي صاحب العروة و المناقشة فيه

و قال السيد اليزدي في العروة: «الاستخارة بمعني طلب الخير من ربّه و مسألة تقديره له عند التردد … أو مطلقاً … للسفر و كل أمر خطير …، و لا سيّما عند

الحيرة و الاختلاف في المشورة. و هي الدعاء لأن يكون خيره فيما يَستقبل أمره. و هذا النوع من الاستخارة، هو الأصل فيها، بل أنكر بعض العلماء ما عداها مما يشتمل علي التفاؤل و المشاورة بالرقاع و الحصي و السبحة و البندقة و غيرها» «1».

حاصل كلامه: أنّ الاستخارة بمعني طلب الخير من اللّٰه سبحانه و تعالي بالدعاء و الصلاة؛ بأن يقدّر له الخير و الصلاح في مستقبل أمره الذي يريده، في كل أمر خطير، و لا سيّما عند الحيرة بعد الفكر و المشورة. و ظاهر كلامه عدم اختصاص الاستخارة بمورد التحيُّر و التردد في الأمر. بقرينة قوله: «أو مطلقاً»

______________________________

(1) العروة الوثقي/ مقدمة كتاب الحج في آداب السفر: ج 2، ص 411.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 319

و «و لا سيما عند الحيرة».

فيظهر من كلامه ثلاثة امور:

1- كون الاستخارة بمعني طلب تقدير الخير في أمره من اللّٰه تعالي؛ ليحصل بذلك ركون نفسه و قرار قلبه علي ما فيه الخير واقعاً. و هذا غير طلب التعرف علي ما فيه الخير، و غير طلب تيسير ما فيه الخير و تسهيله.

2- خطورة الأمر المورد للاستخارة و أهميته. و يفهم من كلام هذا العَلَم عدم مشروعية الاستخارة في الامور الجزئية.

3- عدم اختصاصها بمورد التحيّر و التردد في الأمر. و لعلّ مقصوده من ذلك ما إذا كانت الاستخارة بمجرّد الدعاء و الصلاة لطلب الخير في ما يريد فعله، لا في مثل الاستخارة بالمصحف و الرقاع و السبحة.

و علي أيّ حالٍ يرد عليه أوّلًا: أنّ المعني الذي ذكره في تعريف الاستخارة، إنّما يلائم بعض المعاني المفسَّر بها لفظ الاستخارة، دون ساير المعاني، كطلب العزم علي خير ما ينبغي أن يختاره،

كما يظهر ذلك من قوله عليه السلام: «فما عزم لك فافعل» «1»، و سبق آنفاً في كلام صاحب الجواهر. و كطلب ما اختاره اللّٰه له من خير الأمرين.

و ثانياً: أنّه لو كانت الاستخارة بمعني محض الدعاء و الاستغاثة من اللّٰه لتقدير الخير له، فأيّ وجه لتخصيصه بالامور الخطيرة، بل في الامور الجزئية الحقيرة اليسيرة أيضاً ينبغي الاستخارة بهذا المعني. فانّ صِغر الشي ءِ الحقير و حقارته لا يوجب كونه بمعزل عن عناية اللّٰه و لا خارجاً عن قضائه و قَدَره و علمه؛ ضرورة أنّه لا يعزب عن محضر ذاته المقدّسة مثقال ذرّة، كما قال تعالي:

______________________________

(1) الوسائل: ب 5، من صلاة الاستخارة، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 320

«وَ مٰا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا فِي السَّمٰاءِ» «1».

«يٰا بُنَيَّ إِنَّهٰا إِنْ تَكُ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمٰاوٰاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّٰهُ» «2».

«وَ مٰا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلّٰا يَعْلَمُهٰا وَ لٰا حَبَّةٍ فِي ظُلُمٰاتِ الْأَرْضِ وَ لٰا رَطْبٍ وَ لٰا يٰابِسٍ إِلّٰا فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ» «3».

هذا، مع أنّ الرواية صريحة علي خلاف ذلك مثل ما ورد عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«أنّه إذا كان إذا أراد شراء العبد أو الدّابة أو الحاجة الخفية أو الشي ءِ اليسير، استخار اللّٰه فيه سبع مرّات. فاذا كان أمراً جسيماً، استخار اللّٰه مائة مرّة» «4».

______________________________

(1) يونس: 61.

(2) لقمان: 16.

(3) الأنعام: 59.

(4) الوسائل: ب 5، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 321

تحقيق معني الاستخارة
اشارة

ينبغي لبيان ما هو مقتضي التحقيق في معني الاستخارة؛ أوّلًا: نظرة إلي كلمات أهل اللغة لتحقيق معناها اللغوي.

و

ثانياً: نظرة إلي النصوص و الأحاديث الواردة في الاستخارة، ليعلم معناها الاصطلاحي المقصود في النصوص.

تحقيق المعني اللغوي

ينبغي تحقيق معني لفظ الاستخارة لغة ليتضح المعني المقصود منه في الاحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام أكثر وضوحاً.

قال الخليل (المتوفيٰ سنة: 175 ه ق) في كتاب العين: «تقول: هذا و هذه و هؤلاء خِيَرَتي؛ و هو ما تختاره … و الخِيْرَة مصدر اسم الاختيار، مثل ارتاب ريبةً».

قال ابن فارس (المتوفّي سنة: 395 ه ق) في المقائيس: «و الخِيَرة: الخيار. و الخِير: الكرم. و الاستخارة: أن تسأل خيرَ الأمرين لك» «1».

و قال الجوهري (المتوفّي سنة: 393 ه ق):

«الاستخارة الاستعطاف. يقال: هو من الخُوار و الصوت. و أصله أنَّ الصائد يأتي وَلَدَ الظَّبْيَة في كناسه فيَعرك اذنه فيخور أي يصيح، يستعطف

______________________________

(1) مقائيس اللغة: ج 2، ص 232.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 322

بذلك أمَّه كي يصيدها» «1».

قوله: كناسه؛ أي موضع الضبي في خلال الأشجار و محل خفائه و استتاره.

و قال الزمخشري (المتوفّي سنة: 538 ه ق):

«و استخرت اللّٰه في ذلك فخار لي؛ أي طلبت منه خير الأمرين فاختاره لي» «2».

و قال ابن الأثير (المتوفّي سنة: 606 ه ق):

«الخَيْر ضدّ الشر … و خار اللّٰه لك؛ أي أعطاك ما هو خيرٌ لك. و الخِيرة بسكون الياء، الاسم منه. فأما بالفتح، فهي الاسم من قولك: اختاره اللّٰه، و محمد صلي الله عليه و آله خِيَرة اللّٰه من خَلقه. يقال بالفتح و السكون. و الاستخارة: طلب الخِيَرة في الشي ء، و هو استفعال منه. يقال استخر اللّٰه يخرْ لك. و منه دُعاء الاستخارة اللهم خِرْ لي، أي اختر لي أصلح الأمرين و اجعل لي الخِيَرة فيه» «3». و جاءَ نظير ذلك

في صحاح الجوهري في مادّة «خَيَر».

و قال الطريحي (المتوفي سنة: 1085 ه ق):

«و الاستخارة طلب الخِيَرة كعنبة. و استخير بعلمك، أي أطلب منك الخِيَرة متلبساً بعلمك بخيري و شرّي. قيل: الباءُ للاستعانة أو للقِسْم الاستعطافي.

و في الحديث: من استخار اللّٰه راضياً بما صنع اللّٰه خار اللّٰه له حتماً، أي طلب منه الخيرة في الأمر.

______________________________

(1) الصحاح: ج 2، ص 651.

(2) أساس البلاغة: ج 1، ص 272.

(3) النهاية: ج 2، ص 86.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 323

و فيه: استخر ثمّ استشر. و معناه انك تستخير اللّٰه أولًا بأن تقول: اللهم إنّي استخيرك خيرةً في عافية، و تكرر ذلك مراراً ثمّ تشاور بعد ذلك فيه فانّك إذا بدأت باللّٰه أجري اللّٰه لك الخيرة علي لسان من شاء من خلقه.

و خِرْ له و اختر لي، أي اجعل أمري خيراً و ألهمني فعله و اختر لي الأصلح» «1».

و الذي يتحصّل من مجموع كلمات أهل اللغة أنّ لفظ الاستخارة في الأصل جاءَ لثلاثة معان:

1- إنّه من الخوار و الصوت و مأخوذ من مادّة «خوَرَ».

و لفظ الاستخارة بناءً علي هذا الأصل، بمعني الاستعطاف و جلب الغير بالصوت و الأنين، كما جاء في كلام الجوهري في مادّة «خَوَر». و إن شئت فقل بمعني الدعاء، كما أشار إليه ابن ادريس بقوله: «الاستخارة في كلام العرب الدعاء».

2- من الخَيْر و الخَيْرة- بفتح الخاء و سكون الياء-، و هو ضدّ الشر. و لفظ الاستخارة بناءً علي هذا الأصل يكون بمعني طلب الخَيْر. كما اتفق عليه أهل اللغة.

3- من الخِيَرة علي وزن العِنَبة، و الخيرة- بكسر الخاء و فتح الياء و سكونها-؛ بمعني الخيار و الاختيار، كما جاءَ في كلام الخليل و الجوهري

و ابن فارس و ابن الأثير و غيرهم.

و الظاهر أنّ لفظ الاستخارة في أصل اللغة مشتركٌ بين المعاني الثلاثة المذكورة بالاشتراك اللفظي؛ لعدم جامع بينها ظاهراً.

______________________________

(1) مجمع البحرين/ طبع مكتبة المرتضوية: ج 3، ص 297- 296.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 324

فالمتحصّل من كلمات أهل اللغة أنّ الاستخارة في اللغة:

إمّا من الخِيَرة- بكسر الخاءِ و فتح الياء أو سكونها-؛ أي طلب ما اختاره اللّٰه له من خير الأمرين، أو طلب اختيار ما هو الأصلح.

أو من الخَيْر أو الخَيْرة- بفتح الخاءِ و سكون الياء- بمعني طلب ما هو خيرٌ له، أو طلب تقدير خير الأمرين- من الفعل و الترك، و ما هو أصلح منهما بحال المستخير.

و إمّا من الخُوار بمعني صوت الدعاء و أبين المستخير حينما يدعو اللّٰه بالتضرّع و الاستعانة.

و هذه المعاني كلها يمكن أن تكون مقصودة من الاستخارة الواردة في نصوص أهل البيت عليهم السلام، كما سيأتي بيانها، فلا تفاوت بين معناها اللغوي و بين معناها الاصطلاحي، إلّا فيما يرجع إلي مصاديقها و إلي الطرق و العلامات المذكورة في الأحاديث للتوصّل بها إلي خير الأمرين واقعاً.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 325

معاني الاستخارة من منظر النصوص
اشارة

1- المعاني المندرجة تحت طلب الخير.

2- الاستخارة بمعني طلب التعرّف علي الواقع.

المقصود من المعني الاصطلاحي هو المعني المراد من الاستخارة في نصوص أهل البيت عليهم السلام، و كلمات الفقهاء. و قد سبق الكلام في تعاريف الاستخارة الواردة في كلمات الفقهاء. و ينبغي هاهنا تحقيق في نصوص المقام.

فنقول: مقتضي التحقيق أنّ لفظ الاستخارة في النصوص الشرعية و كلمات الفقهاء مشتركٌ لفظي بين معنيين كليّين:

أحدهما: طلب الخير، سواءٌ كان بطلب التوفيق للخير، أو طلب تقدير الخير، أو طلب

العزم علي الخير و سكون النفس و قرارها عليه بالهام، أو طلب تيسيره.

و سواءٌ كان الطلب بالدعاء و الصلاة معاً أو بالدعاء فقط. و لا يبعد صدق طلب الخير علي جميع هذه المعاني الأربعة عرفاً؛ حيث يقال لمن يدعو و يطلب التوفيق للخير و تقديره، و من يطلب تيسير الخير و تسهيله، و من يطلب العزم علي فعل الخير: أنّه يطلب الخير، كما لا يبعد صدق طلب الخِيَرة علي الجميع بلحاظ إرجاع الكل إلي طلب ما يختاره اللّٰه له من الخير.

و ثانيهما: طلب التعرُّف و الاستطلاع علي ما هو خيرٌ واقعاً عند اللّٰه و خِيَرته في الأمر الذي يريده بأحد الطرق المتداولة، و هي الاستخارة بالمصحف أو الرقاع أو السبحة أو المساهمة التي لها جذرٌ في مفهوم الاقتراع، و إن كانت منضمّة بالدعاء و الصلاة عملًا، لكنّها مغايرة مع المعني الأوّل بحسب التبادر و

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 326

الارتكاز. و الشاهد لذلك عدم تبادر الثاني من سماع الأوّل. نعم يشترك القسمان في أصل الطلب. و عليه فلفظ الاستخارة مشترك معنوي بين الجميع؛ أي القسمين بما لهما من الأقسام.

المعاني المندرجة تحت طلب الخير
اشارة

تفصيل القسم الأوّل: أنّ لفظ الاستخارة- بمعني طلب الخير- قد اطلق في نصوص المقام علي أربعة معانٍ:

1- الدعاء لطلب الخير و التوفيق.

و إنّ هذه الطائفة من الروايات كثيرةٌ، و إليك نبذةٌ منها.

فمن هذه النصوص:

خبر معاوية بن ميسرة عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «ما استخار اللّٰه عبد سبعين مرّة بهذه الاستخارة إلّا رماه اللّٰه بالخيرة، يقول: يا أبصر النّاظرين، و يا أسمع السامعين، و يا أسرع الحاسبين و يا أرحم الراحمين، و يا أحكم الحاكمين، و صل علي محمد صلي الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام و خر لي في كذا و كذا» «1».

وجه الدلالة أنّ قوله عليه السلام: «يقول: …» بيان و تفسير لقوله: «ما استخار اللّٰه عبد سبعين مرّة بهذه الاستخارة». فانّه عليه السلام فسّر الاستخارة بدعاءِ المستخير الواردة في ذيل هذه الرواية.

و منها: صحيح ابن أبي يعفور، قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول في الاستخارة: تعظّم اللّٰه و تمجّده و تحمده و تصلّي علي النبي صلي الله عليه و آله ثمّ تقول: اللهم إنّي أسألك بأنّك عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم و أنت عالم الغيوب، أستخير اللّٰه

______________________________

(1) الوسائل: ب 5، من صلاة الاستخارة، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 327

برحمته» «1».

و منها: صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الأمر يطلبه الطالب من ربّه، قال عليه السلام: يتصدّق في يوم علي ستّين مسكيناً، كلّ مسكين صاعاً بصاع النبي صلي الله عليه و آله. فاذا كان الليل اغتسل في ثلث الليل الباقي و يلبس أدني ما يلبس من يعول من الثّياب، إلّا أنّ عليه في تلك الثّياب إزاراً، ثمّ يصلّي ركعتين. فاذا وضع جبهته

في الركعة الأخيرة للسجود هلّل اللّٰه و عظّمه و مجّده، و ذكر ذنوبه فأقرّ بما يعرف منها مسمّي، ثمّ رفع رأسه. فاذا وضع في السجدة الثانية استخار اللّٰه مائة مرّة. يقول: اللّهم إنّي أستخيرك، ثمّ يدعو اللّٰه بما شاء و يسأله إيّاه كما سجد، فليفض برُكبتيه إلي الأرض يرفع الازار حتي يكشفها، و يجعل الازار من خلفه بين ألييه و باطن ساقيه» «2». قوله: ألييه تثنية الألية بالفتح من ألية الشاة، و لا تقل الألية بالكسر كما صرّح الجوهري بهذا التنبيه. و الألية في الانسان طرفي مقعده.

و منها: موثقة الحسن بن علي بن فضّال عن حماد بن عيسي عن حَريز عن زرارة، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: إذا أردت أمراً و أردت الاستخارة كيف أقول؟ فقال عليه السلام:

إذا أردت ذلك فصم الثلثاء و الأربعاء و الخميس، ثمّ صل يوم الجمعة في مكان نظيف ركعتين، فتشهّد ثمّ قل و أنت تنظر إلي السماء: اللّهم إنّي أسألك بأنّك عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم أنت عالم الغيب، إن كان هذا الأمر خيراً فيما أحاط به علمك فيسّره لي و بارك لي فيه، و افتح لي به. و إن كان ذلك لي شرّاً فيما أحاط به علمك، فاصرفه عنّي بما تعلم، فانّك تعلم و لا أعلم، و تُقَدّر و لا اقِّدر، و تقضي و لا أقضي و أنت علّام الغيوب، تقولها مائة مرّة» «3».

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من صلاة الاستخارة، ح 1.

(2) المصدر: ح 12.

(3) المصدر: ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 328

و منها: صحيح حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّه قال في الاستخارة: أن يستخير اللّٰه الرجل في

آخر سجدة من ركعتي الفجر مائة مرّة و مرّة، تحمد اللّٰه و تصلّي علي النبي صلي الله عليه و آله و آله، ثمّ تستخير اللّٰه خمسين مرّة. ثمّ تحمد اللّٰه و تصلّي علي النبي صلي الله عليه و آله، و تمّم المائة و الواحدة» «1».

و يدلّ علي هذا المعني من الاستخارة نصوص كثيرة معتبرة، و هي أكثر نصوص المقام، فمن ذلك جميع روايات الباب الأوّل و الرابع و الخامس من أبواب صلاة الاستخارة في الوسائل، و عليه يحمل ما نقله في الباب السابع و التاسع و العاشر.

و حاصل هذا المعني طلب الخير بالدعاءِ و الصلاة؛ بأن يدعو المستخير و يطلب من ساحة ربّه سبحانه و تعالي أن يقدّر له الخير فيما يريد فعله و يجعل فيه البركة و التوفيق.

و هذا مراد صاحب الحدائق من قوله:

«بمعني أنّه يسأل اللّٰه في دعائه أن يجعل له الخير و يوفّقه في الأمر الذي يريده. و علي هذا المعني يحمل ما رواه في الكافي عن عمرو بن حريث في الصحيح علي الأظهر، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام صل ركعتين و استخر اللّٰه فو اللّٰه ما استخار اللّٰه مسلم إلّا خار له البتة. و في رواية اخري عنه عليه السلام: من استخار اللّٰه راضياً بما صنع اللّٰه خار اللّٰه له حتماً. و في معناهما أخبار اخر أيضاً». «2»

و تدلّ علي هذا المعني عدّة نصوص معتبرة؛

منها: صحيحة عمرو بن حريث قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «صلّ ركعتين و

______________________________

(1) الوسائل ب 4، من أبواب الاستخارة، ح 1.

(2) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 525.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 329

استخر اللّٰه فو الله ما استخار اللّٰه مسلم

إلّا خار له البتّة» «1».

و نظيره خبر هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «من استخار اللّٰه راضياً بما صنع خار اللّٰه له حتماً» «2».

هذان الخبران جاءَ في كلام صاحب الحدائق.

و في خبره الآخر، قال: «قال أبو عبد اللّه من استخار اللّٰه تعالي مرّة واحدة و هو راضٍ بما صنع اللّٰه له، خار اللّٰه له حتماً» «3».

وجه دلالة هذه النصوص علي هذا المعني أنّ قوله عليه السلام: «خار له البتّة» و قوله: «خار اللّٰه له حتماً» عقيب الاستخارة، ظاهرٌ في كون مطلوب المستخير من اللّٰه تعالي، جعل الخير و تقديره في الأمر الذي يريده فيخير اللّٰه تعالي له؛ بأن يجعل الخير و يقدّره له في ذلك الأمر.

كما يدل علي ذلك قوله في خبر معاوية: «رماه اللّٰه بالخيرة» فان الرمي بالخير جعله و تقديره. و أيضاً يدلّ علي ذلك قول المستخير في ذيل خبر معاوية: «و خِرْ لي في كذا و كذا»؛ أي اجعل و قدّر لي الخير في كذا و كذا.

و لفظ الاستخارة فيها بمعني طلب الخير و معني ذلك جعل الخير و تقديره فيما أراد المستخير أن يفعله. و يشهد لذلك قوله: «خار له البتة» و «خار الله له حتماً»؛ أي يجعل و يقدر له الخير البتة و حتماً.

إلي غير ذلك من النصوص الظاهرة في هذا المعني، و إن يمكن حملها علي بعض المعاني الآتية أيضاً.

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من صلاة الاستخارة، ح 1.

(2) المصدر: ح 2.

(3) المصدر: ب 7، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 330

2- طلب تيسير ما فيه الخير واقعاً و تسهيل خير الأمرين، من الفعل أو الترك.

و ذلك بأن يطلب من اللّٰه سبحانه تسهيل فعل ما يريده، إن كان خيراً في الواقع، و صرفه عنه إن

كان شرّاً واقعاً. و هذا المعني من الاستخارة أيضاً يكون بالدعاء و الصلاة.

و يستفاد هذا المعني من عدّة نصوص واردة في الاستخارة.

منها: صحيحة مرازم قال: قال لي أبو عبد اللّٰه: «إذا أراد أحدكم شيئاً فليصلّ ركعتين ثمّ ليحمد اللّٰه و ليثن عليه، و يصلّي علي محمد و أهل بيته و يقول: اللّهم إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني و دنياي فيسّره لي و قدّره، و إن كان غير ذلك فاصرفه عنّي» «1».

و منها: موثق زرارة أو معتبرته، قال: «قلت لأبي جعفر إذا أردت أمراً و أردت الاستخارة كيف أقول؟ فقال: إذا أردت ذلك فصم الثلثاء و الاربعاء و الخميس ثمّ صل يوم الجمعة في مكان نظيف ركعتين، فتشهد ثمّ قل- و أنت تنظر إلي السماء-: اللّهم إنّي أسألك بأنّك عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم أنت عالم الغيب، إن كان هذا الأمر خيراً فيما أحاط به علمك فيسّره لي و بارك لي فيه، و افتح لي به، و إن كان ذلك لي شراً فيما أحاط به علمك فاصرفه عنّي بما تعلم فانّك تعلم و لا أعلم، و تقدر و لا أقدر، و تقضي و لا أقضي و أنت علام الغيوب، تقولها مائة مرّة» «2».

و منها: معتبرة مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه السلام- في حديث- قال: «اللّهم إنّي أستخيرك برحمتك، و أستقدرك الخير بقدرتك عليه لأنّك عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم فأسألك أن تصلي علي محمد النبي و آله عليه السلام، كما صليت علي إبراهيم

______________________________

(1) المصدر: ب 1، ح 7.

(2) المصدر: ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 331

و آل ابراهيم إنّك حميد مجيد. اللهم إن كان هذا الأمر

الذي اريده خيراً لي في ديني و دنياي و آخرتي، فيسّره لي. و إن كان غير ذلك، فاصرفه عنّي و اصرفني عنه» «1».

و نظيره معتبرته الاخري «2».

و منها: صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أبو جعفر عليه السلام يقول: ما استخار اللّٰه عبد قطّ مائة مرّة إلّا رمي بخيرة الأمرين، يقول: اللهم عالم الغيب و الشهادة إن كان أمر كذا و كذا خيراً لأمر دنياي و آخرتي و عاجل أمري و آجله فيسّره لي و افتح لي بابه و رضّني فيه بقضائك» «3».

و لا إشكال في أنّه لا جامع بين المعني السابق و بين هذا المعني؛ لأنّ جعل الخير و تقديره في ما يريده المستخير غير تيسير ما فيه الخير من الفعل و الترك، كما هو واضح.

3- طلب الخِيَرَة- بكسر الخاء و فتح الياء، من الاختيار

- بمعني طلب قوّة الارادة و استحكام العزم في اختيار خير الأمرين؛ بأن يطلب من اللّٰه تعالي أن يخرجه عن الحيرة و يزيل عنه حالة الشك و التردّد و يُنزل عليه السكينة و يعطيه قوّة اختيار خير الأمرين من الفعل أو الترك.

و هذا المعني و إن ينطبق علي المعني الثاني غالباً؛ لأنّ بازالة الخيرة و إعطاء قوّة الارادة و استحكام العزم يتيسّر الأمر للمستخير. و لكن من جهة الجذر اللغوي و المفهوم لا إشكال في تغاير المعنيين؛ فان التيسير و تسهيل الأمر غير إزالة الحيرة و إيجاد العزم و تقوية الارادة، كما هو واضح. و الانطباق

______________________________

(1) المصدر: ب 5، ح 5.

(2) المصدر: ح 6.

(3) المصدر: ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 332

في المصداق لا يوجب وحدة المعني.

هذا، مضافاً إلي حصول التيسير برفع الموانع و المشاكل الخارجية أيضاً، فلا

ينحصر بازالة الحيرة و الترديد و إعطاء العزم.

و الاستخارة بهذا المعني ظاهرة من بعض الأحاديث الواردة في باب الاستخارة.

فمن هذه النصوص:

صحيحة علي بن أسباط، قال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام، جعلت فداك ما تري آخذ براً أو بحراً، فانّ طريقنا مخوف شديد الخطر؟ فقال عليه السلام: اخرج براً، و لا عليك أن تأتي مسجد رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و تصلي ركعتين في غير وقت فريضة، ثمّ تستخير اللّٰه مائة مرّة و مرّة، ثمّ تنظر؛ فان عزم اللّٰه لك علي البحر، فقل الذي قال اللّٰه عزّ و جلّ: و قال اركبوا فيها بسم اللّٰه مجريها و مرسيها إنّ ربّي لغفور رحيم، الحديث» «1».

فان قوله: «فان عزم اللّٰه لك علي البحر …» إشارة إلي هذا المعني الذي بيّناه. قال في مجمع البحرين: و عَزَم اللّٰه لي: أي خَلَق اللّٰه لي عزماً.

و منها خبر جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كان علي بن الحسين عليه السلام إذا همّ بأمر حجّ و عمرة أو بيع أو شراء أو عتق، تطهر، ثمّ صلّي ركعتي الاستخارة فقرأ فيهما بسورة الحشر و سورة الرحمن، ثمّ يقرأ المعوذتين، و قل هو اللّٰه أحد، إذا فرغ و هو جالس في دبر الركعتين، ثمّ يقول: اللّهم إن كان كذا و كذا خيراً لي في ديني و دنياي و عاجل أمري و آجله، فصلّ علي محمد و آله و يسّره لي علي أحسن الوجوه و أجملها، اللّهم و إن كان كذا و كذا شراً لي في ديني أو دنياي و آخرتي و عاجل أمري و آجله فصلّ علي محمد و آله عليهم السلام و اصرفه عنّي، ربّ صل علي محمد و

آله و اعزم لي علي رشدي و

______________________________

(1) المصدر: ب 1، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 333

إن كرهت ذلك أو أبته نفسي» «1».

و منها: موثق اسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قلت له: ربّما أردت الأمر يفرق مني فريقان: أحدهما يأمرني، و الآخر ينهاني، قال: فقال عليه السلام إذا كنت كذلك فصل ركعتين و استخر اللّٰه مائة مرة و مرّة، ثمّ انظر أجزم الامرين لك، فافعله فان الخيرة فيه إن شاء اللّٰه» «2»

فان قوله عليه السلام: «ثمّ انظر أجزم الأمرين لك، فافعله؛ فانّ الخِيَرة فيه إن شاء اللّٰه» إشارة إلي المعني المزبور.

و بهذا المعني قول أبي عبد اللّه عليه السلام: «ربِّ اعزم لي علي رشدي» في دعاء الاستخارة في معتبرة اسحاق بن عمار «3» فقوله: «ربِّ اعزم»؛ أي أوجِد في نفسي عزماً.

و هذا المعني من الاستخارة أيضاً، إنّما يؤتي به بمجرد الدعاء أو بالدعاءِ و الصلاة معاً.

4- طلب الخِيَرة- بكسر الخاء و فتح الياءِ- بمعني صفوة الشي ءِ و المختار منه،

كما وُصف النبي صلي الله عليه و آله بخيَرَة اللّٰه بهذا المعني؛

بأن يطلب من اللّٰه سبحانه و تعالي ما قدّره و قضاه و اختاره و اصطفاه للمستخير.

و يمكن الاستشهاد لذلك أيضاً ببعض التعابير الواردة في نصوص المقام،

______________________________

(1) المصدر: ب 1، ح 3.

(2) المصدر: ح 6.

(3) مستدرك الوسائل: ج 6، ب 4، من صلاة الاستخارة ص 256، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 334

كقوله: «و رضّني فيه بقضائك» في صحيحة معاوية بن عمّار «1».

و قوله: «و رضّني في ذلك بقضائك، فانّك تعلم و لا أعلم و تُقدِّر و لا اقدِّر و تقضي و لا أقضي، إنّك علّام الغيوب» «2». و نظيره موثق زرارة «3» فانّ ما تعلّق

به قضاء اللّٰه و قدره، يكون مما اختاره اللّٰه و أراده.

ثمّ إنّ الاستخارة بجميع الأقسام الأربعة المزبورة؛ إمّا بالدعاءِ وحدها أو بالدعاء و الصلاة معاً حسب ما تدلّ عليه النصوص.

الاستخارة بمعني طلب التعرّف علي الواقع

إنّ للاستخارة في النصوص معني آخر غير طلب الخير- المندرجة فيه المعاني الأربعة المزبورة-، و هو طلب التعرُّف علي الواقع و الاستطلاع علي ما فيه الخير و ما اختاره اللّٰه له في ذلك الأمر الذي يريده؛ بأن يطلب من اللّٰه سبحانه أن يعرّفه و يُريه بطريق الاستخارة ما هو خير مقدّر له واقعاً- من الفعل أو الترك- فيستدعي من اللّٰه تعالي إراءة خير الأمرين و ما هو الأصلح له من فعل الأمر الذي يريده أو تركه.

و يدل علي هذا المعني قوله عليه السلام: «فأخرج لنا آيةً من كتابك نستدلّ بها علي

______________________________

(1) الوسائل: ب 5، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 9.

(2) المصدر: ح 4.

(3) المصدر: ب 1، ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 335

ذلك … فانه يبيّن لك حاجتك» في معتبرة مفضّل بن عمر «1». و نظيره ما رواه السيد بن طاوس و الطبرسي «2».

و قوله عليه السلام: «فأرني من كتابك ما هو مكتومٌ من سرّك المكنون في غيبك» فيما رواه السيد بن طاوس. «3» و غير ذلك من الأدعية الواردة في الاستخارة بالمصحف و الرقاع و غيرهما.

و لهذا النوع من الاستخارة طرق عديدة مذكورة في الأحاديث الواردة، كما يستفاد اختصاص تلك الطرق بهذا المعني من الاستخارة، من كلام صاحب الحدائق؛ حيث قال: «و منها: ما ورد بمعني طلب تعرّف ما فيه الخيرة، و هذا هو المعروف الآن بين الناس، و لكن لا بد هنا من انضمام شي ءٍ آخر إلي الصلاة و

الدعاء معاً أو الدعاء وحده من الرقاع أو البنادق أو فتح المصحف أو أخذ السبحة أو القرعة أو الاخذ من لسان المشاور» «4».

و يستفاد ذلك أيضاً من كلام المحدّث الكاشاني «5»، و المحدث المجلسي؛ حيث جعلها من القسم الرابع للاستخارة بقوله: «رابعها، استعلام الخير بالأعمال و هي أنواع» «6»، و كذا يستفاد من كلام صاحب الجواهر كما سيأتي بيانه.

و قد جاءَ أكثر هذه المعاني في كلماتهم، كما أشار الفيض في بيان معني الاستخارة بقوله:

«يعني ما طلب مسلم من اللّٰه الخيرة في أمره بالدعاء قبل أن يرتكبه إلّا جعل اللّٰه تعالي له ذلك الأمر خيراً.

هذا أحد معاني الاستخارة، و لها معان اخر تستفاد من الأخبار الآتية؛ كطلب تيسير ما فيه الخيرة، أو طلب تعرُّف ما فيه الخيرة، أو طلب العزم علي ما

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 245.

(2) بحار الانوار: ج 88، ص 241، و مكارم الاخلاق: ص 373.

(3) بحار الانوار: ج 88، ص 241، ح 1.

(4) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 526.

(5) الوافي: ج 9، ص 1409.

(6) تحف العقول: ج 15، ص 450.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 336

فيه الخيرة. و ما سوي طلب التعرف يكون بالصلاة و الدعاء». «1»

و إنّ لهذا النوع الأخير من الاستخارة أقساماً تكون بطرق و علامات خاصة، و هي مقصودنا من الاستخارة بمعناها الأخص. و سيأتي بيانها و تحقيق النصوص الدالّة عليها، إن شاء اللّٰه.

______________________________

(1) الوافي: ج 9، ص 1409.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 337

الاستخارة بأقسامها الشائعة و تحقيق نصوصها

اشارة

1- معني مشروعية هذه الأقسام و ثمرها.

2- الاستخارة بطلب إلهام الخير.

3- تحقيق في نصوص الاستخارة بالمشورة.

4- تحقيق نصوص الاستخارة بالرقاع.

5- الاستخارة بافتتاح المصحف.

6- هل المدار علي المتبادر من

لفظ الآية أو مدلول السياق؟

7- تحقيق روايات الاستخارة بالقرآن بعدّ سبعة أوراق.

8- تحقيق في نصوص التفؤُّل بالقرآن.

9- مقتضي التحقيق في الفرق بين التفؤُّل و الاستخارة.

10- الاستخارة بالسبحة و عدم شهرتها بين القدماء.

11- هل للسبحة و الحصي موضوعية؟

12- الاستخارة بالبنادق.

معني مشروعية هذه الاقسام و ثمرها

و قد جاءت الاستخارة بالمعني الأخير- أي طلب التعرُّف علي الخِيَرة و استعلام ما فيه الصلاح و الخير عند اللّٰه- علي أقسام في نصوص المقام، و كلُّها في الحقيقة طرق التعرّف و الاستعلام، كما يظهر من كلمات الفقهاء الفحول.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 338

و الغرض من البحث في المقام إثبات مشروعية هذه الأقسام.

و لكن قد تخطر بالبال هاهنا شبهة، و هي: أنّ العمل بمؤدّي الاستخارة- بعد الدعاء و الصلاة و التوكّل علي اللّٰه، و بعد الفراغ عن جواز كلّ من الفعل و الترك شرعاً، كما هو المفروض في مورد الاستخارة-، فأيّ منع شرعي عنها حتي تحتاج مشروعيتها إلي الاثبات بالدليل؟

و الجواب: أنّ الغرض في المقام إثبات جواز العمل بمؤديٰ الاستخارة مسنداً إلي الشارع بالخصوص؛ بأنّ يُستند ذلك إلي أمره الاستحبابي و نهيه التنزيهي الثابتين بالنصوص الشرعية الواردة في الاستخارة.

و من الواضح أنّه فرق بين الجواز الثابت لفعل أو ترك بالعنوان الأوّلي، 0 و بين الاستحباب الثابت لذلك الفعل أو الترك باستناد أمر الشارع أو نهيه بالعنوان الثانوي بما أنّه مورد الاستخارة، و بما يكون لموردها من الخصوصيات السابق ذكرها في بيان معني الاستخارة و حقيقتها و تحديد مواردها.

و قد دلّت علي مشروعية كل واحد من هذه الأقسام عدّة نصوص، و هي علي طوائف.

الاستخارة بطلب إلهام الخير

الطائفة الاولي: ما جاءت الاستخارة فيه بمعني استعلام الخير بالهام من اللّٰه و إخطاره في قلب المستخير؛ حيث إنّه ربّ أمر ليس قابلًا للمشورة؛ لكونه من الأسرار و ينبغي ستره، كما أنّه ربما لا فرصة للمشورة، أو تكون موانعُ اخري عنها. فحينئذٍ يستخير صاحب الحاجة و يستهدي اللّٰه تعالي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 339

أن

يعرّفه و يُريه الخير بطريق الالهام.

و في هذه الطائفة من النصوص إنّما تكون الاستخارة بالدعاء و الصلاة، لكنها الطلب التعرُّف و استعلام ما هو خير واقعاً. و يفهم من جواب الامام عليه السلام حصول التعرُّف بالهام من اللّٰه و إلقاء في القلب.

من هذه النصوص موثق ابن فضّال، قال: «سأل الحسن ابن الجهم أبا الحسن عليه السلام لابن أسباط، فقال: ما تري له- و ابن أسباط حاضر- و نحن جميعاً نركب البحر أو البر إلي مصر، و أخبره بخبر طريق البرّ. فقال عليه السلام البَرُّ، و ائت المسجد في غير وقت صلاة الفريضة فصل ركعتين فاستخر اللّٰه مائة مرة، ثمّ انظر أيّ شي ء يقع في قلبك فاعمل به» «1».

ظاهر أمر الامام عليه السلام باتيان المسجد و الاستخارة، بعد قوله «البَرّ»، التخيير بين اختيار طريق البرّ- الذي كان رأي الامام عليه السلام- و بين الاستخارة.

و لا يخفي أنّ المستفاد من هذه الموثقة مشروعية الاستخارة بمعني طلب التعرف علي خير الأمرين و استعلام ما فيه المصلحة بالهام من اللّٰه تعالي و إخطاره في قلبه.

و من هذا القبيل ما رواه الحسين بن محمد الطوسي في أماليه بسنده عن علي بن محمد عن آبائه عليهم السلام، قال: قال الصادق عليه السلام: «إذا عرضت لأحدكم حاجة، فليستشر اللّٰه ربّه، فان أشار عليه اتبع، و إن لم يُشِر عليه فتوقف. قال: قلت: يا سيّدي كيف أعلم ذلك؟ قال عليه السلام: يسجد عقيب المكتوبة و يقول: اللهم خر لي مائة مرّة، ثمّ يتوسّل بنا و يصلّي علينا و يستشفع بنا، ثمّ تنظر ما يلهمك تفعله، فهو الذي أشار

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 340

عليك به»

«1».

هذه الرواية، و إن لم يأت لفظ الاستخارة في صدرها، و لكن جاء ما بمعني الاستخارة، و هو استشارة الربّ. فان في بعض نصوص المقام عُبّر عن الاستخارة باستشارة اللّٰه. هذا، مضافاً إلي أن قوله في الذيل: «اللّهم خِر لي» يدل علي صدور طلب الخير من جانب صاحب الحاجة، و ليس حقيقة الاستخارة، إلّا طلب الخير.

و سؤال الراوي بقوله: «كيف أعلم ذلك» يدلّ علي كونه بصدد الاستعلام و التعرُّف علي ما هو خير له في الواقع.

و من ذلك ما رواه علي بن طاوس من كتاب الأدعية «لسعد بن عبد اللّه، عن علي بن مهزيار قال: كتب أبو جعفر الثاني إلي إبراهيم بن شيبة: فهمت ما استأمرت فيه من أمر ضيعتك التي تعرض لك السلطان فيها، فاستخر اللّٰه مائة مرّة خيرة في عافية، فان احلولي بقلبك بعد الاستخارة بيعها فبعها و استبدل غيرها إن شاء اللّٰه، و لا تتكلّم بين أضعاف الاستخارة حتي تتم المائة إن شاء اللّٰه». «2»

قوله: احلولي بقلبك؛ أي وجدته و أحسسته في قلبك حُلْواً، أصله من الحُلو.

قال الخليل: «حَلا يحلو حلواً و حُلواناً، و قد احلوليٰ». و قال في الصحاح: «الحُلْوُ:

نقيض المُرّ. يقال حَلا الشي ء يَحلو حَلاوةً. و احلوليٰ مثله». و المقصود أنّه إذا مال و عطف إليه قلبك و هوي إليه فؤادك بعد الاستخارة إلي بيع الضيعة.

هذه الرواية معتبرة؛ حيث إنّ ظاهر نقل ابن طاوس أنّه قد تحملها عن

______________________________

(1) المصدر: ب 4، ح 3.

(2) المصدر: ب 5، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 341

كتاب سعد بطريق الوجادة، و قد تحملها سعد عن علي بن مهزيار بالسماع. و ظاهر كلام ابن مهزيار أنّه رأي مكاتبة أبي جعفر الثاني.

و

قد بحثنا عن تحمل الحديث بطريق الوجادة و اعتبارها في كتابنا «مقياس الرواية» «1».

و مثله ما رواه الحسن بن فضل الطبرسي في مكارم الأخلاق؛ نقلًا من فردوس الأخبار: «إنّ النبي صلي الله عليه و آله قال: «يا أنس إذا هممت بأمر، فاستخر ربّك فيه سبع مرّات، ثمّ انظر إلي الذي يسبق إلي قلبك، فانّ الخيرة فيه» «2».

و لكن في خبر اليسع القمي أمر الامام عليه السلام بالأخذ بما يقع في قلب المستخير حينما قام إلي الصلاة، لا في كل وقت؛ حيث قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام، اريد الشي ء فأستخير اللّٰه فيه، فلا يوفَّق فيه الرأي أفعله أو أدعه، فقال عليه السلام: انظر إذا قمت إلي الصلاة- فانّ الشيطان أبعد ما يكون من الانسان إذا قام إلي الصلاة- أيَّ شي ء يقع في قلبك، فخذ به …» «3». و سنذكر هذه الرواية بتمامها في الاستخارة بالمصحف.

تحقيق في نصوص الاستخارة بالمشورة

الطائفة الثانية: ما دلّ علي مشروعية، بل استحباب الاستخارة باستعلام خير الأمرين و ما فيه المصلحة واقعاً بطريق المشورة؛ بأن يدعو المستخير و يصلّي و يستدعي من اللّٰه أن يُجري ما هو خيرٌ له واقعاً علي لسان من يشاوره من المؤمنين.

فمن هذه الطائفة ما رواه الصدوق باسناده عن «هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إذا أراد أحدكم أمراً، فلا يشاور فيه أحداً من الناس حتي يبدأ فيشاور اللّٰه

______________________________

(1) مقياس الرواية في علم الدراية: ص 22.

(2) مستدرك الوسائل: ج 6، ص 255.

(3) الوسائل: ب 6، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 342

تبارك و تعالي. قال: قلت: جعلت فداك و ما مشاورة اللّٰه؟ قال: تبتدأ فتستخير اللّٰه فيه أوّلًا

ثمّ تشاور فيه. فانه إذا بدأ باللّٰه، أجري له الخيرة علي لسان من يشاء من الخلق» «1»

وجه الدلالة أنّ قوله عليه السلام: «تبتدئ و تستخير …» في جواب قول السائل: «و ما مشاورة اللّٰه؟»، يدلّ بوضوح علي تفسير مشاورة اللّٰه بالاستخارة، مع بيان الامام كيفية الاستخارة في الجواب.

ففي الحقيقة أجاب الامام عليه السلام بتفسير مشاورة اللّٰه بالاستخارة و ببيان كيفية الاستخارة.

و منه يعلم أنّ المقصود من الاستخارة في هذه الرواية ليس مطلق الدعاء و لا مطلق طلب الخير، بل المقصود استدعاءُ إراءة الخير بلسان من يشاوره من المؤمنين.

و من هنا عبّرنا عن هذا النوع من الاستخارة بالاستخارة بالاستشارة.

و منها: ما رواه ابن طاوس عن كتاب الدعاء لسعد بن عبد اللّه بسنده عن اسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: «إذا أراد أحدكم أن يشتري أو يبيع، أو يدخل في أمر، فيبتدئ باللّٰه و يسأله، قال قلت: فما يقول؟ قال: يقول اللهم إنّي اريد كذا و كذا، فان كان خيراً لي في ديني و دنياي و آخرتي و عاجل أمري و آجله، فيسره لي، و إن كان شراً لي في ديني و دنياي، فاصرفه عني، رب اعزم لي علي رشدي، و إن كرهته و أبته نفسي، ثمّ يستشير عشرة من المؤمنين، فان لم يقدر علي عشرة و لم يصب إلّا خمسة، فيستشير خمسة مرّتين، فان لم يصب إلّا رجلين فليستشر هما خمس مرات، فان لم يصب إلّا رجلًا واحداً فليستشره عشر مرّات» «2».

______________________________

(1) المصدر: ب 5، ح 2.

(2) مستدرك الوسائل: ج 6، ب 4، من صلاة الاستخارة، ص 256، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 343

و أما ما ورد

في خبر هارون من النهي عن مشاورة الناس قبل مشاورة اللّٰه، فالمقصود منه الترغيب إلي كون مشاورة الناس بعد استدعاء الخير من اللّٰه بالدعاء و التوسّل إليه تعالي، حتي يجري اللّٰه تعالي ما فيه الخير و الصلاح علي لسان المستشار ببركة الدعاءِ و التوسل، كما اشير إلي ذلك في ذيل الرواية المزبورة. و عليه فهذه الرواية لا تنافي مطلقات الأمر بالمشورة، مثل قوله تعالي: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» و قوله تعالي: «وَ أَمْرُهُمْ شُوريٰ بَيْنَهُمْ».

تحقيق نصوص الاستخارة بالرقاع

الطائفة الثالثة: ما جاءَ فيه لفظ الاستخارة بمعني استعلام ما هو خير له واقعاً و التعرّف علي أصلح الأمرين عند اللّٰه باستخارة ذات الرقاع. و الرقاع- بكسر الرّاءِ- جمع الرُّقعة؛ و هي القرطاس.

و قد سُمّيت هذه الاستخارة بذلك؛ لأنّ كيفيتها أن يكتب المستخير علي قطعات من أوراق القرطاس «افعل» و علي بعضها «لا تفعل»، ثمّ يجعلها تحت مصلّاه أو في كُمّه أو في أيّ شي ءٍ آخر مستور. ثمّ يجعل الأوراق علي هيئة و وزن واحد، فيأخذ واحداً منها و يعمل بأوّل ما خرج أو يكرّر الأخذ، فلو خرج «لا تفعل» مكرّراً ففيه شدّة النهي و لو خرج «افعل» مكرّراً، ففيه تأكيد الأمر و كثرة الخير. و قد بُيّنت كيفية هذه الاستخارة في النصوص التالية.

فمن هذه النصوص:

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 344

خبر هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا أردت أمراً فخذ ستّ رقاع فاكتب في ثلاث منها: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم خيرة من اللّٰه العزيز الحكيم لفلان بن فلانة افعل، و في ثلاث منها: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم خيرة من اللّٰه العزيز الحكيم لفلان بن فلانة لا تفعل.

ثمّ ضعها تحت مصلّاك، ثمّ

صل ركعتين. فاذا فرغت فاسجد سجدة و قل فيها مائة مرّة: أستخير برحمته خيرة في عافية. ثمّ استو جالساً، و قل: اللّهم خر لي و اختر لي في جميع اموري في يسر منك و عافية.

ثمّ اضرب يدك إلي الرقاع فشوّشها و أخرج واحدة واحدةً. فان خرج ثلاث متواليات افعل، فافعل الأمر الذي تريده. و إن خرج ثلاث متواليات لا تفعل فلا تفعله، و إن خرجت واحدة افعل و الاخري لا تفعل، فاخرج من الرقاع إلي خمس، فانظر أكثرها فاعمل به و دع السادسة، لا تحتاج إليها» «1».

لا إشكال في دلالة هذه الرواية علي المطلوب، إلّا أنّها ضعيفة؛ لوقوع أحمد بن محمد السياري البصري في طريقها، و قد ضعّفها الشيخ و النجاشي و الغضايري و لم يوثّقه أحد. و كذا سهل بن زياد؛ حيث ضعّفه هؤلاء المذكورون و غيرهم. و قد أخرجه أحمد بن محمد بن عيسي من قم إلي الري لضعفه، كما ذكره النجاشي.

و توهّم اشتهارها الروائي بنقل المفيد في المقنعة و مثل الشيخ و الكليني و ابن طاوس في كتبهم، توهم فاسد لا أساس له كما هو واضح؛ فان الرواية إنّما تكون مشهورة بالشهرة الروائية إذا اشتهر نقلها و روايتها بين الرواة المعاصرين للأئمة عليهم السلام كما هو المراد من قوله عليه السلام: «خذ بما اشتهر بين أصحابك» و هو المعيار في الشهرة الروائية.

فهذه الرواية ضعيفة السند.

نعم روي في البحار رواية في الاستخارة بالرقاع، و لا يبعد اعتبار سندها.

______________________________

(1) المصدر: ب 2، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 345

و هي ما رواه سيد بن طاوس بقوله:

«أخبرني شيخي الفقيه محمد بن نما و الشيخ أسعد بن عبد القاهر الاصفهاني باسنادهما، عن

الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن عبد الرحمن ابن سيابة قال: خرجت إلي مكة و معي متاع كثير فكسد علينا، فقال بعض أصحابنا: ابعث به إلي اليمن و بعض أصحابنا ابعث به إلي مصر فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السلام فقال عليه السلام لي:

«ساهم بين مصر و اليمن، ثمّ فوِّض أمرك إلي اللّٰه. فأيُّ البلدين خرج اسمه في السهم، فابعث إليه متاعك.

فقلت: كيف أساهم؟ قال عليه السلام: اكتب في رقعة: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم إنّه لا إله إلّا أنت عالم الغيب و الشهادة أنت العالم و أنا المتعلم. فانظر في أيّ الأمرين خير لي حتي أتوكل عليك فيه، فأعمل به.

ثمّ اكتب مصراً إن شاء اللّٰه، ثمّ اكتب في رقعة اخري مثل ذلك ثمّ اكتب اليمن إن شاء اللّٰه. ثمّ اكتب في رقعة اخري مثل ذلك. ثمّ اكتب: يُحبس إن شاء اللّٰه و لا يبعث به إلي بلدة منهما.

ثمّ اجمع الرقاع، فادفعها إلي من يسترها عنك. ثمّ أدخل يدك فخذ رقعة من الثلاث رقاع. فايّها وقعت في يدك، فتوكّل علي اللّٰه، فاعمل بما فيها، إن شاء اللّٰه تعالي» «1».

هذه الرواية يوجد الإشكال في رجال سندها، من ناحيتين:

إحداهما: الرجال الواقعون في أسناد ابن نما و أسعد بن عبد القاهر إلي الحسن بن محبوب؛ حيث لم يذكر ابن طاوس رجال أسنادهما حتي يُعلم حالهم، إلّا أنّ نعتمد علي أسنادهما؛ نظراً إلي اعتماد ابن طاوس علي طريق ابن

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 234- 233.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 346

نما و أسعد، و إلي جلالة قدر ابن نما.

ثانيتهما: من جهة عبد الرحمن بن سيابة، و الأقوي اعتبار رواياته؛ لما ورد في بعض

النصوص من إعطاء أبي عبد اللّه عليه السلام إليه أموالًا ليقسّمه في عيالات زيد بن علي، و لنقل الأجلّاء و أصحاب الاجماع عنه، كابن أبي عمير و نحوه.

و إن وقع الرجل نفسه في سند الرواية المزبورة، مع عدم حجية نقل أصحاب الاجماع علي وثاقة من رووا عنه، إلّا أنّ ذلك مع كثرة روايات الرجل و عدم ورود قدح فيه، يكشف الجميع من حيث المجموع عن الاعتماد علي رواياته.

و من هنا قال المحدّث المجلسي: «و سنده لا يقصر عن عمل المشهور في الرقاع، فانّ ابن سيابة عندي من الممدوحين الذين اعتمد الأصحاب علي أخبارهم» «1».

فلا يبعد جواز الاعتماد علي سند هذه الرواية، لا لإثبات وثاقة رجال أسناد ابن نما و أسعد بالتوثيق الخاص أو العام، بل لحصول الوثوق بروايتهم لأجل ما قلناه من جلالتهما و مشاهدة ابن طاوس أسنادهما و اعتماده، بل ظاهر كلام المجلسي كون اعتبار أسنادهما مفروغاً عنه؛ لدلالة اقتصاره علي نفي شائبة الضعف عن ابن سيّابة علي أنّه لم يري شائبة الضعف في أسناد ابن نما و أسعد.

هذا من جهة السند.

و أما من جهة الدلالة، فواضحة؛ لأنّه و إن لم يُصرَّح فيها بلفظ الاستخارة و لا مادّتها، بل أمر فيها الامام عليه السلام بالمساهمة، إلّا أنّ تحيُّر السائل في اختيار أيّ الأمرين و إراءة الامام إيّاه الطريق إلي ما هو خيرٌ له عند اللّٰه، لا يلائم إلّا

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 234.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 347

الاستخارة، و لا سيّما أنّ كيفية المساهمة التي بيَّنها الامام عليه السلام في جواب السائل، إنّما تطابق الاستخارة بالرقاع، كما ورد في خبر هارون. فلا إشكال في دلالتها علي المطلوب.

و منها: ما

رواه ابن طاوس عن أحمد بن محمد بن يحيي عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث، قال: «إذا عزمت علي السفر أو حاجة مهمة فأكثر من الدعاء و الاستخارة، فان أبي حدّثني عن أبيه، عن جده أنّ رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله كان يعلّم أصحابه الاستخارة، كما يعلّمهم السورة من القرآن و إنّا نعمل بذلك متي هممنا بأمر و نتّخذ رقاعاً للاستخارة، فما خرج لنا عملنا عليه، أحببنا ذلك أو كرهنا.

فقال يا مولاي فعلّمني كيف أعمل؟ فقال عليه السلام: إذا أردت ذلك فأسبغ الوضوء، و صلّ ركعتين، تقرأ في كلّ ركعة الحمد و قل هو اللّٰه أحد مائة مرّة، فاذا سلّمت فارفع يديك بالدعاء و قل في دعائك: يا كاشف الكرب و مفرّج الهمّ، و ذكر دعاء- إلي أن قال- و أكثر الصلاة علي محمد و آل محمد عليهم السلام.

و يكون معك ثلاث رقاع قد اتّخذتها في قدر واحد و هيئة واحدة، و اكتب في رقعتين منها: اللّهم فاطر السموات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اللّهم إنّك تعلم و لا أعلم و تقدر و لا أقدر، و تمضي و لا أمضي، و أنت علّام الغيوب، صلّ علي محمّد و آل محمّد صلي الله عليه و آله، و أخرج لي أحب السّهمين إليك و خيرهما لي في ديني و دنياي و عاقبة أمري إنّك علي كلّ شي ءٍ قدير و هو عليك يسير.

و تكتب في ظهر إحدي الرقعتين: افعل، و علي ظهر الاخري: لا تفعل.

و تكتب علي الرقعة الثالثة: لا حول و لا قوة إلّا باللّٰه العلي العظيم. استعنتُ باللّٰه و توكّلت علي اللّٰه و

هو حسبي و نعم الوكيل. توكّلت في جميع اموري علي اللّٰه الحي الذي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 348

لا يموت، و اعتصمت بذي العزّة و الجبروت، و تحصّنت بذي الحول و الطول و الملكوت، و سلام علي المرسلين و الحمد للّٰه رب العالمين، صلي اللّٰه علي محمد النبي و آله الطاهرين عليهم السلام.

ثمّ تترك ظهر الرقعة أبيض و لا تكتب عليه شيئاً و تطوي الثلاث رقاء طيّاً شديداً علي صورة واحدة، و تجعل في ثلاث بنادق شمع أو طين علي هيئة واحدة و وزن واحد.

و ادفعها علي من تثق به، و تأمره أن يذكر اللّٰه و يصلّي علي محمد و آله، و يطرحها إلي كمّه، و يدخل يده اليمني فيجيلها في كمّه، و يأخذ منها واحدة من غير أن ينظر إلي شي ء من البنادق، و لا يعتمد واحدةً بعينها، و لكن أيّ واحدة وقعت عليها يده من الثلاث، أخرجها.

فاذا أخرجها أخذتها منه، و أنت تذكر اللّٰه و تسأله الخيرة فيما خرج لك، ثمّ فضها و اقرأها و اعمل بما يخرج علي ظهرها.

و إن لم يحضرك من تثق به طرحتها أنت إلي كُمّك و أجلتها بيدك و فعلت كما وصفته لك، فان كان علي ظهرها افعل فافعل و امض لما أردت، فانّه يكون لك فيه إذا فعلته الخيرة إن شاء اللّٰه. و إن كان علي ظهرها لا تفعل فاياك أن تفعله أو تخالف. إن خالفت لقيت عنتا. و إنّ ثَمَّ لم يكن لك فيه الخيرة. و إن خرجت الرقعة التي لم تكتب علي ظهرها شيئاً، فتوقف إلي أن تحضر صلاة مفروضة ثمّ قم فصلّ ركعتين كما وصفت لك ثمّ صل الصلاة المفروضة أو

صلّهما بعد الفرض ما لم تكن الفجر أو العصر، فاما الفجر فعليك بالدعاء بعدها إلي أن تنبسط الشمس، ثمّ صلّهما، و أما العصر فصلّهما قبلها، ثمّ ادع اللّٰه بالخيرة كما ذكرت لك، ثمّ و أعد الرقاع و اعمل بحسب ما يخرج لك.

و كلّما خرجت الرقعة التي ليس فيها شي ء مكتوب علي ظهرها، فتوقف إلي صلاة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 349

مكتوبة كما أمرتك إلي أن يخرج ما تعمل عليه إن شاء اللّٰه» «1».

هذه الرواية أيضاً ضعيفة بالتعليق فانّها رواية معلّقة. و هي في اصطلاح علم الحديث ما حُذف في مبدأ أسناده راوٍ واحدٌ أو أكثر، و قد حُذفت الواسطة بين ابن طاوس و بن أحمد بين محمد بن يحيي، كما أنّها مرسل؛ نظراً إلي حذف الواسطة بن أحمد بن محمد بن يحيي العطار القمي- الذي هو من مشايخ الصدوق و بين جعفر بن محمد بن الصادق عليه السلام- و قد بيّنا الضابطة في اتصاف الحديث بالمعلق و المنقطع و المرسل في كتابنا: «مقياس الرواية». «2»

و منها: مرفوعة علي بن محمد. رفعها: «عنهم عليهم السلام أنّه عليه السلام قال لبعض أصحابه عن الأمر يمضي فيه و لا يجد أحداً يشاوره، فكيف يصنع؟ قال عليه السلام: شاور ربّك، فقال له:

كيف؟ قال عليه السلام: انو الحاجة في نفسك ثمّ اكتب رقعتين في واحدة: لا، في واحدة نعم، و اجعلهما في بندقين من طين، ثمّ اكتب رقعتين؛ في واحدة: لا، و في واحدة نعم، و اجعلهما في بندقين من طين، ثمّ صلّ ركعتين و اجعلهما تحت ذيلك و قل: يا اللّٰه إنّي اشاورك في أمري هذا و أنت خير مستشار و مشير، فأشر علي بما فيه

صلاح و حسن عاقبة. ثمّ ادخل يدك. فان كان فيها نعم، فافعل. و إن كان فيها لا، لا تفعل. هكذا شاور ربّك» «3».

و لا يخفي أنّ هاتين الروايتين المزبورتين- أعني المرفوعة و المعلّقة- قد جُمع فيهما بين الاستخارة بالاستشارة، و بين الاستخارة بالبنادق و يدل علي الاستخارة بهما معاً. و علي أيّ حال لا يخفي ضعف سندهما بالتعليق و الارسال و الرفع.

______________________________

(1) المصدر: ح 3.

(2) مقياس الرواية: ص 81- 80.

(3) المصدر: ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 350

و هاهنا روايات اخري تدل علي ذلك رواها ابن طاوس في كتاب الاستخارات و ذكر بعضها في الوسائل «1».

هذه الروايات و إن كانت بآحادها ضعيفةً، و لكن يمكن الاعتماد علي مجموعها؛ نظراً إلي كثرتها و استفاضتها، بل تظافرها، كما يمكن دعوي الشهرة الروائية لأجل ذلك و يمكن دعوي انجبار ضعفها بعمل المشهور من القدماء، كما عرفت من المحدّث المجلسي التصريح بهذه الشهرة؛ حيث لم يُسمع المخالفة من غير ابن ادريس.

و العمدة في اعتبارها عمل مشهور الفقهاء بهذه النصوص. و سيأتي إثبات ذلك في البحث عن مدرك الاستخارة.

الاستخارة بافتتاح المصحف

الطائفة الثالثة: ما دلّ من النصوص علي المعني المزبور من الاستخارة- و هو طلب التعرف و الاستطلاع علي ما هو الخير واقعاً و خِيَرة في عافية- بافتتاح المصحف.

فمن هذه النصوص:

ما رواه الشيخ باسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن أبيه، عن الحسن بن الجهم، عن أبي عليّ عن اليسع القمي:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام اريد الشي ءَ فأستخير اللّٰه فيه، فلا يوفَّق فيه الرأي، أفعله أو أدعه.

فقال عليه السلام: انظر إذا قمت إلي الصلاة- فان الشيطان أبعد ما

يكون من الانسان إذا قام إلي الصلاة- أيّ شي ء يقع في قلبك، فخذ به. و افتتح المصحف، فانظر إلي أوّل ما تري فيه،

______________________________

(1) المصدر: ح 1- 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 351

فخذ به إن شاء اللّٰه» «1».

يقع الكلام تارة: في سند هذه الرواية، و اخري في دلالتها.

أمّا سنداً: فهي ضعيفة؛ للجهل بحال اليسع القميّ؛ حيث لم يوثّقه أحدٌ، و ليس من معاريف الرواة، و لا من مشاهيرهم حتي يستكشف من عدم ورود القدح فيه وثاقته.

و كذا أبو علي الواقع في سندها الراوي عن اليسع، و استظهر السيد الخوئي كونه أبا علي الخزاز. و هو مجهول لم يعرف بقدح و لا مدح. و قليل الرواية.

و يحتمل كونه أبا علي بن راشد. و هو متردد بين الطفاوي الضعيف الذي كان من أصحاب الرضا عليه السلام، و بين البغدادي الثقة الذي كان من أصحاب الجواد عليه السلام. و علي أيّ حال لا يمكن إثبات وثاقة أبي علي الواقع في سند هذه الرواية.

و أما دلالةً: فيقع الكلام في مواضع من متنها.

الأوّل: قول السائل: «فأستخير اللّٰه، فلا يوفّق فيه الرأي».

و الكلام في هذه الفقرة وقع في شبهة. و هي أنّه كيف يمكن عدم التوفيق في الرأي و بقاءُ التردد و الحيرة علي حالها بعد الاستخارة، مع أنّ الاستخارة موضوعة لرفع التحيّر؟!

و الجواب: أنّ قوله «فلا يوفّق فيه الرأي» قرينة علي أنّ الاستخارة في هذه

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 352

الفقرة بمعني مجرّد الدعاءِ أو الدعاء و الصلاة؛ أي أدعو و أطلب الخير و أستدعي الجزم من اللّٰه تعالي بالدعاء، فلا يوفق فيه الرأي. و

يفهم منه أنّ الذي يرتفع به التحير قطعاً هو الاستخارة بالمصحف أو الرقاع أو السبحة. و من هنا أمره الامام عليه السلام في الجواب أن يستخير بافتتاح المصحف.

و قد أشار الفقيه المدقق الشيخ ميرزا الكلباسي إلي هذه الشبهة و الجواب عنها بقوله: «و ربما يتراءي بادي الرأي أنّ الأمر باعادة الاستخارة، ينافي كون الفرض عدم مساعدة الرأي؛ لاتّحاد مورد الاستخارة.

لكنه يمكن أن يقال: إنّ الظاهر أنّ الأمر باعادة الاستخارة، إنّما هو للاعادة بطريق مخصوص، لكون الاستخارة عند القيام إلي الصلاة لكونه أبعد الأزمنة بالنسبة إلي مخاطرة الشيطان.

فلعلّ- عدم توفيق الرأي أوّلًا كان بملاحظة مخاطرة الشيطان، ففي إعادة الاستخارة عند القيام إلي الصلاة لا تتأتّي المخاطرة و يوفَّق فيه الرأي؛ لما يحكم به الاستخارة» «1».

الثاني: لفظ الواو، في قوله «و افتتح المصحف …»؛ حيث يحتمل كونه للعطف فالمقصود حينئذٍ الأخذ بما يقع في القلب، و بأوّل آية تُري بعد افتتاح المصحف. و قد رجّح هذا الاحتمال الشيخ الفقيه ميرزا ابو المعالي الكلباسي «2».

و يحتمل كون الواو للتخيير. فالمراد حينئذٍ إراءة طريقين لرفع التحيُّر فلو ارتفع بالطريق الأوّل، ينتفي الثاني؛ لانتفاء موضوعه. و الطريق الأوّل الذي بيّنه الامام عليه السلام في البداية هو الأخذ بما يخطر بالبال و يقع في القلب حين القيام للصلاة؛ معلّلًا بأنّ الشيطان أبعد من الانسان في هذه الحالة.

______________________________

(1) رسالة الاستخارة من القرآن المجيد/ للفقيه المحقق ميرزا الكلباسي طبع مؤسسة الامام المهدي عج: ص 44- 43.

(2) المصدر: ص 44.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 353

ثمّ بيّن طريقاً مستقلًا آخر لرفع التحيّر و طلب الخير، و هو افتتاح المصحف و الأخذ بأوّل ما يُري فيه من الآية.

و قد استظهر المحدّث المجلسي

ذلك؛ حيث قال: «و الظاهر أنّ الواو في قوله: و افتح المصحف بمعني أو، كما لا يخفي علي المتأمّل». «1»

و يظهر ذلك من المحدث الكاشاني «2»، و أيضاً من السيد محمد جواد العاملي في مفتاح الكرامة؛ حيث قال: «و خيّره في ذلك بين طريقين». «3»

الثالث: في بيان المراد من قوله: «أوّل ما تري فيه». فوقع الكلام في أنّ المراد منه، أوّل ما يُري فيه من الآيات، أو مطلق ما يُري في أوّل الصفحة و لو كان وسط الآية.

يظهر من صاحب الجواهر ترجيح الثاني؛ حيث إنّه- بعد ذكر الخبر المزبور- قال: «لكن هل المراد بأوّل ما تري فيه من الآيات أو الصفحة؟ وجهان، حقيقة اللفظ تقتضي الثاني، و المناسب لتعرف الاستخارة الأول، و هو الذي اختاره بعض مشايخنا مدعياً أنه صريح الخبر المزبور، و ناقلًا له عن تصريح البعض، إلّا أن الخبر كما سمعت، و لم نعثر علي ذلك البعض». «4»

قوله: «حقيقة اللفظ تقتضي الثاني»، توضيحه: أنّ لفظ «تري» أصله الرؤية بالعين الباصرة. و قد وضع لهذا المعنا. و مقتضي أصالة تطابق المراد الجدي مع المدلول الوضعي الاستعمالي كون المدلول الوضعي الاستعمالي هو المراد الجدي التصديقي، و يتعيّن فيه ظاهر الكلام.

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 244.

(2) الوافي/ طبع مكتبة الامام أمير المؤمنين: ج 5، ص 146، ح 15.

(3) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 275.

(4) جواهر الكلام: ج 12، ص 170.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 354

و عليه فظاهر قوله عليه السلام: «أوّل ما تري فيه» أنّ أوّل ما تري في المصحف من لفظ القرآن المُفهم للمعني، فخُذ بمضمونه. و ليس المقصود أوّل آية؛ لأنّه أخصّ من أوّل ما يُري في المصحف، و

هو أوّل لفظ و جملة من الصفحة اليُمني.

كما أنّه ليس المراد: أوّل ما يخطر ببالك و استقرّ عليه رأيك من الآية المرئية في أوّل الصحفة؛ لأنّه من الرأي، لا الرُّؤية.

و يظهر من المحدّث الكاشاني ترجيح الأوّل؛ حيث قال: «و معني أوّل ما تري فيه أوّل ما يقع نظرك عليه من الآيات، لا أوّل ما في الصفحة». «1»

و قد نقل في المفتاح كلام المحدث الكاشاني بنصّ عبارته و أشار إلي قائله بقوله: «كما نصّ علي ذلك بعضهم». «2»

و يتضح من ذلك أنّ ما جاءَ في كلام صاحب الجواهر من عدم العثور علي ذلك البعض، خلاف التحقيق؛ فانّ ذلك البعض هو المحدّث الكاشاني.

و ممن اختار الوجه الثاني المحدث المجلسي؛ حيث قال: «و أوّل ما تري فيه، لعلّ المراد به أوّل الصفحة اليمني، لوقوع النظر غالباً عليه ابتداء، و يؤيّده أنّ أصل الاستخارة بالمصحف بهذا النحو، الرواية السابقة، و الذي مرّ في أول الباب، و في كتاب الغايات «فانظر ما تري فخذ به». «3»

و لا يخفي أنّ هذه الرواية في كتاب الغايات أيضاً رويت بنفس الطريق المزبور.

______________________________

(1) الوافي/ طبع مكتبة الامام أمير المؤمنين، اصفهان: ج 9، ص 1416.

(2) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 274.

(3) بحار الانوار: ج 88، ص 244.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 355

مقتضي التحقيق

مقتضي التحقيق: أنّ الواو في الرواية بمعني التخيير وفاقاً للأكثر. و ذلك بقرينة السياق، و لإطلاق الأمر بالأخذ في كل واحد من الفقرتين في صدر الرواية و ذيلها. و المقصود من الأخذ العمل بمؤدّي الاستخارة و ترتيب الأثر عليها.

و إنّ قوله عليه السلام: «أوّل ما تري فيه» بمعني أوّل الصفحة. و ذلك لأنه الظاهر من أوّل ما يُري في

الصفحة، و إلّا كان الأنسب أن يقول: أوّل آية تري فيه. و هذا لبُّ مراد من جعل هذا التفسير مقتضي لفظ التعبير المزبور.

و علي أيّ حال سند هذه الرواية و إن كانت ضعيفة، إلّا أنّه يمكن دعوي انجبار ضعفها بعمل مشهور الفقهاء، أو بقا عدة التسامح في أدلّة السنن.

و سيأتي تفصيل البحث عن ذلك في مدرك الاستخارة.

هل المدار علي المتبادر من لفظ الآية أو مدلول السياق؟

اشارة

وقع الكلام في أنّه هل المدار في تعيين مؤدّي الاستخارة علي ما يتبادر من لفظ الآية المرئية في أوّل الصحفة، بمدلوله الوضعي المطابقي، أو علي مدلول سياقها الثابت بقرينة المقام؟

قال في المفتاح: «و لعلّ المدار علي ما يتبادر من لفظ الآية، و لا عبرة بالمقام و السوق، فلو أنّه وقع نظره علي قوله عز و جل: إنّك أنت الحليم الرشيد كما وقع لبعض؛ حيث استخار علي المهاجرة لطلب العلم، فوقع نظره علي هذه الآية الكريمة، فهاجر، فوفِّق لما أراد و بلغ المراد. قلنا له استخارتك حسنة جيدة، و لا نعتبر المقام؛ لأنّه كان مقام استهزاءٍ فنقول هي غير جيدة، لكن ملاحظة المقام

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 356

إنما هي للعارف الخرّيت الماهر، فانه إذا لاحظها ظهر له من ذلك الأسرار الغريبة». «1»

و قد أشار إليه في الجواهر «2» بقوله: «و قد يقال: إنّه لمّا لم يعلم المراد بالأوّل في الخبر المزبور الآيات أو الكلمات. و علي الأوّل، فهل المدار علي أوّل آية في صفحة النظر، أو علي أوّل الآية من الصفحة السابقة علي صفحة النظر؛ إذ الفرض كون محل النظر بعض الآية في هذه الصفحة و البعض الآخر في الصفحة السابقة. و لم يعلم أيضاً اعتبار المقام و السوق و عدمه. و لم نقف علي

خبر غير الخبر المزبور، كان المتجه الاقتصار في الجيدة و الردية علي الجامعة لجميع ذلك، و إلّا جدد الاستخارة به بعد التوسل و الدعاء في أن يريه اللّٰه رشده صريحاً، لأنّه لم يوفق له في الرأي في الاستخارة الاولي». «3»

و لكنه اختار ما سبق منه آنفاً. و يظهر من الشيخ ميرزا الكلباسي اعتبار السياق؛ حيث إنّه- بعد ما نقل القولين- قال:

«يمكن القول بالأوّل؛ نظراً إلي أنّ الظاهر من قوله عليه السلام: فانظر أول ما تري- في الخبر المتقدم-. كون المدار علي ما تقتضيه الآية بنفسها، إلّا أن يقال: إنّ قوله عليه السلام: فانظر أول ما تري، و إن كان ظاهراً في مدلول الآية بنفسها، لكنه وارد مورد الغالب. فينبغي مراعاة السياق». «4»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 275.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 170.

(3) المصدر.

(4) رسالة الاستخارة للكلباسي/ طبع مؤسسة الامام المهدي: ص 48.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 357

بيان مقتضي التحقيق

مقتضي التحقيق: أنّ الاعتبار بظاهر لفظ الجملة المرئية في أوّل الصفحة. نعم يعتبر كون الجملة تامّة يصح السكوت عليها.

و ذلك لأنّ مناسبة المقام تقتضي كون أوّل ما يراه المستخير من لفظ القرآن مفيداً لمعني تامٍّ يهدي المستخير إلي الفعل أو الترك؛ بأن يكون متضمناً للدعوة و الأمر أو الزجر و النهي، و لو بتوصيف نعمة أو كمال أو مدح أو الوعد بثواب أو الوعيد بعذاب أو ذمّ و تقبيح. و عليه فلو كان بعضها في الصفحة السابقة، لا بد من ملاحظتها و يكون داخلًا في الجملة المرئية في أوّل الصفحة.

و لا عبرة بالسياق. و ذلك لأنه لا معني لملاحظة السياق، بعد ما كان المدار علي مفاد ما يُري في أوّل الصفحة من

لفظ الآية حسب ما يقتضيه التبادر، و لأنّ المتبادر أوّلًا من اللفظ المرئي هو المدلول المطابقي الوضعي المطابق للمدلول الجدي بمقتضي أصالة الحقيقة، إلّا بقرينة صارفة توجب الظهور في الخلاف، و علي أيّ حال فالمتّبع ظهور الجملة المرئية في أوّل الصفحة اليمنيٰ، في نفسها، مع قطع النظر عن ما قبلها من فقرات الآية. و ذلك لصدق قوله عليه السلام: «أوّل ما تري» عليه، فلا وجه للعدول عنه. العبرة بمدلول لفظ الجملة المرئية في أوّل الصفحة اليُمني؛ لأنّها قبل اليُسري في ترتيب الصفحات، و لأنّها أوّل ما يقع النظر عليه غالباً افتتاح المصحف.

ثمّ إنّ هاهنا أقوالًا و تفاصيل اخري في تعيين المراد و بيان مفاد فقرات الحديث المزبور، لا حاجة إلي الاطناب بذكرها بعد اتضاح المراد بما بينّاه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 358

و قد نقل في البحار «1» رواية اليسع القمي عن كتاب الغايات لجعفر القمي. و في متنها اختلاف يسير غير مضرّ بالمقصود. و لكن في كلا الطريقين وقع اليسع القمي، فعلي أيّ حالٍ فهي ضعيفة، إلّا أن ينجبر ضعفها بعمل المشهور أو بقاعدة التسامح، و سيأتي تحقيق ذلك في البحث عن مدرك الاستخارة.

تحقيق روايات الاستخارة بالقرآن بعدّ سبعة أوراق

و قد روي الأصحاب في المقام روايات اخر دلّت علي مشروعية الاستخارة بافتتاح المصحف و عدّ سبعة أوراق منه، ثمّ عدّ ستة أو عشرة أسطر، و الأخذ بمضمون السطر الأخير.

فمن هذه الروايات ما رواه المحدّث المجلسي بقوله:

«و وجدت بخطّ جدّ شيخنا البهائي الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن الحسن الجباعي قدس اللّٰه أرواحهم، نقلًا من خط الشهيد نور اللّٰه ضريحه، نقلًا من خط محمد بن أحمد بن الحسين بن علي بن زياد، قال أخبرنا الشيخ الأوحد

محمد بن الحسن الطوسي إجازة عن الحسين بن عبيد اللّٰه، عن أبي محمد هارون بن موسي التلعكبري، عن محمد بن همام بن سهيل، عن محمد بن جعفر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 88، ص 243.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 359

المؤدب، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن عثمان بن عيسي عن سيف عن المفضل بن عمر قال:

«بينما نحن عند أبي عبد اللّه عليه السلام إذا تذاكرنا أم الكتاب فقال رجل من القوم:

جعلني اللّٰه فداك إنّا ربما هممنا بالحاجة، فنتناول المصحف فنتفكر في الحاجة التي نريدها، ثمّ نفتح في أوّل الوقت فنستدل بذلك علي حاجتنا.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: و تحسنون؟ و اللّٰه ما تحسنون.

قلت: جعلت فداك و كيف نصنع؟

قال عليه السلام: إذا كان لأحدكم حاجة و همَّ بها فليصلِّ صلاة جعفر، و ليدع بدعائها، فاذا فرغ من ذلك فليأخذ المصحف ثمّ ينو فرج آل محمد بدءاً و عوداً. ثمّ يقول: اللّهم إن كان في قضائك و قدرك أن تفرّج عن وليك و حجّتك في خلقك في عامنا هذا أو في شهرنا هذا، فأخرج لنا آية من كتابك نستدل بها علي ذلك.

ثمّ يعدّ سبع ورقات و يعد عشرة أسطر من خلف الورقة السابعة و ينظر ما يأتيه في الأحد عشر من السُّطور، فانّه يبيّن لك حاجتك، ثمّ تعيد الفعل ثانيةً لنفسك». «1»

يقع الكلام تارة: في سند هذه الرواية، و اخري: في دلالتها.

و أما سندها، فقد تحمّلها المحدث المجلسي بطريق الوجادة عن جد الشيخ البهائي، و إنّه تحمّلها أيضاً بالوجادة عن الشهيد و هو عن محمد بن أحمد.

و لا إشكال في مشروعية تحمل الحديث بالوجادة، إذا ثبت الكتاب أو الأصل أو الخط الذي

وجده المتحمّل بحجّة معتبرة أو تيقن بيقين قطعي أنّه خطّ فلان، بلا فرق بين كون الشيخ حيّاً أو ميّتاً. و ينبغي حمل وجادة مثل جدّ الشيخ البهائي و الشهيد علي ذلك. و قد بحثنا عن تحمّل الحديث بالوجادة و ساير طرق تحمّل الحديث في كتابنا «مقياس الرواية»، فراجع. «2»

ثمّ أخبر محمد بن أحمد بن الحسين عن الشيخ الطوسي بالسماع و أخبره الشيخ عن الغضائري بالاجازة و روي الغضائري عمّن قبله إلي أبي عبد اللّه عليه السلام

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 245.

(2) مقياس الرواية في علم الدراية: ص 22.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 360

بالسماع.

و لا إشكال في رجال هذه الرواية، إلّا محمّد بن أحمد بن الحسين بن علي بن زياد؛ حيث لم أظفر علي اسمه في كتب الرجال، و لكن يُعلم من ظاهر كلام الشهيد أنّ الرجل كان من المشايخ الثقات، بل من أعاظم اصحابنا الامامية، و إلّا لم يكن مثل الشهيد هذا الفقيه الفحل الورع يعتن بخطه، و لا سيّما أنّه كان في مقام الفتويٰ بمضمونه، لا مجرّد نقل الرواية.

و عليه فالاشكال بأنّ أخذ الشهيد رواية الرجل و البناء علي حجيتهما، ليس شهادة منه بوثاقته يمكن دفعه بأنّه يحصل الوثوق النوعي بكون الرجل من الأعاظم، و إلّا لم يكن خطّه عند الشهيد بمكان من الخطورة و الأهمية بحيث يجعله مصدراً لفتواه. اللّهم إلّا أن يقال: لعلّه مبنيٌّ عنده علي التسامح في أدلّة السنن كما بني علي ذلك الشهيد في درايته. و قد نقلنا كلامه في كتابنا «مقياس الرواية». و سيأتي تمام الكلام في ذلك عند البحث عن مدرك الاستخارة.

فالأقوي اعتبار سند الرواية المزبورة؛ نظراً إلي نقلها بطرق عديدة و اعتمادهم

علي ما وجدوه، من خط محمد بن أحمد بن الحسين، مع كون ساير رجال الخبر من الثقات و الأجلّاء.

هذا مضافاً إلي اعتضاد هذه الرواية بما رواها السيد بن طاوس في كتاب فتح الأبواب قال:

«وجدت في بعض كتب أصحابنا: «صفة القرعة في المصحف يصلي صلاة جعفر، فاذا فرغ منها دعا بدعائها ثمّ يأخذ المصحف ثمّ ينوي فرج آل محمد بدءاً و عوداً، ثمّ يقول: اللهم إن كان في قضائك و قدرك أن تفرّج عن وليّك و حجّتك في خلقك … فأخرج لنا رأس آية من كتابك نستدل بها علي ذلك، ثمّ يعد سبع

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 361

ورقات و يعد عشرة أسطر من ظهر الورقة السابعة، و ينظر ما يأتيه في الحادي عشر من السّطور، ثمّ يعيد الفعل ثانياً لنفسه فانّه يبيّن حاجته إن شاء اللّٰه تعالي». «1»

و أيضاً قد روي نظيرها الطبرسي في مكارم الأخلاق. «2»

و ظاهره الأخذ بمضمون السطر الحادي عشر من خلف الورقة السابعة.

و قوله: «ثمّ تعيد الفعل ثانية لنفسك»، لعلّ المراد به إعادة الدعاء المذكورة في صدر الرواية.

و قوله: «و ليدع بدعائها» أي دعاء صلاة جعفر الطيار. و ظاهر قوله عليه السلام: «بدءاً و عوداً» الأمر باعادة الدعاء بعد الاستخارة، كما في شروعها.

قال المحدث المجلسي: «لعلّ المعني في الحال و في الرجعة أو ينوي ذلك مكرراً». «3» و هذا مؤيّد لما فسّرنا به قوله: «تعيد الفعل ثانية …». فكأنّ إعادة الدعاءِ لنفسه يكون شكراً لهداية اللّٰه و إراءته ما هو خيرٌ له و إظهار الرضا بقضائه و قدره، لا لمجرّد طمع النيل إلي قضاء حاجته، كما هو الداعي إلي الدعاءِ قبل الاستخارة.

و من نصوص الاستخارة بالقرآن ما رواه

في البحار مرسلًا بقوله: «روي عن الصادق عليه السلام قال: «إذا أردت الاستخارة من الكتاب العزيز، فقل بعد البسملة:

إن كان في قضائك و قدرك أن تمن علي شيعة آل محمد بفرج وليّك و حجّتك علي خلقك فأخرج إلينا آية من كتابك نستدل بها علي ذلك ثمّ تفتح المصحف و

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 88، ص 241.

(2) مكارم الاخلاق: ص 373 و بحار الانوار: ج 88، ص 241.

(3) بحار الانوار: ج 88، ص 241.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 362

تعد ست ورقات و من السابعة ستة أسطر و تنظر ما فيه». «1»

و ما رواه بقوله: «و روي لي بعض الثقات عن الشيخ الفاضل الشيخ جعفر البحريني رحمة اللّٰه أنّه رأي في بعض مؤلفات أصحابنا الامامية أنّه روي مرسلًا عن الصادق عليه السلام قال: ما لأحدكم إذا ضاق بالأمر ذرعاً أن يتناول المصحف بيده عازماً علي أمر يقتضيه من عند اللّٰه، ثمّ يقرأ فاتحة الكتاب ثلاثاً و الاخلاص ثلاثاً و آية الكرسي ثلاثاً و عنه مفاتح الغيب ثلاثاً و القدر ثلاثاً و الجحد ثلاثاً و المعوذتين ثلاثاً ثلاثاً و يتوجه بالقرآن قائلًا اللهم إنّي أتوجه إليك بالقرآن العظيم من فاتحته إلي خاتمته، و فيه اسمك الأكبر و كلماتك التامات يا سامع كل صوت و يا جامع كل فوت و يا باري النفوس بعد الموت يا من لا تغشاه الظلمات و لا تشتبه عليه الأصوات، أسألك أن تخير لي بما أشكل عليّ به، فانك عالم بكل معلوم غير معلّم بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و علي بن الحسين و محمد الباقر و جعفر الصادق و موسي الكاظم و علي الرضا و

محمد الجواد و علي الهادي و الحسن العسكري و الخلف الحجة من آل محمد عليه و عليهم السلام.

ثمّ تفتح المصحف و تعد الجلالات التي في الصفحة اليمني، ثمّ تعد بقدرها أوراقاً، ثمّ تعد بعددها أسطراً من الصفحة اليسري، ثمّ تنظر آخر سطر تجده كالوحي فيما تريد إن شاء اللّٰه تعالي». «2» و لكن لا يخفي ضعف هاتين الروايتين بالارسال.

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 246.

(2) المصدر: ص 244- 245.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 363

تحقيق في نصوص التفؤُّل بالقرآن

اشارة

وردت عدة نصوص في التفؤُّل بالقرآن، فدلّ بعضها علي جوازه و بعضها علي عدم جوازه. و ينبغي قبل الخوض في البحث التنبيه علي أنّ الأصح التفؤُّل علي وزن التفعُّل، لا التفاؤل من باب التفاعل؛ لأنّه بين اثنين و لا يناسب المقصود في المقام.

أما ما دلّ منها علي جوازه:

فمنها ما رواه السيد بن طاوس في فتح الأبواب، قال: «حدّثني بدر بن يعقوب الأعجمي رضوان اللّٰه عليه بمشهد الكاظم عليه السلام في صفة الفال في المصحف بثلاث روايات من غير صلاة، فقال: تأخذ المصحف و تدعو بما معناه فتقول: اللهم إن كان في قضائك و قدرك أن تمنّ علي امّة نبيّك بظهور وليك و ابن بنت نبيّك فعجّل ذلك و سهّله و يسّره و تحمّله و أخرج لي آية أستدل بها علي أمر فآتمر أو نهي فأنتهي، أو ما تريد الفأل فيه، في عافية. ثمّ تعد سبع أوراق ثمّ تعد في الوجهة الثانية من الورقة السابعة ستة أسطر و تفأل بما يكون في السطر السابع.

و قال: في رواية اخري: إنّه يدعو بالدعاء، ثمّ يفتح المصحف الشريف، و يعدُّ سبع قوائم، و يعدّ ما في الوجهة الثانية من الورقة السابعة،

و ما في الوجهة الأوّلة من الورقة الثامنة من لفظ اسم اللّٰه، جلّ جلاله، ثمّ يعد قوائم بعدد اسم اللّٰه ثمّ يعد من الوجهة الثانية من القائمة التي ينتهي العدد إليها، و من غيرها مما يأتي بعددها سطوراً بعدد اسم اللّٰه جل جلاله، و يتفأل بآخر سطر من ذلك.

و قال في الرواية الثالثة: إنّه إذا دعا بالدعاء عدّ ثماني قوايم ثمّ يعدّ في الوجهة الاولي من الورقة الثامنة أحد عشر سطراً، و يتفأل بما في السطر

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 364

الحادي عشر، و هذا ما سمعناه في الفأل بالمصحف الشريف قد نقلناه كما حكيناه». «1»

و منها: ما رواه السيد في الكتاب المزبور بقوله: «ذكر الشيخ الامام الخطيب المستغفري بسمرقند في دعواته: إذا أردت أن تتفأل بكتاب اللّٰه عز و جل، فاقرأ سورة الاخلاص ثلاث مرات ثمّ صلّ علي النبي و آله ثلاثاً، ثمّ قل: اللهم تفألت بكتابك، و توكّلت عليك، فأرني من كتابك ما هو مكتوم من سرّك المكنون في غيبك، ثمّ افتح الجامع و خذ الفال من الخط الأوّل في الجانب الأوّل، من غير أن تعدّ الأوراق و الخطوط، كذا اورد مسنداً إلي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله». «2»

لا إشكال في دلالة هذه النصوص علي جواز التفؤّل بالقرآن، إلّا أنّ كلها ضعاف في السند، كما تري.

و لكن روي الكليني في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسي عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا تتفأل بالقرآن». «3»

هذه الرواية قد دلّت بظاهرها علي عدم جواز التفؤّل بالقرآن و حملها في الوسائل علي الكراهة. و الوجه فيه ما دل من

النصوص علي جواز ذلك أو عدم التزام الأصحاب بالحرمة.

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 242، ح 4.

(2) المصدر: ص 241، ح 1.

(3) الكافي: ج 2، ص 629 و الوسائل: ب 38 من أبواب قراءة القرآن ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 365

الجمع بين نصوص المقام

و قال في الوسائل بعد نقل مرسل محمد بن عيسي المزبور:

«أقول: الاستخارة طلب الخيرة و معرفة الخير في ترجيح أحد الفعلين علي الآخر ليعمل به، و التفؤّل معرفة عواقب الأمور و أحوال غائب و نحو ذلك. و يأتي في أحاديث الاستخارة ما يدل علي استحباب الاستخارة بالقرآن». «1»

و قال المحدث المجلسي بعد نقل النصوص المجوّزة المزبورة:

«و لا ينافيه ما رواه الكليني بسند فيه ضعف و إرسال عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لا تتفأل بالقرآن؛ إذ يمكن أن يكون المراد به النهي عن استنباط وقوع الامور في المستقبل و استخراج الامور المخفية و المغيبة، كما يفعله بعض الناس لا الاستخارة، و إن مرّ إشعار بعض الأخبار بجواز الأوّل أيضاً، و يحتمل أن يكون المعني التفؤّل عند سماع آية أو قراءتها، كما هو دأب العرب في التفؤّل و التّطير بالامور، بل هو المتبادر من لفظ التفؤّل.

و لا يبعد أن يكون السرُّ فيه أنّه يصير سبباً لسوء عقيدتهم في القرآن إن لم يظهر بعده أثره، و هذا الوجه مما خطر بالبال، و هو عندي أظهر، و الأوّل هو المسموع من المشايخ رضوان اللّٰه عليهم». «2»

و قال الفيض- بعد نقل النصوص-:

«فان صحّ الحديثان أمكن التوفيق بينهما بالفرق بين التفؤّل و الاستخارة.

فان التفؤّل إنّما يكون فيما سيقع و يتبيّن الأمر فيه، كشفاء مريض أو موته، و

______________________________

(1) الوسائل: ب 38 من قراءة القرآن

ذيل الحديث 2.

(2) بحار: ج 88، ص 244.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 366

وجدان الضالة أو عدمه. و مآله إلي تعجيل تعرّف علم الغيب.

و قد ورد النهي عنه و عن الحكم فيه بتّة لغير أهله و كره التطيّر في مثله، بخلاف الاستخارة؛ فانّه طلب لمعرفة الرشد في الأمر الذي اريد فعله أو تركه و تفويضٌ للأمر إلي اللّٰه سبحانه في التعيين و استشارة إيّاه عزّ و جلّ، كما قال عليه السلام في مرفوعة عليّ بن محمد السّابقة: هكذا تشاور ربّك. و بين الأمرين فرق واضح.

و إنّما منع من التفؤّل بالقرآن و إن جاز بغيره إذا لم يحكم بوقوع الأمر علي البتّ؛ لأنّه إذا تفأّل بغير القرآن، ثمّ تبيّن خلافه فلا بأس. بخلاف ما إذا تفأل بالقرآن ثمّ تبيّن خلافه، فانه يُفضي إلي إساءة الظنّ بالقرآن. و لا يتأتي ذلك في الاستخارة به؛ لبقاء الابهام فيه بعدُ، و إن ظهر السوء؛ لأنّ العبد لا يعرف خيره من شرّه في شي ءٍ. قال اللّٰه تعالي: عسيٰ أن تكرهوا شيئاً و هو خَيرٌ لكم و عسيٰ أن تُحبّوا شيئاً و هو شر لكم و اللّٰه يَعلم و أنتُم لا تعلمون» «1».

نقد كلام المحدث الكاشاني و المحدث المجلسي قدس سرهم

و لكن يرد عليه و علي المحدث المجلسي و غيرهم أنهم قد ذكروا للاستخارة معاني، و ذكروا أنّ معناها الأخير؛ التعرُّف علي ما هو خيرٌ واقعاً في علم اللّٰه. فهل هذا إلّا التعرّف علي ما هو مكتوم في علم اللّٰه المكنون في غيبه، و نحو ذلك من التعابير. الواردة في نصوص التفؤُّل بالقرآن. فهذا الفرق الذي ذكروه ينافي ما فسّروا به المعني الأخير للاستخارة و جعلوا الاستخارة بالمصحف و أخواتها من طرق التعرّف علي الخير.

______________________________

(1)

الوافي: ج 5، ص 1417.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 367

و أمّا ما جاء في كلام الفيض من توجيه النهي عن التفاؤل بالقرآن، إنّما يكون وجيهاً إذا لم يكن المقصود من التفاؤل بالقرآن التعرُّف علي الخير الواقعي المكنون في علم اللّٰه.

و لكن ظاهر النصوص الواردة أنّ ذلك هو المقصود من التفاؤل بالقرآن. و عليه لا يصح ما ذكره من التوجيه للنهي عن التفؤُّل بالقرآن؛ حيث إنّه لا تتوجّه شبهة سوءِ الظن باللّٰه، بعد ما كان المقصود التعرّف علي ما هو خيرٌ واقعاً في علم اللّٰه، مع تفويض الأمر إلي اللّٰه و البناء علي الالتزام و العمل بما أراه اللّٰه و قدّره له ممّا فيه خيره و صلاحه و رشده واقعاً، بلا فرق في ذلك بين الاستخارة و بين التفؤُّل.

نعم إذا كان التفؤُّل لمحض الاستطلاع علي المغيبات و استكشاف المجهولات- من شفاءٍ و موت و وجدان ضالةٍ و تعيين جنس الطفل في الجنين بأنّه ذكر أو انثي- يكون أجنبياً عن موضوع الاستخارة و خارجاً عن نطاق نصوصها و لا دليل علي مشروعيته، بل يدل النهي عنه في مرسل محمد بن عيسي المزبور علي عدم مشروعيته؛ إذ عنوان التفؤّل يشمل هذا المعني أيضاً بلا ريب.

و مقتضي التأمل حمل المرسل علي هذا المعني و النصوص المجوّزة علي المعني الأوّل؛ كما يظهر ذلك من صاحب الوسائل.

و لكن صاحب الجواهر بعد نقل التوجيه المزبور لم يرتض بذلك وجهاً للجمع و الحمل، و أشكل فيه بقوله:

«و فيه أنّه بناءً علي صحة الخبر المزبور يبعد حمله علي ذلك؛ لأنّ التفؤّل إن لم يكن هو أقرب إلي موضوع الاستخارة من تعرُّف علم الغيب فهو بالنسبة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية

الأساسية، ج 3، ص: 368

إليهما علي حد سواء؛ لصدقه علي كل منهما.

نعم يسهل الخطب عدم صحة الخبر المزبور، علي أنه قد يعارضه ما يُحكي عن ابن طاوس في كتاب الاستخارات». «1»

و لكن التوجيه الأخير في كلام المحدث المجلسي للنهي عن التفؤُّل بالقرآن وجيه، كما قوّاه. و هو أن يكون المقصود من التفؤُّل المنهي عنه، التفؤُّل و الطيرة بمجرد سماع آية أو قراءتها، كما كان ذلك دأب العرب و عادتهم في التفؤُّل و التطيُّر بالامور.

و لا ربط لهذا المعني من التفؤُّل بالاستخارة، كما هو واضح، و إنّه أجنبيٌّ عن مفاد النصوص المجوّزة للتفؤُّل المسوقة سياق نصوص الاستخارة. فلا يرد عليه إيراد صاحب الجواهر.

و أما ما أشار إليه الفيض من المحذور، فيأتي في هذا النوع من التفؤّل بالقرآن؛ إذ الخير المتفاَّل و الشرّ المتطيَّر بسماع صوت انسان أو طائر، إنّما هو ما كان خيراً أو شرّاً عند الناس، لا عند اللّٰه. و المحذور المذكور في كلام الفيض إنّما يأتي فيما كان خيراً أو شرّاً عند الناس.

إن قلت: توجيه المحدث المجلسي أجنبي عن التفؤّل المقصود في نصوص التفؤّل بالقرآن؛ إذ المقصود منه بعينه ما يُفعل في الاستخارة بالقرآن لا التفؤُّل بمجرد سماع الآية أو قراءتها.

قلت: نعم هذا المعني مقصود من النصوص المجوّزة للتفؤل بالقرآن؛ لما جاء فيها من الآداب و الادعية، نظير ما ورد في نصوص الاستخارة بالقرآن.

و لكن موضوع كلام المحدّث المجلسي و توجيهه هو مجرّد النهي عن التفؤّل

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 171.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 369

بالقرآن، من دون إشارة إلي تلك الآداب و الادعية، كما هو متعلّق النهي في مرسل محمد بن عيسي المزبور. و من هنا ينطبق علي كلا

التفسيرين المذكورين.

و أما التوجيه بالتفصيل في المقام بين التفؤُّل بالخير و بين التفؤُّل بالشرّ و التشاؤم- المعبّر عنه بالتطيُّر-، فهو غير وجيه؛ لأنّه يرجع في الحقيقة إلي التفصيل بين التفؤّل و بين التطيُّر، لا التفصيل في نفس التمأن المتعلق للأمر و النهي في الطائفتين من نصوص المقام.

مقتضي التحقيق في الجمع بين نصوص التفؤّل

و مقتضي التحقيق في الجمع بين الطائفتين في المقام: حمل النصوص المجوّزة علي الاستخارة بمعني التعرُّف و الاستطلاع علي ما هو خير واقعاً في علم اللّٰه، كما سبق بيانه في المعني الأخير من معاني الاستخارة و تندرج فيه أنحاءُ الطرق المتداولة من الاستخارة الشائعة.

و ذلك لأنّ هذا المعني من الاستخارة في الحقيقة من قبيل التعرُّف علي الغيب المستور الثابت في علم اللّٰه. فيكون داخلًا في معني التفؤّل بمعناه المشهور بين الأصحاب، كما أشار إليه صاحب الجواهر.

و أما النهي الوارد في مرسل محمد بن عيسي، فمحمول علي مجرّد الاطلاع عن المغيبات و كشف الامور المخفية المجهولة، من دون أن يكون في مقام الاستخارة و لا للتعرّف علي ما هو خيرٌ واقعاً في الأمر الذي يريد فعله.

و يمكن أيضاً حمله علي التفؤّل بالخير بمجرّد سماع صوت القرآن أو رؤية مكتوبه، كما قال العلامة المجلسي. و لكن الأوّل آنس بالذهن و أقرب إلي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 370

الارتكاز و أوفق بكلمات الأصحاب (رضوان اللّٰه عليهم).

مقتضي التحقيق في الفرق بين التفاؤل و الاستخارة

اشارة

ينبغي لبيان الفرق بين التفؤُّل و بين الاستخارة التحقيق في معنا و مفهوم كل واحد منهما.

أما الاستخارة، فقد سبق الكلام في تعريفها مفصّلًا. و حاصله: أنّها مشترك بين مطلق الدعاءِ، و بين طلب الخير أو التعرُّفِ علي ما فيه الخير، و بين طلب العزم علي اختيار ما اختاره اللّٰه له.

فعلي الأوّل يكون أصلها من الخُوار؛ أي صوت الأنين، و علي الثاني من الخير، و علي الثالث من الخِيَرة علي وزن العِنَبَة.

و أما لفظ الفأل: قال الخليل «1»: إنّه ضدّ الطِّيرة.

و عن ابن سكّيت نظير ذلك؛ حيث قال: الفأل أن يكون الرجل مريضاً فيسمع آخرَ يقول: يا سالم، أو كان

طالباً فيسمع آخر يقول: يا واجد.

نقله الجوهري في الصحاح «2» و الطريحي في مجمع البحرين.

و حاصله: أنّه قول الرجل للمريض يا سالم و للطالب السائل يا واجد. و لا يخفي أنّه ضدّ الطيرة.

و جاءَ في الخبر أنّ النبي صلي الله عليه و آله: «كان يحبّ الفأل و يكره الطيرة». نقله أيضاً

______________________________

(1) قال: الفأل معروف. و قد تفاءَلت بكذا، و ذلك ضدّ الطيرة./ العين: ج 3، ص 1368.

(2) قال في الصحاح: قال ابن السكيت: الفألُ أن يكون الرجل مريضاً فيسمع آخر يقول يا سالم، أو يكون طالباً فيسمع آخر يقول يا واجد، يقال تفاءلت بكذا. و في الحديث أنّه عليه السلام: «كان يحبُّ الفأل و يكره الطيرة»./ الصحاح: ج 5، ص 1788. و نفس التعبير جاء في مجمع البحرين.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 371

في الصحاح و مجمع البحرين.

و حيث عُرّف الفأل بأنّه ضدّ الطيرة، و كانت الأشياءُ تُعرف بأضدادها، ينبغي التحقيق في تعريف الطيرة: فنقول:

إنّ الطِّيَرة علي وزن العِنَبَة و الخِيَرَة اسم مصدر التطيُّر، و هو التشاؤم و الفأل الردي ء، كما قال في الصحاح. «1»

و الظاهر أنّ التطيُّر كان في الأصل التفؤُّل الردي ءُ الشؤم، كما قال في المفردات «2».

و المتحصّل من ملاحظة مجموع كلمات أهل اللغة: أنّ التفاؤل ضدّ التشاؤم و التطيّر، فيكون معناه هو الخرص و الرجم بالخير و البركة و السلامة. و لكن الاستخارة أجنبية عن حقيقة التخرُّص و التخمين و الحدس.

هذا بحسب اللغة. و أمّا كلمات الفقهاء، فمنشأ قولهم في الفرق بين التفاؤل و الاستخارة، ليس ما يفيده الأصل اللغوي، بل الظاهر اتكالهم في ذلك أيضاً علي بعض التعابير الواردة في نصوص المقام. و ذلك مثل الدعاء الواردة في

النبوي بقوله: «اللّهم تفألت بكتابك، و توكّلت عليك، فأرني من كتابك ما هو مكتوم من سرّك المكنون في غيبك» «3».

حيث يفهم من هذه الرواية و نظيرها أنّ التفاؤل هو طلب التعرّف علي

______________________________

(1) قال: و تطيَّرْتُ من الشي ء و بالشي ء. و الاسم منه الطِّيَرة مثال العِنَبَة، و هو ما يُتشاءَم به من الفأل الردي ء. و في الحديث: أنّه كان يحبّ الفأل و يكره الطِّيَرة./ الصحاح: ج 2، ص 728.

(2) قال: و تطيّر فلان و اطّيَرَ، أصله التفاؤل بالطير، ثمّ يستعمل في كل ما يتفاءلُ به و يُتشاءمُ. قالوا: «إنّا تطيّرنا بكم» و لذلك قيل لا طير إلّا طيرُك و قال: «إن تُصبهم سيئة يطيّروا» أيّ يتشاءموا به «ألا إنّما طائرُهُم عند اللّٰه» أي شؤمُهم./ المفردات في غريب القرآن: ص 310.

(3) بحار الانوار: ج 88، ص 241.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 372

المغيبات المكنونة و الأسرار المكتومة المكنونة في علم اللّٰه تعالي.

و علي أيّ حال ليس هذا المعني المستفاد من هذه الرواية ببعيد عن المعني اللغوي؛ لأنّ فيه أيضاً اشرب معني التخرّص و الرجم علي الغيب المكنون و تخمين الأسرار المكتومة، إلّا أنّ ذلك بالحدس و الوهم و الظن، و في التفاؤل بالقرآن إنّما يكون بالظن الناشي من الطريق المأثور من فتح المصحف و نحوه.

فالحق في ذلك مع صاحب الجواهر «1» من قُرب التفؤُّل إلي حقيقة الاستخارة، و لا سيّما بمعناها الأخير، و هو تعرّف المستخير علي ما هو خيرٌ له في الواقع المكنون في علم اللّٰه و غيبه.

و مقتضي التحقيق في المقام: أنّ نصوص جواز التفؤّل بالقرآن يمكن توجيه مدلولها بوجه وجيه، كما يمكن توجيه النهي عنه بما قال المجلسي و قوّيناه. و

عليه فلا وجه لدعوي معارضتها بما دل علي النهي عن التفؤّل بالقرآن؛ نظراً إلي ضعف كلتا الطائفتين سنداً.

فحاصل الكلام: أنّ التفؤّل بمعناه الممنوع- و هو التخرُّص و التطلع علي المغيبات و التفؤُّل بمجرد سماع آيات القرآن أو قراءتها، من غير استخارة-، يمكن حمل النصوص المانعة عليه. كما يمكن حمل النصوص المجوّزة علي إرادة التفؤّل بمعناه الجائز المشروع، و هو ما كان منه لغرض طلب ما هو خيرٌ في علم اللّٰه. بل التحقيق كون التفاؤل بالقرآن داخلًا في المعني الأخير للاستخارة كما قلنا، و هو التعرّف علي ما هو خير واقعاً في علم اللّٰه المكنون في غيبه. هذا من جهة الدلالة.

و أما من جهة السند فكلتا الطائفتين ضعيفتان سنداً. و عليه فلا وجه

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 171.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 373

لدعوي المعارضة؛ لأنّ التعارض إنّما هو بين الحجتين.

رواية تفأل الامام السجاد عليه السلام بالقرآن

و لكن بقيت في المقام رواية، و هي ما نقله ابن ادريس في مستطرفات سرائره عن كتاب أبي القاسم بن قولويه.

و هذه الرواية ينبغي ذكرها في عداد نصوص التفؤُّل بالقرآن، كما يمكن توجيه دلالتها علي جواز استعلام خيرة اللّٰه في حق العبد بافتتاح المصحف و الأخذ بأوّل ما يُري من الآية.

و هي ما أرسله ابن قولويه عن بعض أصحابنا قال: «كنت عند علي بن الحسين عليه السلام فكان إذا صلّي الفجر لم يتكلّم حتي تطلع الشمس، فجاءوه يوم ولد فيه زيد، فبشّروه به بعد صلاة الفجر. قال: فالتفت إلي أصحابه. و قال عليه السلام: أيّ شي ء ترون أن اسمّي هذا المولود؟ قال: فقال كلُّ رجل منهم سمّه كذا سمّه كذا. قال: فقال عليه السلام: يا غلام عليّ بالمصحف. قال فجاءوا بالمصحف

فوضعه علي حجره.

قال: ثمّ فتحه فنظر إلي أوّل حرف في الورقة، و إذا فيه: و فضّل اللّٰه المجاهدين علي القاعدين أجراً عظيماً. قال ثمّ طبَّقه ثمّ فتحه فنظر، فاذا في أوّل الورقة: إنّ اللّٰه اشتري من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّٰه فيقتلون و يقتلون وعداً عليه حقّاً في التورية و الانجيل و القرآن و من أوفي بعهده من اللّٰه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به و ذلك هو الفوز العظيم». ثمّ قال: هو و اللّٰه زيد، هو و اللّٰه زيد، فسمّي زيداً» «1».

ظاهر هذه الرواية أنّ علي بن الحسين عليه السلام كان سمع من النبي صلي الله عليه و آله أنّه سيولد في أهل بيته من يُظلم و يُقتل في سبيل اللّٰه و يصلب و اسمه زيد. و لعلّه صلي الله عليه و آله أخبر

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 46، ص 191، ح 57.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 374

أنّه من أولاد علي بن الحسين عليه السلام أو من صُلب الحسين صلي الله عليه و آله. فأراد الامام علي بن الحسين بافتتاح المصحف استعلام ذلك و التعرّف علي خيرة اللّٰه في حقِّه بأنّ هذا المولود هو ذلك المولود الموعود المسمي بزيد و أخبر عنه النبي صلي الله عليه و آله كما يؤيد ذلك ما رواه ابن قولويه عن حذيفة بن اليمان، قال: «نظر رسول اللّٰه إلي زيد بن حارثة. فقال صلي الله عليه و آله: المقتول في اللّٰه، و المصلوب في أمّتي، و المظلوم من أهل بيتي سمي هذا، و أشار بيده إلي زيد بن حارثة. فقال: ادنُ مني يا زيد، زادك اسمك عندي حبّاً.

فأنت سمي الحبيب من

أهل بيتي». «1»

و إنّه صلي الله عليه و آله و إن كان معصوماً و عالماً بالمغيبات و المكنونات من أسرار علم اللّٰه و غيبه كلما أراد ذلك، إلّا أنّه يمكن أن يريد بذلك إعلام أصحابه ما أخبره النبي صلي الله عليه و آله بطريق التفؤّل بالمصحف و استعلام السرّ المكنون في غيب اللّٰه.

و علي أيّ حال فهذه الرواية في عداد النصوص المجوّزة للتفؤّل بالقرآن، و يأتي فيها ما سبق منّا، من توجيه النصوص المجوّزة للتفؤُّل بالقرآن.

الاستخارة بالسُّبحة

اشارة

إنّ من أنحاء الاستخارة- بمعناها الخاص المصطلح- هو الاستخارة بالسُّبحة أو الحَصي. و قد جاء هذا القسم من الاستخارة في بعض النصوص، و في كلمات جماعة من الفقهاء و المحدثين.

و لا يخفي أنّه لمّا جُوّز في هذه الطائفة من النصوص الاستخارة بالسُّبحة و الحصي بعنوانها ينبغي التحقيق اللغوي في ضبط هذين اللفظين و معناهما.

فنقول:

لفظ «السُّبحة» - بضمّ السين- علي وزن الغُرفة و اللُّقمة جاءَ في أصل اللغة

______________________________

(1) المصدر: ص 192.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 375

لثلاثة معان، و هي: العبادة و صلاة النافلة و خرزات متصلة بخيط و نحوه يُسبّح بعدِّها، كما قال الخليل في العين و الجوهري في الصحاح و ابن فارس في المقائيس، و غيرهم. و أما المناسب لنصوص المقام، هو المعني الأخير.

و أما لفظ «الحَصي» - بفتح الحاء- فهو صغار الحجارة، كما جاءَ في الجوامع اللغوية المذكورة و غيرها.

أما النصوص:

فمنها: ما رواه الشهيد في الذكريٰ، عن عدّة من مشايخه، عن العلامة، عن أبيه، عن السيد رضي الدين بن طاوس، عن محمد بن محمد الآوي الحسيني، عن صاحب الأمر عليه السلام:

«قال: تقرأ الفاتحة عشر مرات، و أقلّه ثلاثة و دونه مرّة. ثمّ تقرأ القدر

عشراً. ثمّ تقول هذا الدعاء ثلاثاً: اللهم إنّي أستخيرك لعلمك بعاقبة الامور، و أستشيرك لحسن ظني بك في المأمول و المحذور، اللهم إن كان الأمر الفلاني مما قد نيطت بالبركة أعجازه و بواديه، و حفّت بالكرامة أيّامه و لياليه، فخِر لي اللّهم فيه خيرة ترد شموسه ذَلولًا، و تقعض أيامه سروراً. اللهم إما أمر فآتمر و إمّا نهي فأنتهي. اللهم إنّي أستخيرك برحمتك خيرة في عافية. ثمّ تقبض علي قطعة من السبحة تضمر حاجة، فان كان عدد القطعة زوجاً فهو افعل، و إن كان فرداً، لا تفعل، و بالعكس» «1».

هذه الرواية مرسلة؛ إذ محمد بن محمد الآوي الحسيني كان من الطبقة السادسة عشر و معاصر محمد بن جعفر بن نما و السيد فخّار و كان منتهي عصر الغيبة الصغري من الطبقة التاسعة، و هو عصر المحدث الكليني، و كان علي بن محمد السمري- رابع السفراء الأربعة- من هذه الطبقة، و بعده كان من

______________________________

(1) الوسائل: ب 8، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 376

زمان الغيبة الكبريٰ. و قد ذكرنا طبقات الأصحاب في زمان الغيبة مفصلًا في كتابنا «مقياس الرواة» فراجع «1».

و دعوي الرُّؤية و الرواية عن صاحب الأمر في هذا الزمان قد وقعت مورد التكذيب في نصوص أهل البيت عليهم السلام و خلاف ضرورة مذهب الشيعة.

و عليه فلا مناص من الالتزام بصدور هذه الرواية عن صاحب الأمر في زمان الغيبة الصغريٰ، و لا بدّ من الحكم بارساله؛ لما بين الآوي الحسيني و بين زمان صدوره من الفاصلة بستّ طبقات.

و منها: ما رواه الشهيد بقوله: «و قال ابن طاوس في كتاب الاستخارات:

وجدت بخطّ أخي الصالح محمد بن محمد الحسيني

ما هذا لفظه عن الصادق عليه السلام:

«من أراد أن يستخير اللّٰه تعالي فليقرأ الحمد عشر مرات، و إنّا أنزلناه عشر مرات، ثمّ يقول: … - و ذكر الدعاء، إلّا أنّه قال عقيب و المحذور- إن كان أمري هذا قد نيطت … و قال عقيب سروراً: يا اللّٰه إما أمر فآتمر، و إما نهي فأنتهي، اللهم خر لي برحمتك خيرة في عافية، ثلاث مرات. ثمّ تأخذ كفاً من الحصي أو سبحة، و يكون قد قصد بقلبه إن خرج عدد الحصي و السبحة فرداً كان افعل، و إن خرج زوجاً كان لا تفعل» «2».

هذه الرواية أيضاً كسابقتها في ضعف السند بالارسال، بل هي أضعف منها؛ لأنّها أكثر حذفاً في رجال طبقاتها؛ نظراً إلي إرسالها عن الصادق عليه السلام.

هذا من جهة السند، و أما بيان المعني المراد، فقد نقل في البحار عن السيد بن طاوس أنّه قال: «و لعلّ المراد بأخذ الحصي أو سبحته فرداً كان افعل، و إن

______________________________

(1) مقياس الرواة: ص 57- 71.

(2) الوسائل: ب 8، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 377

خرج مزدوجاً كان لا تفعل، أو لعله يجعل نفسه و الحصي أو السبحة بمنزلة اثنين يقترعان، فيجعل الصدر في القرعة منه أو من الحصي أو السبحة فيخرج عن نفسه عدداً معلوماً، ثمّ يأخذ من الحصي شيئاً، أو من السبحة شيئاً و يكون قد قصد بقلبه أنّه إن وقعت القرعة عليه مثلًا فيفعل، و إن وقعت علي الحصي أو السبحة فلا يفعل، فيعمل بذلك» «1».

و نقل عن الكفعمي أنّه قال: «نيطت: أي تعلّقت و ناط الشي ء تعلّق، و هذا منوط بك أي متعلّق و الانواط المعاليق، و نيط

فلان بكذا أي علّق.

و أعجاز الشي ء آخره، و بواديه أوّله. و مفتتح الأمر و مبتدأه و مقتبله و عنفوانه و أوائله و موارده و بواديه، نظائر. و شوافعه و تواليه و أعقابه و مصادره و رواجعه و مصائره و عواقبه و أعجازه، نظائر.

و قوله: «شموسه» أي صعوبته. و رجل شَموس: أي صَعْب الخلق و لا تقل شموص بالصاد. و شمس الفرس منع ظهره. و الذلول ضدّ العصوبة.

و تقعض؛ أيّ تردّ و تعطف و قعضتُ العودَ عطفتُه، و تقعص بالصاد تصحيف، و العين مفتوحة؛ لأنّه إذا كانت عين الفعل أو لامه أحد حروف الحلق، كان الأغلب فتحها في المضارع» «2».

و أيضاً روي في البحار «3» روايات اخري في الاستخارة بالسبحة و كيفيتها، و لكن كلها ضعاف بالارسال.

و أما هل يمكن تصحيح أسناد هذه النصوص بقاعدة التسامح في أدلّة

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 247.

(2) بحار الانوار: ج 88، ص 249، و مصباح الكفعمي: ص 393.

(3) المصدر: ص 251- 249.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 378

السنن، فسيأتي البحث عنه في ختام أقسام الاستخارة.

و قد نقل هذه الروايات في الحدائق «1» و له بيان نظير ما نقلناه عن الكفعمي.

و أيضاً نقل رواية ثالثة بطريق والده عن الصادق و هي تتضمّن كيفية اخري في الاستخارة بالسبحة «2».

الاستخارة بالسبحة لم تكن مشهورة بين القدماء

يظهر من الشهيد الأوّل أنّ الاستخارة بالسبحة أو الحصي لم تكن مشهورة رائجة بين القدماء، و إنّما اشتهر بين المتأخرين؛ حيث قال في الذكريٰ:

«و لم تكن هذه مشهورة في العصور الماضية قبل زمان السيد الكبير العابد رضي الدين محمد بن محمد الآوي الحسيني» «3».

و كانت طبقة السيد الحسيني متأخّرة عن العلامة.

و قد نقل الشهيد الأوّل روايتين عن السيد المذكور

في الاستخارة بالسبحة أو الحصي، و نقلناهما آنفاً.

و قد روي رواية الاستخارة بالسبحة أو الحصي بالطريقين المزبورين عن الشهيد الأوّل جماعةٌ من فحول الفقهاء، كما في الوافي «4» و الحدائق- كما أشرنا آنفاً- و المفتاح «5» و الجواهر «6».

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 529.

(2) المصدر.

(3) الذكري/ الطبع الحجري: ص 253.

(4) الوافي/ طبع مكتبة أمير المؤمنين: ج 5، ص 1417.

(5) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 277.

(6) جواهر الكلام: ج 12، ص 173- 163.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 379

هل للسبحة و الحصي موضوعية؟

قد وقع الكلام في أنّ ذكر السبحة و الحصي في نصوص المقام، هل يكون من باب التمثيل و لا موضوعية لهما فيجوز الاستخارة بغيرهما؟ أم لا، بل لهما موضوعية؟ فلا يجوز الاستخارة بغيرهما.

و أيضاً وقع الكلام في الاستخارة بالسبحة أنّه هل يجوز الاستخارة بغير السبحة الحسينية، أم لا؟

قال في المفتاح بعد نقل الرواية المزبورة:

«و هل السبحة و الحصي تمثيل فيصح بكل معدود؟ أو لا فيقتصر عليهما؟

احتمالان. و لعل الأوّل أظهر. و هل المراد من السبحة كلما يسبح به و إن لم تكن من تراب الحسين عليه السلام كما إذا كانت من تراب الرضا عليه السلام أو من خشب، أو لا بد من أن تكون من تراب الحسين عليه السلام و أن تكون ثلاثاً أو أربعاً و ثلاثين خرزة.

الظاهر الاكتفاء بكل ما يسبح به. و ليس في الخبر تخصيص بكونها من تراب الحسين عليه السلام كالحصي، بل هي في ذلك كالحصي. نعم إذا كانت من تراب سيّد الشهداء عليه السلام أربعاً و ثلاثين أو ثلاثاً و ثلاثين كانت أفضل و أعلي و أكمل» «1».

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 277.

مباني الفقه الفعال في القواعد

الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 380

و لكن خالف ذلك في الجواهر و جعل الأحوط وجوباً الاقتصار علي السُّبحة و الحصي بقوله:

«و قد يُقوّي إرادة التمثيل من الحصي و السُّبحة لكل معدود، إلّا أنّ الأحوط الاقتصار عليهما» «1». و هذا الاحتياط وجوبي؛ لعدم كون تقوية التعدّي من جانبه، و تظهر الثمرة في عدم جواز اسناد ذلك إلي الشارع. لأنّ اسناد الحكم إلي الشارع لا يجوز بغير دليل في مطلق الأحكام الخمسة.

و أما السبحة فقوّي في الجواهر الاكتفاء بكل ما يُسبح به، و جعل الأولي الاقتصار بالسبحة الحسينية؛ حيث قال:

«كما أنّ الأولي الاقتصار علي السبحة الحسينية و إن كانت الأقوي الاكتفاء بكل ما يسبح به، خصوصاً إذا كانت من تراب الرضا عليه السلام و نحوه بل كل معدود» «2».

و الذي يقتضيه التحقيق: انصراف نصوص المقام عن المعدود الذي يكون من المأكولات كالبيض و الجوز و اللوز و نحو ذلك، كما أنّ سيرة العلماء في الاستخارة استقرت علي الاستخارة بغيرها، و إن يشكل إحراز اتصال السيرة في الاستخارة بزمان المعصومين عليهم السلام، و لا سيما بلحاظ ما قاله الشهيد الأوّل من عدم اشتهار الاستخارة بالسُّبحة في العصور المتقدمة، من أوائل زمان الغيبة، فضلًا عن زمان الائمة عليهم السلام.

و أما السُّبحة الحسينية، فلا دليل علي اعتبارها في الاستخارة، و إن لا ريب في أفضلية الاستخارة بها عملًا بعمومات أفضلية التسبيح بها و السجدة عليها و ما دلّ منها علي شرفها و فضلها علي ساير الأتربة.

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 164.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 194.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 381

و إن كان الأحوط الاقتصار علي المأثور المروي عن أهل البيت عليهم السلام و ذلك

لأنّ الاستخارة بهذا المعني من الاحكام التوقيفية و لا يجوز التعدي عن المروي، و لا سيما بلحاظ اسناد الاستخارة بالطرق المذكورة إلي الشارع.

الاستخارة بالبنادق

ورد الاستخارة بالبنادق في عدة نصوص و في كلمات جماعة من الفقهاءِ. و لفظ البنادق جمع البُندقة، و هي ما يُرميٰ به من الرصاص. و المقصود بها في نصوص المقام بندقة من طين أو نحوه، تجعل فيها الرقاع المطوية.

أما النصوص:

فمنها: مرفوعة علي بن محمد، رفعه عنهم عليهم السلام أنّه:

«قال لبعض أصحابه عن الأمر يمضي فيه و لا يجد أحداً يشاوره فكيف يصنع؟ قال عليه السلام: شاور ربّك، فقال له: كيف؟ قال عليه السلام: انو الحاجة في نفسك، ثمّ اكتب رقعتين، في واحدة: لا، و في واحدة: نعم، و اجعلهما في بندقين من طين.

ثمّ صل ركعتين و اجعلهما تحت ذيلك، و قل: يا أللّٰه إنّي اشاورك، أدخل يدك، فان كان فيها نعم، فافعل. و إن كان فيها لا، لا تفعل، هكذا شاور ربّك» «1».

و منها ما رواه ابن طاوس عن أحمد بن محمد بن يحيي عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث:

«و أكثر الصلاة علي محمد و آل محمد، و يكون معك ثلاث رقاع قد اتخذتها في قدر واحد و هيئة واحدة … و تطوي ثلاث رقاع طيّاً شديداً علي صورة واحدة، و تجعل في ثلاث بنادق شمع أو طين علي هيئة واحدة و وزن واحد، و ادفعها علي من تثق به، و تأمره أن يذكر اللّٰه و يصلي علي محمد و آله، و يطرحها إلي كمّه، و يدخل يده اليمني فيجيلها في كمّه و يأخذ منها واحدة من غير أن

______________________________

(1) الوسائل: ب 2، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 2.

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 382

ينظر إلي شي ء من البنادق، و لا يعتمد واحدةً بعينها، و لكن أيّ واحدة وقعت عليها يده من الثلاث أخرجها … الخ». «1»

و مثله ما رواه ابن طاوس بقوله:

«و وجدت بخطّ علي بن يحيي الحافظ- و لنا منه إجازة بكل ما يرويه- ما هذا لفظه: استخارة مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و هي: أن تضمر شيئاً و تكتب هذه الاستخارة و تجعلها في رقعتين، و تجعلهما في مثل البندق، و يكون بالميزان، و يضعهما في إناء فيه ماءٌ. و يكون علي ظهر إحداهما: افعل: و في الاخري: لا تفعل. و هذه كتابتها: ما شاء اللّٰه كان اللهم إنّي استخيرك خيار من فوّض إليك أمره و أسلَمَ إليك نفسَه و استسلم إليك في أمره و خلا لك وجهَه، و توكّل عليك فيما نزل به، اللهم خر لي و لا تخر عليّ، و كن لي و لا تكن علي، و انصرني و لا تنصر عليّ، و أعن لي و لا تعن عليّ، و أمكن لي و لا تمكن منّي، و اهدني إلي الخير و لا تضلّني، و ارضني بقضائك و بارك لي في قدرك، إنّك تفعل ما تشاء و تحكم ما تريد و أنت علي كلّ شي ءٍ قدير.

اللهم إن كانت الخيرة لي في أمري هذا في ديني و دنياي، فسهّله. و إن كان غير ذلك، فاصرفه عنّي يا أرحم الراحمين إنّك علي كل شي ءٍ قدير. فايُّهما طلع علي وجه الماء فافعل به و لا تخالفه إن شاء اللّٰه» «2».

و له رواية اخري مثلها «3»، إلّا أن كلها مرسلة؛ نظراً إلي ما وقع من حذف رجال أسنادها، كما

لا يخفي.

______________________________

(1) الوسائل: ب 2، من أبواب صلاة الاستخارة ح 3.

(2) المصدر: ح 4.

(3) المصدر: ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 383

هذا و لكن الاستخارة بالبنادق لا ينبغي أن يُعدّ نوعاً مستقلًا من الاستخارات، كما فعلها في البحار «1»، و الجواهر بقوله: «و تارة: بالبنادق، كما في مرفوعة علي بن محمد» «2».

و ذلك لأنّ الاستخارة بالبنادق في الحقيقة هي الاستخارة بالرقاع، لكنها كيفية خاصة؛ لاشتراكهما في الكيفية و الخصوصيات، فالأنسب جعل الاستخارة بالبنادق من كيفيات الاستخارة بالرقاع. و من هنا لم يجعل في الوسائل باباً مستقلًا للاستخارة بالبنادق، بل إنّما أدرجها تحت عنوان الاستخارة بالرقاع «3».

حاصل

التحقيق

و حاصل الكلام في تحقيق هذه المسألة: أنّ الاستخارة بالبنادق ينبغي أن تُعدَّ من قبيل الاستخارة بالرقاع؛ نظراً إلي اتّحاد كيفيتهما بكتابة «افعل» و «لا تفعل» في رقاع و أوراق من القرطاس و نحوه في كليهما، إلّا أنّ في الثاني تجعل قطعات القرطاس بعد طيّها في البُندقة و نحوها ثمّ في ظرف مستور و لكن في الأوّل تجعل في غير البندقة.

و عليه فتشمل روايات الاستخارة بالرقاع هذا النوع من الاستخارة، و هي روايات كثيرة متظافرة بمجموعها مع أنّ بعضها لا يخلوا من قوّة و اعتبار.

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 240- 235.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 163.

(3) الوسائل: ب 2، من أبواب صلاة الاستخارة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 384

الاستخارة بالقرعة

اشارة

1- الاستشهاد بالأولوية و الاتحاد في الكيفية و كلمات الفحول.

2- تحقيق نصوص الاستخارة بالقرعة و المساهمة.

قبل الورود في هذا البحث ينبغي إشارة إجمالية إلي تعريف كل من الاستخارة و القرعة ليتضح الفرق بينهما، فنقول:

قد تحصّل مما سبق في تعريف الاستخارة أنّها: طلب

الخير أو خيرة اللّٰه، أو التعرف عليها بالدعاء و الصلاة أو بإحدي الطرق المأثورة، فيما إذا تردّد المكلّف بين الفعل و الترك؛ لما يحتمل في كل منهما من المصلحة و المفسدة، ما لم يتصف واحدٌ منهما- بمصداقه الجزئي الخارجي- بالواجب أو الحرام، فتشتمل المباح بالمعني الأعم.

و أما القرعة فهي عمليةٌ خاصّة لكشف مجهول يترتب عليه الغرض أو لا خراج حق مستور متنازع فيه.

و لكن يمكن استفادة مشروعية القرعة و العمل بها للاستخارة، من عموم بعض نصوصها مما دلّ علي مشروعية القرعة في كلّ أمر مشكل و معضل التبس فيه الأمر علي المكلّف و ليس مما يعرف حكمه من كتاب اللّٰه و لا سنة نبيّه و لا من روايات أهل البيت عليهم السلام.

فمن هذه العمومات صحيح محمد بن حكيم قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن شي ءٍ فقال لي: كلّ مجهول ففيه القرعة، قلت له: إنّ القرعة تخطئ و تصيب، قال عليه السلام:

كلّما حكم اللّٰه به فليس بمخطئ» «1».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ب 13، من أبواب كيفية الحكم، ح 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 385

هذه الرواية لا إشكال في دلالتها علي حجية القرعة مطلقاً، بلا فرق بين موارد اشتباه الحقوق أو التباس أمر علي المكلّف فتردّد بين فعله و تركه، بل يستفاد منها إصابة القرعة إلي الواقع. و من هنا يمكن الاستدلال بها علي أمارية القرعة بتعبُّدٍ من الشارع و جعله كاشفاً عن الواقع بارادته التكوينية المطلقة التي أخبر اللّٰه تعالي عن حقيقتها في الكتاب المجيد بقوله: «إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون» «1».

و أما سنداً فلا إشكال في صحة طريق الصدوق إلي محمد بن حكيم. و أما محمد بن حكيم

فالأقوي ثبوت وثاقته؛ نظراً إلي عدم ورود أيّ قدح فيه مع ما له من الاشتهار و المعروفية؛ حيث كانت له كتاب و روايات كثيرة و روي عنه أجلّاءُ الأصحاب. و يدل علي وثاقته ما نقله الكشي بطريق صحيح عن حمّاد، قال: «كان أبو الحسن عليه السلام يأمر محمد بن حكيم أن يجالس أهل المدينة في مسجد رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و أن يكلّمهم و يخاصمهم حتي كلّمهم في صاحب القبر فكان إذا انصرف إليه قال له: ما قلت لهم و ما قالوا لك و يرضيٰ بذلك منه». «2»

وجه الدلالة: أنّه لو لم يكن ثقة عند الامام عليه السلام لم يكن عليه السلام يأمره ببيان أمر المذهب و الاحتجاج مع المخالفين؛ فان الاحتجاج ربما يقتضي نقل حكم و بيان أمر من أحكام المذهب. فالأقوي وثاقة الرجل.

و منها: صحيح موسي بن القاسم البجلي: رواه محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن موسي عن موسي البجلي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا ورد عليه ما ليس في كتاب و لا سنة نبيه، فيرجمه، فتصيب ذلك،

______________________________

(1) سورة يس: الآية 82.

(2) مستدرك الوسائل: ب 11، من كيفية الحكم، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 386

و هي من المعضلات» «1». المعضِلات- بكسر الضاد- أيّ الشدائد و العصوبات.

و لا يخفي أنّه جاءَ في متن السند موسي الحلبي؛ و لكنه غلط و الصحيح البجلي؛ حيث لم يعهد موسي الملقب بالحلبي في الرواة. و أما موسي بن القاسم البجلي فهو من أجلّاء الرواة و صاحب الكتب. و روي محمد بن الحسن الصفار كتبه كما صرح به النجاشي و الشيخ «2».

و

مثله معتبرة عبد الرحيم «3» و ظاهر صدرهما و إن كان في موارد التنازع و الرجوع إلي أمير المؤمنين لرفع النزاع و فصل الخصومة إلّا أنّ تعليله في ذيلها بقوله: «و هي من المعضلات» ظاهرٌ في حجية القرعة و جواز الرجوع إليها في كل معضل، بلا اختصاص بموردهما.

و منها: ما رواه ابن أبي الجمهور الأحسائي في عوالي اللئالي بقوله: و روي في الصحيح عن النبي 9، قال: «في كل أمر مشكل القرعة». «4»

و قال في موضع آخر: «و نقل عن أهل البيت:: «كل أمر مشكل فيه القرعة». «5»

هذه النصوص بعمومها تشمل موارد التنازع و غيرها من موارد الاشتباه في الموضوعات و التردد في الامور بين فعلها و تركها مما لم يرد حكمه في الكتاب و السنة. و من هنا يمكن دخول الاستخارة بالرقاع و السبحة في هذه العمومات، لكن يستحب صلاة الاستخارة و الدعاء بالمأثور. و من هنا جاءَ

______________________________

(1) بصائر الدرجات: ص 410، ح 7.

(2) راجع معجم رجال الخوئي: ج 20، ص 78.

(3) بصائر الدرجات: ص 409، ح 4.

(4) عوالي اللئالي: ج 2، ص 285، ح 25.

(5) المصدر: ص 112، ح 308.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 387

في بعض النصوص تعبير الاستخارة بالمساهمة.

و دعوي انصراف عمومات القرعة إلي خصوص إخراج سهم المحق المتنازع فيه؛ نظراً إلي بعض النصوص، «1» ممّا لا وجه له.

و ذلك لعدم مفهوم لتلك النصوص و لعدم سبب آخر للانصراف من غلبةٍ في الاستعمال أو الوجود، كما هو واضحٌ.

الاستشهاد بالأولوية و الاتحاد في الكيفية و كلمات الفحول

بل لا مناص من الالتزام بذلك؛ حيث إنّه يثبت بالأولوية و الفحوي، بعد إثبات القرعة لاثبات الحقوق المتنازع فيها و الأحكام الشرعية من النجاسة في مثل الغنم الموطوءة و جواز

التصرف في المال الخارج بالقرعة. وجه الأولوية أنّ الاستخارة لا تتضمّن إثبات حكم شرعي وضعي و لا تكليفي و لا إثبات حقٍّ.

و أولي من ذلك كلّه قوله تعالي: «فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»، في قصّة يونس عليه السلام؛ حيث إنّ القرعة إذا كانت دليلًا مجوّزاً لإلقاء مثل يونس عليه السلام في البحر مع ما فيه من خوف الهلاك يشمل مورد الاستخارة بالفحوي القطعي. و مضمون هذه الآية قد أمضاه الشارع في الجملة بشهادة النصوص الصحيحة الواردة في استشهاد الأئمة عليهم السلام بهذه الآية للاحتجاج علي اعتبار القرعة و وجوب الأخذ بها. و من هنا استند إليها صاحب الجواهر لمشروعية الاستخارة بالمساهمة.

و يشهد لذلك كلام صاحب الجواهر؛ حيث يظهر منه شمول نصوص

______________________________

(1) كصحيح أبي بصير و جميل/ الوسائل: ب 13، من أبواب كيفية الحكم، ح 5 و 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 388

القرعة لموارد الاستخارة.

فانه قال: «و تارة تكون بالقرعة و المساهمة كما اتفق ليونس، فانه روي أنّه لما وعد قومه بالعذاب، خرج من بينهم قبل أن يأمره اللّٰه تعالي. فركب في السفينة فوقفت، فقالوا هذا عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فرمي بنفسه في الماء فالتقمه الحوت» «1».

و مما يؤيد ذلك اتحاد كيفية العمل في القرعة و الاستخارة بالمساهمة من جعل السهام و الرقاع- المكتوب عليها الفعل و الترك- في ظرف أو صندوق أو بندق مستور و إخراجه بعد التشويش و الخلط.

و من هنا صرّح جماعة من فحول المحدّثين و الفقهاء بأنّ القرعة من طرق التعرُّف علي ما فيه الخيرة فجوّزوا الاستخارة بالقرعة. كما صرح به المحدث الكاشاني «2» و المحدث البحراني «3».

بل قال المحدث المجلسي بعد ذكر معتبرة ابن سيّابة: «و

يمكن تأييده بأخبار القرعة، فانّه ورد أنّها لكلّ أمر مشكل. و ورد أنّه ما من قوم فوّضوا أمرهم إلي اللّٰه إلّا خرج لهم الحق، لا سيّما إذا اختلفت الآراء في الأمر الذي يقرعون فيه» «4».

و فقد عقد في الوسائل «5» في أبواب الاستخارة باباً بعنوان «استحباب مشاورة اللّٰه عزّ و جلّ بالمساهمة و القرعة» ثمّ قال في ذيل الرواية الدالة علي

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 165.

(2) الوافي: ج 5، ص 1409 و 1413.

(3) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 526.

(4) بحار الأنوار: ج 88، ص 234.

(5) الوسائل: ب 11، من أبواب صلاة الاستخارة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 389

ذلك: «أقول: و يأتي ما يدل علي القرعة في القضاء».

و قال في المفتاح: «و قد يظهر من المختلف و غيره أنّ الرقاع و البنادق قرعة أو نوع منها. و في الوسائل باب استحباب مشاورة اللّٰه عزّ و جلّ بالمساهمة و القرعة فيه حديث، و عدّ قبل ذلك الاستخارة بالرقاع في باب علي حدة» «1».

تحقيق نصوص الاستخارة بالقرعة و المساهمة

كل ما سبق كان بحسب دلالة عمومات القرعة. و قد وردت روايات خاصّة دلّت علي مشروعية الاستخارة بالمساهمة و القرعة.

فمن هذه النصوص ما رواه سيد بن طاوس بقوله: «أخبرني شيخي الفقيه محمد بن نما و الشيخ أسعد بن عبد القاهر الاصفهاني باسنادهما، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن عبد الرحمن ابن سيابة قال: خرجت إلي مكة و معي متاع كثير فكسد علينا، فقال بعض أصحابنا: ابعث به إلي اليمن و بعض أصحابنا ابعث به إلي مصر فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السلام فقال عليه السلام لي:

«ساهم بين مصر و اليمن، ثمّ فوِّض أمرك إلي اللّٰه. فأيُّ

البلدين خرج اسمه في السهم، فابعث إليه متاعك.

فقلت: كيف أساهم؟ قال عليه السلام: اكتب في رقعة: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم إنّه لا إله إلّا أنت عالم الغيب و الشهادة أنت العالم و أنا المتعلم. فانظر في أيّ الأمرين خير لي حتي أتوكل عليك فيه، فأعمل به.

ثمّ اكتب مصراً إن شاء اللّٰه، ثمّ اكتب في رقعة اخري مثل ذلك ثمّ اكتب اليمن إن شاء اللّٰه. ثمّ اكتب في رقعة اخري مثل ذلك. ثمّ اكتب: يُحبس إن شاء اللّٰه و لا يبعث به إلي

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 274.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 390

بلدة منهما.

ثمّ اجمع الرقاع، فادفعها إلي من يسترها عنك. ثمّ أدخل يدك فخذ رقعة من الثلاث رقاع. فايّها وقعت في يدك، فتوكّل علي اللّٰه، فاعمل بما فيها، إن شاء اللّٰه تعالي» «1».

هذه الرواية يوجد الإشكال في رجال سندها، من ناحيتين:

إحداهما: الرجال الواقعون في أسناد ابن نما و أسعد بن عبد القاهر إلي الحسن بن محبوب؛ حيث لم يذكر ابن طاوس رجال أسنادهما حتي يُعلم حالهم، إلّا أنّ نعتمد علي أسنادهما؛ نظراً إلي اعتماد ابن طاوس علي طريق ابن نما و أسعد، و إلي جلالة قدر ابن نما.

ثانيتهما: من جهة عبد الرحمن بن سيابة، فالأقوي اعتبار رواياته؛ لما ورد في بعض النصوص من إعطاء أبي عبد اللّه عليه السلام إليه أموالًا ليقسّمه في عيالات زيد بن علي، و لنقل الأجلّاء و أصحاب الاجماع عنه، كابن أبي عمير و نحوه.

و إن وقع الرجل نفسه في سند الرواية المزبورة، مع عدم حجية نقل أصحاب الاجماع علي وثاقة من رووا عنه، إلّا أنّ ذلك مع كثرة روايات الرجل و عدم ورود قدح فيه،

يكشف الجميع من حيث المجموع عن الاعتماد علي رواياته.

و من هنا قال المحدّث المجلسي: «و سنده لا يقصر عن عمل المشهور في الرقاع، فانّ ابن سيابة عندي من الممدوحين الذين اعتمد الأصحاب علي أخبارهم» «2».

فلا يبعد جواز الاعتماد علي سند هذه الرواية، لا لإثبات وثاقة رجال أسناد ابن نما و أسعد بالتوثيق الخاص أو العام، بل لحصول الوثوق بروايتهم لأجل

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 234- 233.

(2) بحار الانوار: ج 88، ص 234.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 391

ما قلناه من جلالتهما و مشاهدة ابن طاوس أسنادهما و اعتماده عليها، بل ظاهر كلام المجلسي كون اعتبار أسنادهما مفروغاً عنه؛ لدلالة اقتصاره علي نفي شائبة الضعف عن ابن سيّابة علي أنّه لم يري شائبة الضعف أسناد ابن نما و أسعد.

هذا من جهة السند.

و أما من جهة الدلالة، فواضحة؛ لأنّه و إن لم يُصرَّح فيها بلفظ الاستخارة و لا مادّتها، بل أمر فيها الامام عليه السلام بالمساهمة، إلّا أنّ تحيُّر السائل في اختيار أيّ الأمرين و إراءة الامام إيّاه الطريق إلي ما هو خيرٌ له عند اللّٰه، لا يلائم إلّا الاستخارة، و لا سيّما أنّ كيفية المساهمة التي بيَّنها الامام عليه السلام في جواب السائل إنّما تطابق الاستخارة بالرقاع، كما ورد في خبر هارون. فلا إشكال في دلالتها علي المطلوب.

و قد سبق أيضاً تحقيق هذه الرواية سنداً و دلالة في الاستخارة بالرقاع.

و من هذه النصوص ما رواه ابن طاوس بقوله: «وجدت رواية عن عمرو بن أبي المقدام عن أحدهما عليه السلام في المساهمة: تكتب بسم اللّٰه الرحمن الرحيم اللهم فاطرَ السموات و الارض عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، أنت تحكم بين عبادك فيما

كانوا فيه يختلفون، أسألك بحق محمد و آل محمد أن تصلّي علي محمد و آل محمد و أن تُخرِج لي خيرة في ديني و دنياي و عاقبة أمري و آجله إنّك علي كلّ شي ءٍ قدير، ما شاء اللّٰه لا حول و لا قوة إلّا باللّٰه صلي اللّٰه علي محمد و آله. ثمّ تكتب ما تريد في رقعتين و يكون الثالث غفلًا، ثمّ تجيل السهام فأيّهما خرج عملت عليه و لا تخالف، فمن خالف لم يصنع له، و إن خرج الغفل رميت به» «1».

______________________________

(1) بحار الانوار: ج 88، ص 234.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 392

و إنّ للمحدث المجلسي بياناً نافعاً في ذيل هذا الحديث، إليك نص كلامه، قال:

«قال في القاموس: الغفل بالضمّ من لا يرجي خيره و لا يخشي شرّه، و ما لا علامة فيه من القداح و الطرق و غيرهما، و ما لا سمة عليه من الدواب و من لا نصيل له و لا عزم عليه من القداح، انتهي. «لم يصنع له» أي لم يُقدَّر له ما هو خير له. ثمّ اعلم أنّ الكتابة علي رقعتين؛ لعلّها فيما إذا كان الأمر مردّداً بين شقَّين أو بين الفعل و الترك. و إذا كان بين أكثر من شقّين، فيزيد الرقاع بعدد الزيادة، و مع خروج غفل يرميها و يخرج اخري» «1».

و لا يخفي أنّ مقتضي عمومات القرعة و شمولها لموارد الاستخارة، عدم اختصاصها بالكيفية المذكورة في الخبرين المزبورين الخاصّين، و أنّ الطريق المذكور فيهما من باب التمثيل؛ نظراً إلي أنّ مقتضي عمومات القرعة تحقُّقها بأيّ طريق معتاد.

و لكن الأقوي الاقتصار في كيفية الاستخارة علي الطريق المأثور. و ذلك لأنّها بكيفيتها المأثورة داخل في

عنوان الاستخارة. و إنّها لما كانت مستندة إلي الشارع و بحساب الشريعة، يجب الاقتصار علي الطريق المأثور و لا يجوز التعدي عنه.

و حاصل الكلام: أنّه لا يمكن إنكار دلالة نصوص القرعة و المساهمة عموماً و خصوصاً علي مشروعية الاستخارة بالمساهمة. و اتضح بذلك أنّ عمومات القرعة إنّما تصلح لمشروعية خصوص الاستخارة بالقرعة و

______________________________

(1) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 393

المساهمة، دون ساير أنحاء الاستخارة؛ نظراً إلي خروجها عن عنوان القرعة.

أ فهل تري صدق عنوان القرعة علي الاستخارة بالمصحف؟! و كذا الاستخارة بالسبحة. نعم لا يبعد دخول الاستخارة بالبنادق و الرقاع فيها؛ نظراً إلي اتحادهما في كيفية العمل.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 394

مدرك الاستخارة

اشارة

1- تحرير آراء الفقهاء.

2- مقتضي التحقيق في مدرك الاستخارة.

إنّ الاستخارة بمعناها الأعم؛ أيّ بمعني الدعاء و الصلاة و التوسل إلي اللّٰه تعالي لطلب الخِيرة و ما فيه الخير و الصلاح عند اللّٰه- من دون استطلاعٍ و لا طلب تعرّف علي الواقع المستور في علمه تعالي باحدي العلامات و الطرق المذكورة،- لا ريب في مشروعيتها، بل استحبابها مؤكّدٌ في جميع الامور المهمة الخطيرة و غيرها؛ نظراً إلي النصوص و اتفاق الفقهاء عليها من دون مخالف في البين. فلا كلام في ذلك.

و إنّما الكلام في مشروعية الاستخارة بمعناها الأخص؛ أي طلب التعرف علي ما هو خيرٌ له في الواقع المكتوم في علم اللّٰه، و الاستطلاع علي خيرة اللّٰه المكنونة في غيبه؛ بإحدي العلامات و الطرق المأثورة، بعد الصلاة و الدعاء و التوسل إلي ساحته تعالي.

و هذه الطرق و العلامات- كما عرفت آنفاً- هي الأخذ بالرقاع بعد خلطها و تشويشها في شي ءٍ مستور. أو الأخذ بالسُّبحة أو الحَصي بعدّها

اثنين اثنين أو أكثر، أو بافتتاح المصحف و غيرها من الطرق المذكورة آنفاً. و إنّما المتداول الرائج من الاستخارة بين العلماء و المؤمنين، بل المرتكز في أذهان المتشرعة، هو الاستخارة بهذا المعني.

و عمدة الدليل علي مشروعيته هي النصوص الواردة في آحاد أنحائها. و قد ذكرناها في بيان أقسام الاستخارة. و الكلام هاهنا في حجية هذه النصوص و

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 395

دليليتها علي مشروعية الاستخارة بهذا المعني. و قبل الخوض في البحث ينبغي نقل آراء الفقهاء و تنقيح كلماتهم.

تحرير آراء الفقهاء
تنقيح كلمات المشايخ الثلاثة

قد روي الكليني و الشيخ بعض روايات الاستخارة بهذا المعني. و قد صرّح الكليني بأنّ الروايات التي نقلوها و دوّنوها في كتبهم الأربعة، من الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام و السنن القائمة التي عليها العمل، كما قال الكليني «1».

و قال الشيخ الطوسي قدس سره في مقدمة التهذيب: «و أذكر مسألة مسألة، فأستدلُّ عليها؛ إما من ظاهر القرآن أو من صريحه أو فحواه أو دليله أو معناه، و إما من السنة المقطوع بها من الأخبار المتواترة، أو الأخبار التي تقترن إليها القرائن التي تدل علي صحتها، و إما من إجماع المسلمين إن كان فيها أو إجماع الفرقة المحقّة. ثمّ أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك» «2».

و يفهم من كلامهما أنّ فتاواهما قد استقرّت علي الروايات التي روياها، كما يستفاد حجية هذه النصوص عندهما.

و إنّهما قد رَوَيا روايات دالّة علي مشروعية الاستخارة بهذا المعني، كما روي الكليني بسنده عن هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام رواية في

______________________________

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 8.

(2) تهذيب الاحكام: ج 1، ص 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية،

ج 3، ص: 396

الاستخارة بالرقاع «1». و كذا روي في ذلك بطريق آخر «2».

و قد روي الشيخ الطوسي هاتين الروايتين في التهذيب «3». و روي أيضاً في مصباح المتهجّد «4» رواية هارون بن خارجة و مرفوعة علي بن محمد في الاستخارة بالرقاع.

و أما الصدوق فلم يرو رواية في هذا النوع من الاستخارة.

و ممن روي الاستخارة بهذا المعني عن هارون بن خارجة،، هو يحيي بن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع «5».

رأي الشيخ المفيد قدس سره

يظهر من كلام الشيخ المفيد في المقنعة، أنّ رواية الاستخارة بالرقاع شاذّة؛ حيث قال بعد نقل روايتها:

«قال الشيخ: و هذه الرواية شاذّة، ليست كالذي تقدّم، لكنّا أوردناها للرخصة، دون تحقيق العمل بها». «6»

قوله: قال الشيخ، احتمل المحدث المجلسي أنّ هذا الكلام مما ألحقه الشيخ المفيد بعد تصنيف الكتاب في الهامش، فأدرجه المستنسخون في المتن، حيث قال بعد نقل كلام المفيد: «و لعلَّه مما ألحقه أخيراً في الهامش، فأدرجوه في

______________________________

(1) الكافي: ج 3، ص 471، ح 3، من باب صلاة الاستخارة.

(2) المصدر: ح 8.

(3) تهذيب الأحكام: ج 3، ص 182- 181، ح 6 و 7، من باب صلاة الاستخارة.

(4) مصباح المتهجّد: ص 535.

(5) الجامع للشرائع/ طبع مؤسسة سيد الشهداء عليه السلام: ص 114.

(6) المقنعة طبع جماعة المدرسين: ص 219.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 397

المتن» «1».

ثمّ نقل في البحار عن ابن طاوس بقوله: «و قال السيد بن طاوس عندي من المقنعة نسخة عتيقة جليلة كتبت في حياة المفيد رضي اللّٰه عنه، و ليست فيها هذه الزيادة، و لعلها قد كانت من كلام غير المفيد علي حاشية المقنعة، فنقلها بعض الناسخين فصارت في الأصل، ثمّ أوّلها علي تقدير كونها من الشيخ بتأويلات كثيرة» «2».

رأي ابن ادريس و من وافقه

و قد ناقش ابن ادريس في مشروعية هذا النوع من الاستخارة، بعد الاذعان بمشروعية الاستخارة بالمعني الأوّل؛ حيث قال: «فاما الرقاع و البنادق و القرعة، فمن أضعف أخبار الآحاد و شواذّ الأخبار؛ لأنّ رواتها فطحية ملعونون، مثل زرعة و رفاعة و غيرهما، فلا يلتفت إلي ما اختصا بروايته. و المحصّلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه، إلّا ما اخترناه. و لا يذكرون البنادق و الرقاع و القرعة، إلّا في

كتب العبادات دون كتب الفقه.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 88، ص 288.

(2) بحار الانوار: ج 88، ص 288.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 398

فشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّٰه لم يذكر في نهايته و مبسوطه و اقتصاده، إلّا ما ذكرناه و اخترناه، و لم يتعرّض للبنادق، و كذا شيخنا المفيد في رسالته إلي ولده لم يتعرّض لشي ءٍ من الرقاع. و الفقيه عبد العزيز بن البرّاج رحمه اللّٰه أورد ما اخترناه الخ» «1».

و قد وافقه المحقق في المعتبر؛ حيث إنّه- بعد الاذعان بمشروعية الاستخارة بالمعني الأوّل و تأكيد استحباب صلاتها و ذكر رواياتها و التصريح باشتهار العمل بمضمونها بين الأصحاب- قال: «أما الرقاع، فيتضمّن افعل و لا تفعل و في خبره الشذوذ، فلا عبرة بها» «2».

رأي العلامة الحلّي و تشنيعه علي ابن إدريس

و ممّن أفتي بمشروعية الاستخارة بالمعني الثاني الأخص، العلامة الحلّي. فانه بعد الاشارة إلي الروايات المروية في الاستخارة بالرقاع، تعرّض لإنكار ابن ادريس و أجاب عنه و شدّد في التشنيع عليه. و لما لا يخلو كلامه في المقام من فوائد جليّة نافعة ننقله هاهنا بنصّه.

قال قدس سره: «نقل الشيخ المفيد عن الصادق عليه السلام في صفة صلاة الاستخارة عدّة روايات، من جملتها المشتملة علي أخذ الرقاع، و كذا الشيخ في المصباح و التهذيب. و أنكر ابن ادريس هذه الصفة، فقال: … ثمّ طوّل في معني الاستخارة. و أدّي بحثه إلي أنّها طلب الخيرة من اللّٰه تعالي بالدعاء.

و هذا الكلام في غاية الرداءة، و أيّ فارق بين ذكره في كتب الفقه و كتب العبادات؟ فان كتب العبادات هي المختصة به، و مع ذلك فقد ذكره المفيد في المقنعة و هي كتاب فقه و فتوي، و ذكره الشيخ في التهذيب

و هو أصل الفقه، و أيّ محصِّل أعظم من هذين؟ و هل استفيد الفقه إلّا منهما؟

و طلب الخيرة بالدعاء لا ينافي ما قلناه؛ فانها مشتملة علي ذلك. و أما نسبة الرواية إلي زرعة و رفاعة فخطأٌ؛ فان المنقول فيه روايتان: إحداهما: رواها

______________________________

(1) السرائر/ طبع جماعة المدرسين: ج 2، ص 314- 313.

(2) المعتبر: ج 2، ص 373.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 399

هارون بن خارجة عن الصادق عليه السلام و الثانية: رواها محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن محمد- رفعه- عنهم عليهم السلام و ليس في طريق الروايتين زرعة و لا رفاعة.

و أما نسبة زرعة و رفاعة إلي الفطحية فخطأ. أما زرعة؛ فانه واقفي و كان ثقةً. و أما رفاعة؛ فانه ثقة صحيح المذهب.

و هذا كله يدلّ علي قلّة معرفته بالروايات و الرجال. فكيف يجوز ممن حاله هذا أن يُقدم علي رد الروايات و الفتاوي، و يستبعد ما نص عليه الأئمة عليهم السلام!؟

و هلّا استبعد القرعة و هي مشروعة إجماعاً في حق الاحكام الشرعية و القضايا بين الناس، و شرعها دائم في حق جميع المكلّفين؟ و أمر الاستخارة سهل يستخرج منه الانسان معرفة ما فيه الخيرة في بعض أفعاله المباحة المشتبهة عليه منافعها و مضارّها الدنيوية» «1».

و كذا روي نصوص هذه الاستخارة في المنتهي «2»، و أفتي به في القواعد أيضاً و نقله في ايضاح الفوائد «3».

رأي المحقق الكركي

و أما المحقق الكركي فقد أفتي بمشروعية الاستخارة بهذا المعني، بل يفهم من ظاهر كلامه استحبابها؛ حيث قال:

«السادس: صلاة الاستخارة، تكتب في ثلاث رقاع: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم خيرة من اللّٰه العزيز الحكيم لفلان بن فلانة افعل، و في ثلاث رقاع بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

خيرة من اللّٰه العزيز الحكيم لفلان بن فلانة لا تفعل. ثمّ يضعها

______________________________

(1) مختلف الشيعة/ طبع مكتب الأعلام الاسلامي: ج 2، ص 357-/ 356.

(2) المنتهي/ الطبع القديم: ج 1، ص 362.

(3) ايضاح الفوائد: ج 1، ص 138.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 400

تحت مصلاه، ثمّ يصلي ركعتين، ثمّ يسجد بعد التسليم و يقول فيها: أستخير اللّٰه برحمته خيرة من عافية مائة مرّة، ثمّ يجلس و يقول: اللهم خر لي في جميع اموري في يسر منك و عافية، ثمّ يشوِّش الرقاع و يُخرج واحدة واحدة. فان خرج ثلاث متواليات افعل، فليفعل. و إن خرج ثلاث متواليات لا تفعل، فليترك. و إن خرجت واحدة افعل و الاخري لا تفعل، فليخرج من الرقاع إلي خمس و يعمل علي الأكثر» «1».

رأي الشهيدين

و قد أفتي الشهيد الأوّل بمشروعية الاستخارة بهذا المعني في البيان «2». و قد فصّل في بيان ذلك في الذكريٰ «3» و ردّ كلام ابن ادريس، و صرّح بأنّ الاستخارة بالرقاع مشتهر بين الأصحاب. فانه بعد ذكر روايات الاستخارة بالرقاع، قال:

«فان الكليني ذكرها في كتابه و الشيخ في التهذيب و غيرهما. و انكار ابن ادريس الاستخارة بالرقاع لا مأخذ له مع اشتهارها بين الأصحاب، و عدم راد لها سواه، و من أخذ مأخذه كالشيخ نجم الدين.

ثمّ قال: و كيف تكون شاذة و قد دوّنها المحدّثون في كتبهم، و المصنّفون في مصنَّفاتهم، و قد صنّف السيد العالم العابد صاحب الكرامات الظاهرة و المآثر الباهرة، رضي الدين أبو الحسن علي بن طاوس الحسني قدس سره كتاباً ضخماً في الاستخارات و اعتمد فيه علي رواية الرقاع، و ذكر من آثارها عجائب

______________________________

(1) جامع المقاصد: ج 2، ص 486.

(2) البيان/ الطبع

الحجري: ص 128- 127.

(3) الذكريٰ/ طبع الحجري: ص 254- 253.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 401

و غرائب، أراه اللّٰه تعالي إياها، و قال: إذا توالي الأمر في الرقاع فهو خير محض، و إن توالي النهي فذلك الأمر شرّ محض، و إن تفرّقت كان الخير و الشر موزِّعاً بحسب تفرّقها علي أزمنة ذلك الأمر بحسب ترتّبها» «1».

ثمّ ذكر روايات ساير أنحاء هذه الاستخارة بقوله: «و منها الاستخارة بالعدد، و لم تكن هذه مشهورة في العصور الماضية قبل زمان السيد الكبير العابد رضي الدين محمد بن محمد الآوي الحسيني المجاور بالمشهد المقدس الغروي. و قد رويناها عنه- إلي أن قال: و منها: الاستخارة بالمصحف الكريم روي اليسع القمي، قال الخ» «2».

و مثله ما جاءَ في كلام الشهيد الثاني فانه أفتي بمشروعية الاستخارة بالرقاع الست و غيرها في شرح اللمعة «3».

و في روض الجنان صرّح باعتضاد أخبار الاستخارة و انجبار ضعفها بعمل الأصحاب؛ حيث قال: «و صلاة الاستخارة للخبر و ضعفه معتضد بعمل الأصحاب» «4» و مقصوده خبر هارون بن خارجة الوارد في الاستخارة بالرقاع، علي ما يظهر من مجموع كلماته في مواضع اخري، كقوله في نفس هذا الكتاب؛ أعني الروض:

«و صلاة الاستخارة و هي أيضاً أنواع أشهرها الاستخارة بالرقاع الست، رواها هارون بن خارجة عن الصادق عليه السلام، قال: إذا أراد أحدكم أمراً فلا يشاور فيه أحداً من الناس حتي يبدأ فيشاور اللّٰه تبارك و تعالي، قال: قلت: جعلت فداك و ما

______________________________

(1) الذكريٰ/ الطبع الحجري: ص 253.

(2) المصدر.

(3) شرح اللمعة/ طبع مطبعة أمير-/ قم/ ج 1، ص 295.

(4) روض الجنان: ص 18.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 402

مشاورة اللّٰه؟ قال عليه

السلام: تبتدأ فتستخير اللّٰه فيه أوّلًا ثمّ تشاور فيه، فانه إذا بدأ باللّٰه أجري له الخيرة علي لسان من يشاء من الخلق» «1» ثمّ نقل ما قاله السيد بن طاوس في وصف الاستخارة بالرقاع و أصابتها الواقع ما نقل عنه الشهيد الأوّل في الذكري، و قد نقلناه آنفاً.

استدلال صاحب الحدائق

قال صاحب الحدائق بعد ذكر طوائف النصوص الواردة في انحاء الاستخارة بمعناها الأخص الشائع: «المستفاد من الأخبار استحباب الاستخارة لكل شي ء و تأكُّدها حتي في المستحبّات» «2».

و إنّه قدس سره بعد ذكر الأقسام العشرة للاستخارة و الاستدلال لها بما ورد فيها من النصوص، قال ما لفظه:

«فهذه عشرة وجوه و مجموعها يصلح مدركاً لمثل هذا الأمر و مسلكاً لهذا الشأن، و إن تطرّق علي بعضها المناقشة» «3».

و أما تلك الوجوه العشرة من أنحاء الاستخارة التي ذكرها صاحب الوسائل و استشهد لآحادها بالنصوص، فهي:

1- طلب الخِيْرَة من اللّٰه؛ بأن يسأل اللّٰه في دعائه أن يجعل له الخير و يوفّقه في الأمر الذي يريده.

2- طلب تيسّر ما فيه الخيرة.

______________________________

(1) المصدر: ص 326.

(2) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 531.

(3) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 533.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 403

3- طلب العزم علي ما فيه الخير.

4- الاستخارة بالدعاء خاصة، بعد ما جَعَل الثلاثة الاولي بالصلاة و الدعاء بقوله: «و هذه الثلاثة المعاني تكون بالصلاة و الدعاء. و ربما تكون بالدّعاء خاصّة» «1».

5- الاستخارة بالرقاع.

6- الاستخارة بالبنادق.

7- الاستخارة بفتح المصحف.

8- الاستخارة بالسُّبحة.

9- الاستخارة بالقرعة.

10- الاستخارة بالأخذ من لسان المشاور.

فانه قدس سره جعل الأقسام الستة الأخيرة كلّها من أنواع الاستخارة بمعني طلب تعرّف ما فيه الخيرة؛ حيث إنّه بعد ذكر الاقسام الأربعة الاولي قال:

«و منها ما ورد بمعني طلب

تعرّف ما فيه الخيرة، و هذا هو المعروف الآن بين الناس، و لكن لا بد هنا من انضمام شي ءٍ آخر إلي الصلاة و الدعاء معاً أو الدعاء وحده، من الرقاع أو البنادق أو فتح المصحف أو أخذ السبحة أو القرعة أو الأخذ من لسان المشاور» «2».

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 525.

(2) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 526.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 404

رأي صاحب الجواهر في مدرك الاستخارة

سلك صاحب الجواهر مسلك التسامح في أدلة السنن في الاستدلال علي مشروعية الاستخارة بالطرق و العلامات المذكورة الشائعة، بعد ما حَكَم باستحباب بأنحائها.

فانّه- بعد ذكر الاستخارة بالقرعة و المساهمة و ذكر نصوصهما- قال:

«و إن كان الأظهر أنّ استحباب الاستخارة بهذا الطريق أو غيره لا ريب في أنّه من السنن التي يتسامح في أدلتها، فلا بأس في نية القربة للمستخير بذلك حينئذٍ، و لا ينافيه اشتمال الدليل علي علامة الخبرة، إذ لا ريب في أنّ للفاعل إيقاع فعله كيف شاء، و مباح له الفعل و الترك، فلا حرج عليه باناطة الفعل و الترك بهذه العلامة لاحتمال إصابتها الواقع، و لا تشريع فيه، و من ذلك تعرف أنّه لا بأس حينئذٍ بالأخذ بجميع ما سمعت من أقسام الاستخارات و إن ضعف سند دليل بعضها» «1».

و بعد ما ذكر ذلك أنكر كلام ابن ادريس و استجود كلام العلامة في التشنيع علي ابن ادريس؛ حيث قال قدس سره: «و لقد أجاد الفاضل في المختلف- بعد أن نقل ما سمعته من السرائر- في قوله: و هذا الكلام في غاية الرداءة، و أي فرق بين ذكره في كتب الفقه و كتب العبادات، فان كتب العبادة هي المختصة به، و مع ذلك فقد ذكره المفيد

في المقنعة و هي كتاب فقه، و الشيخ في التهذيب و هو أصل الفقه، و أي محصل أعظم من هذين، و هل استفيد الفقه إلّا منهما، و أما نسبة الرواية إلي زرعة و رفاعة فخطأ، فان المنقول روايتان ليس فيهما زرعة و لا رفاعة، ثمّ أخذ يشنع عليه بعدم معرفته بالروايات و الرجال، و أن زرعة و

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 166.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 405

رفاعة ليسا من الفطحية، و أن من حاله كذلك كيف يجوز له أن يقدم علي رد الروايات و الفتاوي، و يستبعد ما نص عليه الأئمة عليهم السلام، و هلّا استبعد القرعة و هي مشروعة إجماعاً في حق الاحكام الشرعية و القضاء بين الناس، و شرعها دائم في جميع المكلفين، و أمر الاستخارة سهل يستخرج منه الانسان معرفة ما فيه الخير في بعض أفعاله المباحة المبتنية عليه منافعها و مضارّها الدنيوية» «1».

ثمّ ذكر كلام ابن طاوس و الشهيد في تأييد كلام العلامة و ردّ ابن ادريس، ثمّ نقل عن المفتاح أنّ ابن طاوس ادّعي الاجماع علي الاستخارة بالرقاع. ثمّ قال: «و من هذا كله مضافاً إلي ما سمعته سابقاً من التسامح في أدلة الاستخارة كما أو ما إليه في المختلف، تعرف وجوه النظر فيما سمعته من السرائر» «2». و أيضاً استدلّ ببعض آيات الكتاب الوارد في قصة يونس بقوله: «و تارة: تكون بالقرعة و المساهمة كما اتفق ليونس، فانه روي أنّه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره اللّٰه تعالي فركب في السفينة فوقفت، فقالوا هذا عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فرمي بنفسه في الماء فالتقمه الحوت» «3».

آراءُ ساير الفقهاء

و أما الفقهاء

المتأخّرون عن الشهيد، فاتفقوا علي مشروعية هذا النوع من الاستخارة، كما عرفت ممّا حكاه في المفتاح عن ابن طاوس و كثيرٍ من أعاظم الأصحاب بل نسب بعضهم ذلك إلي الأصحاب.

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 167.

(2) المصدر: ص 168.

(3) المصدر: ص 165.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 406

فتحصّل أنّ هذا النوع من الاستخارة كان معمولًا بين قدماء الأصحاب كما يظهر من كلام العلامة و ابن طاوس و الشهيد الأوّل. و أما المتأخرون، فاتفقوا علي مشروعيته، و لم يُعهد منهم المخالف، بل المخالف لأصل مشروعية الاستخارة بهذا المعني الشائع يُعدّ من الشذوذ.

و قد عرفت آراء سائر الفقهاء من كلماتهم المنقولة سابقاً. فانّ المحدث الكاشاني و المحدث البحراني و المحدث المجلسي و الفاضل الهندي صاحب كشف اللثام و السيد محمد جواد الحسيني العاملي في المفتاح و غيرهم من الفقهاء الفحول، قد صرّحوا بمشروعية هذا النوع من الاستخارة و ذكروا له أقساماً. و قد ذكرنا مواضع الحاجة من كلماتهم في خلال البحث.

مقتضي التحقيق في مدرك الاستخارة
اشارة

عمدة مدرك الاستخارة هي النصوص الواردة في أنحاء الاستخارة، من الاستخارة بالرقاع و البنادق و المصحف و السُّبحة و القرعة.

و إن يظهر من صاحب الجواهر «1» نسبة دعوي الاجماع إلي ابن طاوس؛ حيث نقله عن مفتاح الكرامة في تنقيح آراء الفحول و الاستشهاد بكلماتهم لتأييد العلامة في ردّه ابن ادريس و تشنيعه عليه.

و لكن لا اجماع تعبّدي في البين و إن ذهب إلي مشروعيتها جلُّ الأصحاب.

و إلي الكتاب؛ حيث استند لمشروعية الاستخارة بالقرعة إلي قوله تعالي:

«فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ». كل ذلك سبق آنفاً في نقل كلام صاحب الجواهر.

و عليه فعمدة ما يمكن الاتكال عليها في الاستدلال لمشروعية الاستخارة

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص

168.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 407

هي النصوص.

و يمكن الاستدلال بالنصوص لمشروعية الاستخارة بأنحائها المذكورة، بإحدي الطرق الأربعة الآتية.

1- تظافر النصوص الدالة علي مشروعية آحاد أنحاء الاستخارة بالطرق المذكورة

و صلاحية هذه النصوص بمجموعها لاثبات المشروعية في الجملة.

بيان ذلك: أنّ النصوص الواردة في أنحاءِ الاستخارة المذكورة، و إن كانت بآحادها ضعيفة، إلّا أنّ كثرة ما ورد من النصوص في كلِّ واحدٍ من أنحاءِ هذه الاستخارات و تظافرها يوجب الوثوق النوعي بصدورها في كلّ قسم من هذه الأقسام في الجملة، كما أشار إليه صاحب الحدائق بعد ذكر أنحاء الاستخارة و نصوصها، بقوله: «و هذه عشرة وجوه و مجموعها يصلح مدركاً لمثل هذا الأمر و مسلكاً لهذا الشأن و إن تطرّق علي بعضها المناقشة» «1».

فان النصوص الواردة في كل من الاستخارة بالرقاع و المصحف و السبحة متظافرة و يحصل الوثوق بصدور بعضها في كل نوع، و إن كانت ضعيفة بآحادها كلّاً أو بعضاً. و هذا الوثوق النوعي بصدورها يكفي في الاعتبار و إثبات مشروعية الاستخارة في كلّ قسم من هذه الأقسام.

فانّ تظافر النصوص و كثرتها ممّا يوجب الوثوق النوعي، بل الاطمئنان و القطع بصدورها في الجملة. و إن اختلفت تعابيرها و مواردها بعد اشتراك الكل في معني واحد و مفهوم فارد.

و يظهر هذا المسلك في الحكم باعتبار الروايات و الاحتجاج بها من أعاظم الأصحاب و فحول الفقهاء. منهم العلامة؛ حيث جعل ذلك وجهاً خامساً

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 533.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 408

للاستدلال علي مشروعية بيع المتاع بأضعاف قيمته مشروطاً باقراض أو إجارة و نحو ذلك. قال: «الخامس: تظافر الروايات و تطابقها من غير معارض فيتعين العمل عليه». «1»

و كذا جميع من تأخّر عنه من الفقهاء، إلّا أنّهم

قصدوا من المتظافرة ما يشتمل علي الصحاح و غيرها غالباً.

و لكن استدلّ بعض الفحول بالنصوص المتظافرة مع التصريح بضعف آحادها.

كما يظهر ذلك من المحقق الهمداني في النصوص الدالة علي عدم وجوب الصلاة علي من نسي الاستنجاء، فتذكّر بعدها «2».

و منهم السيد الخوئي؛ حيث صرّح بضعف ما دلّ علي كون المراد بذوي القربي الائمة المعصومين و لكن استدل بها و حكم باعتبارها بمجموعها بدعوي كونها متظافرة. و بذلك ردّ ابن الجنيد المدّعي إرادة مطلق القرابة من الآية؛ حيث قال: «و فيه أنّ الرويات الدالة علي أنّ المراد به الامام عليه السلام كثيرة جدّاً، و إن كانت ضعيفة السند بأجمعها، فهي نصوص مستفيضة متظافرة» «3».

و قال في حرمة الطواف عرياناً: «الروايات الناهية عن الطواف عرياناً و ان كانت باجمعها ضعيفة السند إلا أنّها كثيرة متظافرة لا يمكن ردّها بل عن كشف

اللثام انها تقرب من التواتر من طريقي الخاصة و العامة». «4»

______________________________

(1) مختلف الشيعة: ج 5، ص 301.

(2) مصباح الفقيه: ج 1، ق 1، من الطبعة الحجرية.

(3) كتاب الخمس/ للسيد الخوئي: ص 308.

(4) المعتمد/ كتاب الحج/ ج 4/ ص 331.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 409

و قال في حرمة الانتفاع بالميتة: «الروايات الدالة علي حرمة الانتفاع بالميتة فان أكثرها ضعيفة السند إلا أنّها متظافرة». «1»

و نكتفي بذكر هذه الموارد من باب التمثيل؛ حذراً من الاطناب و التطويل، و إلّا فموارد تعبير فحول المحققين عن النصوص الكثيرة- الضعيفة آحادها- بالمتظافرة و الاستدلال بها، كثيرة، يجدها المتتبّع في كلام مثل صاحب الحدائق و الجواهر و الشيخ الاعظم و المحقق الهمداني و السيد الخوئي و غيرهم.

2- انجبار ضعف سند هذه النصوص بقاعدة التسامح في أدلّة السنن،

كما يظهر ذلك من كلام صاحب الجواهر؛ حيث نفي الريب عن جريان

هذه القاعدة في نصوص المقام بقوله: «و إن كان الأظهر أنّ استحباب الاستخارة بهذا الطريق أو غيره، لا ريب في أنّه من السنن التي يتسامح في أدلتها، فلا بأس في نية القربة للمستخير بذلك حينئذٍ، و لا ينافيه اشتمال الدليل علي علامة الخبرة، إذ لا ريب في أنّ للفاعل إيقاع فعله كيف شاء، و مباح له الفعل و الترك، فلا حرج عليه باناطة الفعل و الترك بهذه العلامة لاحتمال إصابتها الواقع، و لا تشريع فيه، و من ذلك تعرف أنّه لا بأس حينئذٍ بالأخذ بجميع ما سمعت من أقسام الاستخارات و إن ضعف سند دليل بعضها» «2».

و ممّن صرّح بهذا الوجه و استدل به و اتّكل عليه صاحب العروة؛ حيث قال: «بل أنكر بعض ما عداها مما يشتمل علي التفؤّل و المشاورة بالرقاع و الحصي و السبحة و البندقة و غيرها، لضعف غالب أخبارها، و إن كان العمل بها

______________________________

(1) مصباح الفقاهة/ ج 1/ ص 64.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 166.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 410

للتسامح في مثلها لا بأس به أيضاً» «1».

و ينبغي قبل الورود في تقريب هذا الاستدلال إشارة إجمالية إلي هذه القاعدة، و قد بحثنا عنها مفصّلًا في كتابنا «مقياس الرواية».

المقصود من هذه القاعدة أنّه إذا ورد خبر ضعيف عن النبي صلي الله عليه و آله أو أحد المعصومين عليهم السلام فدلّ علي استحباب فعل يثبت بهذه القاعدة استحباب ذلك الفعل.

و السرّ في ذلك: دلالة بعض الروايات المعتبرة علي ثبوت الاستحباب أو الأجر و الثواب للعمل بكلّ رواية وُعد فيها بالثواب و لو كانت غير صادرة عن أهل البيت عليهم السلام واقعاً. و عليه فاستحباب العمل الوارد فيه

الرواية لا يحتاج في إثباته إلي تمامية سند الحديث الدال عليه أو الوثوق بصدوره، بل يثبت بنفس تلك الرواية الضعيفة بمعونة ما دلّ من النصوص المعتبرة علي ثبوت الأجر و الثواب علي العمل الموعود به في تلك الرواية، و لو لم تكن صادرة عنهم عليهم السلام واقعاً.

و قد وقع البحث في أنّ الثابت بهذه الأخبار هل هو حجية الرواية الضعيفة الدالة علي الاستحباب، أو ثبوت حكم الاستحباب، من دون جبر ضعف الرواية و إثبات حجيتها، أو لا يثبت شي ءٌ منهما، بل إنّما يثبت مجرّد الأجر و الثواب.

و المشهور بين الفقهاء جبر ضعف سند الرواية الواردة في السنن و المستحبات و إثبات حجيتها بهذه القاعدة كما يستفاد ذلك من كلام الشهيد الثاني؛ حيث قال: «و جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص و المواعظ و فضائل الأعمال … و هو حسن، حيث لا يبلغ الضعف حدَّ الوضع و

______________________________

(1) العروة الوثقي المحشّي: ج 2، مقدمة كتاب الحج في آداب السفر، ص 411.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 411

الاختلاق؛ لما اشتهر بين العلماء المحققين من التساهل بأدلّة السنن، و ليس في المواعظ و السنن غير محض الخير …» «1».

و قد صرّح السيد الحكيم «2» و السيد الخوئي «3» باشتهار هذا المبنا بين الأصحاب. و قد بحثنا عن نصوص هذه القاعدة و تنقيح آراء فحول الفقهاء في مفادها في كتابنا «مقياس الرواية» «4». و اخترنا هناك قصور نصوص هذه القاعدة عن إثبات حجية الروايات الواردة في السنن و كذا عن إثبات استحباب العمل المرغَّب إليه في هذه الروايات، بل غاية ما يثبت بنصوص هذه القاعدة مجرّد ترتب الأجر و الثواب عليه ما لم يبلغ ضعف

الرواية إلي حدّ الوضع و الاختلاق.

و علي أيّ حال فما ذهب إليه في الجواهر في المقام مبنيٌّ علي قاعدة التسامح. و بناءً علي رأي المشهور يمكن دعوي انجبار ضعف أسناد الروايات الواردة في أنحاء الاستخارة و القول باعتبارها. و أما بناءً علي رأي غير المشهور يثبت استحباب الاستخارة أو مجرّد ترتّب الثواب و الأجر عليه. و قد رجّحنا هذا المبنا الأخير في كتابنا «مقياس الرواية».

و علي أيّ حال لا إشكال في ثبوت جواز الاستخارة بإحدي الطرق المزبورة و أصل مشروعيتها.

و إن لا يخلو ذلك من إشكال؛ نظراً إلي خروج ثبوت مجرد الأجر و الثواب عن مفاد نصوص الاستخارة و نطاقها؛ حيث إنّها بصدد إراءة الواقع و رفع

______________________________

(1) الدراية: ص 29.

(2) حقائق الاصول: ج 2، ص 268.

(3) مصباح الاصول: ج 2، ص 319.

(4) مقياس الرواية في علم الدراية: ص 215.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 412

التحيّر و إيجاد العزم، لا مجرد الوعد بالثواب و الأجر حتي يثبت بقاعدة التسامح.

و الجواب: أنّه ورد في بعض نصوص الاستخارة ثبوت الأجر للمستخير إذا دخل في أمر بالاستخارة ثمّ ابتلي، و في بعضها ثبوت الأجر في الاستخارة مطلقاً.

كما في صحيح محمد بن أبي عمير و صفوان عن عبد اللّه بن مسكان قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «من دخل في أمر بغير استخارة ثمّ ابتُلي لم يوجر» «1».

و في خبر محمد بن مضارب- المروي في المحاسن- عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«من دخل في أمر بغير استخارة لم يوجر» «2».

وجه الدلالة: دلالة مفهوم التحديد في هاتين الروايتين علي ثبوت الأجر فيما دُخل فيه بالاستخارة.

و دعوي انصراف الاستخارة في هاتين الروايتين إلي الاستخارة بمجرد الدعاء و الصلاة، لا

وجه لها بعد ورود نصوص متظافرة بلفظ الاستخارة و دلالتها علي مشروعية، بل استحباب الاستخارة بإحدي الطرق المبحوث عنها في المقام لظهور الأمر و الترغيب- الوارد فيها- في الاستحباب.

و عليه فالوعد بثبوت الأجر و الثواب يثبت في جميع أنحاء الاستخارة و يدخل في نطاق نصوص الاستخارة كلّها. و عليه يمكن إثبات مشروعيتها بقاعدة التسامح؛ حيث من الواضح أنّ ثبوت الأجر فرع مشروعية أصل العمل.

و بهذا البيان يتضح وجه ما استقرّ عليه رأي الفقيه الفحل خرّيت صناعة

______________________________

(1) الوسائل: ب 7، من أبواب الصلاة الاستخارة، ح 7.

(2) المصدر: ح 1 و 8.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 413

الفقه صاحب الجواهر، من إثبات مشروعية بل استحباب الاستخارة بقاعدة التسامح.

و بناءً علي ما اخترناه في قاعدة التسامح لا إشكال في إثبات أصل مشروعية الاستخارة بإحدي الطرق المذكورة و جواز العمل بها مسنِداً إلي الشارع.

3- انجبار ضعف أسناد هذه النصوص بعمل مشهور الفقهاء.

و يمكن دعوي ذلك بلحاظ شهادة مثل العلامة و الشهيد الأوّل و ابن طاوس علي عمل أكثر الفقهاء و المحدثين من القدماء و المتأخرين بما ورد من النصوص في الاستخارة بالطرق المأثورة المذكورة، كما جمع أقوالهم في مفتاح الكرامة «1» بل نقل عن ابن طاوس الاجماع علي الاستخارة بالرقاع، كما أشار إليه في الجواهر «2».

و لكن لا يخفي أنّ الجابر لضعف سند الرواية إنّما هو عمل مشهور قدماء الأصحاب بها، دون المتأخرين، فلو أحرزنا ذلك من مطاوي كلمات الفقهاء، يمكن دعوي جبر ضعف أسناد روايات الاستخارة بعمل المشهور. و إثبات ذلك بحاجةٍ إلي فحص تام في كلمات القدماء. و لا يبعد دعوي ذلك؛ نظراً إلي كثرة العاملين بها. و إن كان أكثر العاملين من المتأخرين. إلّا أن من القدماء أيضاً من أفتي

بمضمونها، بل شهد بصدورها عن الصّادقين عليهم السلام كالكليني في الكافي و الشيخ في التهذيب و مصباح المتهجّد و المفيد في المقنعة و عدم ثبوت ما ادّعاه في المفيد و ابن ادريس من الشذوذ في كلامه، كما قال العلامة. و قد أكّد

______________________________

(1) مفتاح الكرامة: ج 3، ص 274- 278.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 168.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 414

العلامة باعتبار هذه النصوص و مشروعية الاستخارة بهذا المعني، و صرّح الشهيد الاوّل باشتهارها بين الأصحاب و فتوي مثل العلامة و المحقق الكركي و الشهيدين و المحدث البحراني و الكاشاني و الفاضل الهندي و صاحب مفتاح الكرامة و صاحب الجواهر و غيرهم.

4- عمومات القرعة الشاملة للاستخارة بما يُعدّ عرفاً من مصاديق القرعة بتقريبين:

أحدهما: العموم اللفظي، و الآخر: بالفحوي. و قد سبق بيان هذين التقريبين في البحث عن الاستخارة بالقرعة و المساهمة.

و يمكن استفادة شمول عمومات القرعة للاستخارة بالفحوي من كلام العلامة في تشنيعه علي ابن ادريس بقوله: «و هلّا استبعد القرعة و هي مشروعة إجماعاً في حق الاحكام الشرعية و القضايا بين الناس، و شرعها دائم في حق جميع المكلّفين؟ و أمر الاستخارة سهل يَستخرج منه الانسان معرفة ما فيه الخيرة في بعض أفعاله المباحة المشتبهة عليه منافعها و مضارّها الدنيوية» «1».

و حاصل الكلام: أنّ عمومات القرعة بالتقريبين السابقين تامّة في إثبات مشروعية الاستخارة بطريق القرعة.

و هذا العمومات تكفينا في الخروج عن الحرمة المستفادة من آية تحريم الاستقسام بالأزلام، كما يكفي لذلك ساير نصوص الاستخارة بسائر الطرق المزبورة.

و هذا مراد المحقق الأردبيلي؛ حيث استدل لبطلان تفسير الآية بما يشبه التعرف علي الغيب و الاستطلاع علي حكم اللّٰه بما يلزم من المحذور علي القول

______________________________

(1) مختلف الشيعة/ طبع مكتب الأعلام الاسلامي: ج 2، ص

357-/ 356.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 415

بهذا التفسير. و ذلك المحذور لزوم حرمة الاستخارة المشهورة، مع دلالة نصوص متظافرة و فتوي الأكثر الاصحاب بجوازها.

فاستدل بلزوم هذا المحذور علي بطلان التفسير المزبور و رجّح بذلك ساير التفاسير من القمار و الشطرنج، و إن قوّاه في ختام كلامه بدلالة ما ورد من النص الدال علي حرمة الاستقسام بالمعني المزبور في خصوص مورد نزوله.

قال قدس سره بعد ذكر التفاسير المزبورة: «و قيل علي الأوّل سبب التحريم أنّه دخول في علم الغيب و ضلال و اعتقاد أنّ ذلك طريق إليه افتراء علي اللّٰه و علي هذا يفهم منه تحريم الاستخارة المشهورة التي قال الأكثر بجوازها بل باستحبابها، و يدلّ عليه الرِّوايات فهو دليل بطلان الأوّل، أو لا يكون سبب التحريم ما ذكره بل مجرّد النصّ المخصوص بذلك الفعل الخاصّ و الوجه الخاصّ أو يكون الاستخارة خارجة عنه بالنص» «1».

و أنت تري أنّ مقصود هذا العَلَم الاستشهاد بنصوص الاستخارة المشهورة المتداولة و بفتاوي الاصحاب لابطال التفسير الأوّل و ما ذكر له من التوجيه؛ لما يستلزمه من محذور حرمة الاستخارة. و إن احتمل في ختام كلامه صحة التفسير المزبور و خروج الاستخارة المشهورة عن كبري المنع المستفاد من الآية- أعني بها كبري منع التعرف علي الغيب- بنصوص الاستخارة من باب التقييد أو التخصيص و علي أيّ حال لم يلتزم هذا العَلَم بدلالة الآية علي حرمة الاستخارة المشهورة و لم يحكم بحرمتها، كما توهّمه

______________________________

(1) زبدة البيان: ص 626.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 416

بعض «1» و تعجَّب من المحقق الأردبيلي بسبب زعمه ذلك.

هذا كله مضافاً إلي قوّة سند بعض ما ورد في الاستخارة ببعض الطرق

المذكورة من النصوص مما يقرب الصحة، بل يمكن الحكم باعتباره، و قد سبق البحث عن ذلك في بيان أنحاء الاستخارات مفصّلًا.

و في الختام نكتةٌ مهمّة لا ينبغي الغفلة عنها، و هي: أنّ طرق الاستدلال المزبورة لا يفيد كلّها اعتبار الاستخارة المزبورة علي منوال واحد. فانّ طريق التظافر يفيد اعتبار ما تظافرت فيه النصوص، كالاستخارة بالرقاع و المصحف.

و طريق التسامح يفيد اعتبار آحاد النصوص الواردة في أنحاء الاستخارات المزبورة.

و طريق التسامح فيد اعتبار آحاد النصوص الواردة في أنحاءِ الاستخارات المزبورة.

و طريق الانجبار يفيد اعتبار ما استقرّ عليه عمل مشهور القدماء كالاستخارة بالرقاع، كما شهد به الشهيد الأوّل.

______________________________

(1) راجع دروس تمهيدية في القواعد الفقهية: ج 2، ص 36.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 417

شرائط الاستخارة

اشارة

1- اشتراط التحيُّر و التردُّد.

2- عدم اشتراط وقت خاص.

3- هل يشترط المباشرة؟.

اشتراط التحيُّر و التردُّد

يستفاد من كثير من نصوص المقام كون تشريع الاستخارة في موارد التحيّر و التردّد في فعل شي ءٍ أو تركه. كما يظهر من نصوص المقام. مثل خبر اليسع القمي؛ حيث سأل أبا عبد اللّٰه عليه السلام بقوله: «اريد الشي ء فأستخير اللّٰه فيه، فلا يوفّق فيه الرّأي أفعلُه أو أدَعُه …» «1» قوله: «أستخير» أي أدعو و أطلب الخير من اللّٰه بالدّعاء، و لكن لا يزول بذلك تحيّري و تردّدي في الأمر، فعلّمه الامام عليه السلام الاستخارة بافتتاح المصحف و الأخذ بأوّل ما يراه من الآية.

و ما ورد فيها الأمر بأخذ ما يخطر بالقلب كما في موثق ابن فضّال، حيث سأل فيه ابن الجهم أبا الحسن عن السفر إلي مصر بطريق البر أو البحر- و كذا في صحيح ابن أسباط- فأجاب عليه السلام في الموثق بقوله: «فاستخر اللّٰه مائة مرّة، ثمّ انظر أيّ شي ءٍ يقع في قلبك فاعمل به» و قال في الصحيح: «تستخير اللّٰه مائة مرّة و مرّة، ثمّ تنظر فان عزم اللّٰه لك …» «2». فانّ ظاهر السؤال فيهما. و كذا قوله عليه السلام: «فانّ عزم اللّٰه» ظاهرٌ في تحيّر السائل و تردّده في الأمر؛ و إلّا لم يكن يطلب العزم من اللّٰه

______________________________

(1) الوسائل: ب 6، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

(2) الوسائل: ب 1، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 4 و 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 418

فيعطيه بالدعاء.

و نظيره قوله عليه السلام: «ثمّ تنظر ما يُلهمك تفعله …» في خبر المنصوري «1» و قوله عليه السلام: «فان احلولي بقلبك بعد الاستخارة بيعها، فبعها …» في خبر ابن مهزيار

«2» و قوله عليه السلام: «و اعزم لي …» في خبر جابر «3».

بل صرّح بذلك في صحيح خلف بن حمّاد؛ حيث جاءَ في سؤاله: «ربما أردت الأمر يفرق مني فريقان: أحدهما يأمرني، و الآخر ينهاني، قال: فقال إذا كنت كذلك فصلّ ركعتين و استخر اللّٰه مائة و مرّة و مرّة، ثمّ انظر أجزم الأمرين لك فافعله فان الخير فيه إن شاء اللّٰه» «4».

بل في مرفوعة علي بن محمد سُئل: «عن الأمر يمضي فيه و لا يجد أحداً يشاوره، فكيف يصنع؟ قال عليه السلام: شاور ربَّك» «5»، ثمّ علّمه كيفية الاستخارة بالرقاع، ثمّ قال عليه السلام في الختام: «هكذا شاور ربّك» «6».

و يمكن استفادة ذلك من لسان الأدعية في أكثر نصوص الاستخارة؛ من طلب التعرّف و الاشارة من اللّٰه علي ما فيه الخير و الانصراف عما كان فيه الشرّ في علم اللّٰه و طلب العزم علي ما فيه الخير.

كما يستفاد ذلك ممّا جاءَ في كلام السائل- في كثير من نصوص المقام- من تردّده في الأمر الذي يريد فعله، و إنّ جواب الامام عليه السلام و كلامه مبنيٌّ علي هذا

______________________________

(1) الوسائل: ب 4، من أبواب الصلاة الاستخارة، ح 3.

(2) المصدر: ب 5، ح 7.

(3) المصدر: ب 1، ح 3.

(4) المصدر: ح 6.

(5) الوسائل: ب 2، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 2.

(6) المصدر: ذيل الرواية المزبورة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 419

الفرض.

و يشكل القول بمشروعية الاستخارة بإحدي الطرق المذكورة في غير موارد التردّد و التحيّر في الأمر وجه ذلك أنّ الاستخارة بمعناها الشائع أمرٌ توقيفيٌ و بحاجة إلي دلالة دليل من الشارع، و إلّا لكان تشريعاً محرّماً. و الدليل الوارد من الشارع إنّما دلّ علي

جوازها عند التحيّر و الترديد في الفعل و الترك، علي النحو المذكور في تنقيح مورد الاستخارة.

و لا يستفاد من شي ءٍ من نصوص المقام- علي كثرتها و تظافرها- مشروعية الاستخارة مع عدم التردد و التحيّر في الفعل و الترك. بل لا يبعد دعوي استفادة نفي مشروعية الاستخارة عند عدم التحيّر من لسان مجموع نصوص المقام بمفهوم التحديد و نحوه.

نعم لا إشكال في جواز الاستخارة بمعني الدعاء و المناجاة و الصلاة و طلب الخير في الأمر الذي يريده مع عدم التحيّر و الترديد في أصل الفعل. و ما يشعر بذلك من النصوص إنّما هو ناظرٌ إلي هذا النوع من الاستخارة، إلّا أنّ الاستخارة بهذا المعني خارجة عن محل الكلام.

عدم اشتراط وقت خاص

و هل يشترط في الاستخارة وقت خاص؟ مقتضي التحقيق عدم دلالة النصوص علي اشتراط وقت خاص، نعم جاء في خبر اليسع القمي الأخذ بما يقع في القلب عند الفريضة، و في صحيح حمّاد «1» بعد صلاة الفجر، و في خبر المنصوري عقيب

______________________________

(1) الوسائل: ب 4، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 420

المكتوبة «1». و في خبر محمد بن خالد القسري في آخر ركعة من صلاة الليل «2».

و لكن في أكثر نصوص الاستخارة، لم يُعيَّن وقت خاص، و لمّا لا مفهوم لما عُيّن فيه الوقت، فلا دلالة له علي النهي عن ساير الأوقات. و من هنا لا ينعقد لسائر النصوص- المشار إلي بعضها آنفاً- ظهور في اشتراط وقت خاص، بل تُحمل هذه النصوص علي الأفضلية.

و من هنا قال في الحدائق: «الأفضل وقوعها في الأوقات الشريفة و الأماكن المنيفة» «3»؛ أي العالية، مقصوده العالية في الشرف و المنزلة.

و قال في الجواهر: «كما

أنّه من المكمّلات ملاحظة شرف المكان علي ما يومئ إليه خبر ابن أسباط و الجهم المتقدمان «4»، بل و الزمان كما يومئ إليه خبر اليسع المتقدم، بل و الحال كما في السجود و في حال الطهارة، و قال في فهرست الوسائل: باب استحبابها أي الاستخارة حتي في العبادات المندوبات و كيفياتها، و في ذلك عشر حديثاً، و أن الأفضل إيقاعها في الأوقات الشريفة و الأماكن الكريمة، خصوصاً عند قبر الحسين عليه السلام و هو جيد، و إن لم تكن النصوص صريحة في جميع ما ذكره، لكن يستفاد منها أن كل ما له مدخلية في استجابة الدعاء و بعد الشيطان عنه من مكان أو زمان أو غيرهما ينبغي ملاحظته؛ لأنّ المقام نوع منه كما يومئ إليه أيضاً- زيادة علي ما سمعت- خبر

______________________________

(1) المصدر: ح 3.

(2) المصدر: ح 2.

(3) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 531.

(4) حيث أمر الامام عليه السلام فيهما باتيان المسجد للاستخارة./ الوسائل: ب 1، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 4 و 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 421

اليسع القمي المتقدم». «1»

و الوجه الصناعي في ذلك، كما أشرنا إليه آنفاً: أنّ نصوص الاستخارة مطلقة من حيث الزمان، و لا يصلح شي ءٌ من نصوص المذكور فيه الوقت لتقييد الاطلاقات؛ لعدم مفهوم لهذه النصوص، بل غاية مدلولها إثبات مشروعية الاستخارة في هذه الاوقات المخصوصة و حمل المطلق علي المقيد في المثبتين إنّما هو مع إحراز اتحاد المطلوب، و الأمر في المقام بالعكس. فلا مناص حينئذٍ من حمل الأوامر المقيّدة علي الأفضلية.

هل يشترط المباشرة؟

وقع الكلام في جواز النيابة في الاستخارة. وجه الكلام أنّ نصوص الاستخارة ظاهرة في مباشرة صاحب الحاجة في الاستخارة لنفسها؛ لما ورد في

جميعها أمر المخاطب السائل بها، بل مطلق الأوامر الواردة في الخطابات التكليفية العبادية ظاهرة في المباشرة. و لم يدلّ واحد من النصوص الواردة في الاستخارة علي جواز النيابة فيها بالخصوص.

كما أشار إلي ذلك في الحدائق بقوله:

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 162- 161.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 422

«المفهوم من ظواهر الأخبار الواردة في الاستخارة أنّ صاحب الحاجة هو المباشر للاستخارة، و لم أقف علي نص صريح أو ظاهر في الاستنابة فيها، إلّا أنّ من عاصرناهم من العلماء كلهم علي العمل بالنيابة» «1».

ثمّ نقل عن شيخه سليمان البحراني في الاستدلال علي جواز النيابة في الاستخارة وجوهاً، ثمّ قال:

«و أقربها إلي الاعتبار وجوه أربعة:

أحدها: ما ذكره من قوله: من القواعد أنّ كل ما يصح مباشرته يصح التوكيل فيه، إلّا في مواضع مخصوصة ذكرها العلماء و اختلفوا في أشياء منها، و ليس هذا الموضع من تلك المواضع.

و ثانيها: ما ذكره من أنّ العلماء في زماننا مطبقون علي استعمال ذلك، و لم نجد أحداً من مشايخنا الذين عاصرناهم يتوقف فيه و نقلوا عن مشايخهم نحو ذلك. و لعله كاف في مثل ذلك.

ثالثها: أنّ الاستخارة مشاورة اللّٰه تعالي، كما ورد به النص عن مولانا الصادق عليه السلام. و لا ريب أنّ المشاورة تصح النيابة فيها، فان من استشار أحداً فقد يستشير بنفسه و قد يكلف من يستشير له، كما في استشارة علي بن مهزيار للجواد عليه السلام.

و رابعها: أنّ مشاورة المؤمن نوع من أنواع الاستخارة. و قد ورد في رواية علي بن مهزيار ما هو صريح في النيابة فيها، و لا فرق بين هذا النوع و غيره» «2».

ثمّ قال: «و مما خطر علي البال في هذه

الحال أنّه لا ريب أنّ الاستخارة بأيّ المعاني المتقدمة ترجع إلي الطلب منه سبحانه، و لا ريب أنّه من المتفق عليه بين ذوي العقول و ساعدت عليه المنقول عن آل الرسول صلي الله عليه و آله هو أنّ من طلب حاجة من سلطان عظيم الشأن فان الانجح في قضائها و الأرجح في حصولها و إمضائها هو أن يوسّط بعض مقرَّبي حضرة ذلك السلطان في التماسها منه، بحيث يكون نائباً عن صاحب الحاجة في سؤالها من ذلك السلطان، و النيابة في

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 532.

(2) الحدائق الناضرة: ج 10، ص 533- 532.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 423

الاستخارة منه سبحانه من هذا القبيل، و هذا بحمد اللّٰه أوضح برهان علي ذلك و دليل» «1».

و لكن يرد علي الوجه الأوّل: أنّ كبري «كل ما يصح مباشرته يصح التوكيل فيه» غير مسلّمة في التكليفيات، بل مطلق العباديات و ذلك لأنّ إطلاق صيغة الأمر في التكليفيات يقتضي العينية؛ بمعني أنّ مقتضي توجه الخطاب التكليفي إلي كل مكلّف وجوب الاتيان بالواجب علي نفسه، سواءٌ أتي به غيره أم لا. و هذا هو المقصود من أصالة العينية.

و أيضاً مقتضي ذلك وجوب المباشرة عليه و عدم كفاية إتيان الغير عنه نيابة. فانّ خطاب صلّ و صُم تكليف كلّ مكلّف بالصلاة و الصيام بحيث يصدق أنّه صلّي و صام حتي يتحقق به امتثال الأمر. و لا يصدق و لا يتحقق ذلك بفعل النائب كما هو واضح.

نعم في المعاملات من العقود و الايقاعات، حتي مثل النكاح و الطلاق يكن الالتزام بالكبري المزبورة؛ نظراً إلي أنّ الغرض من تشريعها أسباباً لآثارها، يتحقق بفعل النائب و من هنا إسنادها إلي المنوب

عنه عرفاً؛ حيث إنّ النائب بمنزلته.

و يرد علي الوجه الرابع: أنّ الاستخارة و إن كانت مشاورة اللّٰه، كما ورد عن الصادق أنّه قال:

«إذا أراد أحدكم أمراً فلا يشاور فيه أحداً من الناس حتي يبدأ فيشاور اللّٰه تبارك و تعالي، قال: قلت: جعلت فداك و ما مشاورة اللّٰه؟ قال عليه السلام: تبتدأ فتستخير اللّٰه فيه أوّلًا ثمّ

______________________________

(1) المصدر: ص 533.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 424

تشاور فيه، فانه إذا بدأ باللّٰه أجري له الخيرة علي لسان من يشاء من الخلق» «1».

و قوله عليه السلام: «هكذا شاور ربك» في مرفوعة علي بن محمد «2».

و لكن مشاورة الناس ليس من قبيل الاستخارة ما لم يُسبق بمقدماتها، كما هو واضح، اللهم إلّا بمعناها اللغوي، و هو خارج عن المعني الاصطلاحي المقصود من نصوصها.

نعم لا يخلو الوجهان الوسطان من قوّة، لو أغمضنا عن المناقشة في اعتبار الشهرة الفتوائية، لا سيما بين المتأخرين، و عن كون مشاورة اللّٰه من غير سنخ مشاورة الناس القابلة للنيابة، في مثل المقام مما يتسامح في أدلّته. و أما الوجه الذي ذكرها صاحب الحدائق، فهو في الحقيقة تتميمٌ و تكميل للوجه الثالث، كما لا يخفي علي المتأمّل.

هذا و لكن في الجواهر- بعد الاشارة إلي ما أورده في الحدائق- أنكر كون الاستنابة المتعارفة بين المتشرعة في الاستخارة من قبيل الاستنابة في الاستخارة حقيقة، بل من قبيل الاستخارة بالمباشرة. فانه بعد التصريح بأنّ الاستخارة بالمشورة ليست من قبيل النيابة قطعاً، قال: «بل قد يقال: إنّه ليس من النيابة ما لو دعا المستخير لنفسه و سأل من ربه صلاحه و استناب غيره في قبض السبحة أو فتح المصحف أو نحوهما و إن دعا هو معه، و

لعل الاستنابة المتعارفة في أيدينا من هذا القبيل» «3».

______________________________

(1) الوسائل: ب 5، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 2.

(2) المصدر: ب 2، ح 2.

(3) جواهر الكلام: ج 12، ص 176.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 425

و لكن الذي أنكره كونه من النيابة لا ربط له بمحل الكلام و النزاع؛ لأنّ الكلام في أنّ ما تعارف بين المتشرعة من الاستنابة في افتتاح المصحف للاستخارة أو في الاستخارة بالرقاع أو بأخذ السبحة، هل يستفاد جوازه من النصوص أو لا؟. و لا ريب في تحقق النيابة في افتتاح المصحف أو أخذ الرقاع أو السبحة للغير. و أما الاستخارة بمعني الدعاء مقدّمة لذلك فهي خارجة عن محل الكلام. و في المتعارف ربما لا يصدر من المنوب عنه غير النية و طلب الخيرة، من دون دعاءٍ.

و تحصّل من جميع ما نقلناه و بيّناه أنّ مقتضي التحقيق جواز النيابة في الاستخارة. و عمدة الدليل عليه هي الوجوه الثلاثة الأولي المنقولة عن الشيخ سليمان.

و لكن مقتضي التحقيق في الاستدلال أنّ الاستخارة و إن كانت من العبادات؛ لتقوّمها بالدّعاء و التوكل علي اللّٰه و التوسل و تفويض الأمر إليه، إلّا أنّها كالقرعة جعلت طريقاً و وسيلة للتعرف و الاستطلاع علي الخير المكنون في علم اللّٰه و ما تعلّقت به إرادته تعالي من الخِيَرة. فكيف أنّ القرعة بيد الحاكم، بل وقع الكلام في صحة القرعة و جوازها بيد المتنازعين و أرباب الحاجة بعد الاتفاق علي جواز اقتراع الحاكم؟ فكذلك الاستخارة بلا فرق بينها و بين القرعة من هذه الجهة، مع أنّ في القرعة أيضاً وردت الأدعية المأثورة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 426

آداب الاستخارة

اشارة

1- كراهة التكلُّم و استحباب تركه

عند الاستخارة.

2- لزوم الرضا بمؤدّي الاستخارة.

3- استحباب تعلُّم الاستخارة.

كراهة التكلم و استحباب تركه عند الاستخارة

يظهر من النصوص و الفتاوي كراهة التكلّم مع الناس و استحباب تركه في أثناءِ الاستخارة.

أما النصوص:

فمنها: صحيح شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أبي إذا أراد الاستخارة في أمر توضأ و صلي ركعتين، و إن كانت الخادمة لتكلّمه، فيقول: سبحان اللّٰه لا يتكلم حتي يفرغ» «1».

و منها: معتبرة علي بن مهزيار قال: «كتب أبو جعفر الثاني إلي إبراهيم بن شيبة فهمت ما استأمرت فيه من أمر ضيعتك التي تعرض لك السلطان فيها، فاستخر اللّٰه مائة مرّة: خيرة في عافية، فان احلولي بقلبك بعد الاستخارة بيعها، فبعها و استبدل غيرها إن شاء اللّٰه، و لا تتكلّم بين أضعاف الاستخارة حتي تتم المائة إن شاء اللّٰه» «2».

و قد استفاد صاحب الجواهر من خبر اليسع القمي منع التكلّم في أثناء الاستخارة؛ حيث قال: «و يستفاد منها أيضاً القطع في الدعاء علي الوتر، و عدم

______________________________

(1) الوسائل: ب 1، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 8.

(2) المصدر: ب 5، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 427

التكلم في أثناء الاستخارة» «1».

و النهي عن التكلّم في معتبرة علي بن مهزيار محمول علي استحباب الترك و كراهة التكلم؛ للاجماع؛ حيث لم يفت كل من تعرّض للاستخارة بالمعني الشائع بحرمة التكلّم، بل صرّحوا بكراهته، بل ينبغي عدّ ذلك من ضرورة الفقه.

هذا، مع أنّ لفظ الاستخارة في هذه المعتبرة ليس بمعني الاستخارات المبحوث عنها في المقام، بل بمعني الدعاء، كما هو واضحٌ. و أما صحيح شهاب فغاية مدلوله استحباب الترك، لعدم اشتماله علي النهي و ترك فعل من الامام عليه السلام لا يثبت حرمته.

و من آداب الاستخارة

التطهير من الحدث الأكبر و الأصغر و من الخبث و رعاية كل ما يشترط في الصلاة و قراءة القرآن و الدعاء. و ذلك لأنّ زمان الاستخارة لحظة اتصال المستخير بعناية ربّ العالمين و خالق السماوات و الأرضين و وقت الخلوة مع إله العالمين و المواجهة معه بالدعاء و التضرع و التوسل إليه. و هذه الحالة حالة عبادة، و لا سيما إذا أراد الاتيان بصلاة الاستخارة قبلها. و ينبغي له في هذه الحالة أن يفرغ قلبه عن شواغل الدنيا و شهوات النفس و وساوسها. و أن يوجِدَ في نفسه و صقع قلبه حالة التوكل علي اللّٰه سبحانه، و تفويض الأمر إليه تعالي، و حالة الخضوع الباطني و الخشوع القلبي لربّه الجليل و الاعتراف بجهله و عجزه في محضر خالقه العليم الحكيم، و حالة التوسل إلي اللّٰه بوسيلة محمد و آل بيته الطاهرين المعصومين (صلوات

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 12، ص 162.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 428

اللّٰه عليهم أجمعين).

لزوم الرضا بمؤدّي الاستخارة

لا ريب في أنّ المتوكل علي اللّٰه و المفوّض أمره إليه تعالي ينبغي له أن يرضي بقضاء اللّٰه و بما قدّر له مولاه من شئون العبودية و قضاءِ حق المولوية. و لا سيما في أمر فوّض العبد أمره إليه سبحانه و توكّل فيه علي ساحته باختيار نفسه و استدعائه الخيرة من ساحة مولاه الجليل و خالقه الحكيم.

و عليه فلزوم الرضا بمؤدّي الاستخارة مقتضي القاعدة بل مما يحكم به العقل قضاءً لحق العبودية و المولوية. و من لوازم الاعتماد و التوكل علي اللّٰه و تفويض الأمر إليه سبحانه.

و قد دلّ علي ذلك أيضاً بالخصوص بعض نصوص المقام. كما في مرسل عثمان بن عيسي قال: «قلت من

أكرم الخلق علي اللّٰه؟ قال عليه السلام: أكثرهم ذكراً للّٰه و أعملهم بطاعته، قلت: من أبغض الخلق إلي اللّٰه؟ قال عليه السلام: من يتهم اللّٰه، قلت: و أحد يتّهم اللّٰه؟ قال عليه السلام: نعم من استخار اللّٰه فجاءته الخيرة بما يكره فسخط فذلك الذي يتّهم اللّٰه» «1».

و في خبر هارون بن خارجة، قال: «قال أبو عبد اللّه من استخار اللّٰه عزّ و جلّ مرّة واحدة و هو راضٍ بما صنع اللّٰه له خار اللّٰه له حتماً» «2»

و من هذا القبيل ما رواه الحسين بن محمد الطوسي في أماليه بسنده عن علي بن محمد عن آبائه عليهم السلام، قال: قال الصادق عليه السلام: «إذا عرضت لأحدكم حاجة، فليستشر اللّٰه ربّه، فان أشار عليه اتبع، و إن لم يُشِر عليه فتوقف. قال: قلت: يا سيّدي

______________________________

(1) الوسائل: ب 7، من صلاة الاستخارة، ح 3.

(2) المصدر: ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 429

كيف أعلم ذلك؟ قال عليه السلام: يسجد عقيب المكتوبة و يقول: اللهم خر لي مائة مرّة، ثمّ يتوسّل بنا و يصلّي علينا و يستشفع بنا، ثمّ تنظر ما يلهمك تفعله، فهو الذي أشار عليك به» «1».

قوله: «فان أشار عليه اتّبع و إن لم يُشر عليه فتوقف» يدل علي لزوم الرضا بما أفاده الاستخارة و النهي عن مخالفته.

و لكن لا يجب العمل بمؤدّي الاستخارة شرعاً، و ذلك لعدم دليل علي ذلك. و أما الرضا بمؤدّاه فهو أمر قلبي و معناه أن يرضي قلبه بما هو خير له عند اللّٰه تعالي. و لا يلازم ذلك وجوب العمل شرعاً بحيث يعاقب علي تركه. فانّ ذلك بحاجة إلي الدليل، و الوجه الأوّل قاصر عن إثبات ذلك. و

أما الروايتان، فمضافاً إلي قصورهما دلالةً عن إثبات ذلك، لا يخفي ضعف سندهما بالارسال.

استحباب تعلُّم الاستخارة

و في الختام ينبغي أن أذكر نكتة لطيفة، و هي أنّ القرّاء الفضلاء الكرام بعد دراسة هذه الرسالة و الاحاطة بما نقلناه من نصوص الاستخارة و كلمات فحول الفقهاء و ما سردناه و بيّناه في مطاوي البحث، يعترفون حق الاعتراف بأنّ للاستخارة مقدمات و خصوصيات و شرائط و آداباً و أدعية تحتاج إلي تعلّم. و علي ضوء ما جاءَ في هذه الرسالة يرتفع تعجُّبهم البدوي من احتياج الاستخارة إلي التعلّم و من استقرار سيرة أهل البيت عليهم السلام علي تعلّمها، كما ورد عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): «إنّا كنّا نتعلّم الاستخارة كما نتعلّم السورة من القرآن» «2».

______________________________

(1) المصدر: ب 4، ح 3.

(2) الوسائل: ب 1، من أبواب صلاة الاستخارة، ح 9 و 10.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 430

و قال الصادق عليه السلام: «و كان أبي يعلّمني الاستخارة، كما يعلّمني السورة من القرآن» «1».

و دعوي اختصاص الاستخارة في هذه النصوص ببعض معانيها و أقسامها- المذكورة في النصوص و الفتاويٰ-، لا وجه لها، بعد استعمال لفظ الاستخارة في النصوص الواردة في الاستخارة المتداولة بأنحائها.

هذا تمام الكلام في الاستخارة علي ما خطر ببالي مع ضيق الفرصة للتحقيق، و أظن مع ذلك أنّ هذه الرسالة من أكمل و أدقّ ما صُنّف في هذا الموضوع إلي زماننا.

و الحمد للّٰه أوّلًا و آخراً و صلواته الوافرة علي محمد و آله الطاهرين سرمداً.

______________________________

(1) المصدر: ب 7، ح 9.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 3، ص: 431

يبحث هذا الكتاب عن أهم القواعد المفتاحية الجارية في عامّة أبواب الفقه. و هي:

1- قاعدة اشتراك الأحكام

بين جميع المكلّفين، من أيّة طائفة و ثقافة في جميع الأعصار، و تنفي نظرية الهرمنيوطيقيا بأدلّتها القاطعة.

2- قاعدة الاكراه الباحثة عن تخلية سبيل الانسان المكرَه من خوف الخطر برفع التكليف عنه.

3- قاعدة الأهمية الحاكمة بتقديم أهم التكليفين اللذين تردّد الانسان في امتثالهما.

4- قاعدتا القرعة و الاستخارة الرافعتان للمشاكل الصعبة التي يواجهها الانسان في مختلف مجالات العيش بتعيين الحق و إراءة الواقع، مع تحقيق عميق جامعٍ في الاستخارة لم يُسبق بمثله.

و جدير بالذكر أنّ بعض هذه القواعد اصوليٌّ، و إنّما بحثنا عنه هاهنا؛ جرياً علي عادة الباحثين، و نظراً إلي عدم استيفاء البحث عنه في علم الاصول.

بحثنا في ختام كلّ قاعدة عن تطبيقاتها الفقهية؛ و هي تمارين قائمة بدراسة نماذج من موارد استشهاد أعاظم الفقهاءِ بنصّ القاعدة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.